إنَّ فصل الدين عن الدولة هو تماما كفصل الإنسان عن ذاته. هذه المقولة [فصل الدّين عن الدّولة] انطلقت من تجربة الدين في الواقع الغربي؛ فهي مصطلح مستورد.
ونحن لسنا معقّدين من استيراد الكلمات، لأننا لا نعتبر أنّ الفكر يخضع لوزارة الاقتصاد في عالم الاستيراد والتصدير، ليس للفكر وطن معيّن، ولهذا، كنا ضدّ مصطلحات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركيّة، عندما كانت تعبّر عن المبادئ الماركسية بأنها المبادئ المستوردة. لكننا نقول إنّنا حتى عندما نأخذ من الأمم الأخرى بعض الكلمات وبعض المصطلحات، فإن علينا أن ندرسها في العمق.
المفهوم الدّيني عند الغرب، أو هكذا قدَّمت المسيحيّة الدّين، هو أنّه علاقة بين الإنسان وربّه. ويقولون عن لسان السيِّد المسيح: مملكتي ليست من هذا العالم. أعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. أمَّا الإسلام، فإنَّه يتحرَّك من خلال أنَّ الله ليس منفصلاً عن العالم وعن الإنسان، وإنما هو الله الرّحمن الرّحيم الذي يرزق ويعطي ويحيي ويميت، بحيث إنك ترى الله سبحانه وتعالى في كلّ شيء يتحرّك في حياتك. فالله ليس شيئاً تجريدياً بعيداً عن عالمك، يجلس في مكان معيّن ويحلّق في عالم الغيب الذي لا تستطيع أن تبلغه، بل إنّك تراه في عقلك وفي قلبك وفي حياتك وفي كلّ وجودك المرتبط بالله. وعندما نأتي إلى الدّين، فإننا نقرأ قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ اَلْكِتابَ وَاَلْمِيزانَ لِيَقُومَ اَلنّاسُ بِالْقِسْطِ}.[الحديد: 25]. معنى ذلك، أنَّ الأديان كلَّها حركة عدل. وهل يمكن أن يكون هناك عدل بلا دولة؟ إنّ الدّولة تمثّل وسيلة الإنسان من خلال تحريك العدل وتحويله إلى واقع. العدل لا بدّ فيه من حاكم عادل، ومن شريعة عادلة، ومن مواطن عادل، وهكذا.
لذلك، فإنّنا نعتبر أنَّ الدّين إذا كان ينطلق من قاعدة العدل - ومن الطبيعيّ أنَّ العدل ليس شيئاً معلَّقاً في الهواء، وإنما هو قيمة واقعيَّة – فلا بدّ له من وسائل. فإذا أبعدنا الدّولة عن الدّين، فمعنى ذلك أننا أبعدنا الوسيلة عن الحياة؛ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، من ناحية واقعيّة، إننا عندما ندرس الفقه الإسلامي منذ اختلاف الفقهاء المسلمين في زمن الخلفاء الراشدين حتى يومنا هذا، فإننا نجد أن الفقهاء المسلمين عالجوا كلّ ما كان الإنسان المسلم يعيشه من مفردات حياته. فقد عاش المسلمون في مدى ما يقارب الألف عام في نظام خلافة الأمويّين والعباسيّين وما إلى ذلك، ولم يكن هناك دستور مثل اليوم. كان الفقه الإسلاميّ هو الذي يدير حياة الخليفة، والحرب والسِّلم، والعلاقات الدبلوماسّية والاقتصادية والسياسية للناس. لذلك، فإن الفقه الإسلامي يمثّل ثورة تشريعية شاملة، ولا يزال يتحرك في هذا الاتجاه.
عندما نريد أن نفصل الإسلام عن الدولة، فماذا نصنع بهذا الفقه، هل نطرحه في الهواء؟ ولماذا نطرحه؟ لماذا لا ندرسه، لماذا لا نحاكمه، لماذا لا نقابل المفاهيم التي طرحها في حلّ مشكلات الإنسان الجزئيّة أو العامّة بالمفاهيم التي يطرحها الآخرون؟ إنّ الإنسان المسلم يشعر بأنّ عليه أن يعيش الشّريعة، حتى في غياب الدولة الإسلاميّة.
ومن هنا، فإنّ الذين يدعون إلى الدّولة الإسلاميّة وإلى تطبيق الشّريعة، يريدون أن يخرجوا الإنسان المسلم من هذا التمزّق بين ما هو القانون وبين ما هي الشريعة. فأنت في مجتمع ربويّ لا يجوز أن تكون مرابياً ما أمكنك ذلك، خلافاً للماركسيّة التي تقول لك كن ربويّاً كأعلى المرابين في المجتمع الرّبوي، لأن المشكلة لا تحلّ إلّا بالحل العام. بينما في الإسلام، تعتبر قضية الربا ليست مربوطة بالنظام الاقتصادي فحسب، بل مربوطة أيضاً بخلقية الإنسان في نفسه. فلذلك، نحن نقول إنّ الإسلام دين يختزن الدولة داخله.
نحن نقول إنَّ الإسلام دين بالمعنى العقيدي، ومدني بالمعنى التّشريعي. فالإسلام يعتبر نظاماً مدنيّاً يتّسع لكلّ الحالات المدنيّة التي يحتاج الإنسان إليها، وينفتح على الحالات الجديدة. عندما تقرأ في الفقه الإسلامي العبادات، ثم تقرأ كتاب التجارة والإجارة والشرّكة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والزواج والطّلاق والجنايات والحدود والتعزيرات والجهاد، وما إلى ذلك، دلّني على عناوين موجودة في القوانين المدنيّة المعمول بها تختلف عن هذه العناوين الموجودة في الإسلام. لذلك، فالمسلم - حتّى الجاهل - يختزن داخل إيمانه الدّاخليّ أنّ عليه عندما يواجه أيّ مشكلة، أن يسأل الفقيه، لأنه يختزن داخل شخصيته أنّ لله حكماً في كلّ موقع من المواقع. ولذلك، فنحن نرفض فصل الدين عن الدولة، كما نرفض فصل الإنسان عن ذاته...
*من كتاب "الإسلام وفلسطين".
إنَّ فصل الدين عن الدولة هو تماما كفصل الإنسان عن ذاته. هذه المقولة [فصل الدّين عن الدّولة] انطلقت من تجربة الدين في الواقع الغربي؛ فهي مصطلح مستورد.
ونحن لسنا معقّدين من استيراد الكلمات، لأننا لا نعتبر أنّ الفكر يخضع لوزارة الاقتصاد في عالم الاستيراد والتصدير، ليس للفكر وطن معيّن، ولهذا، كنا ضدّ مصطلحات وكالة الاستخبارات المركزية الأميركيّة، عندما كانت تعبّر عن المبادئ الماركسية بأنها المبادئ المستوردة. لكننا نقول إنّنا حتى عندما نأخذ من الأمم الأخرى بعض الكلمات وبعض المصطلحات، فإن علينا أن ندرسها في العمق.
المفهوم الدّيني عند الغرب، أو هكذا قدَّمت المسيحيّة الدّين، هو أنّه علاقة بين الإنسان وربّه. ويقولون عن لسان السيِّد المسيح: مملكتي ليست من هذا العالم. أعطوا ما لله لله، وما لقيصر لقيصر. أمَّا الإسلام، فإنَّه يتحرَّك من خلال أنَّ الله ليس منفصلاً عن العالم وعن الإنسان، وإنما هو الله الرّحمن الرّحيم الذي يرزق ويعطي ويحيي ويميت، بحيث إنك ترى الله سبحانه وتعالى في كلّ شيء يتحرّك في حياتك. فالله ليس شيئاً تجريدياً بعيداً عن عالمك، يجلس في مكان معيّن ويحلّق في عالم الغيب الذي لا تستطيع أن تبلغه، بل إنّك تراه في عقلك وفي قلبك وفي حياتك وفي كلّ وجودك المرتبط بالله. وعندما نأتي إلى الدّين، فإننا نقرأ قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ اَلْكِتابَ وَاَلْمِيزانَ لِيَقُومَ اَلنّاسُ بِالْقِسْطِ}.[الحديد: 25]. معنى ذلك، أنَّ الأديان كلَّها حركة عدل. وهل يمكن أن يكون هناك عدل بلا دولة؟ إنّ الدّولة تمثّل وسيلة الإنسان من خلال تحريك العدل وتحويله إلى واقع. العدل لا بدّ فيه من حاكم عادل، ومن شريعة عادلة، ومن مواطن عادل، وهكذا.
لذلك، فإنّنا نعتبر أنَّ الدّين إذا كان ينطلق من قاعدة العدل - ومن الطبيعيّ أنَّ العدل ليس شيئاً معلَّقاً في الهواء، وإنما هو قيمة واقعيَّة – فلا بدّ له من وسائل. فإذا أبعدنا الدّولة عن الدّين، فمعنى ذلك أننا أبعدنا الوسيلة عن الحياة؛ هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، من ناحية واقعيّة، إننا عندما ندرس الفقه الإسلامي منذ اختلاف الفقهاء المسلمين في زمن الخلفاء الراشدين حتى يومنا هذا، فإننا نجد أن الفقهاء المسلمين عالجوا كلّ ما كان الإنسان المسلم يعيشه من مفردات حياته. فقد عاش المسلمون في مدى ما يقارب الألف عام في نظام خلافة الأمويّين والعباسيّين وما إلى ذلك، ولم يكن هناك دستور مثل اليوم. كان الفقه الإسلاميّ هو الذي يدير حياة الخليفة، والحرب والسِّلم، والعلاقات الدبلوماسّية والاقتصادية والسياسية للناس. لذلك، فإن الفقه الإسلامي يمثّل ثورة تشريعية شاملة، ولا يزال يتحرك في هذا الاتجاه.
عندما نريد أن نفصل الإسلام عن الدولة، فماذا نصنع بهذا الفقه، هل نطرحه في الهواء؟ ولماذا نطرحه؟ لماذا لا ندرسه، لماذا لا نحاكمه، لماذا لا نقابل المفاهيم التي طرحها في حلّ مشكلات الإنسان الجزئيّة أو العامّة بالمفاهيم التي يطرحها الآخرون؟ إنّ الإنسان المسلم يشعر بأنّ عليه أن يعيش الشّريعة، حتى في غياب الدولة الإسلاميّة.
ومن هنا، فإنّ الذين يدعون إلى الدّولة الإسلاميّة وإلى تطبيق الشّريعة، يريدون أن يخرجوا الإنسان المسلم من هذا التمزّق بين ما هو القانون وبين ما هي الشريعة. فأنت في مجتمع ربويّ لا يجوز أن تكون مرابياً ما أمكنك ذلك، خلافاً للماركسيّة التي تقول لك كن ربويّاً كأعلى المرابين في المجتمع الرّبوي، لأن المشكلة لا تحلّ إلّا بالحل العام. بينما في الإسلام، تعتبر قضية الربا ليست مربوطة بالنظام الاقتصادي فحسب، بل مربوطة أيضاً بخلقية الإنسان في نفسه. فلذلك، نحن نقول إنّ الإسلام دين يختزن الدولة داخله.
نحن نقول إنَّ الإسلام دين بالمعنى العقيدي، ومدني بالمعنى التّشريعي. فالإسلام يعتبر نظاماً مدنيّاً يتّسع لكلّ الحالات المدنيّة التي يحتاج الإنسان إليها، وينفتح على الحالات الجديدة. عندما تقرأ في الفقه الإسلامي العبادات، ثم تقرأ كتاب التجارة والإجارة والشرّكة والمضاربة والمزارعة والمساقاة والزواج والطّلاق والجنايات والحدود والتعزيرات والجهاد، وما إلى ذلك، دلّني على عناوين موجودة في القوانين المدنيّة المعمول بها تختلف عن هذه العناوين الموجودة في الإسلام. لذلك، فالمسلم - حتّى الجاهل - يختزن داخل إيمانه الدّاخليّ أنّ عليه عندما يواجه أيّ مشكلة، أن يسأل الفقيه، لأنه يختزن داخل شخصيته أنّ لله حكماً في كلّ موقع من المواقع. ولذلك، فنحن نرفض فصل الدين عن الدولة، كما نرفض فصل الإنسان عن ذاته...
*من كتاب "الإسلام وفلسطين".