الفساد بما كسبت أيدي النّاس

الفساد بما كسبت أيدي النّاس
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

 

الفساد في الأرض

الفساد بما كسبت أيدي النّاس
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الرّوم:41]. ويقول سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشّورى:30].

يؤكد الله تعالى في هاتين الآيتين، وفي غيرهما من الآيات الكريمة، حقيقة الأمن الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والسياسيّ. فالفساد والفوضى لم ينـزلا من الله تعالى على النّاس بشكلٍ مباشر، والفتنة التي تتحرّك في حياتهم، والانحرافات الأخلاقيّة، والأمراض التي قد تصيبهم، والمشاكل الماليّة والاقتصاديّة؛ ليست عقوبةً من الله سبحانه للنّاس في الدّنيا على ما فعلوه، بل هي منطلقة من فعل النّاس، فهم الّذين يتحرّكون في سلوكهم بما يؤدّي إلى فساد حياتهم، والفساد قد يحصل  أيضاً بفعل السّكوت عن المنكر وعدم محاربة البغي والطّغيان، وتمرير المشكلات الإنسانيّة من دون أيّة معالجة.

وهكذا، يؤكّد الله تعالى هذه الحقيقة، ليقول للنَّاس: إنّ المشاكل والمصائب التي تنـزل بكم تحدث من خلال ما كسبتْ أيديكم، سواء في البرّ أو في البحر، وهو ما نلاحظه في هذه الأيّام، وتحديداً في ما  أُثير أخيراً من عمليّات  القرصنة التي تمارسها بعض الشّعوب في مناطق مختلفة من العالم، من أجل الإساءة إلى أمن البحار والخلجان، ومصادرة السّفن التي تحمل للنّاس بضائعهم من بلد إلى بلد، وقد قيل إنّ هذه المسألة لم تنطلق من خلال أوضاع فرديّة، بل إنّ هناك محاور دوليّةً لها مصالح استراتيجيّة تشجّع هذا الواقع وتحميه بوسائلها الخاصّة.

الفساد السياسيّ وليد الفتنة
ونلاحظ ذلك أيضاً في ما يحدث من فتنٍ داخليّة دامية، كما في الصّومال، حيث يقتل النّاس بعضهم بعضاً، وكما في السّودان، حيث تتحرّك الأوضاع الأمنيّة من خلال القتال الّذي يدور بين الأحزاب التي ينتمي بعضها إلى هذا المحور وبعضها الآخر إلى محور آخر، أو العشائر التي تحاول أن يقضي بعضُها على بعض، مما يذوق النّاس مرارته، ويقعون في أضراره، فهذا ممّا يمكن التّعبير عنه بـ(ما كسبت أيدي النّاس)

وهكذا نجد في العالم، بما فيه العالم الإسلاميّ، كيف أنّ الّذين يحكمون النّاس ظلماً وعدواناً، ومن خلال المخابرات المحليّة أو قوانين الطّوارئ، يضغطون على حريّات النّاس، ويفرضون عليهم الأوضاع السّلبيّة، ليعيش النّاس في حالٍ من الجوع والحرمان والاهتزاز الأمنيّ والاقتصاديّ، في الوقت الذي نرى أن النّاس لا تثور على هؤلاء، ولا تعمل على إسقاطهم، بل إنهم يطيعونهم طمعاً في الحصول على بعض المكاسب أو الوظائف، وهذا ما نلاحظه في الانتخابات التي يُنتخب فيها بعض الرّؤساء، بحيث يستمرّون لأكثر من عشرين أو ثلاثين سنةً، لأنّ هذه الانتخابات تفرض على النّاس اسماً معيّناً يقول النّاس عنه إنّه رئيس جمهوريّة، ولكنّه في الوقت نفسه يشبه موقع الملك الذي يمتدّ في حكمه ويحاول أن يورّث أبناءه هذا الحكم.

ونلاحظ أيضاً كيف أنّ بعض النّاس يتعاونون مع الاحتلال الذي يضغط على حريّاتهم واقتصادهم وعلى كلّ أوضاعهم الأمنيّة، من أجل أن يصادر اقتصادهم لمصلحة اقتصاده، وسياستهم لمصلحة سياسته، وليؤكّد مصالحه الاستراتيجيّة على حساب إسقاط مصالح الشّعوب الاستراتيجية، ولا نجد هناك من يثور على ذلك. وهذا ما نشاهده في العراق وأفغانستان وباكستان، وفي فلسطين الشّهيدة، وفي المسجد الأقصى، وما إلى ذلك من الأمور التي لا نجد لها من الجهات التي تعتبر نفسها مسؤولةً عن العرب والمسلمين، أيّ ردّ فعل أو مقاومة أو دعم، بل تكتفي بالقرارات التي لا قيمة لها، فهم لا يضغطون على المحتلّ، ولا على الذين يسيئون إلى مقدّساتنا، كما في المسجد الأقصى.

الفساد الاقتصاديّ والاجتماعيّ
وهذا ما نراه ـ أيضاً ـ في الأزمة الماليّة الكونيّة التي صادرت وسرقت الكثير من الأرصدة التي كان يضعها أصحابها، ولا سيّما من أثرياء العرب، ممن يسيطرون على البترول والثّروات العربيّة في أعماق الأرض وسطحها، ونجدهم يحرمون شعوبهم من حاجاتهم، ويحرمون بلادهم من أن تأخذ بأسباب القوّة الاقتصاديّة والوسائل الصناعيّة.

وعندما نتحرّك في الواقع الاجتماعيّ، في مجتمعاتنا الإسلاميّة، نعرف أنّه في مناطقنا هذه وفي غيرها من المناطق، هناك من يتاجر بالمخدّرات ويتعاطاها، وهناك من يعمل على نشر الفساد والاعتداء على الأعراض والقيام بالسّرقات؛ فنحن نسمع في كلّ يوم بعمليّات سطو على بيوتٍ وسيّارات، حتى بات النّاس لا يأمنون على أنفسهم في بيوتهم وشوارعهم، من دون أن نجد من ينكر ذلك إنكاراً عمليّاً. وقد ورد في الحديث الشّريف: "من رأى منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

إنَّنا نلاحظُ أنَّ الكثيرين منَّا إذا أجرمَ بعض أقربائهم أو أصدقائهم أو محازبيهم، فإنهم يبذلون الغالي والنَّفيس من أجل الدِّفاع عنهم، وذلك حين يخصِّصون لهم محامياً للدِّفاع عنهم، وهذا مما يشجِّع الجريمة والمجرمين. وهكذا نجد كيف أنَّ الكثيرين من الزّعامات الطّائفيّة والمذهبيّة تخلق الفتنة في المجتمع، وتدافع عن المجرمين، من أجل أن يلتفّ النّاس حولهم كرمزٍ للمذهب أو الطَّائفة. وقد رأينا كيف أنَّ أمريكا التي تتحدّث عن حقوق الإنسان ـ وهي تكذب في ذلك ـ تضغط على بعض الدُّول من أجل تهجير بعض المواطنين المسلمين والعرب، وهذا ما يحدث في الإمارات، حيث يُهجَّرُ الكثيرُ من النّاس من دون ذنبٍ جَنوْه، إلا لأنهم ينتمون إلى مذهبٍ معيَّن. وأمريكا، وفرنسا معها، يريدان أن يفرِّغا هذا البلد من أهل هذا المذهب، على أساس أنّه يمثّل الخليّة النّائمة.

يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ـ وعلى النّاس أن يواجهوا هذا الفساد إذا أرادوا أن يعيشوا بسلام ـ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، فعليكم أن تعملوا بوسيلةٍ وبأخرى لمواجهة هذا الفساد وإسقاطه. وإذا كان النّاس يشكون مما يحدث لهم من هذه الفوضى والفتن والفساد، فإنَّ عليهم أن يتذكّروا قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11]، فإنَّ عليكم أن تغيِّروا الذهنيّة التعصّبيّة التي تتعصّب للمجرمين والطَّائفيين والمذهبيّين وما إلى ذلك.

نماذج من (المفسدين في الأرض)
ويحدّثنا رسول الله(ص) عن حال وقوف الأقوياء في المجتمع ضدّ الضّعفاء، ليصادروا أمنهم وحياتهم. يقول(ص): "كيف يقدِّس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم". فعلى الأمّة أن تعمل على أساس أن تقف ضدّ الأقوياء، لتكون الأمّة في موقع القوّة ضدّ هؤلاء الّذين يسعون في الأرض فساداً.

ويحدِّثنا الله تعالى عن بعض المفسدين الَّذين عاشوا في التّاريخ، يقول تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ـ جعلهم فرقاً يحارب بعضهم بعضاً، وهذا ما نراه في الزَّعامات التي تعمل على تفريق المجتمع الواحد وتمزيقه ـ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4]. كان من الّذين أفسدوا الواقع الإنسانيّ من خلال سياسته وظلمه وجبروته.

ويحدّثنا الله تعالى عن الطّاغية والمفسد الماليّ قارون. يقول تعالى: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ـ لا يأخذك فرح البطر ـ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ـ المتكبّرين ـوَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ـ ليكن مالُكَ وسيلةً من وسائل تحقيق ما أراده الله ـ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ـ فلا يحرمك الله من أن تستغلّ أموالك في حاجاتك من حلال ـ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:76ـ77]. ولكنّ هذا الرّجل انتفخ وأخذه الطّغيان، فأذاقه الله نتيجة عمله، وأنزل عليه العذاب بما أفسد في مجتمعه.

فساد النّاس من فساد العلماء والأمراء
وورد عن رسول الله(ص): "صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي، وإذا فسدا فسدت أمتي". قيل: يا رسول الله، ومَن هما؟ قال: "الفقهاء والأمراء". فإذا فسد الفقهاء ولم يقوموا بمهمّتهم ورسالتهم في إرشاد النّاس وتوعيتهم، ولم يعملوا بما يملكونه من علم، بل حاولوا أن يقدّموا إلى النّاس علماً لا حقّ فيه، وباطلاً يصوّرونه لهم على أنّه الحقّ، ويعملون على أساس الاتّجار بالدّين ليكون الدّين مجرّد تجاره يتعيّشون منها، فإنّ الناس ستفسد بطبيعة الحال. وهكذا الأمر بالنّسبة إلى الأمراء الذين يحكمون النّاس بغير الحق والعدل، فإذا فسدوا، فإنّ المجتمع سيفسد لا محالة.

وهناك فريقٌ من النّاس، من المفسدين في عقائدهم وسلوكهم وبرامجهم وأوضاعهم، إذا حدّثتهم عن فسادهم، فإنهم يستنكرون عليك ذلك، ويقدّمون أنفسهم على أنهم هم المصلحون. لذلك علينا أن نحذّر النّاس منهم، يقول تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}[البقرة:11ـ12].
إنّ على الأمّة كلّها أن تعمل لمعالجة قضايا الفساد الاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والأمنيّ، حتى يسلم للمجتمع توازنه وأمنه واستقامته.

بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية

التَّهويد الكامل للقدس
في المشهد الفلسطينيّ، تتواصل الحرب الإسرائيليَّة على الشَّعب الفلسطينيّ، ويحاول العدوّ معها الدّخول إلى مرحلةٍ جديدة، يعمل من خلالها على التَّهويد الكامل للقُدس، وتهجير ما تبقّى من الفلسطينيّين، فضلاً عن ضرب حقّ العودة.

وفي الخطِّ نفسه الّذي لعب فيه العدوّ على ذهنيَّة العرب والمسلمين، من طريق إجراء مصافحاتٍ مع رجال دين مسلمين، من أجل الانحراف بقضيَّة فلسطين عن مبدئها، يتحرّك العدوّ من جديد، لتدنيس المسجد الأقصى من خلال إفساح المجال لاقتحامه من قبل المستوطنين المحتلّين، في محاولةٍ لإسقاط هيبته من نفوس المسلمين؛ ولإنهاء حصريّة الوجود الإسلاميّ فيه، وتمهيد السّبيل لإدخاله في دائرة التّهويد الكلّي.

انتهاك المسجد الأقصى
وإنّنا نرى في هذه الحركة الأخيرة تجاه تدنيس المسجد الأقصى، إضافةً إلى عمليّة الاعتقال التي طالت أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين المقدسيّين، بحجّة منعهم من التّحضير لانتفاضةٍ جديدة، إضافةً إلى التّحقيق مع رئيس الهيئة الإسلاميّة العليا في القدس (الشيخ عكرمة صبري)، محاولةً لفرض أمرٍ واقع على الفلسطينيّين والعرب والمسلمين، بأنّ القدس، والمسجد الأقصى ضمناً، باتت شأناً إسرائيليّاً، وأنّ عليهم أن يتقبّلوا ـ من الآن وصاعداً ـ عمليّات الاقتحام القادمة، الهادفة إلى الاستيلاء على الأقصى، لأنّ العدوّ لا يعمل لمصادرة المستقبل فحسب فيما يتّصل بالوجود الفلسطينيّ في القدس وغيرها، بل يسعى أيضاً لمحو آثار التّاريخ، ولذلك فهو يتحرّك لشطب الآثار الإسلاميّة والمسيحيّة من كلّ المواقع الفلسطينيّة التاريخيّة.

تفويض دوليّ لحركة الاحتلال الصّهيونيّة
إنَّنا نعرف تماماً أنَّ العدوّ ما كان ليصل إلى هذا المستوى في عدوانه وفي تدنيسه لأولى القبلتين، لولا التّفويض الذي أُعطي له دوليّاً، وخصوصاً من الإدارة الأمريكيّة، التي لا تختلف حركتها الاحتلاليّة تجاه العالم الإسلاميّ عن الحركة الصّهيونيّة في فلسطين، كما نعرف أنّ العدوَّ ما كان ليتمادى إلى هذا الحدّ لو أنَّ العالم العربيّ والإسلاميّ قام بخطوةٍ عمليَّةٍ واحدةٍ لوقف الزَّحف الصّهيونيّ باتّجاه قلب القدس والأقصى وباتّجاه فلسطين كلّها، لا بل باتّجاه كلِّ نقطةٍ يحسب أنّ له مطمعاً فيها، في طول العالم العربيّ والإسلاميّ وعرضه، مما يُمكن أن تنفتح عليه حركة التّنازل العربيّ والإسلاميّ.

 دعم الصّمود الفلسطينيّ
ولذلك، فإنَّنا في الوقت الذي نشدّ على أيدي الشَّعب الفلسطينيّ المجاهد، الّذي لم يترك فرصةً للدّفاع عن المسجد الأقصى إلا وعمل على استغلالها وتفعيل حركته فيها؛ ندرك أنّ هذا الشّعب الصّابر والصّامد، قد حُمّل ما تنوء بحمله الجبال، وقد استهلكته النّداءات والمطالب بما أثقل كاهله، ولذلك فنحن نتوجّه إلى الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، لكي تعين هذا الشّعب على صموده، ونقول لها: إذا كانت الأنظمة تتحيّن الفرص للتّطبيع مع العدوّ، وتسعى ـ بمناسبةٍ وبدون مناسبة ـ لتقديم المزيد من التّنازلات المذلّة في سعيها المستمرّ للتحرّر من القضيّة كلّها، فإنّ على الطّاقات الحيّة في الأمّة، أن تسعى لإيجاد الخطوات العمليّة الضّروريّة التي من شأنها دعم صمود الفلسطينيّين، وخصوصاً في القدس.

وإنّ المرجعيّات الدّينيّة والسّياسيّة معنيّة بالسّعي لرفد حركة المقاومة الفلسطينيّة، ولتهيئة الأجواء لولادة انتفاضةٍ فلسطينيّةٍ جديدةٍ تتحرّك فيها الأوساط الشَّعبيَّة إلى جانب الحركة الأمنيَّة بما يؤدّي إلى تخفيف الضَّغط عن الفلسطينيّين، ومنع العدوّ من إحكام قبضته على القضيّة الفلسطينيّة، واحتلال الذّاكرة بعد احتلال الأرض والمقدّسات.

التَّناقض العربيّ في تحديد عدوّ المنطقة
وفي المشهد العربيّ، نرى الدّول العربيّة تنظر إلى التّجارب الصّاروخيّة الإيرانيّة نظرة عداوة، وتعتبرها حركة استفزازٍ لا حركةً دفاعيّةً من دولة يهدّدها عدوٌّ يملك أنياباً نوويّةً، فهي لا ترى في الغوّاصات الألمانيّة المهداة إلى إسرائيل استفزازاً، مع كونها مهيّأةً لإطلاق صواريخ برؤوس نوويّة، ومع أنّ هذه الغوّاصات تتمركز بشكلٍ دائمٍ في الخليج والبحر المتوسّط وقبالة السّواحل الفلسطينيّة المحتلّة، كما أنّ هذه الدول لا تنظر إلى الاتّفاقات الإسرائيليّة ـ الأمريكيّة التي تقدّم فيها أمريكا كلّ المعلومات النّوويّة السريّة، بأنها تمثّل استفزازاً للأمن العالميّ، وكذلك المناورات الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة المشتركة، أو المظلّة التكنولوجيّة والصاروخيّة التي تؤمّنها الإدارة الأمريكيّة لكيان العدوّ.. وكأنّ الأمن بات جائزةً غربيّةً في المنطقة لا يحظى بها إلا الاحتلال الصهيونيّ المجرم.

الاقتداء بسياسة إيران
إنَّ أبسط قواعد المنطق السياسيّ، تقتضي أن تحذو الدّول العربيّة والإسلاميّة حذو إيران في تأكيد منطق العزَّة في سياساتها، وفي العمل على بناء القوّة الذاتيّة التي تمكّنها من الوقوف في مواجهة الخطط المذلّة التي يُراد فرضها على الواقع كلّه، وأن تعمل على إيجاد نظام تعاونٍ عربيّ إسلاميّ جدّيّ، يستفيد من نقاط القوَّة التي توصّلت إليها إيران وغيرها، ويعمل على تطويرها في سبيل تحصين الواقع العربيّ والإسلاميّ كلّه ممّا يُحاك له، وخصوصاً بعدما جرّب العرب والمسلمون كلّ شيء في التّعويل على القوى المستكبرة في حلِّ مشاكلهم وقضاياهم.

لبنان رهينة التّنسيق العربيّ!
أمّا لبنان الذي ينتظر هديّةً عربيّةً تنـزل عليه من فضاءات اللّقاءات العربيّة المتجدّدة، فقد بات رهينةً للتّنسيق العربي المفاجئ، بعدما كان رهينةً للخلافات العربيّة ـ العربيّة المتصاعدة، وبات في أتمّ استعداد لاستقبال الأخبار السارّة التي تأتيه من خلف البحار، والتي تفيد بأنّ الإدارة الأمريكيّة الجديدة، ولأسبابٍ قاهرةٍ، أو لمعطياتٍ مستجدّة، قرّرت فعلاً أن تدخل في مرحلة تهدئة مع هذا الموقع العربي أو ذاك، وأن تنتقل من طور التّهديد والوعيد، إلى مرحلة الحوار التي غالباً ما تنعكس آثارها على البلد الصّغير، المتطلّع دائماً إلى من يصنع له سلامه واستقراره، وحتى حكومته، من خارج الحدود.

فهنيئاً للّبنانيّين تفاهم الخارج على داخلهم، وتفاعل الدّاخل مع أخبار التّوافق القادمة إليهم من المحيط... وإلى جولةٍ جديدةٍ من جولات السّجال الداخليّ المحكوم بسقف العلاقات العربيّة ـ العربيّة، والمناخات الدوليّة، وكلّ جولةٍ ولبنان بخير.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

 

الفساد في الأرض

الفساد بما كسبت أيدي النّاس
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}[الرّوم:41]. ويقول سبحانه: {وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ}[الشّورى:30].

يؤكد الله تعالى في هاتين الآيتين، وفي غيرهما من الآيات الكريمة، حقيقة الأمن الاجتماعيّ، والاقتصاديّ، والسياسيّ. فالفساد والفوضى لم ينـزلا من الله تعالى على النّاس بشكلٍ مباشر، والفتنة التي تتحرّك في حياتهم، والانحرافات الأخلاقيّة، والأمراض التي قد تصيبهم، والمشاكل الماليّة والاقتصاديّة؛ ليست عقوبةً من الله سبحانه للنّاس في الدّنيا على ما فعلوه، بل هي منطلقة من فعل النّاس، فهم الّذين يتحرّكون في سلوكهم بما يؤدّي إلى فساد حياتهم، والفساد قد يحصل  أيضاً بفعل السّكوت عن المنكر وعدم محاربة البغي والطّغيان، وتمرير المشكلات الإنسانيّة من دون أيّة معالجة.

وهكذا، يؤكّد الله تعالى هذه الحقيقة، ليقول للنَّاس: إنّ المشاكل والمصائب التي تنـزل بكم تحدث من خلال ما كسبتْ أيديكم، سواء في البرّ أو في البحر، وهو ما نلاحظه في هذه الأيّام، وتحديداً في ما  أُثير أخيراً من عمليّات  القرصنة التي تمارسها بعض الشّعوب في مناطق مختلفة من العالم، من أجل الإساءة إلى أمن البحار والخلجان، ومصادرة السّفن التي تحمل للنّاس بضائعهم من بلد إلى بلد، وقد قيل إنّ هذه المسألة لم تنطلق من خلال أوضاع فرديّة، بل إنّ هناك محاور دوليّةً لها مصالح استراتيجيّة تشجّع هذا الواقع وتحميه بوسائلها الخاصّة.

الفساد السياسيّ وليد الفتنة
ونلاحظ ذلك أيضاً في ما يحدث من فتنٍ داخليّة دامية، كما في الصّومال، حيث يقتل النّاس بعضهم بعضاً، وكما في السّودان، حيث تتحرّك الأوضاع الأمنيّة من خلال القتال الّذي يدور بين الأحزاب التي ينتمي بعضها إلى هذا المحور وبعضها الآخر إلى محور آخر، أو العشائر التي تحاول أن يقضي بعضُها على بعض، مما يذوق النّاس مرارته، ويقعون في أضراره، فهذا ممّا يمكن التّعبير عنه بـ(ما كسبت أيدي النّاس)

وهكذا نجد في العالم، بما فيه العالم الإسلاميّ، كيف أنّ الّذين يحكمون النّاس ظلماً وعدواناً، ومن خلال المخابرات المحليّة أو قوانين الطّوارئ، يضغطون على حريّات النّاس، ويفرضون عليهم الأوضاع السّلبيّة، ليعيش النّاس في حالٍ من الجوع والحرمان والاهتزاز الأمنيّ والاقتصاديّ، في الوقت الذي نرى أن النّاس لا تثور على هؤلاء، ولا تعمل على إسقاطهم، بل إنهم يطيعونهم طمعاً في الحصول على بعض المكاسب أو الوظائف، وهذا ما نلاحظه في الانتخابات التي يُنتخب فيها بعض الرّؤساء، بحيث يستمرّون لأكثر من عشرين أو ثلاثين سنةً، لأنّ هذه الانتخابات تفرض على النّاس اسماً معيّناً يقول النّاس عنه إنّه رئيس جمهوريّة، ولكنّه في الوقت نفسه يشبه موقع الملك الذي يمتدّ في حكمه ويحاول أن يورّث أبناءه هذا الحكم.

ونلاحظ أيضاً كيف أنّ بعض النّاس يتعاونون مع الاحتلال الذي يضغط على حريّاتهم واقتصادهم وعلى كلّ أوضاعهم الأمنيّة، من أجل أن يصادر اقتصادهم لمصلحة اقتصاده، وسياستهم لمصلحة سياسته، وليؤكّد مصالحه الاستراتيجيّة على حساب إسقاط مصالح الشّعوب الاستراتيجية، ولا نجد هناك من يثور على ذلك. وهذا ما نشاهده في العراق وأفغانستان وباكستان، وفي فلسطين الشّهيدة، وفي المسجد الأقصى، وما إلى ذلك من الأمور التي لا نجد لها من الجهات التي تعتبر نفسها مسؤولةً عن العرب والمسلمين، أيّ ردّ فعل أو مقاومة أو دعم، بل تكتفي بالقرارات التي لا قيمة لها، فهم لا يضغطون على المحتلّ، ولا على الذين يسيئون إلى مقدّساتنا، كما في المسجد الأقصى.

الفساد الاقتصاديّ والاجتماعيّ
وهذا ما نراه ـ أيضاً ـ في الأزمة الماليّة الكونيّة التي صادرت وسرقت الكثير من الأرصدة التي كان يضعها أصحابها، ولا سيّما من أثرياء العرب، ممن يسيطرون على البترول والثّروات العربيّة في أعماق الأرض وسطحها، ونجدهم يحرمون شعوبهم من حاجاتهم، ويحرمون بلادهم من أن تأخذ بأسباب القوّة الاقتصاديّة والوسائل الصناعيّة.

وعندما نتحرّك في الواقع الاجتماعيّ، في مجتمعاتنا الإسلاميّة، نعرف أنّه في مناطقنا هذه وفي غيرها من المناطق، هناك من يتاجر بالمخدّرات ويتعاطاها، وهناك من يعمل على نشر الفساد والاعتداء على الأعراض والقيام بالسّرقات؛ فنحن نسمع في كلّ يوم بعمليّات سطو على بيوتٍ وسيّارات، حتى بات النّاس لا يأمنون على أنفسهم في بيوتهم وشوارعهم، من دون أن نجد من ينكر ذلك إنكاراً عمليّاً. وقد ورد في الحديث الشّريف: "من رأى منكراً فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان".

إنَّنا نلاحظُ أنَّ الكثيرين منَّا إذا أجرمَ بعض أقربائهم أو أصدقائهم أو محازبيهم، فإنهم يبذلون الغالي والنَّفيس من أجل الدِّفاع عنهم، وذلك حين يخصِّصون لهم محامياً للدِّفاع عنهم، وهذا مما يشجِّع الجريمة والمجرمين. وهكذا نجد كيف أنَّ الكثيرين من الزّعامات الطّائفيّة والمذهبيّة تخلق الفتنة في المجتمع، وتدافع عن المجرمين، من أجل أن يلتفّ النّاس حولهم كرمزٍ للمذهب أو الطَّائفة. وقد رأينا كيف أنَّ أمريكا التي تتحدّث عن حقوق الإنسان ـ وهي تكذب في ذلك ـ تضغط على بعض الدُّول من أجل تهجير بعض المواطنين المسلمين والعرب، وهذا ما يحدث في الإمارات، حيث يُهجَّرُ الكثيرُ من النّاس من دون ذنبٍ جَنوْه، إلا لأنهم ينتمون إلى مذهبٍ معيَّن. وأمريكا، وفرنسا معها، يريدان أن يفرِّغا هذا البلد من أهل هذا المذهب، على أساس أنّه يمثّل الخليّة النّائمة.

يقول تعالى: {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ ـ وعلى النّاس أن يواجهوا هذا الفساد إذا أرادوا أن يعيشوا بسلام ـ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا}، فعليكم أن تعملوا بوسيلةٍ وبأخرى لمواجهة هذا الفساد وإسقاطه. وإذا كان النّاس يشكون مما يحدث لهم من هذه الفوضى والفتن والفساد، فإنَّ عليهم أن يتذكّروا قول الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}[الرعد:11]، فإنَّ عليكم أن تغيِّروا الذهنيّة التعصّبيّة التي تتعصّب للمجرمين والطَّائفيين والمذهبيّين وما إلى ذلك.

نماذج من (المفسدين في الأرض)
ويحدّثنا رسول الله(ص) عن حال وقوف الأقوياء في المجتمع ضدّ الضّعفاء، ليصادروا أمنهم وحياتهم. يقول(ص): "كيف يقدِّس الله قوماً لا يؤخذ لضعيفهم من شديدهم". فعلى الأمّة أن تعمل على أساس أن تقف ضدّ الأقوياء، لتكون الأمّة في موقع القوّة ضدّ هؤلاء الّذين يسعون في الأرض فساداً.

ويحدِّثنا الله تعالى عن بعض المفسدين الَّذين عاشوا في التّاريخ، يقول تعالى:{إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً ـ جعلهم فرقاً يحارب بعضهم بعضاً، وهذا ما نراه في الزَّعامات التي تعمل على تفريق المجتمع الواحد وتمزيقه ـ يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:4]. كان من الّذين أفسدوا الواقع الإنسانيّ من خلال سياسته وظلمه وجبروته.

ويحدّثنا الله تعالى عن الطّاغية والمفسد الماليّ قارون. يقول تعالى: { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ـ لا يأخذك فرح البطر ـ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ ـ المتكبّرين ـوَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ ـ ليكن مالُكَ وسيلةً من وسائل تحقيق ما أراده الله ـ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ـ فلا يحرمك الله من أن تستغلّ أموالك في حاجاتك من حلال ـ وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}[القصص:76ـ77]. ولكنّ هذا الرّجل انتفخ وأخذه الطّغيان، فأذاقه الله نتيجة عمله، وأنزل عليه العذاب بما أفسد في مجتمعه.

فساد النّاس من فساد العلماء والأمراء
وورد عن رسول الله(ص): "صنفان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي، وإذا فسدا فسدت أمتي". قيل: يا رسول الله، ومَن هما؟ قال: "الفقهاء والأمراء". فإذا فسد الفقهاء ولم يقوموا بمهمّتهم ورسالتهم في إرشاد النّاس وتوعيتهم، ولم يعملوا بما يملكونه من علم، بل حاولوا أن يقدّموا إلى النّاس علماً لا حقّ فيه، وباطلاً يصوّرونه لهم على أنّه الحقّ، ويعملون على أساس الاتّجار بالدّين ليكون الدّين مجرّد تجاره يتعيّشون منها، فإنّ الناس ستفسد بطبيعة الحال. وهكذا الأمر بالنّسبة إلى الأمراء الذين يحكمون النّاس بغير الحق والعدل، فإذا فسدوا، فإنّ المجتمع سيفسد لا محالة.

وهناك فريقٌ من النّاس، من المفسدين في عقائدهم وسلوكهم وبرامجهم وأوضاعهم، إذا حدّثتهم عن فسادهم، فإنهم يستنكرون عليك ذلك، ويقدّمون أنفسهم على أنهم هم المصلحون. لذلك علينا أن نحذّر النّاس منهم، يقول تعالى:{وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لا يَشْعُرُونَ}[البقرة:11ـ12].
إنّ على الأمّة كلّها أن تعمل لمعالجة قضايا الفساد الاجتماعيّ والاقتصاديّ والثقافيّ والأمنيّ، حتى يسلم للمجتمع توازنه وأمنه واستقامته.

بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية

التَّهويد الكامل للقدس
في المشهد الفلسطينيّ، تتواصل الحرب الإسرائيليَّة على الشَّعب الفلسطينيّ، ويحاول العدوّ معها الدّخول إلى مرحلةٍ جديدة، يعمل من خلالها على التَّهويد الكامل للقُدس، وتهجير ما تبقّى من الفلسطينيّين، فضلاً عن ضرب حقّ العودة.

وفي الخطِّ نفسه الّذي لعب فيه العدوّ على ذهنيَّة العرب والمسلمين، من طريق إجراء مصافحاتٍ مع رجال دين مسلمين، من أجل الانحراف بقضيَّة فلسطين عن مبدئها، يتحرّك العدوّ من جديد، لتدنيس المسجد الأقصى من خلال إفساح المجال لاقتحامه من قبل المستوطنين المحتلّين، في محاولةٍ لإسقاط هيبته من نفوس المسلمين؛ ولإنهاء حصريّة الوجود الإسلاميّ فيه، وتمهيد السّبيل لإدخاله في دائرة التّهويد الكلّي.

انتهاك المسجد الأقصى
وإنّنا نرى في هذه الحركة الأخيرة تجاه تدنيس المسجد الأقصى، إضافةً إلى عمليّة الاعتقال التي طالت أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين المقدسيّين، بحجّة منعهم من التّحضير لانتفاضةٍ جديدة، إضافةً إلى التّحقيق مع رئيس الهيئة الإسلاميّة العليا في القدس (الشيخ عكرمة صبري)، محاولةً لفرض أمرٍ واقع على الفلسطينيّين والعرب والمسلمين، بأنّ القدس، والمسجد الأقصى ضمناً، باتت شأناً إسرائيليّاً، وأنّ عليهم أن يتقبّلوا ـ من الآن وصاعداً ـ عمليّات الاقتحام القادمة، الهادفة إلى الاستيلاء على الأقصى، لأنّ العدوّ لا يعمل لمصادرة المستقبل فحسب فيما يتّصل بالوجود الفلسطينيّ في القدس وغيرها، بل يسعى أيضاً لمحو آثار التّاريخ، ولذلك فهو يتحرّك لشطب الآثار الإسلاميّة والمسيحيّة من كلّ المواقع الفلسطينيّة التاريخيّة.

تفويض دوليّ لحركة الاحتلال الصّهيونيّة
إنَّنا نعرف تماماً أنَّ العدوّ ما كان ليصل إلى هذا المستوى في عدوانه وفي تدنيسه لأولى القبلتين، لولا التّفويض الذي أُعطي له دوليّاً، وخصوصاً من الإدارة الأمريكيّة، التي لا تختلف حركتها الاحتلاليّة تجاه العالم الإسلاميّ عن الحركة الصّهيونيّة في فلسطين، كما نعرف أنّ العدوَّ ما كان ليتمادى إلى هذا الحدّ لو أنَّ العالم العربيّ والإسلاميّ قام بخطوةٍ عمليَّةٍ واحدةٍ لوقف الزَّحف الصّهيونيّ باتّجاه قلب القدس والأقصى وباتّجاه فلسطين كلّها، لا بل باتّجاه كلِّ نقطةٍ يحسب أنّ له مطمعاً فيها، في طول العالم العربيّ والإسلاميّ وعرضه، مما يُمكن أن تنفتح عليه حركة التّنازل العربيّ والإسلاميّ.

 دعم الصّمود الفلسطينيّ
ولذلك، فإنَّنا في الوقت الذي نشدّ على أيدي الشَّعب الفلسطينيّ المجاهد، الّذي لم يترك فرصةً للدّفاع عن المسجد الأقصى إلا وعمل على استغلالها وتفعيل حركته فيها؛ ندرك أنّ هذا الشّعب الصّابر والصّامد، قد حُمّل ما تنوء بحمله الجبال، وقد استهلكته النّداءات والمطالب بما أثقل كاهله، ولذلك فنحن نتوجّه إلى الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، لكي تعين هذا الشّعب على صموده، ونقول لها: إذا كانت الأنظمة تتحيّن الفرص للتّطبيع مع العدوّ، وتسعى ـ بمناسبةٍ وبدون مناسبة ـ لتقديم المزيد من التّنازلات المذلّة في سعيها المستمرّ للتحرّر من القضيّة كلّها، فإنّ على الطّاقات الحيّة في الأمّة، أن تسعى لإيجاد الخطوات العمليّة الضّروريّة التي من شأنها دعم صمود الفلسطينيّين، وخصوصاً في القدس.

وإنّ المرجعيّات الدّينيّة والسّياسيّة معنيّة بالسّعي لرفد حركة المقاومة الفلسطينيّة، ولتهيئة الأجواء لولادة انتفاضةٍ فلسطينيّةٍ جديدةٍ تتحرّك فيها الأوساط الشَّعبيَّة إلى جانب الحركة الأمنيَّة بما يؤدّي إلى تخفيف الضَّغط عن الفلسطينيّين، ومنع العدوّ من إحكام قبضته على القضيّة الفلسطينيّة، واحتلال الذّاكرة بعد احتلال الأرض والمقدّسات.

التَّناقض العربيّ في تحديد عدوّ المنطقة
وفي المشهد العربيّ، نرى الدّول العربيّة تنظر إلى التّجارب الصّاروخيّة الإيرانيّة نظرة عداوة، وتعتبرها حركة استفزازٍ لا حركةً دفاعيّةً من دولة يهدّدها عدوٌّ يملك أنياباً نوويّةً، فهي لا ترى في الغوّاصات الألمانيّة المهداة إلى إسرائيل استفزازاً، مع كونها مهيّأةً لإطلاق صواريخ برؤوس نوويّة، ومع أنّ هذه الغوّاصات تتمركز بشكلٍ دائمٍ في الخليج والبحر المتوسّط وقبالة السّواحل الفلسطينيّة المحتلّة، كما أنّ هذه الدول لا تنظر إلى الاتّفاقات الإسرائيليّة ـ الأمريكيّة التي تقدّم فيها أمريكا كلّ المعلومات النّوويّة السريّة، بأنها تمثّل استفزازاً للأمن العالميّ، وكذلك المناورات الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة المشتركة، أو المظلّة التكنولوجيّة والصاروخيّة التي تؤمّنها الإدارة الأمريكيّة لكيان العدوّ.. وكأنّ الأمن بات جائزةً غربيّةً في المنطقة لا يحظى بها إلا الاحتلال الصهيونيّ المجرم.

الاقتداء بسياسة إيران
إنَّ أبسط قواعد المنطق السياسيّ، تقتضي أن تحذو الدّول العربيّة والإسلاميّة حذو إيران في تأكيد منطق العزَّة في سياساتها، وفي العمل على بناء القوّة الذاتيّة التي تمكّنها من الوقوف في مواجهة الخطط المذلّة التي يُراد فرضها على الواقع كلّه، وأن تعمل على إيجاد نظام تعاونٍ عربيّ إسلاميّ جدّيّ، يستفيد من نقاط القوَّة التي توصّلت إليها إيران وغيرها، ويعمل على تطويرها في سبيل تحصين الواقع العربيّ والإسلاميّ كلّه ممّا يُحاك له، وخصوصاً بعدما جرّب العرب والمسلمون كلّ شيء في التّعويل على القوى المستكبرة في حلِّ مشاكلهم وقضاياهم.

لبنان رهينة التّنسيق العربيّ!
أمّا لبنان الذي ينتظر هديّةً عربيّةً تنـزل عليه من فضاءات اللّقاءات العربيّة المتجدّدة، فقد بات رهينةً للتّنسيق العربي المفاجئ، بعدما كان رهينةً للخلافات العربيّة ـ العربيّة المتصاعدة، وبات في أتمّ استعداد لاستقبال الأخبار السارّة التي تأتيه من خلف البحار، والتي تفيد بأنّ الإدارة الأمريكيّة الجديدة، ولأسبابٍ قاهرةٍ، أو لمعطياتٍ مستجدّة، قرّرت فعلاً أن تدخل في مرحلة تهدئة مع هذا الموقع العربي أو ذاك، وأن تنتقل من طور التّهديد والوعيد، إلى مرحلة الحوار التي غالباً ما تنعكس آثارها على البلد الصّغير، المتطلّع دائماً إلى من يصنع له سلامه واستقراره، وحتى حكومته، من خارج الحدود.

فهنيئاً للّبنانيّين تفاهم الخارج على داخلهم، وتفاعل الدّاخل مع أخبار التّوافق القادمة إليهم من المحيط... وإلى جولةٍ جديدةٍ من جولات السّجال الداخليّ المحكوم بسقف العلاقات العربيّة ـ العربيّة، والمناخات الدوليّة، وكلّ جولةٍ ولبنان بخير.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية