استشارة..
أنا شاب مثقّف في العقد الثالث من العمر. كنت متديّناً وملتزماً وأعتبر الدّين من المسلمات، إلى أن قرأت كتاباً لجود أبو صوان، واسمه "القراءات الملعونة"، دفعني باتجاه طريق الإلحاد، فتحولت إلى الماركسية، وما زالت أفكار هذه المدرسة تسكنني وتقودني في حياتي.
أنا اليوم أدرس الإسلام من جديد، بعد انقطاع عن الصَّلاة والصَّوم لمدة عشرين عاماً، وأعيش فراغاً روحياً، ولكنني محترم وصادق مع الآخرين، ولدي بعض التساؤلات أتمنى أن تجيبوني عنها مثل: هل سيحاسب الله الشعوب والأفراد الذين لم يسمعوا بالإسلام قط؟ فإذا كان الجواب نفياً، فأين العدل والمساواة بيننا وبينهم؟ وإذا كان إيجاباً فعلام يحاسبون؟ وهل الوحي الذي نزل على النبي محمد(ص) هو وحي فكري، فالكاتب الإنكليزي شكسبير أبدع ولم يكن متعلماً؟ وما هو شكل الوحي؟ وهل كان ينزل أمام الناس؟ وكيف كان الرسول يبلغ الرسالة؟ وألم يكن الله يعلم أنَّ إبليس لن يسجد لآدم؟
ما تفسير أنَّ قصَّة الخلق وردت في ملحمة جلجامش كما وردت في التوراة والقرآن؟ وهل صحيح أنَّ شرب القليل من الخمر كان مباحاً في بداية الدعوة إلى الإسلام؟ وما هي الواجبات التي تكفل دخولنا إلى الجنة من دون أن نرهق أنفسنا، ولا سيما أننا لا نستطيع تطبيق كلّ ما جاء في القرآن، ولأننا غير معصومين؟ وهل الغيبة الكبرى حقيقية لأنني أجد صعوبة في تصديقها؟
وجواب..
1 ـ قال تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً}[الإسراء: 15]، فالله تعالى يحاسب الناس بمقدار ما وصل إليهم من حجَّة، هذا في الأمور الشرعيّة. أما ما كان من الأمور العقليّة والفطريّة الّتي يؤمن بها الإنسان بفطرته وعقله، فيحاسب عليها، وقد ورد أن لله على الناس حجتين: حجة باطنة وهي العقل، وحجة ظاهرة وهي الرسل، والعقل رسول من الباطن، فما يحكم به عقل الإنسان من قبح الظلم وقتل النفس والشرك والكفر وعبادة الأصنام ونحو ذلك، فهذا مما يحاسب الله الإنسان عليه. ومع علم الإنسان بالاختلاف، فتكليفه أن يبحث عن الحق ليعرفه ويتبعه، وليؤمّن نجاة نفسه من النار.
2 ـ هناك فرق بين العبقرية والوحي، فالعبقرية هي حالة عقلية يستطيع صاحبها التوصل إلى المعلومات بأقصى سرعة. أما الوحي فهو ليس حالة عقلية فقط، بل هو حالة عقلية ممزوجة بحالة روحية نابعة من صفاء النفس، يستطيع صاحبها من خلالها التواصل مع الملكوت الأعلى وتلقي المعلومات.
ثم إنَّ العبقرية تكون باتجاه واحد ومحدد، فشكسبير كان عبقرياً، ولكنَّ عبقريته تجلَّت في الأدب والمسرح، ولم نر أثراً لها في اتجاهات أخرى، وأينشتاين كان عبقرياً أيضاً، لكن عبقريته برزت في الفيزياء، ولم نر أثرا ًلعبقريته في علوم أخرى، وبوذا عبقري أيضا ًوهو صاحب ديانة، ولكن عبقريته تجلت في الأمور السلوكية والأخلاقية، والأمثلة على ذلك كثيرة.
أما صاحب الوحي، فإن علومه متنوعة، واهتماماته مختلفة، والقرآن الكريم هو المثال البارز على ذلك، فالعبقري لا يعرف شيئاً عن عالم الآخرة وعما يجري في الجنة والنار، فهذه المغيبات خارج دائرة العقل، ومهما كانت عبقرية صاحب الوحي، فإنه لا يستطيع الاطلاع عما هو خارج إطار هذه الدنيا المحيطة به، والأمثلة أيضاً على ذلك كثيرة لا يسعها هذا المختصر.
3 ـ إنّ قضية عدم سجود إبليس لآدم، هي قضية مرتبطة بالقضاء والقدر، وهذه المسألة خاض فيها الفلاسفة والعلماء منذ القدم، وزلَّت فيها أقدام كثيرة من أهل الفرق الإسلامية وغير الإسلامية.
والقضية المركزية في هذه المسألة ـ رغم أنها تحتاج إلى بحث أعمق ـ أنه لا بدّ من التفريق بين علم الله تعالى بالشيء وإرادته ومشيئته لهذا الشيء. نعم، كان الله يعلم أن إبليس لن يسجد لآدم، لكن أراده أن يسجد، وليس هذا طلباً تعجيزياً، يدفعنا إلى أن نتساءل كيف يطلب منه أمراً يعلم أنه لن يمتثل له؟ فهو نوع من الاختيار والامتحان، كما تطلب من الكسول أن يجري امتحاناً لترفعه من صفه، ولا يمكنك إبقاءه في صفه بحجة أنه لن ينجح، لأنه من حقه أن يجري الامتحان، فإذا رسب فبسبب إهماله.
4 ـ ما المشكلة في وجود قصّة الخلق في ملحمة جلجامش، مع أنها موجودة في التوراة القرآن؟ فملحمة جلجامش ليست كلها أسطورة، بل هي خليط بين الخيال والواقع، وهذا يختص بالبحث التاريخي الذي يوضح في زمان أي نبي كتبت هذه الملحمة.
وما هو المانع من أن تكون قصة الخلق قد تسربت إلى الملحمة من خلال تعاليم بعض الأنبياء، وخصوصاً أن هذه الملحمة تتحدَّث عن الموت والحياة، وهما يناسبان الحديث عن قصة الخلق؟
5 ـ أما حرمة الخمر، فهذا تشريع خاص موجود في القرآن والسنة النبوية، وهو أمر اتفق عليه جميع المسلمين، ولا فرق بين قليله وكثيره، والتشريع القطعي الصادر من هذين المصدرين لا يمكن التصرف فيه. أما أنَّ الخمر كان مسموحاً به في بداية الدعوة، فهذا أسلوب تربوي في التشريع، فالخمر كان، ولقرون أو لمئات السنين، جزءاً لا يتجزأ من أسلوب عيش الناس، فكان التدريج في تحريمها في أثناء الصلاة {لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى}[النساء: 43]، فالذي يريد الصلاة، لا بدَّ من أن يبتعد عن الخمر قبل أدائها لمدة ساعتين على الأقل، وهذا الأمر سوف يتكرر خمس مرات في اليوم، وهكذا يعتاد المسلم على ترك الخمر إلى أن جاء التحريم العام والشامل لكلّ الأوقات.
6 ـ إنَّ الفراغ الروحي الذي تعيشه، سببه تركك للصلاة والعبادة، لأن الإنسان يحتاج إلى غذاء لروحه كما يحتاج إلى غذاء لجسده، فكما أن الطعام هو غذاء للجسد، فإن العبادات هي غذاء للروح: {أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}[الرعد: 28].
ثم من قال إننا يجب أن نرهق أنفسنا لدخول الجنة؟ فالعبادات معروفة وقليلة بالنسبة إلى المساحة التي نالتها في حياة الإنسان اليومية.
ومن قال أيضاً إننا يجب أن نطبّق القرآن كله؟ فالقرآن ليس كله تشريعاً وأحكاماً، ففيه هذان وفيه أمور أخرى، مثل قصص الأنبياء وأقوالهم وقضايا اجتماعية وتربوية وغير ذلك.
ثم إنَّ ما وصفت به نفسك من صدق وخلق جيد هو النّصف الثاني مما يجب أن يكون عليه الإنسان، وهو موجود في القرآن، فكيف تدعي أنك لا تستطيع تطبيق جميع القرآن؟ لقد تركت النصف الأول والأساسي، وهو العبادات، ويجب عليك قضاء كل ما فاتك من الصلاة والصيام.
7 ـ أما قضية غيبة الإمام الثاني عشر، فهو أمر نعتقد به، لأن الصادق الأمين أخبرنا به، فهو أمر ممكن عقلاً، وقد حدثنا القرآن الكريم عن لبث نوح(ع) في قومه ألف سنة إلا خمسين عاماً، والعمر الطويل واقع بالنسبة إلى بعض الأشخاص في التاريخ، والله تعالى قادر على كل شيء، فإذا شاء أن يطيل عمر وليه وأن يمتحن عباده، فسيفعل، وقد أخبرنا النبي(ص) وسائر المعصومين عن ذلك، وعلينا أن نؤمن به.
هداك الله يا أخي لما فيه الخير والصلاح، وأعانك على نفسك بما يعين به الصالحين على أنفسهم.
***
مرسل الاستشارة: زاهر.
المجيب عن الاستشارة: الشّيخ يوسف سبيتي، عالم دين وباحث، عضو المكتب الشّرعي في مؤسّسة العلامة المرجع السيّد محمَّد حسين فضل الله(رض).
التاريخ: 10 آب 2013م.
نوع الاستشارة: دينية.