محاضرات
31/07/2024

الدَّعوةُ إلى الالتزامِ بالخطِّ والمبدأِ والابتعادِ عن التَّعصُّب

الدَّعوةُ إلى الالتزامِ بالخطِّ والمبدأِ والابتعادِ عن التَّعصُّب

كنَّا نتحدَّث بالأمس عن الفرق بين التعصّب والالتزام، والفرق بين المجتمع المتعصِّب والمجتمع الملتزم.
فالإنسان المتعصِّب هو الإنسان الَّذي يلغي الآخر تماماً، ولا يدخل معه في حوار، لأنَّه لا يرتبط بالفكرة، ولكنَّه يرتبط بالشَّخص. ولذلك، فإنَّ المتعصِّب هو إنسان يعيش عبادة الشَّخصيَّة، فإذا تعصَّب لشخص، فكأنَّه يعبد هذا الشَّخص، وإذا تعصَّب لعائلة، فكأنَّه يعبد هذه العائلة، وهكذا إذا تعصَّب لأيِّ جهة، فإنَّه يعبدها، وإن لم يوح إلى نفسه بشخصيَّة العابد، وإذا أردت أن تدخل معه في أيِّ فكرة من الأفكار الَّتي يلتزمها أو الأوضاع التي يعيشها فريقه، فإنَّه لا يدخل معك في حوار عقلانيّ، ولكنَّه يواجهك بالسّباب والشَّتائم وبما يملك من القوَّة.
ولذلك، كان المتعصِّبون في مدى التَّاريخ، يمثِّلون النَّاس الَّذين لا يفكِّرون، ولعلَّنا نقرأ سيرة الأنبياء في القرآن الكريم، عندما كانوا يدعون شعوبهم إلى أن يفكِّروا معهم وأن يحاوروهم، فكانوا يواجَهون من قبلِ هؤلاء بالكلمات القاسية، من دون أيِّ منطقٍ يقدِّمونه إليهم.
مواجهةُ الحسين (ع) بالعصبيَّة
ولعلَّنا نعرف ذلك من خلال واقعة كربلاء، فإنَّ هؤلاء الَّذين جاؤوا لقتال الإمام الحسين (ع)، كانوا يعيشون التَّعصّب للقيادة الجائرة والظَّالمة، ولم يكن هناك منطق يرتكزون عليه ليناقشوا الحسين (ع) وأصحابه على أساسه، بل كانوا يغلقون عقولهم عن أيِّ منطق. وتنقل لنا السيرة الحسينيَّة، أنَّ الحسين (ع) عندما أراد أن يقودهم إلى الحوار بما عرضه عليهم من كلِّ الحجج الَّتي تثبت أنَّ الحقَّ معه وأنَّهم على باطل، كان جوابهم الَّذي تحدَّث به الشِّمر في منطقه: "مَاْ نَدْرِي مَا تَقُولُ، وَلَكنْ انزِلْ عَلَى حُكْمِ بني عَمِّكَ". إنَّ هذا هو منطق المتعصِّب؛ تتحدَّث معه وتتحدَّث، وتقدِّم إليه الحجَّة تلو الحجَّة، ولكنَّه يصرّ على أن لا يستمع إليك..
إنَّ معنى ذلك أنَّهم كانوا يتحركون بمنطق العصبيَّة، في الوقت الَّذي كان الحسين (ع) وأصحابه يتحدَّثون بمنطق الالتزام، حتَّى إنَّنا رأينا أنَّ أصحاب الحسين (ع) عندما انطلقوا معه، لم ينطلقوا من موقع التعصّب لشخصه (ع)، بل انطلقوا من خلال أنَّه يمثِّل القيادة الشَّرعيَّة للخطّ الَّذي التزموه، انطلقوا معه من موقع فكر لا من موقع عصبيَّة، وهذا ما لاحظناه من قصَّة زهير بن القين الَّذي يقال إنَّه كان في الخطِّ المنحرف عن خطِّ أهل البيت (ع)، وكان يجتنب اللِّقاء بالحسين (ع)، حتَّى إذا تهيَّأت الظّروف الملائمة للقائه به، وحاوره الحسين (ع)، ووضعه في أجواء الشَّرعيَّة، التزم به ذلك الالتزام العظيم جدّاً.
وهذا ما نلاحظه أيضاً في حديث الحسين (ع) عنهم، عندما كان يواجه كلَّ واحد منهم يخرج للمبارزة، كان يتحدَّث عنهم أنَّهم الملتزمون وليسوا المتعصِّبين، لذلك كان يقول: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}[الأحزاب: 23]، يعني أنَّ الحسين (ع) يريد أن يقول إنَّ أصحابي هم الَّذين عاهدوا الله على أن يقفوا مع الحقِّ ومع قيادة الحقّ، والتزموا ذلك مع الله وليس معي بشكل شخصيّ، ولذلك كان موقفهم موقف الصَّادقين في عهدهم.
الالتزامُ بالخطِّ لا بالشَّخص
وهذا، أيُّها الأحبَّة، ما ينبغي لنا أن نتعلَّمه وأن نلتزمه كأناسٍ يلتزمون الأشخاص أو الخطوط، أو كأناسٍ يدفعون النَّاس إلى أن يلتزموهم.. فعلى الإنسان القياديّ، مهما كانت درجته، أن يدعو النَّاس إلى نفسه، إذا كان يرى في نفسه الشَّرعيَّة، من خلال الالتزام بالخطِّ لا الالتزام بشخصه.. على الإنسان أن لا يشجِّع النَّاس على أن يجعلوه صنماً يعبدونه، أو إنساناً يتعصَّبون له من دون فكر، بل أن يدعو النَّاس إلى أن يحاسبوه، وأن يقدِّم بين وقتٍ وآخر حسابَه إليهم، ليعوِّدهم على أن يرتكزوا في علاقتهم به على الخطِّ الَّذي يؤمنون به، والَّذي يدعو هو إليه، حتَّى إذا جاء قياديّ آخر من بعده، ولم يكن في مستوى المسؤوليَّة، كانت علاقة النَّاس به علاقة حساب.. ليس هناك شخص أكبر من أن يحاسَب، ولكن بطريقة تقيَّة ورعة موضوعيَّة، بحيث لا يكون الحساب منطلقاً من عقدة، بل منطلقاً من الإخلاص للفكرة.
أيّ حاكم أو أيّ إنسان أعظم من رسول الله (ص)؟! ورسول الله (ص) لم يأت من خلال اختيار النَّاس له، لأنَّ الله هو الَّذي اصطفاه، وهو الَّذي اختاره وبعثه، فليس للنَّاس أمام النبيّ (ص) أيُّ حقٍّ عليه.. من الممكن أن نجد الكثير من الحاكمين والمصلحين كانت لهم الشَّرعيَّة من خلال انتخاب النَّاس لهم، ولكنَّ النَّبيَّ (ص) هو الَّذي اصطفاه الله برسالته وبعثه برسالته، ومع ذلك، نجد أنَّه (ص) في آخر لحظات حياته، وهو في مرض الموت، يقف أمام أصحابه ليقول لهم: "واللهِ ما تُمْسِكونَ عليَّ بشيء - وفي روايةٍ: إنَّكم لا تعلِّقون عليَّ بشيء - إنِّي لَمْ أُحِلَّ إلَّا ما أَحَلَّ القرآنُ، وَلَمْ أُحَرِّمْ إلَّا مَا حَرَّمَ القرآنُ"، يعني راقبوا سيرتي وتاريخي معكم في القضايا العامَّة والخاصَّة، وقارنوا بين كلِّ ما كنْتُ أتحرَّك فيه وبين القرآن، ستجدونني الإنسان الَّذي يطابق قولُهُ قولَ الله ولا ينحرف عنه، في حلال الأشياء وفي حرامها. إنَّ النَّبيَّ ليس مسؤولاً عن أن يقدِّم حسابه إلى الأمَّة، ولكنَّه (ص) أراد أن يعلِّم الأمَّة أن تنتظر من أيِّ قيادة أن تقدِّم حسابها، وأن تراقب حسابات القيادة، باعتبار أنَّ ذلك هو النَّهج الَّذي يمكن للأمَّة أن تسلم به.
لذلك، لم يدعُ النَّبيّ (ص) النَّاس إلى أن يتعصّبوا له، ولكنَّه دعاهم إلى أن يؤمنوا به وبرسالته، وأن يتحركوا في خطِّه. ومن هنا، فإنَّ الله أراد للأمَّة أن لا تتجمَّد في حركتها بعد غياب النَّبيّ (ص): {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا}[آل عمران: 144]. فالنَّبيّ يموت، وتبقى الرّسالة.
وفي ضوء هذا، فإنَّ هذا الأسلوب القرآنيَّ الَّذي يتحدَّث عن هذا الموضوع، يريد أن يقول للأمَّة في كلِّ جيل، إنَّ القائدَ مهما كانت درجته، إذا مات، فإنَّ الأمَّة لا بدَّ أن تكمل المسيرة.
قاعدةُ عليٍّ (ع) حولَ الحاكم
وعندما نلتقي بعليّ (ع)، نرى أنَّه كان لا يريد للنَّاس أن يتعصَّبوا له شخصاً، ولكنَّه كان يريد لهم أن يلتزموا برسالته وبمبادئه، وأن يراقبوه، وأن لا يكلِّموه بما تُكلَّم به الجبابرة، قال لهم في موقف خطابيّ، وهو خليفة المسلمين: "فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ، وَلَا تَظُنُّوا بِيَ اسْتِثْقَالًا فِي حَقِّ قِيلَ لِي، وَلَا الِتمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ، أَو الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ".
كان (ع) يدعو النَّاس إلى أن يراقبوه في حكمه، ليقولوا له كلمة الحقّ إن رأوا هناك شيئاً من الباطل، وليقولوا له كلمة العدل إن كان هناك شيء من الظّلم، وهو المعصوم الَّذي لا يَظلِم ولا يخطئ في أيِّ شيء، ولكن من أجل أن يركِّز هذه الفكرة في حياتهم، وهي أن يرتبط النَّاس به ارتباط الرِّسالة لا ارتباط الشَّخص، ولذلك كان (ع) يقول لهم دائماً: "ليسَ أَمْري وأَمرُكُمْ واحِداً؛ إنِّي أُريدُكُمْ للهِ، وَأُنْتُم تُرِيدونَنِي لأَنْفُسِكِم".
وهكذا نجده في كلِّ مواقفه ومواقعه؛ لم يكن يدعو النَّاس إلى أن يتعصَّبوا له، وإنّما كان يدعوهم إلى أن يسيروا معه، وكان أصحابه المنفتحون عليه يتحركون معه من خلال أنَّه يمثِّل القيادة الإسلاميَّة الَّتي لا تقول إلَّا صدقاً، ولا تقف إلَّا حقّاً، وهذا ما اعترف به عمر بن الخطَّاب عندما تحدَّث عن رجال الشّورى، عندما قال: "لَوْ وليَها عَلِيٌّ لَحَمَلَهُمْ عَلَى المَحَجَّةِ البيْضَاءِ"، لأنَّ عليّاً (ع) كانَ إنساناً ينفتح على الحقِّ كلِّه.
الفرقُ بينَ الالتزامِ والتَّعصّب
وهذا، أيُّها الأحبَّة، ما نحتاج أن نعيشه، أن لا نكون المتعصِّبين بل الملتزمين، أن لا نرتبط بالشَّخص وبالجماعة، بل بالخطِّ وبالمبدأ وبالإسلام.. المتعصِّب لا يمكن أن يلتقي بالآخر، لأنَّه يعتبر الدّنيا محصورةً بدنياه، أمَّا الملتزم، فهو يبحث ما هي مصلحة الإسلام إن كان مسلماً، وما هي مصلحة الوطن إن كان مواطناً، وما هي مصلحة الإنسانيَّة إذا كان يتحرَّك في خطِّ الإنسانيَّة... الملتزم هو إنسانٌ ينفتح على الآخر، والقرآن الكريم علَّمنا أن ننفتح على الآخر، حتَّى لو اختلفنا معه في كثير من التَّفاصيل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ - كم هناك فرق بيننا وبين أهل الكتاب في تصوّر الله وفي الكثير من المفاهيم، ومع ذلك، علَّمنا القرآن أن نبحث عمَّا نلتقي فيه معهم في الخطوط العريضة، حتَّى لو اختلفنا معهم في الخطوط التَّفصيليَّة - أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّهَ - وإن اختلفنا في تصوّر شخصيَّة الله - وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ}[آل عمران: 64]، أن نلتقي على وحدة الله ووحدة الإنسانيَّة الَّتي يساوي فيها الإنسانُ الإنسانَ الآخر، ولا يتَّخذ الإنسانُ الإنسانَ ربّاً له.
مصلحةُ الإسلامِ أوّلاً
وهكذا، إذا كنَّا الملتزمين بالإسلام، فإنَّ علينا أن نراقب مصلحة الإسلام في كلِّ مرحلة من مراحل حركتنا، وفي كلِّ موقع من مواقعنا، أن تنفتح كمسلم على المسلمين الآخرين، من دون أن تتنازل عن قناعاتك، ولكن أن تفكِّر فيما يجمعك بالمسلمين الآخرين، وأن تفكِّر في المصلحة المشتركة بينك وبينهم، فتجمِّد كلَّ خلافاتك معهم، لأنَّ العدوَّ المشترك ينطلق ليطلب رأس الإسلام، ولأنَّ أهل الكفر والضَّلال ينطلقون من أجل أن يسقطوا كلمة "أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله"، وعلينا، في مواجهة ذلك، أن نكون صفّاً واحداً لحماية هذه الكلمة، وأن نجمِّد - ولا نلغي - كلَّ خلافاتنا الأخرى، ونعيش إخواناً في السَّاحة المشتركة.
وهكذا، عندما ينطلق العالم من أجل أن يسقط الإسلام في عقيدته وحركته وسياسته واقتصاده، فعلينا أن ننطلق صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضه بعضاً لمواجهة ذلك؛ أن لا يشغل السّنَّة أنفسهم بالخلاف مع الشِّيعة بمسألة الخلافة، وأن لا يشغل الشِّيعة أنفسهم بالخلاف مع السنَّة في مسألة الإمامة، وإن كان كلٌّ من هؤلاء وأولئك يعتقدون ما يلتزمونه، أن يتوحَّدوا معاً، ولا سيَّما في هذه الظّروف، في وجه المخطَّط العالمي الاستكباريّ الّذي تقوده الولايات المتَّحدة الأمريكيّة، وتتحرَّك به أوروبَّا، وكلّ من يتحالف معهم، بما يسمُّونه الحرب ضدَّ الإسلام الأصوليّ.. والواقع، ليس هناك إسلام أصوليّ بالمعنى الغربيّ، لأنَّ الغرب يقصدون بالإسلام الأصوليّ، الإسلامَ الَّذي ينفي الآخر، ولا يفكِّر إلَّا في العنف ضدَّه.. والإسلام لا ينفي الآخر، وقد قرأنا قوله تعالى: {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء}، فهو يعترف بأهل الكتاب، ولذلك عاش أهل الكتاب، اليهود والنَّصارى، منذ انطلق الإسلام وحتَّى الآن، في بلاد المسلمين آمنين على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، لأنَّ المسلمين منفتحون على الآخر ولا يلغونه، وقد أمرنا الله بالرِّفق لا بالعنف، فلا نسير بالعنف إلَّا كما يضطرّ الإنسان إلى العمليَّة الجراحيَّة.
لذلك، هم لا يريدون إسلاماً يتحرَّك في قضايا الحريَّة، ولا إسلاماً يرتكز على أساس العدالة، ولا إسلاماً ينفتح على المستضعفين كلِّهم بالعدل كلِّه، ولذلك هناك حرب عالميَّة ضدَّ الإسلام.. وقد عبَّرَتْ رئيسة وزراء بريطانيا السَّابقة [مارغريت تاتشر]، في أوَّل اجتماع للحلف الأطلسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وكانوا يبحثون عن عدوٍّ جديد يحاربه الحلف الأطلسي بعد أن سقط الاتحاد السوفياتي كعدوّ، فقالت إنَّ الإسلام هو العدوُّ الجديد، لأنَّ الإسلام الَّذي انطلق من أجل أن يواجه الاستكبار كلَّه والاستعمار كلَّه، والَّذي انطلق في حركته من أجل أن يحافظ على مصالح المسلمين في أرضهم واقتصادهم وسياستهم، إنَّ هذا الإسلام يمثِّل التحدّي للغرب كلِّه، وعلى الغرب أن يستعدَّ له، لأنَّ هذا الإسلام الحركيّ الَّذي ينطلق من خلال روحيَّة مخلصة صادقة مؤمنة بالله، هذا الإسلام الَّذي يتحرَّك على أساس إخلاصه لله ولعباد الله، سوف يعمل، ولو في المستقبل، على أن يكون بترولُ المسلمين للمسلمين، وعلى أن تكون كلُّ ثرواتِ المسلمين للمسلمين.. للمسلمين الحريَّةُ في أن يواجهوا العالم كلَّه بأنَّ هذه ثرواتنا، ونحن نتعاون معكم في مصالحنا ومصالحكم، أن لا تسحقَ مصالحُكم مصالحَنا، وأن لا يكونَ اقتصادُنا على هامش اقتصادكم، ولا سياستنا على هامش سياستكم.. إنَّ الإسلام الحركيّ المنفتح على قضايا الإنسان وقضايا المسلمين الواسعة، هو إسلام لا يوافق عليه الغرب، إنَّ الغرب يوافق على إسلام مدجَّن، مهذَّب، عاقل، يسبِّح بحمد أصحاب الجلالة الَّذين لا جلالة لهم، وبأصحاب السّموّ الَّذين لا سموَّ لهم، وبأصحاب الفخامة والسّيادة الَّذين لا فخامة لهم ولا سيادة، ممن وظَّفهم الاستكبار العالميّ ليكونوا حكَّاماً على المسلمين، ليحافظوا على مصالحه وليحرسوا امتيازاته.
مواجهةُ الاستكبارِ بالوحدة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الاستكبار العالميَّ يعمل الآن على محاربة كلِّ إسلام منفتح على قضايا الحريَّة والعدالة والإنسان، بحجَّة أنَّ هذا إسلام أصوليّ وإرهابيّ، وهذه حركة إسلاميَّة إرهابيَّة، وما إلى ذلك ممّا أطلقوا فيه هذه الكلمات الَّتي لا واقع لها.
ولهذا، من واجب المسلمين في هذه الظَّروف الصَّعبة، أن يجمِّدوا الكثير من نزاعاتهم وخلافاتهم، وأكرِّر للمرَّة الألف، أنِّي لا أدعو كلَّ فريق من المسلمين إلى أن يتنازل عن قناعاته، ولكن أدعو كلَّ فريق منهم أن يعيش معنى إسلامِهِ في مواجهةِ التَّحدّيات الَّتي تواجهه.
في هذه الظروف الصَّعبة، الأرض تهتزُّ تحت أقدامنا، الآخرون يريدون أن يصادروا مياهنا، يريدون أن يحوِّلونا إلى جماعة عطاشى، في هذا الظَّرف الَّذي يراد من خلاله أن تكون إسرائيل هي الدّولة الأقوى في المنطقة، وأن تكون المنطقة مزرعة أمريكيَّة تصادر أمريكا اقتصادَها وسياستَها وأمنَها، من خلال احتواء كلِّ حكَّامها وأوضاعها بطريقة وبأخرى...
في هذا الظَّرف، أريدكم لا أن تستمعوا إليَّ، بل أن يجلس كلّ واحد منكم، ويدرس الأفق العالميَّ للمشكلة الَّتي يواجهها الإسلام والمسلمون، أن يدرس طبيعة التحدّيات الكبرى الَّتي نواجهها في هذا الظّرف، وأن يفكّر: هل يمكن في هذه الحالة أن نخلق بيننا نزاعات وخلافات يحارب فيها بعضنا بعضاً، ويكفِّر فيها بعضنا بعضاً، ويلعن فيها بعضنا بعضاً؟! ووصيَّة رسول الله (ص) في حجَّة الوداع، عندما وقف أمام المسلمين، وقال: "يَاْ أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكُم وأموالَكُم حَرامٌ عليْكُم إلى أنْ تلقَوا ربَّكم، كحرمةِ يومكِم هذا، في شهرِكِم هذا، في بلدِكِم هذا، ألا هل بلَّغت؟ قالُوا نعم، قالَ: اللَّهمَّ اشهدْ، أَلَا لَا تَرجِعُنَّ بعدي كفَّاراً يَضْربُ بعضُكُم رِقَابَ بَعْضٍ".
مسؤوليَّةُ حمايةِ الإسلام
قد يقول بعض النَّاس إنَّ هناك أجهزة وظَّفها الاستعمار والاستكبار العالميّ من أجل مهاجمة عقائد المسلمين، ولا سيَّما المسلمين التَّابعين لأهل البيت (ع)، كبعض الدّول الَّتي لا شغل لها في العالم إلّا محاربة التشيّع. هذا صحيح، ولكنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، أنَّنا لو تحركنا في هذا الجوّ، لنفَّذنا الخطَّة الاستبكاريَّة في أن ينشغل المسلمون بعضهم ببعض.. إنَّ علينا أن نكون أمَّ الولد، والولد عزيز عزيز وهو الإسلام، والولد عزيز وهو الأمَّة الإسلاميَّة.
هل تذكرون قصَّة النّبيّ سليمان، عندما جاءته امرأتان تتنازعان في ولد؛ هذه تقول هذا ولدي، وتقول الأخرى هذا ولدي، وقال لهما سليمان: الصُّلح سيِّد الأحكام، تعالا لنقسِّم الولد بينكما، لتأخذي أنت نصف الولد، وتأخذ تلك النِّصف الآخر، وسكتت المرأة الَّتي ليست الأمَّ الحقيقيَّة، أمَّا الأمُّ الحقيقيَّةُ فقالت له: أعطِها الولدَ، المهمّ أن يسلم ولدي..
والمهمّ أن يسلم الإسلام.. لنتعلَّم من عليٍّ (ع) ذلك، وهو الَّذي قال: "لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلمينَ وَلَمْ يَكُنْ فيها جَوْرٌ إلَّا عَلَيَّ خاصَّة"، عليّ (ع) الَّذي عاش كلَّ حياته للإسلام، وأغلق عينيه بين يدي الله وهو يحمل همَّ الإسلام. لنكن مع عليّ (ع)، حتّى نكون الأمَّ الَّتي تحمي رأس الإسلام، ولا تسمح لأحد بأن يحرِّك الفتنة بين المسلمين، لا بين المسلمين الشِّيعة أنفسهم، ولا بين المسلمين السنَّة والشِّيعة، لنقف جميعاً في مواجهة الفتنة، ولننطلق جميعاً مع قول الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، ومع قول الله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون}[المؤمنون: 52].
هذا هو درس كربلاء، وهذا هو خطُّ الحسين (ع)، والحمد لله ربِّ العالمين.
* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 13/05/1997م.
كنَّا نتحدَّث بالأمس عن الفرق بين التعصّب والالتزام، والفرق بين المجتمع المتعصِّب والمجتمع الملتزم.
فالإنسان المتعصِّب هو الإنسان الَّذي يلغي الآخر تماماً، ولا يدخل معه في حوار، لأنَّه لا يرتبط بالفكرة، ولكنَّه يرتبط بالشَّخص. ولذلك، فإنَّ المتعصِّب هو إنسان يعيش عبادة الشَّخصيَّة، فإذا تعصَّب لشخص، فكأنَّه يعبد هذا الشَّخص، وإذا تعصَّب لعائلة، فكأنَّه يعبد هذه العائلة، وهكذا إذا تعصَّب لأيِّ جهة، فإنَّه يعبدها، وإن لم يوح إلى نفسه بشخصيَّة العابد، وإذا أردت أن تدخل معه في أيِّ فكرة من الأفكار الَّتي يلتزمها أو الأوضاع التي يعيشها فريقه، فإنَّه لا يدخل معك في حوار عقلانيّ، ولكنَّه يواجهك بالسّباب والشَّتائم وبما يملك من القوَّة.
ولذلك، كان المتعصِّبون في مدى التَّاريخ، يمثِّلون النَّاس الَّذين لا يفكِّرون، ولعلَّنا نقرأ سيرة الأنبياء في القرآن الكريم، عندما كانوا يدعون شعوبهم إلى أن يفكِّروا معهم وأن يحاوروهم، فكانوا يواجَهون من قبلِ هؤلاء بالكلمات القاسية، من دون أيِّ منطقٍ يقدِّمونه إليهم.
مواجهةُ الحسين (ع) بالعصبيَّة
ولعلَّنا نعرف ذلك من خلال واقعة كربلاء، فإنَّ هؤلاء الَّذين جاؤوا لقتال الإمام الحسين (ع)، كانوا يعيشون التَّعصّب للقيادة الجائرة والظَّالمة، ولم يكن هناك منطق يرتكزون عليه ليناقشوا الحسين (ع) وأصحابه على أساسه، بل كانوا يغلقون عقولهم عن أيِّ منطق. وتنقل لنا السيرة الحسينيَّة، أنَّ الحسين (ع) عندما أراد أن يقودهم إلى الحوار بما عرضه عليهم من كلِّ الحجج الَّتي تثبت أنَّ الحقَّ معه وأنَّهم على باطل، كان جوابهم الَّذي تحدَّث به الشِّمر في منطقه: "مَاْ نَدْرِي مَا تَقُولُ، وَلَكنْ انزِلْ عَلَى حُكْمِ بني عَمِّكَ". إنَّ هذا هو منطق المتعصِّب؛ تتحدَّث معه وتتحدَّث، وتقدِّم إليه الحجَّة تلو الحجَّة، ولكنَّه يصرّ على أن لا يستمع إليك..
إنَّ معنى ذلك أنَّهم كانوا يتحركون بمنطق العصبيَّة، في الوقت الَّذي كان الحسين (ع) وأصحابه يتحدَّثون بمنطق الالتزام، حتَّى إنَّنا رأينا أنَّ أصحاب الحسين (ع) عندما انطلقوا معه، لم ينطلقوا من موقع التعصّب لشخصه (ع)، بل انطلقوا من خلال أنَّه يمثِّل القيادة الشَّرعيَّة للخطّ الَّذي التزموه، انطلقوا معه من موقع فكر لا من موقع عصبيَّة، وهذا ما لاحظناه من قصَّة زهير بن القين الَّذي يقال إنَّه كان في الخطِّ المنحرف عن خطِّ أهل البيت (ع)، وكان يجتنب اللِّقاء بالحسين (ع)، حتَّى إذا تهيَّأت الظّروف الملائمة للقائه به، وحاوره الحسين (ع)، ووضعه في أجواء الشَّرعيَّة، التزم به ذلك الالتزام العظيم جدّاً.
وهذا ما نلاحظه أيضاً في حديث الحسين (ع) عنهم، عندما كان يواجه كلَّ واحد منهم يخرج للمبارزة، كان يتحدَّث عنهم أنَّهم الملتزمون وليسوا المتعصِّبين، لذلك كان يقول: {مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ}[الأحزاب: 23]، يعني أنَّ الحسين (ع) يريد أن يقول إنَّ أصحابي هم الَّذين عاهدوا الله على أن يقفوا مع الحقِّ ومع قيادة الحقّ، والتزموا ذلك مع الله وليس معي بشكل شخصيّ، ولذلك كان موقفهم موقف الصَّادقين في عهدهم.
الالتزامُ بالخطِّ لا بالشَّخص
وهذا، أيُّها الأحبَّة، ما ينبغي لنا أن نتعلَّمه وأن نلتزمه كأناسٍ يلتزمون الأشخاص أو الخطوط، أو كأناسٍ يدفعون النَّاس إلى أن يلتزموهم.. فعلى الإنسان القياديّ، مهما كانت درجته، أن يدعو النَّاس إلى نفسه، إذا كان يرى في نفسه الشَّرعيَّة، من خلال الالتزام بالخطِّ لا الالتزام بشخصه.. على الإنسان أن لا يشجِّع النَّاس على أن يجعلوه صنماً يعبدونه، أو إنساناً يتعصَّبون له من دون فكر، بل أن يدعو النَّاس إلى أن يحاسبوه، وأن يقدِّم بين وقتٍ وآخر حسابَه إليهم، ليعوِّدهم على أن يرتكزوا في علاقتهم به على الخطِّ الَّذي يؤمنون به، والَّذي يدعو هو إليه، حتَّى إذا جاء قياديّ آخر من بعده، ولم يكن في مستوى المسؤوليَّة، كانت علاقة النَّاس به علاقة حساب.. ليس هناك شخص أكبر من أن يحاسَب، ولكن بطريقة تقيَّة ورعة موضوعيَّة، بحيث لا يكون الحساب منطلقاً من عقدة، بل منطلقاً من الإخلاص للفكرة.
أيّ حاكم أو أيّ إنسان أعظم من رسول الله (ص)؟! ورسول الله (ص) لم يأت من خلال اختيار النَّاس له، لأنَّ الله هو الَّذي اصطفاه، وهو الَّذي اختاره وبعثه، فليس للنَّاس أمام النبيّ (ص) أيُّ حقٍّ عليه.. من الممكن أن نجد الكثير من الحاكمين والمصلحين كانت لهم الشَّرعيَّة من خلال انتخاب النَّاس لهم، ولكنَّ النَّبيَّ (ص) هو الَّذي اصطفاه الله برسالته وبعثه برسالته، ومع ذلك، نجد أنَّه (ص) في آخر لحظات حياته، وهو في مرض الموت، يقف أمام أصحابه ليقول لهم: "واللهِ ما تُمْسِكونَ عليَّ بشيء - وفي روايةٍ: إنَّكم لا تعلِّقون عليَّ بشيء - إنِّي لَمْ أُحِلَّ إلَّا ما أَحَلَّ القرآنُ، وَلَمْ أُحَرِّمْ إلَّا مَا حَرَّمَ القرآنُ"، يعني راقبوا سيرتي وتاريخي معكم في القضايا العامَّة والخاصَّة، وقارنوا بين كلِّ ما كنْتُ أتحرَّك فيه وبين القرآن، ستجدونني الإنسان الَّذي يطابق قولُهُ قولَ الله ولا ينحرف عنه، في حلال الأشياء وفي حرامها. إنَّ النَّبيَّ ليس مسؤولاً عن أن يقدِّم حسابه إلى الأمَّة، ولكنَّه (ص) أراد أن يعلِّم الأمَّة أن تنتظر من أيِّ قيادة أن تقدِّم حسابها، وأن تراقب حسابات القيادة، باعتبار أنَّ ذلك هو النَّهج الَّذي يمكن للأمَّة أن تسلم به.
لذلك، لم يدعُ النَّبيّ (ص) النَّاس إلى أن يتعصّبوا له، ولكنَّه دعاهم إلى أن يؤمنوا به وبرسالته، وأن يتحركوا في خطِّه. ومن هنا، فإنَّ الله أراد للأمَّة أن لا تتجمَّد في حركتها بعد غياب النَّبيّ (ص): {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ ٱلرُّسُلُ أَفَإِيْن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ ٱنقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ ٱللَّهَ شَيْـًٔا}[آل عمران: 144]. فالنَّبيّ يموت، وتبقى الرّسالة.
وفي ضوء هذا، فإنَّ هذا الأسلوب القرآنيَّ الَّذي يتحدَّث عن هذا الموضوع، يريد أن يقول للأمَّة في كلِّ جيل، إنَّ القائدَ مهما كانت درجته، إذا مات، فإنَّ الأمَّة لا بدَّ أن تكمل المسيرة.
قاعدةُ عليٍّ (ع) حولَ الحاكم
وعندما نلتقي بعليّ (ع)، نرى أنَّه كان لا يريد للنَّاس أن يتعصَّبوا له شخصاً، ولكنَّه كان يريد لهم أن يلتزموا برسالته وبمبادئه، وأن يراقبوه، وأن لا يكلِّموه بما تُكلَّم به الجبابرة، قال لهم في موقف خطابيّ، وهو خليفة المسلمين: "فَلَا تُكَلِّمُونِي بِمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلَا تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلَا تُخَالِطُونِي بِالْمُصَانَعَةِ، وَلَا تَظُنُّوا بِيَ اسْتِثْقَالًا فِي حَقِّ قِيلَ لِي، وَلَا الِتمَاسَ إِعْظَامٍ لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ، أَو الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ، فَلَا تَكُفُّوا عَنْ مَقَالَةٍ بِحَقٍّ، أَوْ مَشُورَةٍ بِعَدْلٍ".
كان (ع) يدعو النَّاس إلى أن يراقبوه في حكمه، ليقولوا له كلمة الحقّ إن رأوا هناك شيئاً من الباطل، وليقولوا له كلمة العدل إن كان هناك شيء من الظّلم، وهو المعصوم الَّذي لا يَظلِم ولا يخطئ في أيِّ شيء، ولكن من أجل أن يركِّز هذه الفكرة في حياتهم، وهي أن يرتبط النَّاس به ارتباط الرِّسالة لا ارتباط الشَّخص، ولذلك كان (ع) يقول لهم دائماً: "ليسَ أَمْري وأَمرُكُمْ واحِداً؛ إنِّي أُريدُكُمْ للهِ، وَأُنْتُم تُرِيدونَنِي لأَنْفُسِكِم".
وهكذا نجده في كلِّ مواقفه ومواقعه؛ لم يكن يدعو النَّاس إلى أن يتعصَّبوا له، وإنّما كان يدعوهم إلى أن يسيروا معه، وكان أصحابه المنفتحون عليه يتحركون معه من خلال أنَّه يمثِّل القيادة الإسلاميَّة الَّتي لا تقول إلَّا صدقاً، ولا تقف إلَّا حقّاً، وهذا ما اعترف به عمر بن الخطَّاب عندما تحدَّث عن رجال الشّورى، عندما قال: "لَوْ وليَها عَلِيٌّ لَحَمَلَهُمْ عَلَى المَحَجَّةِ البيْضَاءِ"، لأنَّ عليّاً (ع) كانَ إنساناً ينفتح على الحقِّ كلِّه.
الفرقُ بينَ الالتزامِ والتَّعصّب
وهذا، أيُّها الأحبَّة، ما نحتاج أن نعيشه، أن لا نكون المتعصِّبين بل الملتزمين، أن لا نرتبط بالشَّخص وبالجماعة، بل بالخطِّ وبالمبدأ وبالإسلام.. المتعصِّب لا يمكن أن يلتقي بالآخر، لأنَّه يعتبر الدّنيا محصورةً بدنياه، أمَّا الملتزم، فهو يبحث ما هي مصلحة الإسلام إن كان مسلماً، وما هي مصلحة الوطن إن كان مواطناً، وما هي مصلحة الإنسانيَّة إذا كان يتحرَّك في خطِّ الإنسانيَّة... الملتزم هو إنسانٌ ينفتح على الآخر، والقرآن الكريم علَّمنا أن ننفتح على الآخر، حتَّى لو اختلفنا معه في كثير من التَّفاصيل: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ - كم هناك فرق بيننا وبين أهل الكتاب في تصوّر الله وفي الكثير من المفاهيم، ومع ذلك، علَّمنا القرآن أن نبحث عمَّا نلتقي فيه معهم في الخطوط العريضة، حتَّى لو اختلفنا معهم في الخطوط التَّفصيليَّة - أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللّهَ - وإن اختلفنا في تصوّر شخصيَّة الله - وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ}[آل عمران: 64]، أن نلتقي على وحدة الله ووحدة الإنسانيَّة الَّتي يساوي فيها الإنسانُ الإنسانَ الآخر، ولا يتَّخذ الإنسانُ الإنسانَ ربّاً له.
مصلحةُ الإسلامِ أوّلاً
وهكذا، إذا كنَّا الملتزمين بالإسلام، فإنَّ علينا أن نراقب مصلحة الإسلام في كلِّ مرحلة من مراحل حركتنا، وفي كلِّ موقع من مواقعنا، أن تنفتح كمسلم على المسلمين الآخرين، من دون أن تتنازل عن قناعاتك، ولكن أن تفكِّر فيما يجمعك بالمسلمين الآخرين، وأن تفكِّر في المصلحة المشتركة بينك وبينهم، فتجمِّد كلَّ خلافاتك معهم، لأنَّ العدوَّ المشترك ينطلق ليطلب رأس الإسلام، ولأنَّ أهل الكفر والضَّلال ينطلقون من أجل أن يسقطوا كلمة "أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أنَّ محمَّداً رسول الله"، وعلينا، في مواجهة ذلك، أن نكون صفّاً واحداً لحماية هذه الكلمة، وأن نجمِّد - ولا نلغي - كلَّ خلافاتنا الأخرى، ونعيش إخواناً في السَّاحة المشتركة.
وهكذا، عندما ينطلق العالم من أجل أن يسقط الإسلام في عقيدته وحركته وسياسته واقتصاده، فعلينا أن ننطلق صفّاً واحداً كالبنيان المرصوص، يشدُّ بعضه بعضاً لمواجهة ذلك؛ أن لا يشغل السّنَّة أنفسهم بالخلاف مع الشِّيعة بمسألة الخلافة، وأن لا يشغل الشِّيعة أنفسهم بالخلاف مع السنَّة في مسألة الإمامة، وإن كان كلٌّ من هؤلاء وأولئك يعتقدون ما يلتزمونه، أن يتوحَّدوا معاً، ولا سيَّما في هذه الظّروف، في وجه المخطَّط العالمي الاستكباريّ الّذي تقوده الولايات المتَّحدة الأمريكيّة، وتتحرَّك به أوروبَّا، وكلّ من يتحالف معهم، بما يسمُّونه الحرب ضدَّ الإسلام الأصوليّ.. والواقع، ليس هناك إسلام أصوليّ بالمعنى الغربيّ، لأنَّ الغرب يقصدون بالإسلام الأصوليّ، الإسلامَ الَّذي ينفي الآخر، ولا يفكِّر إلَّا في العنف ضدَّه.. والإسلام لا ينفي الآخر، وقد قرأنا قوله تعالى: {تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء}، فهو يعترف بأهل الكتاب، ولذلك عاش أهل الكتاب، اليهود والنَّصارى، منذ انطلق الإسلام وحتَّى الآن، في بلاد المسلمين آمنين على أموالهم ودمائهم وأعراضهم، لأنَّ المسلمين منفتحون على الآخر ولا يلغونه، وقد أمرنا الله بالرِّفق لا بالعنف، فلا نسير بالعنف إلَّا كما يضطرّ الإنسان إلى العمليَّة الجراحيَّة.
لذلك، هم لا يريدون إسلاماً يتحرَّك في قضايا الحريَّة، ولا إسلاماً يرتكز على أساس العدالة، ولا إسلاماً ينفتح على المستضعفين كلِّهم بالعدل كلِّه، ولذلك هناك حرب عالميَّة ضدَّ الإسلام.. وقد عبَّرَتْ رئيسة وزراء بريطانيا السَّابقة [مارغريت تاتشر]، في أوَّل اجتماع للحلف الأطلسي بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وكانوا يبحثون عن عدوٍّ جديد يحاربه الحلف الأطلسي بعد أن سقط الاتحاد السوفياتي كعدوّ، فقالت إنَّ الإسلام هو العدوُّ الجديد، لأنَّ الإسلام الَّذي انطلق من أجل أن يواجه الاستكبار كلَّه والاستعمار كلَّه، والَّذي انطلق في حركته من أجل أن يحافظ على مصالح المسلمين في أرضهم واقتصادهم وسياستهم، إنَّ هذا الإسلام يمثِّل التحدّي للغرب كلِّه، وعلى الغرب أن يستعدَّ له، لأنَّ هذا الإسلام الحركيّ الَّذي ينطلق من خلال روحيَّة مخلصة صادقة مؤمنة بالله، هذا الإسلام الَّذي يتحرَّك على أساس إخلاصه لله ولعباد الله، سوف يعمل، ولو في المستقبل، على أن يكون بترولُ المسلمين للمسلمين، وعلى أن تكون كلُّ ثرواتِ المسلمين للمسلمين.. للمسلمين الحريَّةُ في أن يواجهوا العالم كلَّه بأنَّ هذه ثرواتنا، ونحن نتعاون معكم في مصالحنا ومصالحكم، أن لا تسحقَ مصالحُكم مصالحَنا، وأن لا يكونَ اقتصادُنا على هامش اقتصادكم، ولا سياستنا على هامش سياستكم.. إنَّ الإسلام الحركيّ المنفتح على قضايا الإنسان وقضايا المسلمين الواسعة، هو إسلام لا يوافق عليه الغرب، إنَّ الغرب يوافق على إسلام مدجَّن، مهذَّب، عاقل، يسبِّح بحمد أصحاب الجلالة الَّذين لا جلالة لهم، وبأصحاب السّموّ الَّذين لا سموَّ لهم، وبأصحاب الفخامة والسّيادة الَّذين لا فخامة لهم ولا سيادة، ممن وظَّفهم الاستكبار العالميّ ليكونوا حكَّاماً على المسلمين، ليحافظوا على مصالحه وليحرسوا امتيازاته.
مواجهةُ الاستكبارِ بالوحدة
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الاستكبار العالميَّ يعمل الآن على محاربة كلِّ إسلام منفتح على قضايا الحريَّة والعدالة والإنسان، بحجَّة أنَّ هذا إسلام أصوليّ وإرهابيّ، وهذه حركة إسلاميَّة إرهابيَّة، وما إلى ذلك ممّا أطلقوا فيه هذه الكلمات الَّتي لا واقع لها.
ولهذا، من واجب المسلمين في هذه الظَّروف الصَّعبة، أن يجمِّدوا الكثير من نزاعاتهم وخلافاتهم، وأكرِّر للمرَّة الألف، أنِّي لا أدعو كلَّ فريق من المسلمين إلى أن يتنازل عن قناعاته، ولكن أدعو كلَّ فريق منهم أن يعيش معنى إسلامِهِ في مواجهةِ التَّحدّيات الَّتي تواجهه.
في هذه الظروف الصَّعبة، الأرض تهتزُّ تحت أقدامنا، الآخرون يريدون أن يصادروا مياهنا، يريدون أن يحوِّلونا إلى جماعة عطاشى، في هذا الظَّرف الَّذي يراد من خلاله أن تكون إسرائيل هي الدّولة الأقوى في المنطقة، وأن تكون المنطقة مزرعة أمريكيَّة تصادر أمريكا اقتصادَها وسياستَها وأمنَها، من خلال احتواء كلِّ حكَّامها وأوضاعها بطريقة وبأخرى...
في هذا الظَّرف، أريدكم لا أن تستمعوا إليَّ، بل أن يجلس كلّ واحد منكم، ويدرس الأفق العالميَّ للمشكلة الَّتي يواجهها الإسلام والمسلمون، أن يدرس طبيعة التحدّيات الكبرى الَّتي نواجهها في هذا الظّرف، وأن يفكّر: هل يمكن في هذه الحالة أن نخلق بيننا نزاعات وخلافات يحارب فيها بعضنا بعضاً، ويكفِّر فيها بعضنا بعضاً، ويلعن فيها بعضنا بعضاً؟! ووصيَّة رسول الله (ص) في حجَّة الوداع، عندما وقف أمام المسلمين، وقال: "يَاْ أيُّها النَّاسُ، إنَّ دماءَكُم وأموالَكُم حَرامٌ عليْكُم إلى أنْ تلقَوا ربَّكم، كحرمةِ يومكِم هذا، في شهرِكِم هذا، في بلدِكِم هذا، ألا هل بلَّغت؟ قالُوا نعم، قالَ: اللَّهمَّ اشهدْ، أَلَا لَا تَرجِعُنَّ بعدي كفَّاراً يَضْربُ بعضُكُم رِقَابَ بَعْضٍ".
مسؤوليَّةُ حمايةِ الإسلام
قد يقول بعض النَّاس إنَّ هناك أجهزة وظَّفها الاستعمار والاستكبار العالميّ من أجل مهاجمة عقائد المسلمين، ولا سيَّما المسلمين التَّابعين لأهل البيت (ع)، كبعض الدّول الَّتي لا شغل لها في العالم إلّا محاربة التشيّع. هذا صحيح، ولكنَّ المسألة، أيُّها الأحبَّة، أنَّنا لو تحركنا في هذا الجوّ، لنفَّذنا الخطَّة الاستبكاريَّة في أن ينشغل المسلمون بعضهم ببعض.. إنَّ علينا أن نكون أمَّ الولد، والولد عزيز عزيز وهو الإسلام، والولد عزيز وهو الأمَّة الإسلاميَّة.
هل تذكرون قصَّة النّبيّ سليمان، عندما جاءته امرأتان تتنازعان في ولد؛ هذه تقول هذا ولدي، وتقول الأخرى هذا ولدي، وقال لهما سليمان: الصُّلح سيِّد الأحكام، تعالا لنقسِّم الولد بينكما، لتأخذي أنت نصف الولد، وتأخذ تلك النِّصف الآخر، وسكتت المرأة الَّتي ليست الأمَّ الحقيقيَّة، أمَّا الأمُّ الحقيقيَّةُ فقالت له: أعطِها الولدَ، المهمّ أن يسلم ولدي..
والمهمّ أن يسلم الإسلام.. لنتعلَّم من عليٍّ (ع) ذلك، وهو الَّذي قال: "لأُسْلِمَنَّ مَا سَلِمَتْ أُمُورُ المُسْلمينَ وَلَمْ يَكُنْ فيها جَوْرٌ إلَّا عَلَيَّ خاصَّة"، عليّ (ع) الَّذي عاش كلَّ حياته للإسلام، وأغلق عينيه بين يدي الله وهو يحمل همَّ الإسلام. لنكن مع عليّ (ع)، حتّى نكون الأمَّ الَّتي تحمي رأس الإسلام، ولا تسمح لأحد بأن يحرِّك الفتنة بين المسلمين، لا بين المسلمين الشِّيعة أنفسهم، ولا بين المسلمين السنَّة والشِّيعة، لنقف جميعاً في مواجهة الفتنة، ولننطلق جميعاً مع قول الله: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا}[آل عمران: 103]، ومع قول الله: {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُون}[المؤمنون: 52].
هذا هو درس كربلاء، وهذا هو خطُّ الحسين (ع)، والحمد لله ربِّ العالمين.
* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 13/05/1997م.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية