رمضان
05/03/2025

التَّقوى: زادُ المؤمنِ في شَهْرِ رمضانَ وسبيلُ نجاته في الآخرة

التَّقوى: زادُ المؤمنِ في شَهْرِ رمضانَ وسبيلُ نجاته في الآخرة

بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم، الحمدُ للّهِ ربِّ العَالَمِين، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى سيِّدنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ الطَّيبين الطَّاهرين وَأصْحَابِهِ الـمُنتَجَبين، وَعَلَى أنبياء اللّهِ الـمُرْسَلين.
رصيدُ التّقوى
تحدَّثْنا في المحاضرة السَّابقة عن أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد من خلال فريضة الصَّوم أن يعدّ الصَّائمين ليحصلوا على التَّقوى، والَّتي تمثّل استحضار عظمة الله في نفس الإنسان، بحيث يشعر في كلّ حياته، في كلّ ما يريد أن يفعله أو يتركه، بأنَّ الله يراه ويراقبه، وأنَّ كلَّ عمل يعمله سوف يخضعُ لحساب الله، ولسؤاله سبحانه له: كيف عملت هذا العمل؟ ولماذا عملته، وعلى أيّ أساس كان؟ أو لماذا تركت هذا العمل، وعلى أيّ أساس تركته؟ ليجيب الإنسان ربَّه عن ذلك كلّه، لأنَّه مسؤول في كلّ حياته أمام الله تعالى.
فالله سبحانه خلقنا، وأراد منَّا أن نكون المسؤولين أمامه، وأن تكون التَّقوى رصيدنا وزادنا الَّذي نتزوَّده عندما ننتقل من الدّنيا إلى الآخرة، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ - لأنَّ التَّقوى هي الَّتي تجعل الإنسان في مواقع القرب من الله، وفي مواطن رحمته ومغفرته - وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197]، يعني يا أولي العقول، لأنَّ الإنسان إذا كان صاحب عقل، واستحضر عقلَهُ في حركة حياتِهِ، فإنَّ عقلَهُ يوحي إليه بأنَّ عليه أن يطيعَ الله فيما أمره بِهِ وفيما نهاه عنه، ليحصل على ثوابه، وليبتعد عن عقابه.
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد أنّه أعدّ الجنّة للمتّقين، قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ - وذلك بأن تسيروا في أعمالكم وأقوالكم وعلاقاتكم بما يجعلكم مستحقّين لأن يغفر الله ذنوبكم - وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133]، سارعوا إلى الجنَّة، وذلك بأن تعملوا على أن تكونوا من المتّقين الّذين أعدَّت لهم الجنّة، لأنَّ الله تعالى أعدّ جنَّته لمن اتَّقاه.
الإنفاقُ في السّعةِ والضّيق
ثمَّ يبيّن الله بعض علامات التَّقوى، كيف يمكن للإنسان أن يكون تقيّاً، يقول تعالى: {الَّذين يُنْفِقُونَ في السَّرَّاء والضَّرَّاء}، وهم الَّذين ينفقون أموالهم، سواء كانوا في حالة سعة أو في حالة ضيق، لمن يستحقّها من الفقراء والأيتام والمساكين، فللضّيق إنفاقه، وللسّعة إنفاقها، وذلك بحسب قدرة الإنسان وإمكاناته. فالله سبحانه يريد للإنسان أن يتَّقيه، بأن ينفق مما آتاه ومما حمَّله مسؤوليَّته، وأن يعيش روحيَّة العطاء من خلال هذا الإنفاق: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24 - 25]. فالإنفاقُ ليسَ مجرَّدَ إحسانٍ تبرّعيّ منك، بل هو حقٌّ فرضه الله عليك، فإذا بخلت بحقّ الله، فإنَّك تكون سارقاً لما أفاض الله تعالى به عليك من نعمه، لأنَّ الله تعالى جعل للفقراء حقّاً في أموال الأغنياء، كما ورد في أحاديث أئمَّة أهل البيت (ع): "إِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ مِمَّا يَكْتَفُونَ بِهِ، وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّ الَّذِي فَرَضَ لَهُمْ لَمْ يَكْفِهِمْ لَزَادَهُمْ".
كظمُ الغيظ
الصّفة الثَّانية للمتَّقين: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، وهم الَّذين إذا أغاظهم النَّاس، لم يفجّروا غيظهم، بل حبسوه في أنفسهم، وربما يعفون عن الَّذي أغاظهم، لأنَّ كظمَ الغيظِ يمثّلُ قوَّةً في النَّفس وفي الشّعور وفي الإرادة، فنفسك تدفعك إلى أن تثأر لها، وأن تعامل من أساءَ إليك بمثل ما عاملك به، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى فضَّل لك، بحسب إدراكه للمصلحة، أن تعفو عمَّن أساء إليك قربةً إليه سبحانه: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}[القصص: 54]، وقد ورد في القرآن: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[البقرة: 237]، أي أنَّك إذا كنت صاحب حقّ، وأساء الآخرون إليك، فمن حقّك أن تردّ الإساءة، ولكنَّ العفو هو أقرب إلى التَّقوى الَّتي تمثّل التّقرّب إلى الله سبحانه وتعالى.
العفوُ عن المسيئين
والصّفة الثَّالثة للمتَّقين: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ - وهو الإنسان الَّذي يطرد الغيظ من صدره، ويعفو عمَّن أساء إليه، ويحسن إليه - وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنينَ}[آل عمران: 134].
وقد روي عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، أنَّه كانت له جارية، وكانت تصبُّ له الماء ليتهيَّأ للصَّلاة، وكان الإبريق الَّذي تصبُّ منه ثقيلاً، لأنَّه كان مصنوعاً من نحاس، فشُغِلَتْ عن مسؤوليَّتها بأن صارت تتطلَّع هنا وهناك، فسقط الإبريق من يدها، فشجَّ جبهة الإمام ونزل منها الدَّم، فقالت هذه الجارية: "{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} - يعني أنا أغظتك، لكن أنت من قوم يكظمون الغيظ - فَقَالَ (ع): كَظَمْتُ غَيْظِي، قَالَتْ: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عِنْكِ، قَالَتْ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ".
الاستعجالُ في التَّوبة
وتتابع الآية ذكر صفات المتَّقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً – والفاحشة لا تتعلَّق فقط بالانحراف في الجانب الجنسيّ، بل هي كلّ عملٍ تجاوز الحدَّ في المعصية - أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ - بمعصية الله سبحانه وتعالى - ذَكَرُوا اللَّهَ - فالإنسان في بعض الحالات قد تغلبه نفسه الأمَّارة بالسّوء، فيبادر إلى معصية الله سبحانه وتعالى، ويستمرّ في عصيانه هذا، ولكنَّ بعض النَّاس بمجرَّد أن يقع في المعصية، يحاسب نفسه على ما فعل، ويستغفر ربَّه من ذنبه - فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ - لأنَّ الله وحده هو الَّذي يغفر الذّنوب كلَّها - وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا – كما يفعل بعض النَّاس الّذي يعصي الله ويصرُّ على معصيته، لأنَّ نفسه تدفعه إلى ذلك، وقد ورد أنَّه "لا كبيرةَ معَ الاستغفار، ولا صغيرةَ مع الإصرار"، بمعنى أنَّ الصَّغيرة تنقلب إلى كبيرة إذا أصرَّ الإنسان عليها - وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135]. فالله سبحانه أعدَّ الجنَّة لمثل هؤلاء.
التَّحذيرُ من العذاب
وقد حذَّرنا الله تعالى في مجال دعوته إلى التَّقوى، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحجّ: 1- 2].
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ شهر رمضان هو شهر المغفرة، وهو، كما ذكر الإمام زين العابدين (ع) في دعائه، شهر الطّهور، وشهر التَّمحيص، يمحّص الإنسان فيه نفسه، وشهر الإسلام، يؤصّل الإنسان فيه إسلامه، فهو فرصةٌ لأن يجلس الإنسان مع نفسه عندما يدعو ربَّه، وعندما يصلّي بين يديه سبحانه وتعالى، وعندما يفكّر في أعماله، وعندما يحاسِبُ نفسَهُ ويجاهدُها ويربّيها على التَّقوى، بحيث لا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى، حتَّى يعلم أنَّ في ذلك الله رضا... فإذا فرضنا جاءك شخص وقال لك اذهب معي إلى هذا المكان أو ذاك المكان، أو إلى هذه الشَّخصيىَّة السياسيَّة أو تلك الشَّخصيَّة، أو إلى هذا المهرجان أو ذاك، مما حرَّمه الله سبحانه وتعالى، فإنَّ عليك أن تقف عند حدود الله، بحيث لا تتحرَّك برجليك إلى ما يبغضه الله.
ففي شهر رمضان، كما نجاهد أنفسنا الّتي تتطلَّب الطَّعام والشَّراب والشَّهوات، علينا أيضاً أن نضغط على أنفسنا ونوجّهها ونعوّدها على طاعة الله سبحانه وتعالى، حتَّى نكون من أوليائه وجنده، كما ورد في دعاء يوم الثّلاثاء: "اللَّهُمَّ اجعَلْني مِنْ جُندِكَ فَإنَّ جُندَكَ هُمُ الغالِبونَ، وَاجعَلْني مِنْ حِزبِكَ فَإنَّ حِزبَكَ هُمُ المُفلِحونَ، وَاجعَلْني مِنْ أوليائِكَ فَإنَّ أولياءَكَ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنون".
إصلاحُ الدّينِ والآخرة
ثمَّ يقول الإمام (ع): "اللَّهُمَّ أصلِـحْ لي ديني - فعلى الإنسان أن يصلحَ دينه، وأن يراقبَ ما فسد من ممارساته الدّينيَّة بفعل شهواته، أو بفعل وسوسة الشَّيطان له - فَإنَّهُ عِصمَةُ أمري - فالدّين هو الَّذي أعتصم به وأتمسَّك به حتّى ألقاك يا ربّ - وَأصلِـحْ لي آخِرَتي – اجعلني، يا ربّ، أُقبِلُ على الآخرة وأنا في خطّ الصَّالحين، لتكون آخرتي آخرةً صالحة، بحيث أستحقّ عليها دخول الجنَّة - فَإنَّها دارُ مَقَرّي، وَإلَيْها مِنْ مُجاوَرَةِ اللّئامِ مَفَرّي، وَاجعَلِ الحياةَ زيادَةً لي في كُلِّ خَيرٍ - اجعل أيَّامي المقبلة أفضل من أيَّامي السَّابقة، بحيث يكون امتداد الحياة امتداداً للخير الَّذي يصدر عنّي - وَالوَفاةَ راحَةً لي مِن كُلِّ شَرّ"، لتكون الوفاة نهاية الشَّرّ في حياتي، حتَّى لا يمتدَّ ويزيدَ بامتداد حياتي.
وهذا ما ورد أيضاً في دعاء الإمام زين العابدين (ع): "وَعَمِّرْني ما كانَ عُمْري بِذْلَةً في طاعَتِك، فَإذا كانَ عُمْري مَرْتَعاً لِلشَّيْطانِ، فَاقْبِضْني إليْكَ قَبْلَ أنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إليَّ، أوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ".
أيُّها الأحبَّة، إنَّ هذا الشَّهر هو شهر المغفرة والبركة والرَّحمة، وعلينا أن نستفيد من هذا الموسم الرّوحيّ، والموسم الإلهيّ، حتَّى نستطيع أن نحصل على رضوان الله ومحبَّته {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 - 89].
* موعظة لسماحته، بتاريخ: 2 أيلول 2008 م/ الموافق: 2 رمضان 1439 هـ.
 
بسم اللّه الرَّحمن الرَّحيم، الحمدُ للّهِ ربِّ العَالَمِين، والصَّلاةُ والسَّلامُ عَلَى سيِّدنَا مُحَمَّد وَعَلَى آلِهِ الطَّيبين الطَّاهرين وَأصْحَابِهِ الـمُنتَجَبين، وَعَلَى أنبياء اللّهِ الـمُرْسَلين.
رصيدُ التّقوى
تحدَّثْنا في المحاضرة السَّابقة عن أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد من خلال فريضة الصَّوم أن يعدّ الصَّائمين ليحصلوا على التَّقوى، والَّتي تمثّل استحضار عظمة الله في نفس الإنسان، بحيث يشعر في كلّ حياته، في كلّ ما يريد أن يفعله أو يتركه، بأنَّ الله يراه ويراقبه، وأنَّ كلَّ عمل يعمله سوف يخضعُ لحساب الله، ولسؤاله سبحانه له: كيف عملت هذا العمل؟ ولماذا عملته، وعلى أيّ أساس كان؟ أو لماذا تركت هذا العمل، وعلى أيّ أساس تركته؟ ليجيب الإنسان ربَّه عن ذلك كلّه، لأنَّه مسؤول في كلّ حياته أمام الله تعالى.
فالله سبحانه خلقنا، وأراد منَّا أن نكون المسؤولين أمامه، وأن تكون التَّقوى رصيدنا وزادنا الَّذي نتزوَّده عندما ننتقل من الدّنيا إلى الآخرة، {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ - لأنَّ التَّقوى هي الَّتي تجعل الإنسان في مواقع القرب من الله، وفي مواطن رحمته ومغفرته - وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ}[البقرة: 197]، يعني يا أولي العقول، لأنَّ الإنسان إذا كان صاحب عقل، واستحضر عقلَهُ في حركة حياتِهِ، فإنَّ عقلَهُ يوحي إليه بأنَّ عليه أن يطيعَ الله فيما أمره بِهِ وفيما نهاه عنه، ليحصل على ثوابه، وليبتعد عن عقابه.
وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد أنّه أعدّ الجنّة للمتّقين، قال سبحانه: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّنْ رَّبِّكُمْ - وذلك بأن تسيروا في أعمالكم وأقوالكم وعلاقاتكم بما يجعلكم مستحقّين لأن يغفر الله ذنوبكم - وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ}[آل عمران: 133]، سارعوا إلى الجنَّة، وذلك بأن تعملوا على أن تكونوا من المتّقين الّذين أعدَّت لهم الجنّة، لأنَّ الله تعالى أعدّ جنَّته لمن اتَّقاه.
الإنفاقُ في السّعةِ والضّيق
ثمَّ يبيّن الله بعض علامات التَّقوى، كيف يمكن للإنسان أن يكون تقيّاً، يقول تعالى: {الَّذين يُنْفِقُونَ في السَّرَّاء والضَّرَّاء}، وهم الَّذين ينفقون أموالهم، سواء كانوا في حالة سعة أو في حالة ضيق، لمن يستحقّها من الفقراء والأيتام والمساكين، فللضّيق إنفاقه، وللسّعة إنفاقها، وذلك بحسب قدرة الإنسان وإمكاناته. فالله سبحانه يريد للإنسان أن يتَّقيه، بأن ينفق مما آتاه ومما حمَّله مسؤوليَّته، وأن يعيش روحيَّة العطاء من خلال هذا الإنفاق: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ}[المعارج: 24 - 25]. فالإنفاقُ ليسَ مجرَّدَ إحسانٍ تبرّعيّ منك، بل هو حقٌّ فرضه الله عليك، فإذا بخلت بحقّ الله، فإنَّك تكون سارقاً لما أفاض الله تعالى به عليك من نعمه، لأنَّ الله تعالى جعل للفقراء حقّاً في أموال الأغنياء، كما ورد في أحاديث أئمَّة أهل البيت (ع): "إِنَّ اللّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَرَضَ لِلْفُقَرَاءِ فِي أَمْوَالِ الْأَغْنِيَاءِ مِمَّا يَكْتَفُونَ بِهِ، وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّ الَّذِي فَرَضَ لَهُمْ لَمْ يَكْفِهِمْ لَزَادَهُمْ".
كظمُ الغيظ
الصّفة الثَّانية للمتَّقين: {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ}، وهم الَّذين إذا أغاظهم النَّاس، لم يفجّروا غيظهم، بل حبسوه في أنفسهم، وربما يعفون عن الَّذي أغاظهم، لأنَّ كظمَ الغيظِ يمثّلُ قوَّةً في النَّفس وفي الشّعور وفي الإرادة، فنفسك تدفعك إلى أن تثأر لها، وأن تعامل من أساءَ إليك بمثل ما عاملك به، ولكنَّ الله سبحانه وتعالى فضَّل لك، بحسب إدراكه للمصلحة، أن تعفو عمَّن أساء إليك قربةً إليه سبحانه: {وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ}[القصص: 54]، وقد ورد في القرآن: {فَمَنِ اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَىٰ عَلَيْكُمْ}[البقرة: 194]، {وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ}[البقرة: 237]، أي أنَّك إذا كنت صاحب حقّ، وأساء الآخرون إليك، فمن حقّك أن تردّ الإساءة، ولكنَّ العفو هو أقرب إلى التَّقوى الَّتي تمثّل التّقرّب إلى الله سبحانه وتعالى.
العفوُ عن المسيئين
والصّفة الثَّالثة للمتَّقين: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ - وهو الإنسان الَّذي يطرد الغيظ من صدره، ويعفو عمَّن أساء إليه، ويحسن إليه - وَاللهُ يُحِبُّ المُحْسِنينَ}[آل عمران: 134].
وقد روي عن الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، أنَّه كانت له جارية، وكانت تصبُّ له الماء ليتهيَّأ للصَّلاة، وكان الإبريق الَّذي تصبُّ منه ثقيلاً، لأنَّه كان مصنوعاً من نحاس، فشُغِلَتْ عن مسؤوليَّتها بأن صارت تتطلَّع هنا وهناك، فسقط الإبريق من يدها، فشجَّ جبهة الإمام ونزل منها الدَّم، فقالت هذه الجارية: "{وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} - يعني أنا أغظتك، لكن أنت من قوم يكظمون الغيظ - فَقَالَ (ع): كَظَمْتُ غَيْظِي، قَالَتْ: {وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}، قَالَ: قَدْ عَفَوْتُ عِنْكِ، قَالَتْ: {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}، قَالَ: أَنْتِ حُرَّةٌ لِوَجْهِ اللَّهِ".
الاستعجالُ في التَّوبة
وتتابع الآية ذكر صفات المتَّقين: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً – والفاحشة لا تتعلَّق فقط بالانحراف في الجانب الجنسيّ، بل هي كلّ عملٍ تجاوز الحدَّ في المعصية - أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ - بمعصية الله سبحانه وتعالى - ذَكَرُوا اللَّهَ - فالإنسان في بعض الحالات قد تغلبه نفسه الأمَّارة بالسّوء، فيبادر إلى معصية الله سبحانه وتعالى، ويستمرّ في عصيانه هذا، ولكنَّ بعض النَّاس بمجرَّد أن يقع في المعصية، يحاسب نفسه على ما فعل، ويستغفر ربَّه من ذنبه - فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ - لأنَّ الله وحده هو الَّذي يغفر الذّنوب كلَّها - وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فَعَلُوا – كما يفعل بعض النَّاس الّذي يعصي الله ويصرُّ على معصيته، لأنَّ نفسه تدفعه إلى ذلك، وقد ورد أنَّه "لا كبيرةَ معَ الاستغفار، ولا صغيرةَ مع الإصرار"، بمعنى أنَّ الصَّغيرة تنقلب إلى كبيرة إذا أصرَّ الإنسان عليها - وَهُمْ يَعْلَمُونَ}[آل عمران: 135]. فالله سبحانه أعدَّ الجنَّة لمثل هؤلاء.
التَّحذيرُ من العذاب
وقد حذَّرنا الله تعالى في مجال دعوته إلى التَّقوى، فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}[الحجّ: 1- 2].
لذلك، أيُّها الأحبَّة، إنَّ شهر رمضان هو شهر المغفرة، وهو، كما ذكر الإمام زين العابدين (ع) في دعائه، شهر الطّهور، وشهر التَّمحيص، يمحّص الإنسان فيه نفسه، وشهر الإسلام، يؤصّل الإنسان فيه إسلامه، فهو فرصةٌ لأن يجلس الإنسان مع نفسه عندما يدعو ربَّه، وعندما يصلّي بين يديه سبحانه وتعالى، وعندما يفكّر في أعماله، وعندما يحاسِبُ نفسَهُ ويجاهدُها ويربّيها على التَّقوى، بحيث لا يقدّم رجلاً ولا يؤخّر أخرى، حتَّى يعلم أنَّ في ذلك الله رضا... فإذا فرضنا جاءك شخص وقال لك اذهب معي إلى هذا المكان أو ذاك المكان، أو إلى هذه الشَّخصيىَّة السياسيَّة أو تلك الشَّخصيَّة، أو إلى هذا المهرجان أو ذاك، مما حرَّمه الله سبحانه وتعالى، فإنَّ عليك أن تقف عند حدود الله، بحيث لا تتحرَّك برجليك إلى ما يبغضه الله.
ففي شهر رمضان، كما نجاهد أنفسنا الّتي تتطلَّب الطَّعام والشَّراب والشَّهوات، علينا أيضاً أن نضغط على أنفسنا ونوجّهها ونعوّدها على طاعة الله سبحانه وتعالى، حتَّى نكون من أوليائه وجنده، كما ورد في دعاء يوم الثّلاثاء: "اللَّهُمَّ اجعَلْني مِنْ جُندِكَ فَإنَّ جُندَكَ هُمُ الغالِبونَ، وَاجعَلْني مِنْ حِزبِكَ فَإنَّ حِزبَكَ هُمُ المُفلِحونَ، وَاجعَلْني مِنْ أوليائِكَ فَإنَّ أولياءَكَ لا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنون".
إصلاحُ الدّينِ والآخرة
ثمَّ يقول الإمام (ع): "اللَّهُمَّ أصلِـحْ لي ديني - فعلى الإنسان أن يصلحَ دينه، وأن يراقبَ ما فسد من ممارساته الدّينيَّة بفعل شهواته، أو بفعل وسوسة الشَّيطان له - فَإنَّهُ عِصمَةُ أمري - فالدّين هو الَّذي أعتصم به وأتمسَّك به حتّى ألقاك يا ربّ - وَأصلِـحْ لي آخِرَتي – اجعلني، يا ربّ، أُقبِلُ على الآخرة وأنا في خطّ الصَّالحين، لتكون آخرتي آخرةً صالحة، بحيث أستحقّ عليها دخول الجنَّة - فَإنَّها دارُ مَقَرّي، وَإلَيْها مِنْ مُجاوَرَةِ اللّئامِ مَفَرّي، وَاجعَلِ الحياةَ زيادَةً لي في كُلِّ خَيرٍ - اجعل أيَّامي المقبلة أفضل من أيَّامي السَّابقة، بحيث يكون امتداد الحياة امتداداً للخير الَّذي يصدر عنّي - وَالوَفاةَ راحَةً لي مِن كُلِّ شَرّ"، لتكون الوفاة نهاية الشَّرّ في حياتي، حتَّى لا يمتدَّ ويزيدَ بامتداد حياتي.
وهذا ما ورد أيضاً في دعاء الإمام زين العابدين (ع): "وَعَمِّرْني ما كانَ عُمْري بِذْلَةً في طاعَتِك، فَإذا كانَ عُمْري مَرْتَعاً لِلشَّيْطانِ، فَاقْبِضْني إليْكَ قَبْلَ أنْ يَسْبِقَ مَقْتُكَ إليَّ، أوْ يَسْتَحْكِمَ غَضَبُكَ عَلَيَّ".
أيُّها الأحبَّة، إنَّ هذا الشَّهر هو شهر المغفرة والبركة والرَّحمة، وعلينا أن نستفيد من هذا الموسم الرّوحيّ، والموسم الإلهيّ، حتَّى نستطيع أن نحصل على رضوان الله ومحبَّته {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء: 88 - 89].
* موعظة لسماحته، بتاريخ: 2 أيلول 2008 م/ الموافق: 2 رمضان 1439 هـ.
 
اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية