أسرار النبوَّة والتَّشريع في خطبة الزّهراء(ع)

أسرار النبوَّة والتَّشريع في خطبة الزّهراء(ع)

تحدَّثنا في الأسبوع الماضي عن الخطبة الَّتي ألقتها سيِّدتنا فاطمة الزّهراء(ع) في مسجد رسول الله(ص)، على ملأٍ كبير من المهاجرين والأنصار، من أجل أن تحدِّد موقفها من الأحداث الطّارئة الّتي حدثت بعد وفاة النّبيّ(ص) بما يخصّها ويخصّ الخطّ الإسلاميّ الأصيل، المتمثِّل بالإمامة الواعية الشّجاعة المنفتحة على الله وعلى النّاس والحياة من أوسع الأبواب العميقة، في فكرها الممتدّ في طروحاتها الّتي تنطلق مع الزّمن كلِّه، فليس لديها ماضٍ وحاضر ومستقبل فيما تتحدَّث به من مشاكل الإنسان، لأنَّ حديثها هو حديث الإسلام كلِّه، وحديثٌ للإنسان كلِّه وللحياة كلّها.

وقد قلنا في حديثنا السَّابق، إنَّ خطبة الزّهراء(ع) هي محاضرة إسلاميّة فكريّة تتناول أسرار التوحيد والنّبوَّة وحركة النّبيّ(ص) وعلاقتها به، كما أنَّها تتضمّن أسرار التّشريع الإسلاميّ في كثير من مفرداته، ثم تتحرك نحو الواقع الّذي حدث بعد رسول الله(ص)، وكيف انحرف عن خطّ الاستقامة وعن المسار الطّبيعيّ، ثم تدخل في جدلٍ فقهيٍّ قرآنيٍّ حول ما ادّعي ضدّها من أنها لا ترث من رسول الله(ص)، لأنّ الأنبياء لا يورّثون أحداً.

اصطفاء الله للنَّبيّ(ص)

لقد تحدَّثنا عن الفصل الأوَّل المتعلِّق بالتّوحيد، وها نحن الآن ندخل في الفصل الثّاني، فالزهراء(ع) تقول: "وأشهد أنَّ أبي محمّداً(ص) عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسمَّاه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة".

إنها تتحدَّث عن أنَّ قضيَّة النّبيّ(ص) هي قضيّة حدَّد الله مسارها في وقتها قبل أن يخلقه، واصطفاه نبيّاً من خلال ما يعرفه من عناصر الشخصيَّة الكامنة في داخله عند خلقه، وبذلك ولد النبيّ(ص) واسمه عند الله ونبوَّته عند الله تعالى، ولكن فعليّة هذه النبوّة وحركتها، كانت تنتظر الأربعين سنة، لحكمة يعلمها الله في ذلك، فهو النبيّ في الدّور الجنينيّ للنبوّة قبل أن يكون جنيناً في بطن أمّه.

وهكذا يقدّر الله سبحانه وتعالى للحياة رسالاتها ورسلها وخططها ونظامها وقوانينها قبل أن يخلقها، لأنَّ كلَّ شيء جاهز في علمه، ولكن عندما تتعلَّق إرادته بالشّيء، لكي يوجد رسولاً أو رسالةً أو نظاماً أو قانوناً، فكما تذكر الآية الكريمة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[1].

عبوديّة النبيّ(ص) لله

وهنا لا بأس أن نتوقّف ـ ولو وقفة سريعة ـ عند قول سيّدة النّساء(ع) عن أبيها: "عبده ورسوله"، وعند هذا التّأكيد في الحديث عن الرّسول(ص) أنه عبد الله قبل أن يُتحدَّث عنه أنّه رسول الله، وهذا أمر يشمل الّذين اصطفاهم الله لنبوّته ولإمامته ولولايته، فالمسألة تتحرّك من خلال أنّ عظمة الرّسول(ص) في صفاته، وعظمة الإمام(ع)، إنما هي في عمق معنى العبوديّة لله، وفي سعة حركة هذه العبوديّة، فعبوديته لله تتضمّن عمق المعرفة به، بحيث إنَّ الإنسان كلّما عرف الله أكثر، أحسَّ بعمق العبوديّة وسرّها في شخصيّته أكثر.

وربما كان هذا نوعاً من أنواع الإيحاء بأنَّ العبوديّة كانت أوّلاً، وبالعبوديّة اجتباه الله لرسالته، ومن الممكن أن يكون إيحاء هذه الكلمة للنّاس، أن لا يأخذهم الغلوّ فيمن اجتباهم الله واصطفاهم، وأن لا يخرجوهم عن حدّ العبوديّة فيما يعظّمونه من دور الرّسالة أو الإمامة، لأنَّ الله استقلّ بالربوبيّة ولا يشاركه فيها غيره، فليس عندنا نصف إله وربعُ إله وما إلى ذلك، سواء كان ذلك بالاستقلال أو بالإذن، لأنَّ الله لم يأذن أن يكون غيره في الحياة إلهاً، أو فيه شيء من الألوهيّة فيما تعنيه خصوصيّة الألوهيّة بالذّات.

لذلك، علينا أن نتمثّل النبيّ(ص) عبداً لله في أعلى درجات العبوديّة وأعمقها، قبل أن نتمثّله رسولاً: "اختاره قبل أن أرسله"، فقد كان في علم الله أن يختاره نبيّاً في الموقع الأسمى للنبوّة، "وسمّاه قبل أن اجتباه"، أي قبل أن اختاره، "واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة"، إذ لم يكن هناك أحد عندما اصطفاه الله وانتجبه واختاره وسماه، "وبستر الأهاويل مصونة"، وربما يكون المراد من ستر الأهاويل ستر العدم، باعتبار ما يلحق الأشياء من موانع الوجود وعوائقه، "وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالى"، لماذا اختاره؟ ولماذا انتجبه؟ ولماذا قدَّر نبوّته قبل أن يخلقه؟ "بما يلي الأمور"، في حاجاتها للرّسالة وللرّسول، "وإحاطة بحوادث الدّهور"، لأنّ الله أحاط بعلمه حركة الدّهور من دهرٍ إلى دهرٍ في قضاياها وأحداثها ووقائعها، فقدَّر لها المخلوقين في أسرار خلقهم وأدوارهم وأوضاعهم وما حمَّلهم من مسؤوليّة.

"ومعرفة بمواقع الأمور"، حيث إنَّ الله تعالى يحيط بمواقع الأشياء وقدرها قبل أن توجد، وكان هذا هو تقدير البعث.

سرّ البعثة

"ابتعثه الله إتماماً لأمره"، لأنّه تعالى أراد منذ أن اختاره في عالم الغيب نبيّاً، أراد له أن يوجد نبيّاً، ولذلك ابتعثه، "وعزيمة على إمضاء حكمه"، في نبوَّته بكلّ مسؤوليّتها وحركيّتها، "وإنفاذاً لمقادير حتمه"، أي ما حتّمه، أو "لمقادير حكمه" أو "لمقادير حكمته"، حسب تعدّد الرّوايات، "فرأى الأمم"، وهذا هو سرّ بعثة نبيّنا، "فرقاً في أديانها"، منهم من يعبد الأوثان، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من انحرف عن خطّ الرّسالات التي كانت تتميَّز في صفائها ونقائها أوّل الأمر، وعندما امتدَّ بها الزمن انحرفت.

"عكّفاً على نيرانها"، تعكف على عبادة النّار، "عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها. فأنار الله"، فجاء الضَّوء والإشراق والنّور الرّوحيّ في النبيّ الّذي تحوّل إلى روح تتجسّد، وانطلقت منه الشَّمس الإنسانيّة، لأنَّ النبيّ(ص) كان شمساً إنسانيةً نوراً كلها، ومن هنا كان دوره في أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلو كان في عقله شيء من الظّلمة، أو كان في قلبه شيء من الظّلمة، فكيف يمكن أن يعطي النّور وهو يعيش هذا الظلام؟ وهو الذي جاء بالرّسالة ليخرج النّاس من الظلمات إلى النّور.

"فأنار الله بأبي محمّد(ص) ظلمها، وكشف عن القلوب"، والقلوب في المصطلح القرآني هي كلّ مواقع الإدراك والإحساس، فيمكن أن تطلق "القلب" على العقل وعلى القلب، أي مكامن الإحساس، "وكشف عن القلوب بُهمها"، أي كلّ مشكلات الأمور الّتي تعيش في عقل الإنسان، مما يفقد الوضوح فيها لإبهامها عنده، فجاء النّبيّ(ص) برسالته من أجل أن يحلّ مشكلات هذه الأمور، أو المشكلات الّتي تعيش في الجانب الإحساسي والشّعوري للإنسان من التّعقيدات العاطفيّة والإحساسيّة، فلقد جاء النّبيّ(ص) من أجل أن يحلَّ مشكلات العاطفة كما يحلّ مشكلات العقل، "وجلّى عن الأبصار غممها"، والمراد ليس الأبصار الماديّة الحسيّة، بل الأبصار الروحيّة، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[2]، فقد يعيش بصر القلب في حيرةٍ ولبسٍ وعمى، فتأتي الرّسالة من أجل أن تجلو هذه الحيرة وهذا اللّبس الذي يغمّ الإنسان ويحجب عنه وضوح الرّؤية للأشياء.

"وقام في النّاس بالهداية"، فالله تعالى أرسله هادياً إلى النّاس كلّهم، "فأنقذهم من الغواية" إلى خطِّ الرّشد، "وبصّرهم من العماية"، إلى خطِّ البصر والبصيرة، "وهداهم إلى الدّين القويم، ودعاهم إلى الطّريق المستقيم"، فهذه هي العناوين الّتي تمثّل الحاجة الواقعيّة إلى رسالته(ص)، كما تمثِّل حركيَّته بشكلٍ عامّ في خطِّ الرِّسالة.

انتقال الرّسول إلى ربِّه

"ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار"، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[3]، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[4]، وقبض الرّأفة لأنّه نبيُّه الذي عاش في رحمة الله ومحبّته، "ورغبة وإيثار"، حيث إنَّ النّبيّ(ص) كان يرغب في لقاء ربّه، وكان يؤثر هذا اللّقاء على الدّنيا عندما خيّر بين الدّنيا ولقاء الله.

"فمحمّد(ص) من تعب هذه الدّار في راحة"، ولقد كانت تذكر ذلك وهي تستعرض متاعبه وأذاه والمشاقّ كلّها الّتي عاشها، حتى قال: "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"[5]، لقد شعرت كيف أنَّ هؤلاء القوم المشركين عطّلوا الخطّ الذي أراد له النبي(ص) أن ينفتح على العالم كلّه، بحروبهم وتعقيداتهم وكلّ مشاكلهم وأوضاعهم، وكيف كان يعاني شركهم، وكان يتألّم لهم، ولذلك كانت نفسه تذهب عليهم حسرات، وهي إذ تشعر بتعب أبيها فيما عاشته معه في كلّ تعب هذه الدار، تتصوّره في جنات الله فيما أخبرت به عن مواقعه، كما كان يروى أنّ هناك ملكاً كان يحدّثها عن أبيها عن ذلك: "قد حُفَّ بالملائكة الأبرار، ورضوان الربّ الغفّار، ومجاورة الملك الجبّار، صلّى الله على أبي نبيّه وأمينه وخيرته من الخلق وصفيّه..."، إنها تتحدث عن أبيها في الصفات الأصيلة من شخصيّته، حيث كان الأمين على وحي الله، لم يخنه في أية زيادة أو نقصان، ولم يهن، ولم يلن، ولم يتراجع في التّحدّيات الّتي واجهته كلّها.

التّذكير بالمسؤوليّات

ثم التفتت(ع) إلى أهل المجلس بعد أن انتهت من الحديث عن الله وعن بعثة رسول الله(ص)، وأرادت أن تعرّف هؤلاء المهاجرين والأنصار مسؤوليّتهم، فهي ليست في أن يفتّش كل واحد منهم عن ذاته، أو عن عقده النفسية، أو عن مطامعه، أو ينحرف كلّ واحد منهم عن الحقّ الذي يعرف، أو ينقض العهد الّذي عاهد عليه الله ورسوله، وإنما كانت تريد لهم أن يفكّروا في طبيعة مسؤوليّاتهم، بين ما حمَّلهم الله من مسؤوليّة، وما يعيشونه من انحراف عن خطّ تلك المسؤوليّة.

وإني لأتصوَّر الزّهراء(ع) وهي تقف في شموخ الرّسالة وعنفوان الموقف، وكأنها تخاطبهم من فوق، لأنها كانت تشعر بأنها أمينة على خطّ رسول الله(ص)، فهي بضعة منه، ولأنَّ عقلها كان عقله، وروحها كانت روحه، ولأنها اندمجت به حتى صارت جزءاً منه، وهذا ما نستوحيه من قوله(ص): "يؤذيني ما يؤذيها، ويغضبني ما يغضبها، وإنَّها بضعة مني، يريبني ما رابها"[6]، فكأنّه يتحسَّس في أذاها أذاه، وفي غضبها غضبه، وفي كلّ ما يريبها ما يريبه، لأنها جزء منه، فالكلّ يتحسَّس ما يتحسَّسه الجزء، وهذا هو إيحاء كلمة رسول الله(ص).

لذلك، كانت الزّهراء(ع) تشعر بأنها تقف من أجل أن تحمل ما أودعه رسول الله(ص) عندها فكراً وروحاً وحركة، وكانت تتكلَّم معهم، وفيهم الشّيوخ من المهاجرين والأنصار، معلِّمة واعظة مرشدة ناقدة.

"أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه"، فأنتم واقفون أمام أمر الله ونهيه، فقد أراد لكم في نظم أمركم أن تطيعوا أمره فتفعلوه، وأن تطيعوا نهيه فتتركوه.

"وحملة دينه ووحيه"، فأنتم المهاجرون والأنصار الّذين كلّفكم الله أن تحملوا وحيه: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[7]، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً}[8].

"وأمناء الله على أنفسكم"، فلقد جعل الله كلّ واحدٍ منكم أميناً على نفسه، بأن يصفّي نفسه ويزكّيها ويثقّفها، ويحرّكها في الطّريق المستقيم، وأن يواجه نفسه الأمَّارة بالسوء، لتكون النفس اللّوّامة، ولتنتهي إلى أن تكون النّفس المطمئنّة الرّاضية المرضيّة.

إنَّ الله تعالى ـ ومن خلال حديث سيّدتنا فاطمة الزّهراء(ع) ـ جعلنا أمناء على نفوسنا، بأن تبلّغ نفسك قبل أن تبلّغ غيرك وحي الله وما يريده لها من الزكاة والتّقوى، وكيف تكون عنصر خيرٍ وإنتاجٍ لكلِّ ما يحقّق إرادة الله في الكون.

إنَّ هذه الفقرة من الخطبة: "وأمناء الله على أنفسكم"، إذا عاشها الإنسان، فإنها تحمله إلى آفاق واسعة من كلّ ما يمكن أن يجعل النّفس عنصر حقّ وخير وعدل وإنتاج وإبداع وعمل، في سبيل أن يعطي ذاته كلَّها للحياة التي جعله الله أميناً عليها، بحيث إذا خرج الإنسان من الحياة، كان حاله كحال الفاكهة التي تعتصرها حتى تفرغ كلّ قطرة من الماء فيها، فإذا رميتها رميت القشر الّذي لا حياة فيه.

فالله تعالى يريد لنا في أمانتنا على أنفسنا، أن ننتج أنفسنا، وأن نعتصر كلّ ما فيها من عقل للحقّ، ومن قلبٍ للمحبّة والخير، ومن طاقةٍ لحركة الحياة في جميع مجالاتها.

"وبلغاؤه إلى الأمم"، لأنَّ الله أراد للأمّة الأولى التي آمنت بالإسلام، أن تكون الأمّة المبلّغة الدّاعية إلى الأمم كلّها.

"زعيم حقّ له فيكم"، أي جعله الله حقّاً لكم، "وعهدٍ قدَّمه إليكم"، فقد قدَّم الله لكم كلَّ هذا الّذي ذكرته، وكلَّ هذه الأسماء والخصائص والأدوار.

خصائص القرآن

"وبقيّة استخلفها عليكم"، وهنا دخلت في آفاق القرآن الّذي يختزن الحقّ والعهد، "كتاب الله النّاطق"، الذي ينطق دون أن تسمع صوته، لأنَّ نطق القرآن في آياته يمثّل عمق الصوت الإلهيّ العميق القدر، الذي عندما تحدِّق فيه، فإنّك تسمع صوت الله همساً حبيباً يدخل إلى عقلك وقلبك ليزكِّيهما.

"والقرآن الصّادق"، لأنّه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يعطي الحقَّ والصِّدق في كلّ شيء، "والنّور الساطع"، {...قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ...}[9]، "والضّياء اللامع"، فقد جعله الله ضياءً في ظلمات العقول والقلوب، ليعطيها ضوء الحقيقة.

"بيّنة بصائره"، فهو الّذي يعطي الإنسان البصيرة بكلّ وضوح، ومن دون أيّ غموض، "منكشفة سرائره"، في طبيعة الأفكار التي يثيرها، والمناهج التي يحركها، "منجلية ظواهره"، فأنت عندما تقرأ القرآن، تقرأه بكلّ جلاء، فلا غموض فيه ولا تعقيد، "مغتبط به أشياعه"، فالناس الذين هم شيعة القرآن وأتباعه، يشعرون بالغبطة، لأنَّ القرآن يبيّن لهم في كلّ آية يقرأونها علماً جديداً وروحاً جديدةً وخلقاً جديداً.

"قائد إلى الرّضوان أتباعه"، لأنَّ الله يقول: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ...}[10]، إنّه يهدي النّاس إلى رضوان الله، وإلى مواقع رضاه، وإلى خطوط رضاه، وإلى كلّ ما يمكن أن يحصلوا به على رضاه.

"مؤدٍّ إلى النّجاة استماعه"، لأنَّ الإنسان إذا استمع إليه، فجعل فكر القرآن فكره، وروح القرآن روحه، فإنَّ ذلك يقوده إلى العمل والنّجاة، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[11].

"به تُنال حجج الله المنوّرة"، فإذا قرأه الإنسان، وأراد أن يحتجَّ على فكرة، أو أن يردّ على فكرة، أو أن يبيّن أيّة حقيقة في أيِّ جانب، فإنّ الإنسان عندما يقرأ القرآن بحججه وببراهينه، فإنّه يستطيع من خلال ذلك أن يأخذ الحجَّة في مواجهة التحديات كلّها وأن يشرح الحقائق والأفكار كلّها.

"وعزائمه المفسّرة"، في أذكاره، وفيما يختزن من الإرادة والعزيمة والقوّة، "ومحارمه المحذّرة"، التي حرَّمها الله سبحانه وتعالى، والتي تحذّر النّاس من الانحراف عن خطّ الحرام، لأنّ الله يحذِّرهم عذاب جهنّم، "وبيّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة"، التي ندب الله إليها، وحثّ عليها عباده، وأراد للإنسان أن يتحرّك فيها وأن يأخذ بها، "ورخصه الموهوبة"، الّتي وهبها الله لعباده فيما رخَّص لهم من الأمور، من أجل أن يعيشوا في فسحة وراحة أمام ما حرَّمه عليهم هنا وأوجبه عليهم هناك، "وشرائعه المكتوبة"[12] التي فرضها الله تعالى على النّاس.

وبهذا، أعطت الزّهراء(ع) لهؤلاء درساً في أسرار القرآن وفي خصائصه، وفيما يمكن للإنسان أن يصل إليه، وبدأت بعد ذلك الحديث عن التّشريعات وأسرارها، وهذا ما نتحدَّث عنه، إن شاء الله، في الأسبوع القادم.

*ندوة الشَّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 21 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق: 12 - 9 - 1998م.


[1]  [يس: 82].

[2]  [الحج: 46].

[3]  [الأنبياء: 34].

[4]  [الزّمر: 30].

[5]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 39، ص 57.

[6]  المصدر نفسه، ج 22، ص 337.

[7]  [آل عمران: 104].

[8]  [الأحزاب: 39].

[9]  [المائدة: 15].

[10]  [المائدة : 16].

[11]  [الزّمر: 17، 18].

[12]  الاحتجاج، الشّيخ الطبرسي، ج 1، ص 133.

تحدَّثنا في الأسبوع الماضي عن الخطبة الَّتي ألقتها سيِّدتنا فاطمة الزّهراء(ع) في مسجد رسول الله(ص)، على ملأٍ كبير من المهاجرين والأنصار، من أجل أن تحدِّد موقفها من الأحداث الطّارئة الّتي حدثت بعد وفاة النّبيّ(ص) بما يخصّها ويخصّ الخطّ الإسلاميّ الأصيل، المتمثِّل بالإمامة الواعية الشّجاعة المنفتحة على الله وعلى النّاس والحياة من أوسع الأبواب العميقة، في فكرها الممتدّ في طروحاتها الّتي تنطلق مع الزّمن كلِّه، فليس لديها ماضٍ وحاضر ومستقبل فيما تتحدَّث به من مشاكل الإنسان، لأنَّ حديثها هو حديث الإسلام كلِّه، وحديثٌ للإنسان كلِّه وللحياة كلّها.

وقد قلنا في حديثنا السَّابق، إنَّ خطبة الزّهراء(ع) هي محاضرة إسلاميّة فكريّة تتناول أسرار التوحيد والنّبوَّة وحركة النّبيّ(ص) وعلاقتها به، كما أنَّها تتضمّن أسرار التّشريع الإسلاميّ في كثير من مفرداته، ثم تتحرك نحو الواقع الّذي حدث بعد رسول الله(ص)، وكيف انحرف عن خطّ الاستقامة وعن المسار الطّبيعيّ، ثم تدخل في جدلٍ فقهيٍّ قرآنيٍّ حول ما ادّعي ضدّها من أنها لا ترث من رسول الله(ص)، لأنّ الأنبياء لا يورّثون أحداً.

اصطفاء الله للنَّبيّ(ص)

لقد تحدَّثنا عن الفصل الأوَّل المتعلِّق بالتّوحيد، وها نحن الآن ندخل في الفصل الثّاني، فالزهراء(ع) تقول: "وأشهد أنَّ أبي محمّداً(ص) عبده ورسوله، اختاره قبل أن أرسله، وسمَّاه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة، وبستر الأهاويل مصونة".

إنها تتحدَّث عن أنَّ قضيَّة النّبيّ(ص) هي قضيّة حدَّد الله مسارها في وقتها قبل أن يخلقه، واصطفاه نبيّاً من خلال ما يعرفه من عناصر الشخصيَّة الكامنة في داخله عند خلقه، وبذلك ولد النبيّ(ص) واسمه عند الله ونبوَّته عند الله تعالى، ولكن فعليّة هذه النبوّة وحركتها، كانت تنتظر الأربعين سنة، لحكمة يعلمها الله في ذلك، فهو النبيّ في الدّور الجنينيّ للنبوّة قبل أن يكون جنيناً في بطن أمّه.

وهكذا يقدّر الله سبحانه وتعالى للحياة رسالاتها ورسلها وخططها ونظامها وقوانينها قبل أن يخلقها، لأنَّ كلَّ شيء جاهز في علمه، ولكن عندما تتعلَّق إرادته بالشّيء، لكي يوجد رسولاً أو رسالةً أو نظاماً أو قانوناً، فكما تذكر الآية الكريمة: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ}[1].

عبوديّة النبيّ(ص) لله

وهنا لا بأس أن نتوقّف ـ ولو وقفة سريعة ـ عند قول سيّدة النّساء(ع) عن أبيها: "عبده ورسوله"، وعند هذا التّأكيد في الحديث عن الرّسول(ص) أنه عبد الله قبل أن يُتحدَّث عنه أنّه رسول الله، وهذا أمر يشمل الّذين اصطفاهم الله لنبوّته ولإمامته ولولايته، فالمسألة تتحرّك من خلال أنّ عظمة الرّسول(ص) في صفاته، وعظمة الإمام(ع)، إنما هي في عمق معنى العبوديّة لله، وفي سعة حركة هذه العبوديّة، فعبوديته لله تتضمّن عمق المعرفة به، بحيث إنَّ الإنسان كلّما عرف الله أكثر، أحسَّ بعمق العبوديّة وسرّها في شخصيّته أكثر.

وربما كان هذا نوعاً من أنواع الإيحاء بأنَّ العبوديّة كانت أوّلاً، وبالعبوديّة اجتباه الله لرسالته، ومن الممكن أن يكون إيحاء هذه الكلمة للنّاس، أن لا يأخذهم الغلوّ فيمن اجتباهم الله واصطفاهم، وأن لا يخرجوهم عن حدّ العبوديّة فيما يعظّمونه من دور الرّسالة أو الإمامة، لأنَّ الله استقلّ بالربوبيّة ولا يشاركه فيها غيره، فليس عندنا نصف إله وربعُ إله وما إلى ذلك، سواء كان ذلك بالاستقلال أو بالإذن، لأنَّ الله لم يأذن أن يكون غيره في الحياة إلهاً، أو فيه شيء من الألوهيّة فيما تعنيه خصوصيّة الألوهيّة بالذّات.

لذلك، علينا أن نتمثّل النبيّ(ص) عبداً لله في أعلى درجات العبوديّة وأعمقها، قبل أن نتمثّله رسولاً: "اختاره قبل أن أرسله"، فقد كان في علم الله أن يختاره نبيّاً في الموقع الأسمى للنبوّة، "وسمّاه قبل أن اجتباه"، أي قبل أن اختاره، "واصطفاه قبل أن ابتعثه، إذ الخلائق بالغيب مكنونة"، إذ لم يكن هناك أحد عندما اصطفاه الله وانتجبه واختاره وسماه، "وبستر الأهاويل مصونة"، وربما يكون المراد من ستر الأهاويل ستر العدم، باعتبار ما يلحق الأشياء من موانع الوجود وعوائقه، "وبنهاية العدم مقرونة، علماً من الله تعالى"، لماذا اختاره؟ ولماذا انتجبه؟ ولماذا قدَّر نبوّته قبل أن يخلقه؟ "بما يلي الأمور"، في حاجاتها للرّسالة وللرّسول، "وإحاطة بحوادث الدّهور"، لأنّ الله أحاط بعلمه حركة الدّهور من دهرٍ إلى دهرٍ في قضاياها وأحداثها ووقائعها، فقدَّر لها المخلوقين في أسرار خلقهم وأدوارهم وأوضاعهم وما حمَّلهم من مسؤوليّة.

"ومعرفة بمواقع الأمور"، حيث إنَّ الله تعالى يحيط بمواقع الأشياء وقدرها قبل أن توجد، وكان هذا هو تقدير البعث.

سرّ البعثة

"ابتعثه الله إتماماً لأمره"، لأنّه تعالى أراد منذ أن اختاره في عالم الغيب نبيّاً، أراد له أن يوجد نبيّاً، ولذلك ابتعثه، "وعزيمة على إمضاء حكمه"، في نبوَّته بكلّ مسؤوليّتها وحركيّتها، "وإنفاذاً لمقادير حتمه"، أي ما حتّمه، أو "لمقادير حكمه" أو "لمقادير حكمته"، حسب تعدّد الرّوايات، "فرأى الأمم"، وهذا هو سرّ بعثة نبيّنا، "فرقاً في أديانها"، منهم من يعبد الأوثان، ومنهم من يعبد الكواكب، ومنهم من انحرف عن خطّ الرّسالات التي كانت تتميَّز في صفائها ونقائها أوّل الأمر، وعندما امتدَّ بها الزمن انحرفت.

"عكّفاً على نيرانها"، تعكف على عبادة النّار، "عابدةً لأوثانها، منكرةً لله مع عرفانها. فأنار الله"، فجاء الضَّوء والإشراق والنّور الرّوحيّ في النبيّ الّذي تحوّل إلى روح تتجسّد، وانطلقت منه الشَّمس الإنسانيّة، لأنَّ النبيّ(ص) كان شمساً إنسانيةً نوراً كلها، ومن هنا كان دوره في أن يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فلو كان في عقله شيء من الظّلمة، أو كان في قلبه شيء من الظّلمة، فكيف يمكن أن يعطي النّور وهو يعيش هذا الظلام؟ وهو الذي جاء بالرّسالة ليخرج النّاس من الظلمات إلى النّور.

"فأنار الله بأبي محمّد(ص) ظلمها، وكشف عن القلوب"، والقلوب في المصطلح القرآني هي كلّ مواقع الإدراك والإحساس، فيمكن أن تطلق "القلب" على العقل وعلى القلب، أي مكامن الإحساس، "وكشف عن القلوب بُهمها"، أي كلّ مشكلات الأمور الّتي تعيش في عقل الإنسان، مما يفقد الوضوح فيها لإبهامها عنده، فجاء النّبيّ(ص) برسالته من أجل أن يحلّ مشكلات هذه الأمور، أو المشكلات الّتي تعيش في الجانب الإحساسي والشّعوري للإنسان من التّعقيدات العاطفيّة والإحساسيّة، فلقد جاء النّبيّ(ص) من أجل أن يحلَّ مشكلات العاطفة كما يحلّ مشكلات العقل، "وجلّى عن الأبصار غممها"، والمراد ليس الأبصار الماديّة الحسيّة، بل الأبصار الروحيّة، {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}[2]، فقد يعيش بصر القلب في حيرةٍ ولبسٍ وعمى، فتأتي الرّسالة من أجل أن تجلو هذه الحيرة وهذا اللّبس الذي يغمّ الإنسان ويحجب عنه وضوح الرّؤية للأشياء.

"وقام في النّاس بالهداية"، فالله تعالى أرسله هادياً إلى النّاس كلّهم، "فأنقذهم من الغواية" إلى خطِّ الرّشد، "وبصّرهم من العماية"، إلى خطِّ البصر والبصيرة، "وهداهم إلى الدّين القويم، ودعاهم إلى الطّريق المستقيم"، فهذه هي العناوين الّتي تمثّل الحاجة الواقعيّة إلى رسالته(ص)، كما تمثِّل حركيَّته بشكلٍ عامّ في خطِّ الرِّسالة.

انتقال الرّسول إلى ربِّه

"ثم قبضه الله إليه قبض رأفة واختيار"، {وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ}[3]، {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ}[4]، وقبض الرّأفة لأنّه نبيُّه الذي عاش في رحمة الله ومحبّته، "ورغبة وإيثار"، حيث إنَّ النّبيّ(ص) كان يرغب في لقاء ربّه، وكان يؤثر هذا اللّقاء على الدّنيا عندما خيّر بين الدّنيا ولقاء الله.

"فمحمّد(ص) من تعب هذه الدّار في راحة"، ولقد كانت تذكر ذلك وهي تستعرض متاعبه وأذاه والمشاقّ كلّها الّتي عاشها، حتى قال: "ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت"[5]، لقد شعرت كيف أنَّ هؤلاء القوم المشركين عطّلوا الخطّ الذي أراد له النبي(ص) أن ينفتح على العالم كلّه، بحروبهم وتعقيداتهم وكلّ مشاكلهم وأوضاعهم، وكيف كان يعاني شركهم، وكان يتألّم لهم، ولذلك كانت نفسه تذهب عليهم حسرات، وهي إذ تشعر بتعب أبيها فيما عاشته معه في كلّ تعب هذه الدار، تتصوّره في جنات الله فيما أخبرت به عن مواقعه، كما كان يروى أنّ هناك ملكاً كان يحدّثها عن أبيها عن ذلك: "قد حُفَّ بالملائكة الأبرار، ورضوان الربّ الغفّار، ومجاورة الملك الجبّار، صلّى الله على أبي نبيّه وأمينه وخيرته من الخلق وصفيّه..."، إنها تتحدث عن أبيها في الصفات الأصيلة من شخصيّته، حيث كان الأمين على وحي الله، لم يخنه في أية زيادة أو نقصان، ولم يهن، ولم يلن، ولم يتراجع في التّحدّيات الّتي واجهته كلّها.

التّذكير بالمسؤوليّات

ثم التفتت(ع) إلى أهل المجلس بعد أن انتهت من الحديث عن الله وعن بعثة رسول الله(ص)، وأرادت أن تعرّف هؤلاء المهاجرين والأنصار مسؤوليّتهم، فهي ليست في أن يفتّش كل واحد منهم عن ذاته، أو عن عقده النفسية، أو عن مطامعه، أو ينحرف كلّ واحد منهم عن الحقّ الذي يعرف، أو ينقض العهد الّذي عاهد عليه الله ورسوله، وإنما كانت تريد لهم أن يفكّروا في طبيعة مسؤوليّاتهم، بين ما حمَّلهم الله من مسؤوليّة، وما يعيشونه من انحراف عن خطّ تلك المسؤوليّة.

وإني لأتصوَّر الزّهراء(ع) وهي تقف في شموخ الرّسالة وعنفوان الموقف، وكأنها تخاطبهم من فوق، لأنها كانت تشعر بأنها أمينة على خطّ رسول الله(ص)، فهي بضعة منه، ولأنَّ عقلها كان عقله، وروحها كانت روحه، ولأنها اندمجت به حتى صارت جزءاً منه، وهذا ما نستوحيه من قوله(ص): "يؤذيني ما يؤذيها، ويغضبني ما يغضبها، وإنَّها بضعة مني، يريبني ما رابها"[6]، فكأنّه يتحسَّس في أذاها أذاه، وفي غضبها غضبه، وفي كلّ ما يريبها ما يريبه، لأنها جزء منه، فالكلّ يتحسَّس ما يتحسَّسه الجزء، وهذا هو إيحاء كلمة رسول الله(ص).

لذلك، كانت الزّهراء(ع) تشعر بأنها تقف من أجل أن تحمل ما أودعه رسول الله(ص) عندها فكراً وروحاً وحركة، وكانت تتكلَّم معهم، وفيهم الشّيوخ من المهاجرين والأنصار، معلِّمة واعظة مرشدة ناقدة.

"أنتم عباد الله نصب أمره ونهيه"، فأنتم واقفون أمام أمر الله ونهيه، فقد أراد لكم في نظم أمركم أن تطيعوا أمره فتفعلوه، وأن تطيعوا نهيه فتتركوه.

"وحملة دينه ووحيه"، فأنتم المهاجرون والأنصار الّذين كلّفكم الله أن تحملوا وحيه: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}[7]، {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللهِ حَسِيباً}[8].

"وأمناء الله على أنفسكم"، فلقد جعل الله كلّ واحدٍ منكم أميناً على نفسه، بأن يصفّي نفسه ويزكّيها ويثقّفها، ويحرّكها في الطّريق المستقيم، وأن يواجه نفسه الأمَّارة بالسوء، لتكون النفس اللّوّامة، ولتنتهي إلى أن تكون النّفس المطمئنّة الرّاضية المرضيّة.

إنَّ الله تعالى ـ ومن خلال حديث سيّدتنا فاطمة الزّهراء(ع) ـ جعلنا أمناء على نفوسنا، بأن تبلّغ نفسك قبل أن تبلّغ غيرك وحي الله وما يريده لها من الزكاة والتّقوى، وكيف تكون عنصر خيرٍ وإنتاجٍ لكلِّ ما يحقّق إرادة الله في الكون.

إنَّ هذه الفقرة من الخطبة: "وأمناء الله على أنفسكم"، إذا عاشها الإنسان، فإنها تحمله إلى آفاق واسعة من كلّ ما يمكن أن يجعل النّفس عنصر حقّ وخير وعدل وإنتاج وإبداع وعمل، في سبيل أن يعطي ذاته كلَّها للحياة التي جعله الله أميناً عليها، بحيث إذا خرج الإنسان من الحياة، كان حاله كحال الفاكهة التي تعتصرها حتى تفرغ كلّ قطرة من الماء فيها، فإذا رميتها رميت القشر الّذي لا حياة فيه.

فالله تعالى يريد لنا في أمانتنا على أنفسنا، أن ننتج أنفسنا، وأن نعتصر كلّ ما فيها من عقل للحقّ، ومن قلبٍ للمحبّة والخير، ومن طاقةٍ لحركة الحياة في جميع مجالاتها.

"وبلغاؤه إلى الأمم"، لأنَّ الله أراد للأمّة الأولى التي آمنت بالإسلام، أن تكون الأمّة المبلّغة الدّاعية إلى الأمم كلّها.

"زعيم حقّ له فيكم"، أي جعله الله حقّاً لكم، "وعهدٍ قدَّمه إليكم"، فقد قدَّم الله لكم كلَّ هذا الّذي ذكرته، وكلَّ هذه الأسماء والخصائص والأدوار.

خصائص القرآن

"وبقيّة استخلفها عليكم"، وهنا دخلت في آفاق القرآن الّذي يختزن الحقّ والعهد، "كتاب الله النّاطق"، الذي ينطق دون أن تسمع صوته، لأنَّ نطق القرآن في آياته يمثّل عمق الصوت الإلهيّ العميق القدر، الذي عندما تحدِّق فيه، فإنّك تسمع صوت الله همساً حبيباً يدخل إلى عقلك وقلبك ليزكِّيهما.

"والقرآن الصّادق"، لأنّه كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، يعطي الحقَّ والصِّدق في كلّ شيء، "والنّور الساطع"، {...قَدْ جَاءكُم مِّنَ اللهِ نُورٌ...}[9]، "والضّياء اللامع"، فقد جعله الله ضياءً في ظلمات العقول والقلوب، ليعطيها ضوء الحقيقة.

"بيّنة بصائره"، فهو الّذي يعطي الإنسان البصيرة بكلّ وضوح، ومن دون أيّ غموض، "منكشفة سرائره"، في طبيعة الأفكار التي يثيرها، والمناهج التي يحركها، "منجلية ظواهره"، فأنت عندما تقرأ القرآن، تقرأه بكلّ جلاء، فلا غموض فيه ولا تعقيد، "مغتبط به أشياعه"، فالناس الذين هم شيعة القرآن وأتباعه، يشعرون بالغبطة، لأنَّ القرآن يبيّن لهم في كلّ آية يقرأونها علماً جديداً وروحاً جديدةً وخلقاً جديداً.

"قائد إلى الرّضوان أتباعه"، لأنَّ الله يقول: {يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ...}[10]، إنّه يهدي النّاس إلى رضوان الله، وإلى مواقع رضاه، وإلى خطوط رضاه، وإلى كلّ ما يمكن أن يحصلوا به على رضاه.

"مؤدٍّ إلى النّجاة استماعه"، لأنَّ الإنسان إذا استمع إليه، فجعل فكر القرآن فكره، وروح القرآن روحه، فإنَّ ذلك يقوده إلى العمل والنّجاة، {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ}[11].

"به تُنال حجج الله المنوّرة"، فإذا قرأه الإنسان، وأراد أن يحتجَّ على فكرة، أو أن يردّ على فكرة، أو أن يبيّن أيّة حقيقة في أيِّ جانب، فإنّ الإنسان عندما يقرأ القرآن بحججه وببراهينه، فإنّه يستطيع من خلال ذلك أن يأخذ الحجَّة في مواجهة التحديات كلّها وأن يشرح الحقائق والأفكار كلّها.

"وعزائمه المفسّرة"، في أذكاره، وفيما يختزن من الإرادة والعزيمة والقوّة، "ومحارمه المحذّرة"، التي حرَّمها الله سبحانه وتعالى، والتي تحذّر النّاس من الانحراف عن خطّ الحرام، لأنّ الله يحذِّرهم عذاب جهنّم، "وبيّناته الجالية، وبراهينه الكافية، وفضائله المندوبة"، التي ندب الله إليها، وحثّ عليها عباده، وأراد للإنسان أن يتحرّك فيها وأن يأخذ بها، "ورخصه الموهوبة"، الّتي وهبها الله لعباده فيما رخَّص لهم من الأمور، من أجل أن يعيشوا في فسحة وراحة أمام ما حرَّمه عليهم هنا وأوجبه عليهم هناك، "وشرائعه المكتوبة"[12] التي فرضها الله تعالى على النّاس.

وبهذا، أعطت الزّهراء(ع) لهؤلاء درساً في أسرار القرآن وفي خصائصه، وفيما يمكن للإنسان أن يصل إليه، وبدأت بعد ذلك الحديث عن التّشريعات وأسرارها، وهذا ما نتحدَّث عنه، إن شاء الله، في الأسبوع القادم.

*ندوة الشَّام الأسبوعيَّة، فكر وثقافة، بتاريخ: 21 جمادى الأولى 1419هـ/ الموافق: 12 - 9 - 1998م.


[1]  [يس: 82].

[2]  [الحج: 46].

[3]  [الأنبياء: 34].

[4]  [الزّمر: 30].

[5]  بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 39، ص 57.

[6]  المصدر نفسه، ج 22، ص 337.

[7]  [آل عمران: 104].

[8]  [الأحزاب: 39].

[9]  [المائدة: 15].

[10]  [المائدة : 16].

[11]  [الزّمر: 17، 18].

[12]  الاحتجاج، الشّيخ الطبرسي، ج 1، ص 133.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية