كان يتعرَّض لكثير من الحالات الصَّعبة التي قد لا يتحمّلها الكثيرون منّا، كأن يُشتَم من قبل بعض أرحامه، وعلى ملأ من النَّاس.
مرَّ عليه شخص من أقاربه وشتمه وذهب، وهو جالس بين أصحابه، فَوَثَبَ القوم ليضربوه، فأومأ إليهم، ثمّ قال ما مضمونه، اذهبوا بنا لنصفّي حساباتنا مع فلان، فظنُّوا أنّه يأخذهم حتّى يستعين بهم عليه، سار وساروا خلفه، وكان يقرأ قول الله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]، كان يريد أن يعطيهم درساً في كيفيَّة كظم غيظهم، والعفو عن النَّاس، وكان يريد أن يعطي للمعتدي درساً آخر، كيف يكون عباد الله وأولياؤه في المستوى الأعلى الَّذي يرتفعون فيه عن أحقادهم وعن غيظهم، فَطَرَقَ الباب، خَرَجَ الرَّجل الذي سبَّه وهو متوثّب للشرّ، قال له على مهلك، إنّك قلتَ فيَّ كلاماً، فإنْ كان ما قلته فيّ، فأسأل الله أن يغفر لي، وإنْ كان ما قلته ليس فيَّ، فأسأل الله أن يغفر لك؛ فقط أُريد أن أحكي لكَ هذا وأنا ماضٍ، فالتفت هذا الرَّجل، وقد فوجئ، لأنّه عرف أنَّ الإمام لا يتكلّم من موقع ضعف، وإنّما يتكلَّم من موقع قوَّة، لأنَّه كان قادراً على أن يقول لأصحابه ألحقوا الأذى به. عند ذلك، قال هذا الرجل: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"[1]، ما قلته ليس فيك، ولكن أسأل الله أن يغفر لي. وهكذا كان يعيش هذا المستوى من الأخلاق.
ما هي مشاعر عليّ بن الحسين (سلام الله عليه) مع بني أُميّة؟ كيف تتصوَّرونه؟ هل يمكن أن يكون في قلبه ذرّة من أيّ تعاطف نحوهم؟ أنتم ونحن وكلّ الناس، لو أنَّ شخصاً قتل أخاك أو ولدك أو قريبك خطأً، وأنتَ تعرف أنَّه خطأ، تقول: "لا تفرجوني" عليه، لا أُطيق أن أراه، صحيح أنَّ الرجل ليس مذنباً، لكن لا أُطيق أن أراه. هكذا نتصرّف، إذاً كيف بنا بهذا الإنسان الذي وَجَدَ أباه وإخوته وأعمامه وأبناء عمومته وأصحاب أبيه مجزّرين كالأضاحي في رمضاء كربلاء، وقد قطِّعت رؤوسهم، وقد سبي ورُبِّط بالحبال على النَّاقة، وكانت معه أخواته وعمَّاته وكلّ نساء أبيه من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشَّام. كيف تكون مشاعره؟
لاحظوا بعد واقعة كربلاء ثارت المدينة على يزيد، وأعلنت الثورة والعصيان المدني، وكان مروان بن الحكم في ما تقول السيرة الحسينيّة، من الأشخاص الذين لهم عائلة تقدَّر بأربعمائة شخص من أولاده وأحفاده ونسائه وما إلى ذلك، عرض نفسه على كثير من وجوه أهل المدينة، [من بينهم] عبد الله بن عمر وغيره على أن يجيروا عائلته، [ولكنّه جوبه بالرّفض]، لأنَّ المدينة كلّها ثارت عليه وعلى جماعته. وفي هذا الجوّ، يهاجم الثوّار بدون وعي؛ يضربون ويقتلون، ولا سيَّما إذا كانت هذه الجماعة قد ارتكبت أعمالاً سيّئة. عَرَضَ نفسه على وجوه أهل المدينة، فلم يقبل أحد أن يجيره، وجاء إلى عليّ بن الحسين (ع)، وذكر له حاله، فقال له: "ضمَّ عيالك إلى عيالي". وكان الإمام زين العابدين (ع) يطعمهم ممّا يطعم به أهله ويسقيهم [مما يسقيهم]، حتّى إِنَّ إحدى بنات مروان قالت في ما يروى، لم أجد هناك من الرّعاية عند أبي لمّا كنت معه، كما وجدت عند عليّ بن الحسين (ع)، هذا ومروان بن الحكم هو الَّذي قال لوالي المدينة عندما دعا الإمام الحسين (ع) للبيعة، وقال الحسين له نرى وترون، قال: "خذ منه البيعة وإلَّا اقتله"، انظر كيف تصرَّف الإمام زين العابدين (ع)، لقد تصرَّف مثلما قال الشاعر:
مَلَكْنا فكان العفوُ مِنّا سجيّةً * فلمّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدّم أبطحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالما * غَدَوْنا عن الأسرى نكفّ ونصفحُ
فحسبُكمُ هذا التفاوتُ بينَنَا * وكلُّ إناءٍ بالَّذي فيه ينضحُ
وكان هناك أحد ولاة المدينة من قبل بني أُميَّة يسيء إلى عليّ بن الحسين (ع) إساءة بالغة وإلى كلِّ أهله، حقداً منه وعداوة. دارت الأيَّام وعُزِلَ هذا الوالي، وأمر الوالي الَّذي جاء بعده أن يقف ويعرض أمام النَّاس، وجَمَعَ عليّ بن الحسين (ع) أهل بيته وقال لهم: لا يعرض لهذا الرّجل أحد منكم بسوء، قالوا: كيف، وقد فعل بنا ما فعل؟ قال: نكله إلى الله، أصبح الرجل ضعيفاً، وعلينا أن لا نستغلّ ضعفه لنثأر منه، علينا أن نكون أكبر منه، وأفضل منه، سنعفو عند المقدرة. وعندما مرَّ عليه عليّ بن الحسين (ع)، سلَّم عليه، وذاك الرجل ـــ في ما يروى ـــ قال: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
هذا الجوّ الذي كان يعيشه الإمام زين العابدين (سلام الله عليه)، نحتاج أن نستهديه، وأن نستوحي منه الكثير، أن نرتفع عن مستوى الحقد، وعن مستوى البغضاء، وعن مستوى العداوة المقيتة في أنفسنا. لقد جعل الله لنا الحقّ في أن نأخذ مَنْ ظَلَمَنا بظلمه، وأن نردّ العدوان بمثله، ولكنَّ الله فضَّل لنا العفو عندما لا يكون العفو ضرراً على الأُمَّة، وفضَّل لنا أن نعطي الناس قدرة في حُسن الخُلق وقدوة في القلب الكبير والصَّدر الواسع...
هكذا أراد الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) أن يعلِّمنا، أنَّ الإنسان الذي يحمل رسالة الله في عقله وفي قلبه، هو الإنسان الَّذي لا بدَّ أن يكون عقله كبيراً، وصدره واسعاً، وحياته ساحةً مفتوحةً لكلّ مَن يريد أن يتراجع عن خطئه. القصَّة تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى أن ينطلق الإنسان لينظر في ثواب الله أكثر ممّا ينظر في الغيظ الَّذي يريد أن ينفّسه، هكذا كما ورد في حديث الإمام عليّ (ع): "من أحبِّ السبل إلى الله جرعتان: جرعة غيظ تردّها بحلم ــــ أشرب الغيظ، ويمتلئ صدري بالغيظ، وأريد أن أُنَفِّس هذا الغيظ فأردّه بالحلم ــــ وجرعة حزنٍ تردُّها بصبر"[2]. عندما يأتيني الحزن أو البلاء أجزع وأكاد أسقط، لكنّي أتماسك وأقول لا بأس، أشرب كلّ هذا الحزن، أشرب كلّ هذا البلاء، يكون ردّ الفعل أنّي أصبر عليه حتّى لا أسقط، هذا كلام قد يكون سهلاً في الحديث، ولكنّه صعب في التنفيذ، لكنَّ الحلّ في هذه الأمور هو أن نربّي أنفسنا على أن نعتبر ثواب الله مهمّاً عندنا...
[1] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج:38، ص:82.
[2] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج2، ص 1248.
* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب"
كان يتعرَّض لكثير من الحالات الصَّعبة التي قد لا يتحمّلها الكثيرون منّا، كأن يُشتَم من قبل بعض أرحامه، وعلى ملأ من النَّاس.
مرَّ عليه شخص من أقاربه وشتمه وذهب، وهو جالس بين أصحابه، فَوَثَبَ القوم ليضربوه، فأومأ إليهم، ثمّ قال ما مضمونه، اذهبوا بنا لنصفّي حساباتنا مع فلان، فظنُّوا أنّه يأخذهم حتّى يستعين بهم عليه، سار وساروا خلفه، وكان يقرأ قول الله: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}[آل عمران: 134]، كان يريد أن يعطيهم درساً في كيفيَّة كظم غيظهم، والعفو عن النَّاس، وكان يريد أن يعطي للمعتدي درساً آخر، كيف يكون عباد الله وأولياؤه في المستوى الأعلى الَّذي يرتفعون فيه عن أحقادهم وعن غيظهم، فَطَرَقَ الباب، خَرَجَ الرَّجل الذي سبَّه وهو متوثّب للشرّ، قال له على مهلك، إنّك قلتَ فيَّ كلاماً، فإنْ كان ما قلته فيّ، فأسأل الله أن يغفر لي، وإنْ كان ما قلته ليس فيَّ، فأسأل الله أن يغفر لك؛ فقط أُريد أن أحكي لكَ هذا وأنا ماضٍ، فالتفت هذا الرَّجل، وقد فوجئ، لأنّه عرف أنَّ الإمام لا يتكلّم من موقع ضعف، وإنّما يتكلَّم من موقع قوَّة، لأنَّه كان قادراً على أن يقول لأصحابه ألحقوا الأذى به. عند ذلك، قال هذا الرجل: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"[1]، ما قلته ليس فيك، ولكن أسأل الله أن يغفر لي. وهكذا كان يعيش هذا المستوى من الأخلاق.
ما هي مشاعر عليّ بن الحسين (سلام الله عليه) مع بني أُميّة؟ كيف تتصوَّرونه؟ هل يمكن أن يكون في قلبه ذرّة من أيّ تعاطف نحوهم؟ أنتم ونحن وكلّ الناس، لو أنَّ شخصاً قتل أخاك أو ولدك أو قريبك خطأً، وأنتَ تعرف أنَّه خطأ، تقول: "لا تفرجوني" عليه، لا أُطيق أن أراه، صحيح أنَّ الرجل ليس مذنباً، لكن لا أُطيق أن أراه. هكذا نتصرّف، إذاً كيف بنا بهذا الإنسان الذي وَجَدَ أباه وإخوته وأعمامه وأبناء عمومته وأصحاب أبيه مجزّرين كالأضاحي في رمضاء كربلاء، وقد قطِّعت رؤوسهم، وقد سبي ورُبِّط بالحبال على النَّاقة، وكانت معه أخواته وعمَّاته وكلّ نساء أبيه من كربلاء إلى الكوفة، ومن الكوفة إلى الشَّام. كيف تكون مشاعره؟
لاحظوا بعد واقعة كربلاء ثارت المدينة على يزيد، وأعلنت الثورة والعصيان المدني، وكان مروان بن الحكم في ما تقول السيرة الحسينيّة، من الأشخاص الذين لهم عائلة تقدَّر بأربعمائة شخص من أولاده وأحفاده ونسائه وما إلى ذلك، عرض نفسه على كثير من وجوه أهل المدينة، [من بينهم] عبد الله بن عمر وغيره على أن يجيروا عائلته، [ولكنّه جوبه بالرّفض]، لأنَّ المدينة كلّها ثارت عليه وعلى جماعته. وفي هذا الجوّ، يهاجم الثوّار بدون وعي؛ يضربون ويقتلون، ولا سيَّما إذا كانت هذه الجماعة قد ارتكبت أعمالاً سيّئة. عَرَضَ نفسه على وجوه أهل المدينة، فلم يقبل أحد أن يجيره، وجاء إلى عليّ بن الحسين (ع)، وذكر له حاله، فقال له: "ضمَّ عيالك إلى عيالي". وكان الإمام زين العابدين (ع) يطعمهم ممّا يطعم به أهله ويسقيهم [مما يسقيهم]، حتّى إِنَّ إحدى بنات مروان قالت في ما يروى، لم أجد هناك من الرّعاية عند أبي لمّا كنت معه، كما وجدت عند عليّ بن الحسين (ع)، هذا ومروان بن الحكم هو الَّذي قال لوالي المدينة عندما دعا الإمام الحسين (ع) للبيعة، وقال الحسين له نرى وترون، قال: "خذ منه البيعة وإلَّا اقتله"، انظر كيف تصرَّف الإمام زين العابدين (ع)، لقد تصرَّف مثلما قال الشاعر:
مَلَكْنا فكان العفوُ مِنّا سجيّةً * فلمّا مَلَكْتُمْ سالَ بالدّم أبطحُ
وحَلَّلْتُمُ قتلَ الأسارى وطالما * غَدَوْنا عن الأسرى نكفّ ونصفحُ
فحسبُكمُ هذا التفاوتُ بينَنَا * وكلُّ إناءٍ بالَّذي فيه ينضحُ
وكان هناك أحد ولاة المدينة من قبل بني أُميَّة يسيء إلى عليّ بن الحسين (ع) إساءة بالغة وإلى كلِّ أهله، حقداً منه وعداوة. دارت الأيَّام وعُزِلَ هذا الوالي، وأمر الوالي الَّذي جاء بعده أن يقف ويعرض أمام النَّاس، وجَمَعَ عليّ بن الحسين (ع) أهل بيته وقال لهم: لا يعرض لهذا الرّجل أحد منكم بسوء، قالوا: كيف، وقد فعل بنا ما فعل؟ قال: نكله إلى الله، أصبح الرجل ضعيفاً، وعلينا أن لا نستغلّ ضعفه لنثأر منه، علينا أن نكون أكبر منه، وأفضل منه، سنعفو عند المقدرة. وعندما مرَّ عليه عليّ بن الحسين (ع)، سلَّم عليه، وذاك الرجل ـــ في ما يروى ـــ قال: "الله أعلم حيث يجعل رسالته".
هذا الجوّ الذي كان يعيشه الإمام زين العابدين (سلام الله عليه)، نحتاج أن نستهديه، وأن نستوحي منه الكثير، أن نرتفع عن مستوى الحقد، وعن مستوى البغضاء، وعن مستوى العداوة المقيتة في أنفسنا. لقد جعل الله لنا الحقّ في أن نأخذ مَنْ ظَلَمَنا بظلمه، وأن نردّ العدوان بمثله، ولكنَّ الله فضَّل لنا العفو عندما لا يكون العفو ضرراً على الأُمَّة، وفضَّل لنا أن نعطي الناس قدرة في حُسن الخُلق وقدوة في القلب الكبير والصَّدر الواسع...
هكذا أراد الإمام زين العابدين (سلام الله عليه) أن يعلِّمنا، أنَّ الإنسان الذي يحمل رسالة الله في عقله وفي قلبه، هو الإنسان الَّذي لا بدَّ أن يكون عقله كبيراً، وصدره واسعاً، وحياته ساحةً مفتوحةً لكلّ مَن يريد أن يتراجع عن خطئه. القصَّة تحتاج إلى صبر، وتحتاج إلى أن ينطلق الإنسان لينظر في ثواب الله أكثر ممّا ينظر في الغيظ الَّذي يريد أن ينفّسه، هكذا كما ورد في حديث الإمام عليّ (ع): "من أحبِّ السبل إلى الله جرعتان: جرعة غيظ تردّها بحلم ــــ أشرب الغيظ، ويمتلئ صدري بالغيظ، وأريد أن أُنَفِّس هذا الغيظ فأردّه بالحلم ــــ وجرعة حزنٍ تردُّها بصبر"[2]. عندما يأتيني الحزن أو البلاء أجزع وأكاد أسقط، لكنّي أتماسك وأقول لا بأس، أشرب كلّ هذا الحزن، أشرب كلّ هذا البلاء، يكون ردّ الفعل أنّي أصبر عليه حتّى لا أسقط، هذا كلام قد يكون سهلاً في الحديث، ولكنّه صعب في التنفيذ، لكنَّ الحلّ في هذه الأمور هو أن نربّي أنفسنا على أن نعتبر ثواب الله مهمّاً عندنا...
[1] بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج:38، ص:82.
[2] ميزان الحكمة، محمد الريشهري، ج2، ص 1248.
* من كتاب "الجمعة منبر ومحراب"