الصَّومُ في شهرِ رمضانَ وسيلةٌ لبلوغِ التَّقوى وتقويةِ الإرادة

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة: 183).
تمثِّل العبادات، في منطلقاتها وأهدافها، مدرسةً أخلاقيّةً دينيّةً إيمانيّةً، بحيث إنَّ الإنسان الَّذي يؤدِّي أيَّ عبادة من العبادات، لا بدَّ أن يخرج منها، وقد استطاع أن ينجح في هذه المدرسة الإسلاميَّة الإلهيَّة.
دورُ الصَّلاة
فنحن نقرأ في مسألة الصَّلاة قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ}(العنكبوت: 45)، فالصَّلاة ليست مجرَّد حركاتٍ يؤدِّيها الإنسان أو كلماتٍ يقرأها، ولكنَّها حالة عروجٍ روحيّ إلى الله تعالى، عندما يقف الإنسان بين يدي ربِّه ليشهده على إيمانه به، وتوحيده له، والتزامه برسوله وبرسالات الرّسل، وعلى أنَّه يعيش العبوديَّة له في الطَّاعة فلا يطيع غيره، وفي العبادة فلا يعبد غيره، فسرّ العبوديَّة في حياة الإنسان، هو أن يأتي من خلال صلاته بكلِّ ما يحبّه الله، ويبتعد عن كلِّ ما يبغضه.
أمَّا الفحشاء، فهي عبارةٌ عن كلِّ عملٍ يتجاوزُ حدود الله الَّتي حدَّدها للإنسان، وأراد له أن يقف عندها ولا يتجاوزها.
والمنكر هو كلُّ أمرٍ حرَّمه الله على الإنسان، سواء فيما يتكلَّم به، أو فيما يتحرَّك فيه، أو فيما يأكله أو يشربه، أو فيما يشتهيه ويتلذّذ به. فالإنسان في صلاته يُشهِد الله على أنَّه يقف من أجل أن يصل إلى مواقع القرب عنده، بحيث ينوي في نفسه القرب منه، ومعنى ذلك، أنَّه إذا كان مخلصاً له في نيَّته، فإنَّ عليه أن لا يأتي بأيّ عمل يبعده عنه، ولا إشكال في أنَّ كلَّ ما حرَّمه الله، يبعدُ الإنسان عن ربّه.
ولذلك، ورد عندنا في الحديث: "مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صلَاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ والمنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْداً"، بمعنى أنَّ الإنسان الَّذي يصلِّي، ولكنَّه يرتكب المحرَّمات ويترك الواجبات، فإنّ الله لا يقبل منه هذه الصَّلاة، وبذلك يبتعد عن ربِّه، لأنَّه يحاول أن يخدعه بصلاته، في الوقت الّذي يبتعد بعمله عنه. وقد ورد عندنا في الحديث: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ"، وهو الَّذي يقوم في اللَّيل للصَّلاة، ولكن من دون أن ينفتح على الله تعالى، أو أن يجعل من قيامه في اللّيل وسيلةً من وسائل الارتفاع إلى مواقع محبَّته والقرب منه.
الصَّومُ والتَّقوى
وهكذا، يحدِّثنا الله في هذه الآية عن الصَّوم، أنَّه سبحانه فرض الصَّوم من أجل أن يحصل الإنسان على ملكة التَّقوى، بحيث يكون الصَّوم وسيلةً من وسائل التَّقوى، ليخرج الصَّائم من هذا الشَّهر وهو يتَّقي الله في كلّ ما يقوله أو يفعله، حتّى لا يكون الصَّوم مجرَّد إمساكٍ عن الطَّعام والشَّراب، من دون أن تكون للإنسان روحيَّة الصَّوم، لأنَّ الإنسان يصوم قربةً إلى الله، ومعنى ذلك، أن يمتدَّ صومه عن الطَّعام والشَّراب والشَّهوات إلى الصَّوم عن كلّ المحرَّمات، لأنَّ هناك صومين: فهناك صومٌ في شهر رمضان، وهو أن يصوم الإنسان من الفجر إلى الغروب عن الطّعام والشّراب، وهناك صوم العمر، وهو أن يصوم الإنسان عن المحرَّمات في كلِّ عمره. فالله تعالى أراد لنا أن نصوم عن الغيبة والنَّميمة والتَّجسّس، وأن نصوم عن أكل المال بالباطل، وعن الزّنا وشرب الخمر والقمار ومعاونة الظَّالم واحتقار المستضعف وإيذاء النَّاس والاعتداء عليهم... هذه الأفعال هي مما أراد الله للإنسان أن يصوم عنها في اللَّيل وفي النَّهار، لا في وقت معيَّن، بل هي تمثّل صوم العمر، فإذا كان الصَّوم العباديّ يمثّل صوم النَّهار، فهذه تمثّل صوم العمر، فعلى الإنسان أن يصوم عن كلّ محرّم حرّمه الله في كلّ ما يفعله.
عناصرُ التَّقوى
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، فإنَّ التَّقوى بحاجة إلى عنصرين: العنصر الأوَّل، هو أن يعرف الإنسان ما أراده الله منه، وما حرَّمه عليه، لأنَّه لا يمكن للإنسان الَّذي يجهل الواجبات أن يفعل ما أراده الله منه أو أن يترك ما حرَّمه عليه. ولذلك، لا بدَّ لكلّ مسلم من أن يمتلك الثَّقافة الفقهيَّة الشَّرعيَّة، وقد ورد عن الإمام جعفر الصَّادق (ع) أنَّه قال: "لَيْتَ السِّياطَ عَلَى رُؤُوسِ أَصْحَابِي حَتَّى يَتَفَقَّهُوا فِي الحَلَالِ وَالحَرَامِ"، لأنَّ قضيَّة أن تكون مسلماً، يعني أن تلتزم بالإسلام كلّه؛ أن تلتزم به فيما أوجبه الله عليك، وأن تلتزم به فيما حرَّمه عليك، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب: 36). فلا بدَّ للإنسان أن يعرف، أوّلاً، ما حرَّمه الله عليه ليتركه، وما أوجبه عليه ليفعله.
أمَّا العنصر الثَّاني، فهو الإرادة، بمعنى أن تكون للإنسان الإرادة الَّتي يستطيع من خلالها أن يضغط على النَّفس الأمَّارة بالسّوء، وأن يضغط على شهواته عندما تدفعه إلى الحرام، وعلى نفسه عندما تدفعه إلى ترك الواجبات.
الصَّومُ وتقويةُ الإرادة
وهنا يأتي دور الصَّوم، باعتباره وسيلةً من وسائل تقوية الإرادة، لأنَّك عندما تجوع والطَّعام بين يديك، ونفسك تدفعك إلى الأكل، فإنَّ الصَّوم يمنعك من ذلك، ويقول لك: لتكنْ لك الإرادة في طاعة الله، لأنَّ الله حرَّم عليك هذا الطَّعامَ في النَّهار، وإن كان حلالاً لك في اللَّيل أو في وقت آخر.
وكذلك الأمر إذا كنت ظمآن، وكان الماء بين يديك، فإنَّ الصَّوم يقول لك: لا تشرب الماء، ولتكن لك الإرادة على أن تصبر على الظّمأ. وهكذا إذا وجدت نفسك تدعوك إلى الإتيان بالشَّهوات المحرَّمة وهي بين يديك، فإنَّ الصَّوم يمنعك من ذلك، ويقول لك إنَّ عليك أن تترك ما حرَّم الله {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}(الإسراء: 32)، ولا تقربوا كلّ ما حرَّمه الله عليكم في قضايا الجنس وغيره.
وهكذا أيضاً بالنّسبة إلى المال الحرام، فإذا كانت لك فرصة لتحصل على المال الحرام من أقرب طريق، فإنَّ الله يقول لك: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ}(البقرة: 188)، فإنَّ عليك أن تصوم عن ذلك، وأن تقتصر على المال الحلال.
وكذلك الأمر إذا كان هناك في المجتمع أشخاص يظلمون النَّاس ويبغون في الأرض بغير الحق، فإنَّ عليك أن لا تتعاون معهم أو تؤيِّدهم لتحصل على فرصةٍ من خلال ما يملكونه هنا أو هناك، بل ينبغي أن تكون لك إرادة الصَّبر على الحرمان من بعض الوظائف أو المواقع الَّتي يكلّفك الحصول عليها ارتكاب الحرام.
ومن هنا، فإنَّ الصَّوم عندما ينطلق من الإرادة الجدّيَّة، فإنَّه يقوّي إرادتك، وعندما تقوى إرادتك، تقوى حركة الخير في نفسك، وتبتعد عنها حركة الشرّ، حتَّى لا يكون الإنسان كما ورد في بعض الأحاديث: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ".
الصَّوم عن العصبيَّة
وفي ضوء هذا، علينا أن نصوم عن العصبيَّات، لأنَّ هناك عصبيَّات شخصيَّة، أن يتعصَّب الإنسان لنفسه، وهناك عصبيَّات عائليَّة يتعصَّب فيها لعائلته، كما أنَّ هناك عصبيَّات عشائريَّة وطائفيَّة ومذهبيَّة وإقليميَّة. والعصبيَّة تغلق على الإنسان باب عقله، لأنَّ الإنسان الَّذي يتعصَّب هو إنسانٌ ينطلق من غرائزه المنحطَّة، ولا ينطلق من حساباته العقليَّة المسؤولة، وقد ورد عن النَّبيّ (ص): "مَنْ تَعَصَّبَ أو تُعُصِّبَ لَهُ، فَقَدْ خَلَعَ رَبَقَةَ الإِيمَانِ مِنْ عُنُقِهِ". لذلك، هناك فرقٌ بين الالتزام والعصبيَّة، فالعصبيَّة هي أن تتحرَّك مع من تتعصَّب له وأنت أعمى؛ أعمى العقل والقلب والشّعور والإحساس.
ومن هنا، فإنَّ علينا عندما تظهر عندنا بعض الاختلافات في الفتاوى أو في وجهات النَّظر، أن لا نأخذ بأسباب العصبيَّة، بل أن نقول إنَّ لكلِّ إنسان تكليفه، وهو يحاسَبُ عند ربِّه، أمَّا أن نحاول التّعصّب ضدّ الَّذي يختلف معنا في الرَّأي أو في السّياسة أو في المرجعيَّة أو في أوائل الشّهور وأواخرها، فإنَّ هذا ليس من التَّقوى، وليس من الدّين في شيء.
الاختلافُ والتّكليف الشَّرعيّ
ونحن تعوَّدنا في الواقع الإسلاميّ كلّه، لا في الواقع الشّيعيّ فقط، على الاختلاف في بدايات الشّهور ونهاياتها، ولذا نحن في هذه السَّنة، عندنا ثلاثة أوَّل رمضانات؛ ففي ليبيا والهند، أوَّل شهر رمضان يوم الأحد، وفي البلاد العربيَّة وأندونيسيا وما إلى ذلك الإثنين، وفي العراق وإيران وباكستان الثّلاثاء، وإن شاء الله لا يكون هناك أربعاء وخميس، لأنَّ هذا يقول نحن رأينا القمر، وذاك يقول نحن لم نره... المهمّ كما قلنا، إنَّ الحلَّ الوحيد، والَّذي انطلقنا فيه من أستاذنا السيّد أبو القاسم الخوئي (ره)، هو أنَّ مسألة الهلال ليس لها أيُّ ربط بالعيون، بل هي مسألةٌ ترتبط بالنّظام الكونيّ فيما يتعلَّق بالزَّمن، لأنَّ الله تعالى عندما خلق الأشهر، لم يكن هناك عيون، ولا كان هناك إنسان {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}(التَّوبة: 36)، فقبل أن يخلق اللهُ الإنسانَ كانت الشّهور.
إذاً، كيف يكون الفرق بين شهر وشهر؛ هل يوجد حواجز بين الشّهور؟ إنَّ الزَّمن ممتدّ، والَّذي يجعل شهراً يختلف عن شهر، هو أنَّه عندما يدخل القمر في المحاق، فذلك يعني أنَّ الشَّهر انتهى، وعندما يخرج من المحاق، وهو الَّذي يسمّونه توليداً، فذلك يعني أنَّ الشَّهر بدأ.
ولذا، نحن نقول إنَّ مسألة أوَّل الشَّهر وآخره لا ترجع إلى العلماء، لأنّهم ليسوا أهل خبرة في ذلك، بل ترجع إلى الفلكيّين، فهم الَّذين يحدِّدون لنا متى ولد الهلال، وهل تمكن رؤيته أو لا تمكن، وقد كان رأي السيّد الخوئي العلميّ، كما قلنا، يرتكز على هذه النقطة.
ولذلك، نحن في كلِّ سنة، عندما نعلن عن الهلال، سواء في أوَّل الشَّهر أو في آخره، إنّما يكون ذلك بعد الرّجوع إلى أهل الخبرة في العالم كلّه، أي بعد الرّجوع إلى كلّ الأشخاص المتخصّصين وكلّ أهل الخبرة، ولكنَّ أكثر العلماء من السنَّة والشّيعة لا يزالون يعتمدون على الرّؤية، لأنَّ النَّبيَّ (ص) يقول: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ". ونحن نقول، كما يقول السيّد الخوئي (ره)، إنَّ الرّؤية وسيلة للمعرفة ولتحصيل اليقين.
وأعطيكم مثلاً شعبيّاً لتقريب الفكرة، إذا قال لك أحدهم: إذا رأيت فلاناً أخبرني، وأنت لم ترَ هذا الشَّخص، ولكنَّه اتَّصل بك، وأخبرك أنَّه موجود في المكان، فهل تخبر من طلب منك بأنّه موجود أم تعتبر أنّه غير موجود؟ فالرّؤية هي وسيلة من وسائل المعرفة واليقين. ونحن في وقت أصبحت الحسابات الفلكيَّة الدَّقيقة، وبحسب أهل الخبرة، أوضح وأدقّ من الرّؤية، لأنَّ الجوَّ أصبح ملوَّثاً، وأصبح من الممكن أن يرى الإنسان في الفضاء عشرين هلالاً، لأنَّ اللَّمعان الموجود من خلال هذه العناصر الموجودة في الفضاء، يمكن أن يوهم الإنسان بأنَّه يرى هلالاً وما هو بهلال.
ولكن نحن نرى أنَّه إذا تولَّد الهلال، وثبت عندنا من خلال أهل الخبرة إمكانيَّة الرّؤية، ولو في بلدٍ نلتقي معه بجزء من اللَّيل، دخل الشَّهر، وقد تولَّد هلال شهر رمضان لهذا العام السَّبت السَّاعة العاشرة مساءً. نحن نرى هذا، والآخرون معذورون في اجتهاداتهم الَّتي نحترمها.
ولذلك، المطلوب أن يقوم كلّ واحد منَّا بتكليفه، ولكن ما نريده هو أن لا يتعصَّب بعضنا ضدّ بعضنا الآخر. المهمّ أنّ الكلّ معذورون، والكلّ يقوم بتكليفه الشَّرعي، ولا نخلق فتنةً، لأنَّ الَّذين يصنعون الفتنة في المجتمع، سوف يعاقبهم الله.
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}(البقرة: 183).
تمثِّل العبادات، في منطلقاتها وأهدافها، مدرسةً أخلاقيّةً دينيّةً إيمانيّةً، بحيث إنَّ الإنسان الَّذي يؤدِّي أيَّ عبادة من العبادات، لا بدَّ أن يخرج منها، وقد استطاع أن ينجح في هذه المدرسة الإسلاميَّة الإلهيَّة.
دورُ الصَّلاة
فنحن نقرأ في مسألة الصَّلاة قوله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالمُنْكَرِ}(العنكبوت: 45)، فالصَّلاة ليست مجرَّد حركاتٍ يؤدِّيها الإنسان أو كلماتٍ يقرأها، ولكنَّها حالة عروجٍ روحيّ إلى الله تعالى، عندما يقف الإنسان بين يدي ربِّه ليشهده على إيمانه به، وتوحيده له، والتزامه برسوله وبرسالات الرّسل، وعلى أنَّه يعيش العبوديَّة له في الطَّاعة فلا يطيع غيره، وفي العبادة فلا يعبد غيره، فسرّ العبوديَّة في حياة الإنسان، هو أن يأتي من خلال صلاته بكلِّ ما يحبّه الله، ويبتعد عن كلِّ ما يبغضه.
أمَّا الفحشاء، فهي عبارةٌ عن كلِّ عملٍ يتجاوزُ حدود الله الَّتي حدَّدها للإنسان، وأراد له أن يقف عندها ولا يتجاوزها.
والمنكر هو كلُّ أمرٍ حرَّمه الله على الإنسان، سواء فيما يتكلَّم به، أو فيما يتحرَّك فيه، أو فيما يأكله أو يشربه، أو فيما يشتهيه ويتلذّذ به. فالإنسان في صلاته يُشهِد الله على أنَّه يقف من أجل أن يصل إلى مواقع القرب عنده، بحيث ينوي في نفسه القرب منه، ومعنى ذلك، أنَّه إذا كان مخلصاً له في نيَّته، فإنَّ عليه أن لا يأتي بأيّ عمل يبعده عنه، ولا إشكال في أنَّ كلَّ ما حرَّمه الله، يبعدُ الإنسان عن ربّه.
ولذلك، ورد عندنا في الحديث: "مَنْ لَمْ تَنْهَهُ صلَاتُهُ عَنِ الفَحْشَاءِ والمنْكَرِ، لَمْ يَزْدَدْ مِنَ اللهِ إِلَّا بُعْداً"، بمعنى أنَّ الإنسان الَّذي يصلِّي، ولكنَّه يرتكب المحرَّمات ويترك الواجبات، فإنّ الله لا يقبل منه هذه الصَّلاة، وبذلك يبتعد عن ربِّه، لأنَّه يحاول أن يخدعه بصلاته، في الوقت الّذي يبتعد بعمله عنه. وقد ورد عندنا في الحديث: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ، وَرُبَّ قَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ قِيَامِهِ إِلَّا السَّهَرُ"، وهو الَّذي يقوم في اللَّيل للصَّلاة، ولكن من دون أن ينفتح على الله تعالى، أو أن يجعل من قيامه في اللّيل وسيلةً من وسائل الارتفاع إلى مواقع محبَّته والقرب منه.
الصَّومُ والتَّقوى
وهكذا، يحدِّثنا الله في هذه الآية عن الصَّوم، أنَّه سبحانه فرض الصَّوم من أجل أن يحصل الإنسان على ملكة التَّقوى، بحيث يكون الصَّوم وسيلةً من وسائل التَّقوى، ليخرج الصَّائم من هذا الشَّهر وهو يتَّقي الله في كلّ ما يقوله أو يفعله، حتّى لا يكون الصَّوم مجرَّد إمساكٍ عن الطَّعام والشَّراب، من دون أن تكون للإنسان روحيَّة الصَّوم، لأنَّ الإنسان يصوم قربةً إلى الله، ومعنى ذلك، أن يمتدَّ صومه عن الطَّعام والشَّراب والشَّهوات إلى الصَّوم عن كلّ المحرَّمات، لأنَّ هناك صومين: فهناك صومٌ في شهر رمضان، وهو أن يصوم الإنسان من الفجر إلى الغروب عن الطّعام والشّراب، وهناك صوم العمر، وهو أن يصوم الإنسان عن المحرَّمات في كلِّ عمره. فالله تعالى أراد لنا أن نصوم عن الغيبة والنَّميمة والتَّجسّس، وأن نصوم عن أكل المال بالباطل، وعن الزّنا وشرب الخمر والقمار ومعاونة الظَّالم واحتقار المستضعف وإيذاء النَّاس والاعتداء عليهم... هذه الأفعال هي مما أراد الله للإنسان أن يصوم عنها في اللَّيل وفي النَّهار، لا في وقت معيَّن، بل هي تمثّل صوم العمر، فإذا كان الصَّوم العباديّ يمثّل صوم النَّهار، فهذه تمثّل صوم العمر، فعلى الإنسان أن يصوم عن كلّ محرّم حرّمه الله في كلّ ما يفعله.
عناصرُ التَّقوى
وفي ضوء هذا، أيُّها الأحبَّة، فإنَّ التَّقوى بحاجة إلى عنصرين: العنصر الأوَّل، هو أن يعرف الإنسان ما أراده الله منه، وما حرَّمه عليه، لأنَّه لا يمكن للإنسان الَّذي يجهل الواجبات أن يفعل ما أراده الله منه أو أن يترك ما حرَّمه عليه. ولذلك، لا بدَّ لكلّ مسلم من أن يمتلك الثَّقافة الفقهيَّة الشَّرعيَّة، وقد ورد عن الإمام جعفر الصَّادق (ع) أنَّه قال: "لَيْتَ السِّياطَ عَلَى رُؤُوسِ أَصْحَابِي حَتَّى يَتَفَقَّهُوا فِي الحَلَالِ وَالحَرَامِ"، لأنَّ قضيَّة أن تكون مسلماً، يعني أن تلتزم بالإسلام كلّه؛ أن تلتزم به فيما أوجبه الله عليك، وأن تلتزم به فيما حرَّمه عليك، {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}(الأحزاب: 36). فلا بدَّ للإنسان أن يعرف، أوّلاً، ما حرَّمه الله عليه ليتركه، وما أوجبه عليه ليفعله.
أمَّا العنصر الثَّاني، فهو الإرادة، بمعنى أن تكون للإنسان الإرادة الَّتي يستطيع من خلالها أن يضغط على النَّفس الأمَّارة بالسّوء، وأن يضغط على شهواته عندما تدفعه إلى الحرام، وعلى نفسه عندما تدفعه إلى ترك الواجبات.
الصَّومُ وتقويةُ الإرادة
وهنا يأتي دور الصَّوم، باعتباره وسيلةً من وسائل تقوية الإرادة، لأنَّك عندما تجوع والطَّعام بين يديك، ونفسك تدفعك إلى الأكل، فإنَّ الصَّوم يمنعك من ذلك، ويقول لك: لتكنْ لك الإرادة في طاعة الله، لأنَّ الله حرَّم عليك هذا الطَّعامَ في النَّهار، وإن كان حلالاً لك في اللَّيل أو في وقت آخر.
وكذلك الأمر إذا كنت ظمآن، وكان الماء بين يديك، فإنَّ الصَّوم يقول لك: لا تشرب الماء، ولتكن لك الإرادة على أن تصبر على الظّمأ. وهكذا إذا وجدت نفسك تدعوك إلى الإتيان بالشَّهوات المحرَّمة وهي بين يديك، فإنَّ الصَّوم يمنعك من ذلك، ويقول لك إنَّ عليك أن تترك ما حرَّم الله {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا}(الإسراء: 32)، ولا تقربوا كلّ ما حرَّمه الله عليكم في قضايا الجنس وغيره.
وهكذا أيضاً بالنّسبة إلى المال الحرام، فإذا كانت لك فرصة لتحصل على المال الحرام من أقرب طريق، فإنَّ الله يقول لك: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالبَاطِلِ}(البقرة: 188)، فإنَّ عليك أن تصوم عن ذلك، وأن تقتصر على المال الحلال.
وكذلك الأمر إذا كان هناك في المجتمع أشخاص يظلمون النَّاس ويبغون في الأرض بغير الحق، فإنَّ عليك أن لا تتعاون معهم أو تؤيِّدهم لتحصل على فرصةٍ من خلال ما يملكونه هنا أو هناك، بل ينبغي أن تكون لك إرادة الصَّبر على الحرمان من بعض الوظائف أو المواقع الَّتي يكلّفك الحصول عليها ارتكاب الحرام.
ومن هنا، فإنَّ الصَّوم عندما ينطلق من الإرادة الجدّيَّة، فإنَّه يقوّي إرادتك، وعندما تقوى إرادتك، تقوى حركة الخير في نفسك، وتبتعد عنها حركة الشرّ، حتَّى لا يكون الإنسان كما ورد في بعض الأحاديث: "رُبَّ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ".
الصَّوم عن العصبيَّة
وفي ضوء هذا، علينا أن نصوم عن العصبيَّات، لأنَّ هناك عصبيَّات شخصيَّة، أن يتعصَّب الإنسان لنفسه، وهناك عصبيَّات عائليَّة يتعصَّب فيها لعائلته، كما أنَّ هناك عصبيَّات عشائريَّة وطائفيَّة ومذهبيَّة وإقليميَّة. والعصبيَّة تغلق على الإنسان باب عقله، لأنَّ الإنسان الَّذي يتعصَّب هو إنسانٌ ينطلق من غرائزه المنحطَّة، ولا ينطلق من حساباته العقليَّة المسؤولة، وقد ورد عن النَّبيّ (ص): "مَنْ تَعَصَّبَ أو تُعُصِّبَ لَهُ، فَقَدْ خَلَعَ رَبَقَةَ الإِيمَانِ مِنْ عُنُقِهِ". لذلك، هناك فرقٌ بين الالتزام والعصبيَّة، فالعصبيَّة هي أن تتحرَّك مع من تتعصَّب له وأنت أعمى؛ أعمى العقل والقلب والشّعور والإحساس.
ومن هنا، فإنَّ علينا عندما تظهر عندنا بعض الاختلافات في الفتاوى أو في وجهات النَّظر، أن لا نأخذ بأسباب العصبيَّة، بل أن نقول إنَّ لكلِّ إنسان تكليفه، وهو يحاسَبُ عند ربِّه، أمَّا أن نحاول التّعصّب ضدّ الَّذي يختلف معنا في الرَّأي أو في السّياسة أو في المرجعيَّة أو في أوائل الشّهور وأواخرها، فإنَّ هذا ليس من التَّقوى، وليس من الدّين في شيء.
الاختلافُ والتّكليف الشَّرعيّ
ونحن تعوَّدنا في الواقع الإسلاميّ كلّه، لا في الواقع الشّيعيّ فقط، على الاختلاف في بدايات الشّهور ونهاياتها، ولذا نحن في هذه السَّنة، عندنا ثلاثة أوَّل رمضانات؛ ففي ليبيا والهند، أوَّل شهر رمضان يوم الأحد، وفي البلاد العربيَّة وأندونيسيا وما إلى ذلك الإثنين، وفي العراق وإيران وباكستان الثّلاثاء، وإن شاء الله لا يكون هناك أربعاء وخميس، لأنَّ هذا يقول نحن رأينا القمر، وذاك يقول نحن لم نره... المهمّ كما قلنا، إنَّ الحلَّ الوحيد، والَّذي انطلقنا فيه من أستاذنا السيّد أبو القاسم الخوئي (ره)، هو أنَّ مسألة الهلال ليس لها أيُّ ربط بالعيون، بل هي مسألةٌ ترتبط بالنّظام الكونيّ فيما يتعلَّق بالزَّمن، لأنَّ الله تعالى عندما خلق الأشهر، لم يكن هناك عيون، ولا كان هناك إنسان {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ}(التَّوبة: 36)، فقبل أن يخلق اللهُ الإنسانَ كانت الشّهور.
إذاً، كيف يكون الفرق بين شهر وشهر؛ هل يوجد حواجز بين الشّهور؟ إنَّ الزَّمن ممتدّ، والَّذي يجعل شهراً يختلف عن شهر، هو أنَّه عندما يدخل القمر في المحاق، فذلك يعني أنَّ الشَّهر انتهى، وعندما يخرج من المحاق، وهو الَّذي يسمّونه توليداً، فذلك يعني أنَّ الشَّهر بدأ.
ولذا، نحن نقول إنَّ مسألة أوَّل الشَّهر وآخره لا ترجع إلى العلماء، لأنّهم ليسوا أهل خبرة في ذلك، بل ترجع إلى الفلكيّين، فهم الَّذين يحدِّدون لنا متى ولد الهلال، وهل تمكن رؤيته أو لا تمكن، وقد كان رأي السيّد الخوئي العلميّ، كما قلنا، يرتكز على هذه النقطة.
ولذلك، نحن في كلِّ سنة، عندما نعلن عن الهلال، سواء في أوَّل الشَّهر أو في آخره، إنّما يكون ذلك بعد الرّجوع إلى أهل الخبرة في العالم كلّه، أي بعد الرّجوع إلى كلّ الأشخاص المتخصّصين وكلّ أهل الخبرة، ولكنَّ أكثر العلماء من السنَّة والشّيعة لا يزالون يعتمدون على الرّؤية، لأنَّ النَّبيَّ (ص) يقول: "صُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ". ونحن نقول، كما يقول السيّد الخوئي (ره)، إنَّ الرّؤية وسيلة للمعرفة ولتحصيل اليقين.
وأعطيكم مثلاً شعبيّاً لتقريب الفكرة، إذا قال لك أحدهم: إذا رأيت فلاناً أخبرني، وأنت لم ترَ هذا الشَّخص، ولكنَّه اتَّصل بك، وأخبرك أنَّه موجود في المكان، فهل تخبر من طلب منك بأنّه موجود أم تعتبر أنّه غير موجود؟ فالرّؤية هي وسيلة من وسائل المعرفة واليقين. ونحن في وقت أصبحت الحسابات الفلكيَّة الدَّقيقة، وبحسب أهل الخبرة، أوضح وأدقّ من الرّؤية، لأنَّ الجوَّ أصبح ملوَّثاً، وأصبح من الممكن أن يرى الإنسان في الفضاء عشرين هلالاً، لأنَّ اللَّمعان الموجود من خلال هذه العناصر الموجودة في الفضاء، يمكن أن يوهم الإنسان بأنَّه يرى هلالاً وما هو بهلال.
ولكن نحن نرى أنَّه إذا تولَّد الهلال، وثبت عندنا من خلال أهل الخبرة إمكانيَّة الرّؤية، ولو في بلدٍ نلتقي معه بجزء من اللَّيل، دخل الشَّهر، وقد تولَّد هلال شهر رمضان لهذا العام السَّبت السَّاعة العاشرة مساءً. نحن نرى هذا، والآخرون معذورون في اجتهاداتهم الَّتي نحترمها.
ولذلك، المطلوب أن يقوم كلّ واحد منَّا بتكليفه، ولكن ما نريده هو أن لا يتعصَّب بعضنا ضدّ بعضنا الآخر. المهمّ أنّ الكلّ معذورون، والكلّ يقوم بتكليفه الشَّرعي، ولا نخلق فتنةً، لأنَّ الَّذين يصنعون الفتنة في المجتمع، سوف يعاقبهم الله.
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية