والمراد به اختلاط المال المكتسب من طرق محللة بمال آخر اُكتُسِبَ من طرق محرّمة، ولم يمكن تمييز الحرام من الحلال، لا بعينه وشخصه، ولا بمقداره ولا بجنسه، ولا بصاحبه ومستحقه، فصار المكلّف جاهلاً ومتحيراً في التخلّص من الحرام وتبرئة ذمته منه، فأوجبت الشريعة على المكلّف دفع خمس هذا المال المختلط بالحرام كطريقة للتخلّص من الحرام وجَعْلِ الباقي حلالاً، وذلك فور توبة الإنسان وعودته إلى اللّه تعالى وندمه على ذنبه من دون انتظار مرور سنة على ذلك الإختلاط كما ألمحنا إلى ذلك في التمهيد.
أمّا مرادنا بـ "المال المحرم"، وقد يُقال له: (السحت)، فهو كلّ مال اكتسِبَ عن طريقٍ حرّمه الإسلام، أو أُخذ من مالكه بغصب أو سرقة. فالأول: مثل المال المأخوذ أجراً على الغناء المحرّم، أو الزنى واللواط ونحوهما من الموبقات الجنسية، أو صنع التماثيل، ونحو ذلك، أو كان ثمناً لشيء محرّم، كثمن الميتة والخمر والخنزير، أو كان من الربا والقمار ونحوهما. والثاني: كلّ ما أخذ من مالكه من دون إذنه ورضاه بالغصب والقهر أو بالسرقة والغيلة، وسوف نتعرّض لتفصيل مصادر الكسب المحرّم وأحكامه في باب المعاملات لاحقاً إن شاء اللّه تعالى. فإذا تاب فاعل الحرام الذي بيده هذا المال المحرّم فإنَّ من الواجب عليه حتماً أن يتخلّص منه بإرجاعه إلى من أخذه منه وتمكينه منه، أو بالتسامح منه واسترضائه، بلا فرق بين أنواع الحرام التي ذكرناها.
ولكن هذا المال الحرام ـ حين إرجاعه ـ تارة تكون عينه موجودة غير تالفة، وأخرى تكون تالفة ومتحولة إلى مال في الذمة، وهو في كلا الحالتين إمّا أن يكون صاحبه معلوماً أو مجهولاً، وإن كان معلوماً، فهو إمّا أن يكون معلوماً بعينه أو في ضمن عدد محصور، وكذلك المال فإنه تارة يكون معلوم المقدار والنوع، وأخرى يكون مجهولهما، أو أحدهما معلوماً والآخر مجهولاً، فيتحصل من ذلك فروع عديدة لكلّ منها حكمها في مقام العلاج. وجرياً على عادة الفقهاء فإنَّ هذا المبحث من مباحث الخمس قد عقد من أجل معالجة هذا الموضوع، وسوف تتمّ معالجته من قبلنا من خلال العناوين التالية:
الأول: المال المعلوم مالكه:
ويتضمن حالتين:
الحالة الأولى: ما لو كانت عين المال موجودة، ولها فروع متعددة نذكرها كما يلي:
1 ـ أن يكون المالك معروفاً بشخصه، وكذا مقدار المال ونوعه وعينه، فالواجب دفعه إلى صاحبه.
2 ـ نفس الأول، ولكن لم تتميز عين المال، كأن كان له كتاب اللمعة في الفقه مختلطاً بنسخ من نفس الكتاب مملوكة للغاصب، فهنا إذا أمكن التصالح والتراضي بينهما على واحدة من النسخ فبها، وإلاَّ لجأ إلى القرعة لتعيين واحدة منها، من دون فرق بين ما لو كانت النسخ مختلفة في قيمتها أو متماثلة.
3 ـ أن يَعلمَ المالكَ والمقدارَ ولكنَّه يجهل نوع المال، وذلك كأن يعلم أنَّ لزيد عنده مقدار عشرة كيلوات من الحبوب، ولكنَّه يجهل إن كانت قمحاً أو شعيراً أو غيرهما، وحكمها حكم الصورة الثانية.
4 ـ أن يعلم المالك ونوع المال ويجهل مقداره، فإن أمكن التراضي بينهما بصلح ونحوه فهو، وإلاَّ اكتفى بردّ المقدار المقطوع به مقابل المشكوك، فإن لم يقبل به رجعا إلى الحاكم الشرعي ليفصل بينهما.
5 ـ أن يكون المالك معلوماً إجمالاً في عدد محصور، كأحد أبناء زيد الثلاثة، فإن كان المقدار معلوماً، وكذا نوعه وعينه، أعلمهم بالحال، فإن ادعاه أحدهم ووافقه الآخران دفعه إليه، وإن ادعاه أكثر من واحد، فإن تراضوا فيما بينهم بصلح ونحوه فبه، وإلاَّ رجعوا إلى الحاكم الشرعي ليفصل بينهم. وأمّا إذا لم يعرِفه أحد منهم ولا ادعاه ولم يتراضوا فيما بينهم عليه فالأظهر لزوم العمل بالقرعة، والأحوط تصدّي الحاكم الشرعي أو وكيله لإجرائها. وأمّا إذا كان المقدار مجهولاً فإنه يجري فيه ما قد ذكر في الفرع الرابع من التراضي أو دفع الأقل أو الرجوع إلى الحاكم، وإذا كان المجهول هو الجنس أو العين فإنه ـ كذلك ـ يرجع فيه إلى ما ذكر سابقاً في الفرعين الثالث والثاني.
الحالة الثانية: ما لو كانت عين المال تالفة، بنحو صار ذلك المال الحرام مضموناً على الغاصب ومستقراً في ذمته، فحكم فروعها كما يلي:
1 ـ إن عرف المالك والمقدار والنوع ردّه إليه إن كان نقداً، وإن كان عيناً ردّ مثله إن كان مثلياً، كما في مثل المصنوعات التي تتماثل أفرادها في زماننا، ودفع قيمته إن كان قيمياً، كما في مثل الحبوب والزيوت ونحوهما.
2 ـ إذا عَرفَ المالكَ وَجهِلَ المقدار، فإن عرف نوعه جاز له الاقتصار في ردّه على الأقل المقطوع به، وإن جهل نوعه لزمه التصالح معه أو الرجوع إلى الحاكم الشرعي.
3 ـ إذا عرف المالك إجمالاً في عدد محصور، كأحد أبناء زيد الثلاثة، فالأحوط وجوباً استرضاء الجميع، وإلاَّ عيّنه بالقرعة، وفي حالة ما لو علم المقدار أو جهله، وحالة ما لو علم النوع أو جهله، تجري نفس الأحكام الثابتة لفروع ما لو عرف المالك بعينه كما في الفرعين الأول والثاني.
الثاني: المال المجهول مالكه:
إذا لم يَعرِف الغاصبُ مالكَ العين لا بشخصه ولا في ضمن عدد محصور، فإنَّ للعلاج حالات:
الأولى: أن يعرف المقدار والنوع، فإن كانت العين موجودة وعرفها تصدق بها، وإن لم يعرفها تصدق بمثل مقدارها، وكذا إذا كانت العين تالفة، والأحوط وجوباً أن يكون التصدّق بإذن الحاكم الشرعي.
الثانية: أن يكون المال في الذمة وقد جهل المقدار وجهل المالك، فإننا قد قلنا سابقاً إن علاج الجهل بالمقدار هو الاقتصار على الأقل، أمّا علاج الجهل بالمالك فهو ـ أيضاً ـ بالتصدّق بإذن الحاكم الشرعي على الأحوط كسابقه.
الثالثة: أن تكون عين المال موجودة خارجاً ولكنَّها اختلطت بمال آخر حلال، ولم يعرف صاحبها ولا مقدارها، وهذه هي الحالة المرادة أساساً من هذا المبحث، وعلاجها يكون بدفع خمس المال الذي اختلطت به.
وها هنا مسائل:
م ـ 1117: قد يتوهم أنَّ المال الحرام إذا كان من الأموال العامة، كالخمس والزكاة ومال الوقف ونحوها، هو من الموارد التي لا يعلم مالكها فتدخل في عنوان (المال المختلط بالحرام) وتعالج بالخمس، وهو توهم باطل، لأنَّ هذه الأموال العامة لما كان المرجع فيها هو الحاكم الشرعي فإنها تكون بحكم ما كان مالكه معلوماً، فلا تحلل بالخمس، بل يجب الرجوع فيها إلى الحاكم الشرعي بأحد الوجوه السابقة، من كونها معلومة المقدار والنوع، أو مجهولتهما، أو مختلفة فيهما بين الجهل والعلم.
م ـ 1118: إذا علم الغاصب قبل أداء الخمس أنَّ المال الحرام المختلط أزيد من الخمس لم يكفه إخراج الخمس، بل يجب التصدّق عنه بالمقدار الذي يعلم بأنه حرام، ولا يطلب منه دفع شيء عن المبلغ المشكوك فيه. وإذا علم الغاصب ـ كذلك ـ أنَّ المال الحرام أنقص من مقدار الخمس، كفاه الاقتصار في التصدّق على المقدار الذي يعلم أنه حرام مقابل الزائد المشكوك فيه، والأحوط وجوباً أن يكون التصدّق بإذن الحاكم الشرعي في الحالتين.
وإذا علم وجزم بمقدار المال الحرام بعدما كان قد أدّى خمسه، فإن كان أزيد من مقدار الخمس وجب حينئذ التصدق بالزائد أو دفعه إلى الحاكم الشرعي، وإن كان أنقص لم يجز له استرداد الزائد. ويثبت نفس الحكم لو كان ذلك العلم منه على نحو الإجمال.
م ـ 1119: إذا كان المكلّف يبيع في دكانه الأعيان المحرّمة، كالخمر والخنزير والميتة، مضافاً للأعيان المحللة، ثُمَّ تاب، وكان قد باع تلك الأعيان المحرّمة بغير وجه شرعي، اعتبرت أثمان هذه الأعيان مالاً محرّماً، حتى لو كان قبل ذلك قد دفع ثمنها من مال محلل، وكذلك تعتبر أرباحها مالاً محرّماً، ويجب عليه علاج هذا المال بالنحو الذي ذكر، من إرجاعه إلى صاحبه إن كان معلوماً، والتصدّق به إن كان مجهولاً، وتخميسه إن كان مختلطاً بالحلال ولم يعرف مقداره ولا صاحبه. نعم إذا ردّها إلى التاجر الذي اشتراها منه، فأعاد إليه ماله المحلل الذي كان قد دفعه ثمناً لها لم يكن عليه شيء، وإن كان مأثوماً في صورة بيع الخمر أورده إلى مصدره، وكذا ردّ الخنزير والميتة أو بيعهما لمن لا يستحلهما، لأنَّ الواجب عليه في مثل هذه الحالة إتلاف الخمر وردّ الخنزير والميتة إلى خصوص المستحل لهما من الكفّار أو بيعهما له.
م ـ 1120: إذا علم المكلّف أنَّ في مجموع المال الحلال المختلط بالحرام مقداراً معيناً منه قد مضى عليه عنده سنة وصار متعلّقاً للخمس، فلا بُدَّ في علاجه من تخميسه مرتين، فلو فرض أنَّ مجموع المال خمسة وسبعون، وأنَّ المال الحلال المتعلّق للخمس مقداره خمسون، وأنَّ مقدار الحرام في المبلغ الباقي مردّد بين أن يكون أقل من خمس المجموع الكلي أو أكثر منه، فالواجب تخميس الخَمسين أولاً، ومقداره عشرة، ثُمَّ يُخمس الباقي وهو الخمس وستون لتحليلها، ومقداره ثلاثة عشر، فيبقى له إثنان وخمسون، وهكذا.
م ـ 1121: إذا تصرّف المكلّف بالمال المختلط بالحرام قبل تخميسه فأتلفه، وجب عليه دفع الخمس، والأحوط استحباباً دفع مقدار الخمس إلى مستحقه بقصد ما في الذمة المردّد بين الخمس والصدقة.
م ـ 1122: إذا عُرف المالك بعد دفع الخمس لم يضمن الدافع ذلك للمالك، وإن كان لا بأس بالاحتياط بدفع ماله إليه.