عانى الإمام الهادي(ع) الكثير من خلفاء بني العبّاس، فقد عاش مع "المعتصم" في بقية خلافته، ثم ملك "الواثق" خمس سنين وسبعة أشهر، ثم ملك "المتوكّل" أربع عشرة سنة، ثم ملك ابنه المنتصر أشهراً، ثم ملك "المستعين" سنتين وتسعة أشهر، ثم ملك "المعتزّ" ثماني سنين وستة أشهر(11).. ومع كلِّ مَن عاصرهم الإمام(ع) عانى الكثير، ولكن نتوقف عند زمن المتوكّل الذي استدعاه إلى مدينة الخلافة في سامرّاء من أجل أن يكون تحت رقابته، لهذا كتب كتاباً حمّله إلى يحيى بن هرثمة، "فأوصل الكتاب إلى بريحة، وركبا جميعاً إلى أبي الحسن (لهادي) فأوصلا إليه كتاب المتوكّل، فاستأجلهما ثلاثاً، فلما كان بعد ثلاث عادا إلى داره، فوجدا الدوابّ مُسرَجةً والأثقال مشدودة قد فرغ منها، فخرج متوجّهاً نحو العراق (من المدينة) واتّبعه بريحة مشيّعاً"(12).
هنا نلاحظ أن بريحة شعر ـ وهذا ما يستفيده كلُّ مَن يتجسّس لصالح الظالمين ـ أنّ المتوكّل كان مليئاً بالاحترام للإمام الهادي(ع)، "وكتب معه إلى أبي الحسن كتاباً جليلاً يعرّفه أنَّه قد اشتاق إليه ويسأله القدوم عليه"، وخاف أن يتحدّث الإمام مع المتوكّل ضدّه، وربما يعاقبه المتوكّل على ما فعله ضدّ الإمام، فحاول أن يهدّد الإمام بأنّه إذا تكلّم مع المتوكل بما يُسيء إليه، فسوف يصادر أملاكه وينال من أهله في المدينة، لأنَّه في موقع القوّة، وهو صاحب الصلاة والحرب، »فلما صار في بعض الطريق، قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أنّي كنت السبب في حملك، وعليَّ حلْفٌ بأيمانٍ مغلّظةٍ لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحدٍ من خاصّته وأبنائه، لأجمرنّ نخلك، ولأقتلنّ مواليك، ولأعورنّ عيون ضيعتك، ولأفعلن ولأصفنّ"(13).
كُلُّ ذلك من أجل أن يحمي نفسه بهذا التهديد، وحتى لا يُخبر الإمامُ(ع) المتوكّل بما صنعه معه.. وهنا نلاحظ عظمة الإمام وأخلاقيته من خلال ردِّ فعله، »فالتفت إليه أبو الحسن (الهادي)، فقال له: "إنَّ أقرب عرضي إيّاك على الله البارحة وما كنتُ لأعرضنّك عليه، ثم لأشكونَّك إلى غيره من خلقه"(14).
فالإمام(ع) يقول له: لقد عرضتُ أمرك على الله إذ دعوتهُ عليك أمس، وعندما يسيء إليَّ أحدٌ فأنا أعرض أمره على الله، لأنَّه هو القادر على أن يقتصَّ منه، فلا يمكن أن أشكوك إلى أحد من خلقه، فمن كانت علاقته مع الله تعالى في كلِّ ما يهمه وما يُعْرَض عليه، لا يمكن أن يُدخل المخلوقين في ما طرحه على الله.. ويبدو أن (بريحة) اهتزَّ من كلام الإمام(ع) وارتعد، "فانكبَّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه، فقال له: قد عفوتُ عنك"(15). وهكذا أعطى الإمام هذا الرجل درساً روحياً في ارتباط أولياء الله بالدرجة التي تجعلهم يرجعون إليه بالرجاء والدعاء عند تعرضهم للظلم، بحيث لا يرون أيّ مسوّغ للاستعانة بغيره، حتى في ما يمكن أن يبلغوا به مقاصدهم، وهذا ما جعل هذا الرجل يخشع ويخاف من سطوة الله، من خلال معرفته بأنّ دعاء الإمام لا يُردَّ، لما يعرفه من روحانيته وورعه وقربه إلى الله.
رسالة المتوكّل إلى الإمام(ع)
ونحاول أن نقرأ أيضاً رسالة المتوكّل التي وجّهها إلى الإمام(ع)، ويمكن هنا ملاحظة أسلوب الخلفاء في تعاملهم مع الشخصيّات المهمّة ذات الموقع الإيماني المؤثّر في المجتمع، "وكان سبب شخوص أبي الحسن(ع) إلى سُرَّ من رأى (سامراء)، أنَّ عبد الله بن محمّد كان يتولّى الحربَ والصلاة في مدينة الرسول(ع)، فسعى بأبي الحسن(ع) إلى المتوكّل وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن سعايته به، فكتب إلى المتوكّل يذكر تَحامُل عبد الله بن محمّد ويُكذّبه في ما سعى به، فتقدّم المتوكّل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر (منطقة في سامرّاء) على جميلٍ من الفعل والقول، فخرجت نسخة الكتاب، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإنَّ أمير المؤمنين عارف بَقَدْرِكَ، راعٍ لقرابتك، موجبٌ لحقِّك، مُؤْثِرٌ من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يُصلح الله به حالك وحالَهم، ويُثبت به عزَّك وعزّهم، ويُدْخِلُ الأمر عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضى ربِّه وأداءَ ما افُترِض عليه فيك وفيهم ـ فهو يعرف أنَّ هناك واجباً أو فريضة في احترام أهل البيت(ع) ـ وقد رأى أمير المؤمنين صَرْفَ عبد الله بن محمد عما كان يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول(ص)، إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقِّك واستخفافه بقدرك، وعندما قَرَفك (اتّهمك) به ونسبك إليه من الأمر الذي علم أمير المؤمنين براءَتك منه، وصِدْقَ نيّتك في برِّك وقولك، وأنَّك لم تؤهّل نفسك لما قُرفْتَ بطلبه، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين ـ بذلك نلاحظ هنا كيف يستخدم المغالطات، فهو يريد أن يضعه تحت الإقامة الجبريّة، لكنه يحاول أن يستخدم اللين واللطف في رسالته ـ وأمير المؤمنين مشتاقٌ إليك، يحبُّ إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نَشِطْتَ لزيارته والمُقامَ قبلَه ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مُهلة وطمأنينة، ترحلُ إذا شئت وتنزل إذا شئت وتسير كيف شئت، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هَرْثَمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرتحلون برحيلك ويسيرون بسيرك، فالأمرُ في ذلك إليك، وقد تقدّمنا إليه بطاعتك، فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحَدٌ من إخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطفَ منه منزلةً، ولا أحمَدَ له أثَرَةً، ولا هو لهم أنْظَرَ، وعليهم أشْفَقَ، وبهم أبرَّ، وإليهم أسْكَنَ، منه إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"(16)..
وقد عانى الإمام الهادي(ع) من تصرّفات المتوكّل الكثير، فاستدعاؤه من المدينة إلى سامرّاء، كان من أجل محاصرته وإبعاده عن الجمهور المسلم الذي كان ينتفع به ويعظّمه، لأنَّ الخلفاء العباسيّين الذين كانوا يعيشون البعد عن روحية الدين في مستوى الالتزام الشرعيّ، كانوا يضيقون بأيِّ إمام من الأئمة(ع) المعاصرين لهم.. وكانت مشكلة أيِّ إمام أيضاً من أئمة أهل البيت(ع) مع خلفاء زمانه الذين انحرفوا عن الخطّ فكراً وعملاً، أنَّ الخلافة تحوّلت عندهم إلى مُلْك يمارسون فيها كلَّ ذهنيات المُلك وتقاليده، بدلاً من أن تكون الخلافة عنواناً لحركة الإسلام في ما ائتمن الله عليه المسلمين من هذه الأمانة الفكريّة والروحيّة والقوليّة والعمليّة، لأنَّ مسألة الإسلام ليست طبقيّة يتحمّل فريقٌ مسؤوليتها دون فريق، فليس في الإسلام كهنوت، ولكنْ في الإسلام قيادةٌ شرعيّة تحمل المسؤوليّة لتتعاون معها الأمّة على ممارسة هذه المسؤوليّة، ولذلك، لا بدَّ أن يحمل القائد الرسالة كلَّها، ولا بدَّ أن يعيش الناس الذين يتحرّكون معه في قيادته الإسلامية الرسالة كلَّها.. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {محمدٌ رسولُ اللهِ والّذين معه أشدّاءُ على الكفّار رحماءُ بينهم تراهُم رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُون فضلاً من الله ورضواناً سيماهُم في وجوههم من أثرِ السّجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومَثَلُهم في الإنجيل} [الفتح:29]، وهذا يعني أن تنطلق القيادة لتحتوي القاعدة، لتعطي كلَّ قوّتها وجهدها للقيادة.. وهذا ما عاشه الأئمة من أهل البيت(ع) مع الناس، كما لو كان الإمامُ أحدَهم، حيث عاشوا معهم كلَّ مشاكلهم في ما يتخبّط فيه النّاس من المشاكل بحاضرهم، وأجابوا عن كلِّ سؤال يطوف في وجدان النّاس، وواجهوا كلَّ التحديات التي كان يوجّهها الكفر والضلال للواقع الثقافي والعمليّ، وكانوا لا يهدأون، ولذلك كانوا يعيشون الامتداد في ساحة الأمة، وكانت لهم مواقعهم ووكلاؤهم الذين لم يكونوا مجرّد جباة أموال، ولكنهم كانوا الوسطاء بينهم وبين الأمة في ما يرسلونه إليهم من أسئلة، وفي ما يخبرونهم به من مشاكل وأوضاع وتحديات.
المصادر:
(11)أعلام الورى، ص:339.
(12)بحار الأنوار، ج:5، ص:209.
(13)مسند الإمام الهادي للعطاردي، ص:49.
(14)المصدر السابق.
(15)المصدر نفسه، ص:35.
(16)الإرشاد للمفيد، ص:309 وما يليها. إن هذه الرسالة تمثل الأسلوب الدبلوماسي الذي كان يتبعه المتوكل مع الإمام الهادي(ع) في التأكيد على ثقته به وعدم استماعه لأقوال الوشاة حتى من ولاته، وذلك من أجل تشجيع الإمام على القدوم إلى مركز الخلافة ليعزله عن موقع القوة للإمامة في مكة والمدينة، وليبقى تحت رقابته بأسلوب ترك الأمر إليه بالاستخارة لله في ذلك، في الوقت الذي يعرف الجميع في ذلك أنه موقف ضغط بطريقة المحبة والمودة..
عانى الإمام الهادي(ع) الكثير من خلفاء بني العبّاس، فقد عاش مع "المعتصم" في بقية خلافته، ثم ملك "الواثق" خمس سنين وسبعة أشهر، ثم ملك "المتوكّل" أربع عشرة سنة، ثم ملك ابنه المنتصر أشهراً، ثم ملك "المستعين" سنتين وتسعة أشهر، ثم ملك "المعتزّ" ثماني سنين وستة أشهر(11).. ومع كلِّ مَن عاصرهم الإمام(ع) عانى الكثير، ولكن نتوقف عند زمن المتوكّل الذي استدعاه إلى مدينة الخلافة في سامرّاء من أجل أن يكون تحت رقابته، لهذا كتب كتاباً حمّله إلى يحيى بن هرثمة، "فأوصل الكتاب إلى بريحة، وركبا جميعاً إلى أبي الحسن (لهادي) فأوصلا إليه كتاب المتوكّل، فاستأجلهما ثلاثاً، فلما كان بعد ثلاث عادا إلى داره، فوجدا الدوابّ مُسرَجةً والأثقال مشدودة قد فرغ منها، فخرج متوجّهاً نحو العراق (من المدينة) واتّبعه بريحة مشيّعاً"(12).
هنا نلاحظ أن بريحة شعر ـ وهذا ما يستفيده كلُّ مَن يتجسّس لصالح الظالمين ـ أنّ المتوكّل كان مليئاً بالاحترام للإمام الهادي(ع)، "وكتب معه إلى أبي الحسن كتاباً جليلاً يعرّفه أنَّه قد اشتاق إليه ويسأله القدوم عليه"، وخاف أن يتحدّث الإمام مع المتوكّل ضدّه، وربما يعاقبه المتوكّل على ما فعله ضدّ الإمام، فحاول أن يهدّد الإمام بأنّه إذا تكلّم مع المتوكل بما يُسيء إليه، فسوف يصادر أملاكه وينال من أهله في المدينة، لأنَّه في موقع القوّة، وهو صاحب الصلاة والحرب، »فلما صار في بعض الطريق، قال له بريحة: قد علمت وقوفك على أنّي كنت السبب في حملك، وعليَّ حلْفٌ بأيمانٍ مغلّظةٍ لئن شكوتني إلى أمير المؤمنين أو إلى أحدٍ من خاصّته وأبنائه، لأجمرنّ نخلك، ولأقتلنّ مواليك، ولأعورنّ عيون ضيعتك، ولأفعلن ولأصفنّ"(13).
كُلُّ ذلك من أجل أن يحمي نفسه بهذا التهديد، وحتى لا يُخبر الإمامُ(ع) المتوكّل بما صنعه معه.. وهنا نلاحظ عظمة الإمام وأخلاقيته من خلال ردِّ فعله، »فالتفت إليه أبو الحسن (الهادي)، فقال له: "إنَّ أقرب عرضي إيّاك على الله البارحة وما كنتُ لأعرضنّك عليه، ثم لأشكونَّك إلى غيره من خلقه"(14).
فالإمام(ع) يقول له: لقد عرضتُ أمرك على الله إذ دعوتهُ عليك أمس، وعندما يسيء إليَّ أحدٌ فأنا أعرض أمره على الله، لأنَّه هو القادر على أن يقتصَّ منه، فلا يمكن أن أشكوك إلى أحد من خلقه، فمن كانت علاقته مع الله تعالى في كلِّ ما يهمه وما يُعْرَض عليه، لا يمكن أن يُدخل المخلوقين في ما طرحه على الله.. ويبدو أن (بريحة) اهتزَّ من كلام الإمام(ع) وارتعد، "فانكبَّ عليه بريحة وضرع إليه واستعفاه، فقال له: قد عفوتُ عنك"(15). وهكذا أعطى الإمام هذا الرجل درساً روحياً في ارتباط أولياء الله بالدرجة التي تجعلهم يرجعون إليه بالرجاء والدعاء عند تعرضهم للظلم، بحيث لا يرون أيّ مسوّغ للاستعانة بغيره، حتى في ما يمكن أن يبلغوا به مقاصدهم، وهذا ما جعل هذا الرجل يخشع ويخاف من سطوة الله، من خلال معرفته بأنّ دعاء الإمام لا يُردَّ، لما يعرفه من روحانيته وورعه وقربه إلى الله.
رسالة المتوكّل إلى الإمام(ع)
ونحاول أن نقرأ أيضاً رسالة المتوكّل التي وجّهها إلى الإمام(ع)، ويمكن هنا ملاحظة أسلوب الخلفاء في تعاملهم مع الشخصيّات المهمّة ذات الموقع الإيماني المؤثّر في المجتمع، "وكان سبب شخوص أبي الحسن(ع) إلى سُرَّ من رأى (سامراء)، أنَّ عبد الله بن محمّد كان يتولّى الحربَ والصلاة في مدينة الرسول(ع)، فسعى بأبي الحسن(ع) إلى المتوكّل وكان يقصده بالأذى، وبلغ أبا الحسن سعايته به، فكتب إلى المتوكّل يذكر تَحامُل عبد الله بن محمّد ويُكذّبه في ما سعى به، فتقدّم المتوكّل بإجابته عن كتابه ودعائه فيه إلى حضور العسكر (منطقة في سامرّاء) على جميلٍ من الفعل والقول، فخرجت نسخة الكتاب، وهي: بسم الله الرحمن الرحيم، أما بعد: فإنَّ أمير المؤمنين عارف بَقَدْرِكَ، راعٍ لقرابتك، موجبٌ لحقِّك، مُؤْثِرٌ من الأمور فيك وفي أهل بيتك ما يُصلح الله به حالك وحالَهم، ويُثبت به عزَّك وعزّهم، ويُدْخِلُ الأمر عليك وعليهم، يبتغي بذلك رضى ربِّه وأداءَ ما افُترِض عليه فيك وفيهم ـ فهو يعرف أنَّ هناك واجباً أو فريضة في احترام أهل البيت(ع) ـ وقد رأى أمير المؤمنين صَرْفَ عبد الله بن محمد عما كان يتولاّه من الحرب والصلاة بمدينة الرسول(ص)، إذ كان على ما ذكرت من جهالته بحقِّك واستخفافه بقدرك، وعندما قَرَفك (اتّهمك) به ونسبك إليه من الأمر الذي علم أمير المؤمنين براءَتك منه، وصِدْقَ نيّتك في برِّك وقولك، وأنَّك لم تؤهّل نفسك لما قُرفْتَ بطلبه، وقد ولّى أمير المؤمنين ما كان يلي من ذلك محمد بن الفضل، وأمره بإكرامك وتبجيلك والانتهاء إلى أمرك ورأيك، والتقرّب إلى الله وإلى أمير المؤمنين ـ بذلك نلاحظ هنا كيف يستخدم المغالطات، فهو يريد أن يضعه تحت الإقامة الجبريّة، لكنه يحاول أن يستخدم اللين واللطف في رسالته ـ وأمير المؤمنين مشتاقٌ إليك، يحبُّ إحداث العهد بك والنظر إليك، فإن نَشِطْتَ لزيارته والمُقامَ قبلَه ما أحببت شخصت ومن اخترت من أهل بيتك ومواليك وحشمك على مُهلة وطمأنينة، ترحلُ إذا شئت وتنزل إذا شئت وتسير كيف شئت، وإن أحببت أن يكون يحيى بن هَرْثَمة مولى أمير المؤمنين ومن معه من الجند يرتحلون برحيلك ويسيرون بسيرك، فالأمرُ في ذلك إليك، وقد تقدّمنا إليه بطاعتك، فاستخر الله حتى توافي أمير المؤمنين، فما أحَدٌ من إخوته وولده وأهل بيته وخاصّته ألطفَ منه منزلةً، ولا أحمَدَ له أثَرَةً، ولا هو لهم أنْظَرَ، وعليهم أشْفَقَ، وبهم أبرَّ، وإليهم أسْكَنَ، منه إليك، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته"(16)..
وقد عانى الإمام الهادي(ع) من تصرّفات المتوكّل الكثير، فاستدعاؤه من المدينة إلى سامرّاء، كان من أجل محاصرته وإبعاده عن الجمهور المسلم الذي كان ينتفع به ويعظّمه، لأنَّ الخلفاء العباسيّين الذين كانوا يعيشون البعد عن روحية الدين في مستوى الالتزام الشرعيّ، كانوا يضيقون بأيِّ إمام من الأئمة(ع) المعاصرين لهم.. وكانت مشكلة أيِّ إمام أيضاً من أئمة أهل البيت(ع) مع خلفاء زمانه الذين انحرفوا عن الخطّ فكراً وعملاً، أنَّ الخلافة تحوّلت عندهم إلى مُلْك يمارسون فيها كلَّ ذهنيات المُلك وتقاليده، بدلاً من أن تكون الخلافة عنواناً لحركة الإسلام في ما ائتمن الله عليه المسلمين من هذه الأمانة الفكريّة والروحيّة والقوليّة والعمليّة، لأنَّ مسألة الإسلام ليست طبقيّة يتحمّل فريقٌ مسؤوليتها دون فريق، فليس في الإسلام كهنوت، ولكنْ في الإسلام قيادةٌ شرعيّة تحمل المسؤوليّة لتتعاون معها الأمّة على ممارسة هذه المسؤوليّة، ولذلك، لا بدَّ أن يحمل القائد الرسالة كلَّها، ولا بدَّ أن يعيش الناس الذين يتحرّكون معه في قيادته الإسلامية الرسالة كلَّها.. وهذا ما نستوحيه من قوله تعالى: {محمدٌ رسولُ اللهِ والّذين معه أشدّاءُ على الكفّار رحماءُ بينهم تراهُم رُكّعاً سُجّداً يَبْتَغُون فضلاً من الله ورضواناً سيماهُم في وجوههم من أثرِ السّجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومَثَلُهم في الإنجيل} [الفتح:29]، وهذا يعني أن تنطلق القيادة لتحتوي القاعدة، لتعطي كلَّ قوّتها وجهدها للقيادة.. وهذا ما عاشه الأئمة من أهل البيت(ع) مع الناس، كما لو كان الإمامُ أحدَهم، حيث عاشوا معهم كلَّ مشاكلهم في ما يتخبّط فيه النّاس من المشاكل بحاضرهم، وأجابوا عن كلِّ سؤال يطوف في وجدان النّاس، وواجهوا كلَّ التحديات التي كان يوجّهها الكفر والضلال للواقع الثقافي والعمليّ، وكانوا لا يهدأون، ولذلك كانوا يعيشون الامتداد في ساحة الأمة، وكانت لهم مواقعهم ووكلاؤهم الذين لم يكونوا مجرّد جباة أموال، ولكنهم كانوا الوسطاء بينهم وبين الأمة في ما يرسلونه إليهم من أسئلة، وفي ما يخبرونهم به من مشاكل وأوضاع وتحديات.
المصادر:
(11)أعلام الورى، ص:339.
(12)بحار الأنوار، ج:5، ص:209.
(13)مسند الإمام الهادي للعطاردي، ص:49.
(14)المصدر السابق.
(15)المصدر نفسه، ص:35.
(16)الإرشاد للمفيد، ص:309 وما يليها. إن هذه الرسالة تمثل الأسلوب الدبلوماسي الذي كان يتبعه المتوكل مع الإمام الهادي(ع) في التأكيد على ثقته به وعدم استماعه لأقوال الوشاة حتى من ولاته، وذلك من أجل تشجيع الإمام على القدوم إلى مركز الخلافة ليعزله عن موقع القوة للإمامة في مكة والمدينة، وليبقى تحت رقابته بأسلوب ترك الأمر إليه بالاستخارة لله في ذلك، في الوقت الذي يعرف الجميع في ذلك أنه موقف ضغط بطريقة المحبة والمودة..