ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الأسلوب الأخلاقي في التعامل بين الناس
الرّفق والمداراة والكلمة الطيبة
أساليب التّعامل بين النّاس
يسعى الإنسان، بحكم مشاعره وأحاسيسه، أن يجذب النّاسَ إليه، ليحصل على حبّهم، وعلى علاقةٍ مميّزةٍ معهم. ولكن كيف يتمّ ذلك؟
هناك أسلوبان في طريقة لقاء الإنسان بالإنسان، وخطابه له؛ فهناك أسلوب الرّفق واللّين، وذلك بأن تدرس مشاعره وإحساساته، وما يحبّه وما ينفتح عليه؛ وهناك أسلوب العنف والقسوة، وذلك بأن يتحدّى الإنسانُ الآخر، ويخاطبه بشدّةٍ ويهين كرامته.
ومن الطبيعيّ أنّ الله تعالى يريد للنّاس أن يتحابّوا، وأن ينجذب بعضهم إلى بعض، ليتحقّق التّواصل بين شعور هذا الإنسان وشعور الإنسان الآخر، وليتحوَّل هذا التّواصل إلى تعاون، لأنَّ الله تعالى يريد للمجتمع أن يكون مجتمعاً يلتقي فيه الإنسان بالإنسان، سواء كان هذا اللّقاء من خلال أن يُقنع الإنسان الآخر بفكرته ليتوحّد الفكر بينهما، أو ليقنع الآخر بقضيّةٍ ما، فيكون التّعاون في إطار هذه القضيّة، أو ليقنع الإنسان الإنسانَ بهدفٍ ما ليحصل التّوافق على تحقيق هذا الهدف.
خلقُ الأنبياء الدَّعوة باللِّين
وهكذا، نرى كيف أنَّ الله تعالى وجَّه رسله وأنبياءه إلى أن يأخذوا النّاس بالرّفق، وأن لا يأخذوهم بالعنف، حتى إنّ النبيّ ـ أيّ نبيّ ـ عندما يفقد النّجاح في التّجربة، يبادر قومَه ليقولَ لهم: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}[
الأعراف:79]، أنا جئت إليكم ناصحاً من أجل أن أنقذكم، ومن أجل أن أيسّر أموركم وأفتح عقولكم على ما يرفع مستواكم، وما يقرّبكم إلى الله، أميناً على حياتكم وأوضاعكم.
وقد تحدّث الله تعالى عن خُلق النبيّ(ص)، وكيف كانت أخلاقه مع أصحابه. يقول تعالى في كتابه المجيد:{فَبِمَارَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159]. إنَّ الله سبحانه رحمهم كما رحمك، بأن كنت ليّن القلب معهم، فقلبك يخفق وينبض بمحبّة النّاس، وليّن اللّسان، فلا يتحرّك لسانك إلا بالكلمة الطيّبة، وهذا هو الذي حبّب النّاس بك وجذبهم إليك، وجعلهم يقتنعون بدعوتك، لأنَّ كلمتك الطيِّبة الحلوة الليّنة، ولأنَّ قلبك المفتوح عليهم وعلى مصالحهم؛ هو الّذي جعلهم يقتنعون بما تدعوهم إليه.
وقد ورد عن النبيّ(ص) وهو يفرّق بين الرّفق ـ وهو اللّين ـ والعنف، قوله: "إنّ الرّفق لم يوضع على شيءٍ إلا زانه ـ إلا زيّنه وحسّنه ـ ولا نزع من شيءٍ ـ بحيث استبدل الرّفق بالعنف ـإلا شانه"، إلا عابه وأسقطه. ويقول(ص): "لو كان الرفق خَلْقاً يُرى ـ لو أنّ الله تعالى أراد أن يصوِّر الرّفق، فكيف ستكون الصّورة؟ ـما كان مما خَلَقَ الله شيءٌ أحسنَ منه"، لأنّه في منتهى الجمال والرَّوعة، ومنتهى ما ينجذب إليه الإنسان ويعشقه.
أجر مداراة النّاس
وورد عنه(ص) وهو يتحدّث عن النّاس الّذين يترافقون فيما بينهم: "ما اصطحب اثنان ـ في سفرٍ أو في أيّ موقعٍ من مواقع الصّحبة ـإلا كان أعظمهما أجراً، وأحبّهما إلى الله عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه". وعنه(ص): "أعقلُ النّاس أشدُّهم مداراةًٍ للنّاس". وليس معنى المداراة النّفاق، بل أن تدرس صاحبك الذي تصاحبه أو تعيش معه أو تتحمّل مسؤوليّته، فتفهم ذهنيّته وطبعه وظروفه وأوضاعه، فتداري ذلك ولا تعمل على أن تُسقط ما عنده. وذلك ما يمكن أن ينطبق على الإنسان مع عائلته، فعلى كلّ فرد في العائلة أن يدرس طبعَ الآخر، وما يحبّه أو يبغضه، وأن يدرس ظروف الآخر، فيداريه.
وقد ورد عن رسول الله(ص): "أمرني ربّي بمداراة النّاس، كما أمرني بأداء الفرائض"، لأنّ مداراة النّاس تؤدّي إلى التقاء النّاس وتواصلهم، فلا يُسقط أحدنا الآخر. وعنه(ص): "الرّفق نصف المعيشة"، لأنّه هو الّذي يحسّن معيشتك من خلال علاقتك بالآخرين.
الرّفق بالكافر
وورد عن النبيّ(ص) وهو يخاطب زوجته عائشة، بعد أن مرّ عليهما يهوديّ أساء إلى النبيّ(ص) وقال له: السّام عليك ـ يعني الموت ـ إذ أراد أن يردّ عليه النبيّ السّلام، ليسخر بعدها منه أمام قومه. ولكنّ النبيّ(ص) اكتفى بالردّ عليه بكلمة: "وعليك"، ولما سمعته عائشة، قامت إلى اليهوديّ وشتمته، فقال(ص): "يا عائشة، إنّ الله رفيقٌ يحبّ الرّفق، ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه".
الرّفق بالحيوان
ويتحدّث النبيّ(ص) عن الرّفق بالحيوان. يقول(ص): "إنّ الله يحبّ الرّفق ويعينُ عليه، فإذا ركبتم الدّوابَّ العُجْفَ ـ المتعَبة ـ فأنزِلوها منازلَها ـ حتى تأكل من عشب الأرض ـ فإن كانت الأرضُ مجدِبَةً فانْجُوا عنها، وإن كانت مُخْصِبَةً فأنْزِلوها منازلها". وعنه(ص): "الرّفق رأس الحكمة. اللّهمّ مَن وَلِيَ شيئاً من أمور أمّتي ـ بحيث كان مسؤولاً في أيّ موقعٍ من مواقع المسؤوليّة السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الدينيّة أو الاقتصاديّة ـ فرَفَقَ بهم فارفِقْ به، ومن شقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه".
إنّنا نعيش في مجتمعاتنا الكثير من حالات العنف: العنف في البيت، وفي المجتمع، وفي الصّراع على مستوى السياسة والأوضاع الاجتماعيّة، وهذا ما يأتي لنا بالكثير من المشاكل، ويوقعنا في الكثير من الأوضاع السلبيّة. فعلينا أن نتعلّم كيف يرفق بعضنا ببعض، وكيف نعيش اللّين في الكلمة، واللّين في القلب، واللّين في الحياة.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
معركة السّيطرة على الأقصى
تدخل الحرب الإسرائيليّة على الشّعب الفلسطيني وقضيّته منعطفاً جديداً، في ظلّ إصرار العدوّ على الذّهاب بعيداً في استهداف المسجد الأقصى، وصولاً إلى تغيير المعادلة بشكلٍ كامل، وخصوصاً أنّ العدوّ يرصد تراخياً عربيّاً وإسلاميّاً، وتواطؤاً مستمرّاً معه، واستسلاماً متواصلاً لشروطه وأهدافه.
وقد دخلت معركة السّيطرة على الأقصى في متاهة جديدة مع حصار العدوّ للمسجد، واعتقاله المصلّين، وإفساح المجال واسعاً أمام المستوطنين لاقتحامه بحجّة الاحتفال بما يسمّى "عيد المظلّة" اليهوديّ، ليبقى الأقصى مفتوحاً أمام أعياد اليهود المحتلّين، ومقفلاً أمام الفلسطينيّين والمسلمين، الذين توضع أمامهم العقبات والحواجز لمنعهم من الصّلاة فيه، تمهيداً للاستيلاء عليه نهائيّاً.
فضيحة السّلطة الفلسطينيّة
وفيما تتواتر الأخبار التي تؤكِّد أنَّ العدوَّ بدأ بتنفيذ ثمانمائة وحدة استيطانيّة جديدة في الضفّة الغربيّة، بما يشير إلى أنّ الإدارة الأمريكيّة قد وفّرت كلّ الأجواء أمام العدوّ لاستكمال تهويد الضفّة، تبرز الفضيحة الكبرى التي تمثّلت بطلب السّلطة الفلسطينيّة سحب تقرير لجنة تقصّي الحقائق المتعلّقة بحرب غزّة من جدول أعمال جلسة مجلس حقوق الإنسان في جنيف، في واحدة من الحالات المخيفة التي تصرّ فيها الضحيّة على تبرئة جلاّدها، ومنع محاسبته ومحاكمته أمام العالم من خلال أوّل وثيقةٍ دوليّةٍ ممهورة بتوقيع قاضٍ يهوديّ، بما لم يكن في وسع الاحتلال الهروب منه ومن حُكْمِ الإدانة المبرم.
لقد تجرّأت هذه السّلطة على ما لم يكن لأحدٍ أن يجرؤ عليه، وأبعدت مسؤولي العدوّ وقيادات جيشه عن المثول أمام المحكمة الجنائيّة الدّوليّة، الأمر الّذي يفرض على الشّعب الفلسطينيّ، وكلّ الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، العمل لإيقاف حركة المهزلة السياسيّة التي يُدخِلُ فيها الحكّام قضيّة فلسطين، التي هي أقدس القضايا في هذا العصر، في متاهات التآمر الدّوليّ والإقليميّ، وحتّى في حركة الأطماع الشّخصيّة.
إنّ المعنى العميق لسحب مناقشة تقرير لجنة تقصّي الحقائق في مجازر غزّة، هو إعلان إطلاق يد إسرائيل في أن تشنّ حرباً جديدةً على غزّة؛ لا بل أن توسّع من دائرة عدوانها لتشنّ حروباً ربما خارج فلسطين المحتلّة، ولترتكب مجازر أفظع من مجازر غزّة، وليقف العالم مؤيّداً لها، أو ساكتاً على أفعالها وجرائمها، بحجّة أنّ العرب هم الّذين منعوا محاكمتها.
تواطؤ الأنظمة العربيّة على القدس
وما لا يقلّ خطورةً عن قرار السّلطة الفلسطينيّة، الّذي يمثّل القمّة في الجريمة والفضيحة، هو تواطؤ الدّول العربيّة والإسلاميّة، وتمريرها هذه الجريمة بحجّة أنّنا لن نكون "ملكيّين أكثر من الملك"، وكأنّ القوم وجدوا ضالّتهم في الأداء المعيب لممثّل سلطة الحكم الذّاتيّ.
إنَّ هذا المنحى بات يُنذِر بخطورة المستوى الّذي وصل إليه النّظام العربيّ الرسميّ، والّذي بات الكثير من مسؤوليه عراةً أمام شعوبهم، بعد سقوطهم المدوّي أمام الإيحاءات الأمريكيّة والإسرائيليّة. وعلى الشّعوب أن تتحمَّل مسؤوليّتها في نزع الشّرعيّة عن هؤلاء الّذين لا يمثّلون أدنى مستويات الأمانة السياسيّة تجاه قضايا شعبهم، الّذي لا يكفيه ما يناله من آلة القتل والتّشريد الإسرائيليّة، حتّى يُطعن في قلبه بسكّين ذوي القربى.
ضوء أخضر أميركيّ لعدوانٍ إسرائيليّ
وفي الخطّ نفسِه، نشهد تحضيراتٍ غير عاديّة من قِبَل العدوّ، بالتَّنسيق مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة، في المناورات المشتركة التي تتكرّر بين وقتٍ وآخر، وها هي تتجدّد في هذه الأيّام، بما قد يؤسّس لعدوانٍ جديدٍ داخل فلسطين المحتلّة أو خارجها، وخصوصاً أنّ الإدارة الأمريكيّة الديمقراطيّة كشّرت عن أنيابها، وأعطت عبر ضغوطها الجديدة التي مارستها ضدّ الفلسطينيّين، إشاراتٍ جديدةً للعدوّ للاستمرار في عدوانه وزحفه الاستيطانيّ، وتهويده القدس واستهدافه الأقصى.
سياسة تعميم الفتنة
إنَّ علينا أن نعرف أنَّ الإدارة الأمريكيَّة الَّتي تزعم أنها تعمل للسَّلام في المنطقة، هي الَّتي تعمل لتعميم المشهد الّذي نراه في اليمن والعراق والسّودان والصّومال، إلى كلّ بقعةٍ من بقاع العرب والمسلمين، في الوقت الّذي تسعى لإطالة أمد كلّ فتنة وكلّ مشكلة داخليّة يعاني منها هذا البلد العربيّ أو ذاك، وتضع حواجز مرئيّة وأخرى غير مرئيّة أمام الحلول الّتي توضع لهذه المشكلة أو تلك. وعلى الجميع أن يعرفوا، أنّ الإدارة الأمريكيّة، وبالتّنسيق مع إسرائيل، تقف خلف الكثير من الفتن والتّعقيدات والحروب التي قد تحمل عنواناً قبليّاً أو عشائريّاً أو مذهبيّاً في هذا البلد أو ذاك. ولذلك، فعلينا ألا ننخدع بصورة السَّلام التي تحاول الإدارة الأمريكيَّة تعميمها إعلاميّاً، لأنها صورة مخادعة وغير حقيقيّة.
وعلينا في لبنان أن نعرف أنّ الإدارة الأمريكيّة هي التي تضع العصيّ، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، في دواليب الحلّ، وهي التي تحاول أن تنغّص على اللّبنانيّين شعورهم بالتّفاؤل مع التقدّم الحاصل في بعض مسارات العلاقات العربيّة ـ العربيّة.
فرنسا راعية المصالح الصّهيونيّة
أمَّا فرنسا، الّتي توحي بأنَّها تبذل الجهود لتهيئة أجواء السَّلام، وللانفتاح على هذا الموقع العربيّ أو ذاك، فقد بات يحلو لها القيام بدور رعاية المصالح الصهيونيّة في العالم العربيّ، فيما يجتمع رئيس أركان جيشها مع رئيس أركان جيش العدوّ ورئيس أركان الجيش الأمريكيّ للتّنسيق والتّخطيط في كلّ ما من شأنه استباحة الأمن العربيّ والإسلاميّ لمصلحة أمن العدوّ. ولذلك، علينا أن نُبقي قراءتنا للواقع كلّه في حركة المشهد العام، ولا نغرق في التّفاصيل.
حكومة لبنانيّة بإرادة خارجيّة
وإنَّ على اللّبنانيّين، الّذين ينتظرون ولادة الحكومة المنشودة في خطّ تحسّن بعض العلاقات العربيّة ـ العربيّة، أن يعرفوا أنَّ العرب ليسوا أحراراً في الذّهاب بعيداً في عمليّة تحسين أوضاعهم، وترتيب علاقاتهم، وتهيئة الأجواء والمناخات لإيجاد حلولٍ لهذا الملفّ أو ذاك، لأنّ الاستكبار العالميّ يختفي خلف كثيرٍ من التحرّكات والأوضاع. ولذلك، فإنّ الطّموح هو في تحرير الإرادة العربيّة من الضّغط الأمريكي، فهو الّذي يمكن أن يوفّر الحلول للأزمة اللّبنانيّة وغيرها.
لبنان: عودة الاضطراب الأمنيّ
وأخيراً، إنّنا أمام ما حدث من اهتزازٍ أمنيّ، سواء في الشّمال في منطقة جبل محسن وباب التّبّانة، وما حدث من جريمةٍ في منطقة الشيَّاح ـ عين الرمّانة، وفي الوقت الذي يعلن الجميع أنّ المسألة لا علاقة لها بالشّأن السياسيّ، ندعو إلى معالجةٍ جذريَّةٍ لهذه التّجاوزات، ومنع كلّ المعتدين من الإجرام بحقّ النّاس، ومهاجمتهم في بيوتهم وشوارعهم، حيث لا يكفي أن يُقال بعد كلّ جريمة إنّ الأمور أصبحت في عهدة الدولة وأجهزتها المعنيّة، بل لا بدّ من أن يتحمّل الجميع مسؤوليّاتهم في ضبط هذه الظّاهرة الفاسدة التي تمارس عدوانها على النّاس الآمنين، لأنّ الاعتداء على استقرار الناس وأمنهم هو من أعظم المحرّمات، ولأنّ قتل أيّ بريء هو بمثابة قتل للنّاسٍ جميعاً.
أيّها اللّبنانيّون: إنَّ عليكم أن تتوحَّدوا جميعاً في مواجهة صنّاع الجريمة، سواء كانوا مجرمين في مواقع السياسة، أو في مواقع الحقد والجهل، وأن تعملوا على فضح خفافيش الظّلام، وأن تفكّروا في مستقبل أولادكم وكيف تسلّمون هذا البلد، وكيف تؤسّسون لحركتهم في بنائه أو
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الأسلوب الأخلاقي في التعامل بين الناس
الرّفق والمداراة والكلمة الطيبة
أساليب التّعامل بين النّاس
يسعى الإنسان، بحكم مشاعره وأحاسيسه، أن يجذب النّاسَ إليه، ليحصل على حبّهم، وعلى علاقةٍ مميّزةٍ معهم. ولكن كيف يتمّ ذلك؟
هناك أسلوبان في طريقة لقاء الإنسان بالإنسان، وخطابه له؛ فهناك أسلوب الرّفق واللّين، وذلك بأن تدرس مشاعره وإحساساته، وما يحبّه وما ينفتح عليه؛ وهناك أسلوب العنف والقسوة، وذلك بأن يتحدّى الإنسانُ الآخر، ويخاطبه بشدّةٍ ويهين كرامته.
ومن الطبيعيّ أنّ الله تعالى يريد للنّاس أن يتحابّوا، وأن ينجذب بعضهم إلى بعض، ليتحقّق التّواصل بين شعور هذا الإنسان وشعور الإنسان الآخر، وليتحوَّل هذا التّواصل إلى تعاون، لأنَّ الله تعالى يريد للمجتمع أن يكون مجتمعاً يلتقي فيه الإنسان بالإنسان، سواء كان هذا اللّقاء من خلال أن يُقنع الإنسان الآخر بفكرته ليتوحّد الفكر بينهما، أو ليقنع الآخر بقضيّةٍ ما، فيكون التّعاون في إطار هذه القضيّة، أو ليقنع الإنسان الإنسانَ بهدفٍ ما ليحصل التّوافق على تحقيق هذا الهدف.
خلقُ الأنبياء الدَّعوة باللِّين
وهكذا، نرى كيف أنَّ الله تعالى وجَّه رسله وأنبياءه إلى أن يأخذوا النّاس بالرّفق، وأن لا يأخذوهم بالعنف، حتى إنّ النبيّ ـ أيّ نبيّ ـ عندما يفقد النّجاح في التّجربة، يبادر قومَه ليقولَ لهم: {وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ}[
الأعراف:79]، أنا جئت إليكم ناصحاً من أجل أن أنقذكم، ومن أجل أن أيسّر أموركم وأفتح عقولكم على ما يرفع مستواكم، وما يقرّبكم إلى الله، أميناً على حياتكم وأوضاعكم.
وقد تحدّث الله تعالى عن خُلق النبيّ(ص)، وكيف كانت أخلاقه مع أصحابه. يقول تعالى في كتابه المجيد:{فَبِمَارَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}[آل عمران:159]. إنَّ الله سبحانه رحمهم كما رحمك، بأن كنت ليّن القلب معهم، فقلبك يخفق وينبض بمحبّة النّاس، وليّن اللّسان، فلا يتحرّك لسانك إلا بالكلمة الطيّبة، وهذا هو الذي حبّب النّاس بك وجذبهم إليك، وجعلهم يقتنعون بدعوتك، لأنَّ كلمتك الطيِّبة الحلوة الليّنة، ولأنَّ قلبك المفتوح عليهم وعلى مصالحهم؛ هو الّذي جعلهم يقتنعون بما تدعوهم إليه.
وقد ورد عن النبيّ(ص) وهو يفرّق بين الرّفق ـ وهو اللّين ـ والعنف، قوله: "إنّ الرّفق لم يوضع على شيءٍ إلا زانه ـ إلا زيّنه وحسّنه ـ ولا نزع من شيءٍ ـ بحيث استبدل الرّفق بالعنف ـإلا شانه"، إلا عابه وأسقطه. ويقول(ص): "لو كان الرفق خَلْقاً يُرى ـ لو أنّ الله تعالى أراد أن يصوِّر الرّفق، فكيف ستكون الصّورة؟ ـما كان مما خَلَقَ الله شيءٌ أحسنَ منه"، لأنّه في منتهى الجمال والرَّوعة، ومنتهى ما ينجذب إليه الإنسان ويعشقه.
أجر مداراة النّاس
وورد عنه(ص) وهو يتحدّث عن النّاس الّذين يترافقون فيما بينهم: "ما اصطحب اثنان ـ في سفرٍ أو في أيّ موقعٍ من مواقع الصّحبة ـإلا كان أعظمهما أجراً، وأحبّهما إلى الله عزّ وجلّ أرفقهما بصاحبه". وعنه(ص): "أعقلُ النّاس أشدُّهم مداراةًٍ للنّاس". وليس معنى المداراة النّفاق، بل أن تدرس صاحبك الذي تصاحبه أو تعيش معه أو تتحمّل مسؤوليّته، فتفهم ذهنيّته وطبعه وظروفه وأوضاعه، فتداري ذلك ولا تعمل على أن تُسقط ما عنده. وذلك ما يمكن أن ينطبق على الإنسان مع عائلته، فعلى كلّ فرد في العائلة أن يدرس طبعَ الآخر، وما يحبّه أو يبغضه، وأن يدرس ظروف الآخر، فيداريه.
وقد ورد عن رسول الله(ص): "أمرني ربّي بمداراة النّاس، كما أمرني بأداء الفرائض"، لأنّ مداراة النّاس تؤدّي إلى التقاء النّاس وتواصلهم، فلا يُسقط أحدنا الآخر. وعنه(ص): "الرّفق نصف المعيشة"، لأنّه هو الّذي يحسّن معيشتك من خلال علاقتك بالآخرين.
الرّفق بالكافر
وورد عن النبيّ(ص) وهو يخاطب زوجته عائشة، بعد أن مرّ عليهما يهوديّ أساء إلى النبيّ(ص) وقال له: السّام عليك ـ يعني الموت ـ إذ أراد أن يردّ عليه النبيّ السّلام، ليسخر بعدها منه أمام قومه. ولكنّ النبيّ(ص) اكتفى بالردّ عليه بكلمة: "وعليك"، ولما سمعته عائشة، قامت إلى اليهوديّ وشتمته، فقال(ص): "يا عائشة، إنّ الله رفيقٌ يحبّ الرّفق، ويعطي على الرّفق ما لا يعطي على العنف، وما لا يعطي على سواه".
الرّفق بالحيوان
ويتحدّث النبيّ(ص) عن الرّفق بالحيوان. يقول(ص): "إنّ الله يحبّ الرّفق ويعينُ عليه، فإذا ركبتم الدّوابَّ العُجْفَ ـ المتعَبة ـ فأنزِلوها منازلَها ـ حتى تأكل من عشب الأرض ـ فإن كانت الأرضُ مجدِبَةً فانْجُوا عنها، وإن كانت مُخْصِبَةً فأنْزِلوها منازلها". وعنه(ص): "الرّفق رأس الحكمة. اللّهمّ مَن وَلِيَ شيئاً من أمور أمّتي ـ بحيث كان مسؤولاً في أيّ موقعٍ من مواقع المسؤوليّة السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الدينيّة أو الاقتصاديّة ـ فرَفَقَ بهم فارفِقْ به، ومن شقَّ عليهم فاشْقُقْ عليه".
إنّنا نعيش في مجتمعاتنا الكثير من حالات العنف: العنف في البيت، وفي المجتمع، وفي الصّراع على مستوى السياسة والأوضاع الاجتماعيّة، وهذا ما يأتي لنا بالكثير من المشاكل، ويوقعنا في الكثير من الأوضاع السلبيّة. فعلينا أن نتعلّم كيف يرفق بعضنا ببعض، وكيف نعيش اللّين في الكلمة، واللّين في القلب، واللّين في الحياة.
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
معركة السّيطرة على الأقصى
تدخل الحرب الإسرائيليّة على الشّعب الفلسطيني وقضيّته منعطفاً جديداً، في ظلّ إصرار العدوّ على الذّهاب بعيداً في استهداف المسجد الأقصى، وصولاً إلى تغيير المعادلة بشكلٍ كامل، وخصوصاً أنّ العدوّ يرصد تراخياً عربيّاً وإسلاميّاً، وتواطؤاً مستمرّاً معه، واستسلاماً متواصلاً لشروطه وأهدافه.
وقد دخلت معركة السّيطرة على الأقصى في متاهة جديدة مع حصار العدوّ للمسجد، واعتقاله المصلّين، وإفساح المجال واسعاً أمام المستوطنين لاقتحامه بحجّة الاحتفال بما يسمّى "عيد المظلّة" اليهوديّ، ليبقى الأقصى مفتوحاً أمام أعياد اليهود المحتلّين، ومقفلاً أمام الفلسطينيّين والمسلمين، الذين توضع أمامهم العقبات والحواجز لمنعهم من الصّلاة فيه، تمهيداً للاستيلاء عليه نهائيّاً.
فضيحة السّلطة الفلسطينيّة
وفيما تتواتر الأخبار التي تؤكِّد أنَّ العدوَّ بدأ بتنفيذ ثمانمائة وحدة استيطانيّة جديدة في الضفّة الغربيّة، بما يشير إلى أنّ الإدارة الأمريكيّة قد وفّرت كلّ الأجواء أمام العدوّ لاستكمال تهويد الضفّة، تبرز الفضيحة الكبرى التي تمثّلت بطلب السّلطة الفلسطينيّة سحب تقرير لجنة تقصّي الحقائق المتعلّقة بحرب غزّة من جدول أعمال جلسة مجلس حقوق الإنسان في جنيف، في واحدة من الحالات المخيفة التي تصرّ فيها الضحيّة على تبرئة جلاّدها، ومنع محاسبته ومحاكمته أمام العالم من خلال أوّل وثيقةٍ دوليّةٍ ممهورة بتوقيع قاضٍ يهوديّ، بما لم يكن في وسع الاحتلال الهروب منه ومن حُكْمِ الإدانة المبرم.
لقد تجرّأت هذه السّلطة على ما لم يكن لأحدٍ أن يجرؤ عليه، وأبعدت مسؤولي العدوّ وقيادات جيشه عن المثول أمام المحكمة الجنائيّة الدّوليّة، الأمر الّذي يفرض على الشّعب الفلسطينيّ، وكلّ الشّعوب العربيّة والإسلاميّة، العمل لإيقاف حركة المهزلة السياسيّة التي يُدخِلُ فيها الحكّام قضيّة فلسطين، التي هي أقدس القضايا في هذا العصر، في متاهات التآمر الدّوليّ والإقليميّ، وحتّى في حركة الأطماع الشّخصيّة.
إنّ المعنى العميق لسحب مناقشة تقرير لجنة تقصّي الحقائق في مجازر غزّة، هو إعلان إطلاق يد إسرائيل في أن تشنّ حرباً جديدةً على غزّة؛ لا بل أن توسّع من دائرة عدوانها لتشنّ حروباً ربما خارج فلسطين المحتلّة، ولترتكب مجازر أفظع من مجازر غزّة، وليقف العالم مؤيّداً لها، أو ساكتاً على أفعالها وجرائمها، بحجّة أنّ العرب هم الّذين منعوا محاكمتها.
تواطؤ الأنظمة العربيّة على القدس
وما لا يقلّ خطورةً عن قرار السّلطة الفلسطينيّة، الّذي يمثّل القمّة في الجريمة والفضيحة، هو تواطؤ الدّول العربيّة والإسلاميّة، وتمريرها هذه الجريمة بحجّة أنّنا لن نكون "ملكيّين أكثر من الملك"، وكأنّ القوم وجدوا ضالّتهم في الأداء المعيب لممثّل سلطة الحكم الذّاتيّ.
إنَّ هذا المنحى بات يُنذِر بخطورة المستوى الّذي وصل إليه النّظام العربيّ الرسميّ، والّذي بات الكثير من مسؤوليه عراةً أمام شعوبهم، بعد سقوطهم المدوّي أمام الإيحاءات الأمريكيّة والإسرائيليّة. وعلى الشّعوب أن تتحمَّل مسؤوليّتها في نزع الشّرعيّة عن هؤلاء الّذين لا يمثّلون أدنى مستويات الأمانة السياسيّة تجاه قضايا شعبهم، الّذي لا يكفيه ما يناله من آلة القتل والتّشريد الإسرائيليّة، حتّى يُطعن في قلبه بسكّين ذوي القربى.
ضوء أخضر أميركيّ لعدوانٍ إسرائيليّ
وفي الخطّ نفسِه، نشهد تحضيراتٍ غير عاديّة من قِبَل العدوّ، بالتَّنسيق مع الولايات المتّحدة الأمريكيّة، في المناورات المشتركة التي تتكرّر بين وقتٍ وآخر، وها هي تتجدّد في هذه الأيّام، بما قد يؤسّس لعدوانٍ جديدٍ داخل فلسطين المحتلّة أو خارجها، وخصوصاً أنّ الإدارة الأمريكيّة الديمقراطيّة كشّرت عن أنيابها، وأعطت عبر ضغوطها الجديدة التي مارستها ضدّ الفلسطينيّين، إشاراتٍ جديدةً للعدوّ للاستمرار في عدوانه وزحفه الاستيطانيّ، وتهويده القدس واستهدافه الأقصى.
سياسة تعميم الفتنة
إنَّ علينا أن نعرف أنَّ الإدارة الأمريكيَّة الَّتي تزعم أنها تعمل للسَّلام في المنطقة، هي الَّتي تعمل لتعميم المشهد الّذي نراه في اليمن والعراق والسّودان والصّومال، إلى كلّ بقعةٍ من بقاع العرب والمسلمين، في الوقت الّذي تسعى لإطالة أمد كلّ فتنة وكلّ مشكلة داخليّة يعاني منها هذا البلد العربيّ أو ذاك، وتضع حواجز مرئيّة وأخرى غير مرئيّة أمام الحلول الّتي توضع لهذه المشكلة أو تلك. وعلى الجميع أن يعرفوا، أنّ الإدارة الأمريكيّة، وبالتّنسيق مع إسرائيل، تقف خلف الكثير من الفتن والتّعقيدات والحروب التي قد تحمل عنواناً قبليّاً أو عشائريّاً أو مذهبيّاً في هذا البلد أو ذاك. ولذلك، فعلينا ألا ننخدع بصورة السَّلام التي تحاول الإدارة الأمريكيَّة تعميمها إعلاميّاً، لأنها صورة مخادعة وغير حقيقيّة.
وعلينا في لبنان أن نعرف أنّ الإدارة الأمريكيّة هي التي تضع العصيّ، بطريقةٍ مباشرةٍ أو غير مباشرة، في دواليب الحلّ، وهي التي تحاول أن تنغّص على اللّبنانيّين شعورهم بالتّفاؤل مع التقدّم الحاصل في بعض مسارات العلاقات العربيّة ـ العربيّة.
فرنسا راعية المصالح الصّهيونيّة
أمَّا فرنسا، الّتي توحي بأنَّها تبذل الجهود لتهيئة أجواء السَّلام، وللانفتاح على هذا الموقع العربيّ أو ذاك، فقد بات يحلو لها القيام بدور رعاية المصالح الصهيونيّة في العالم العربيّ، فيما يجتمع رئيس أركان جيشها مع رئيس أركان جيش العدوّ ورئيس أركان الجيش الأمريكيّ للتّنسيق والتّخطيط في كلّ ما من شأنه استباحة الأمن العربيّ والإسلاميّ لمصلحة أمن العدوّ. ولذلك، علينا أن نُبقي قراءتنا للواقع كلّه في حركة المشهد العام، ولا نغرق في التّفاصيل.
حكومة لبنانيّة بإرادة خارجيّة
وإنَّ على اللّبنانيّين، الّذين ينتظرون ولادة الحكومة المنشودة في خطّ تحسّن بعض العلاقات العربيّة ـ العربيّة، أن يعرفوا أنَّ العرب ليسوا أحراراً في الذّهاب بعيداً في عمليّة تحسين أوضاعهم، وترتيب علاقاتهم، وتهيئة الأجواء والمناخات لإيجاد حلولٍ لهذا الملفّ أو ذاك، لأنّ الاستكبار العالميّ يختفي خلف كثيرٍ من التحرّكات والأوضاع. ولذلك، فإنّ الطّموح هو في تحرير الإرادة العربيّة من الضّغط الأمريكي، فهو الّذي يمكن أن يوفّر الحلول للأزمة اللّبنانيّة وغيرها.
لبنان: عودة الاضطراب الأمنيّ
وأخيراً، إنّنا أمام ما حدث من اهتزازٍ أمنيّ، سواء في الشّمال في منطقة جبل محسن وباب التّبّانة، وما حدث من جريمةٍ في منطقة الشيَّاح ـ عين الرمّانة، وفي الوقت الذي يعلن الجميع أنّ المسألة لا علاقة لها بالشّأن السياسيّ، ندعو إلى معالجةٍ جذريَّةٍ لهذه التّجاوزات، ومنع كلّ المعتدين من الإجرام بحقّ النّاس، ومهاجمتهم في بيوتهم وشوارعهم، حيث لا يكفي أن يُقال بعد كلّ جريمة إنّ الأمور أصبحت في عهدة الدولة وأجهزتها المعنيّة، بل لا بدّ من أن يتحمّل الجميع مسؤوليّاتهم في ضبط هذه الظّاهرة الفاسدة التي تمارس عدوانها على النّاس الآمنين، لأنّ الاعتداء على استقرار الناس وأمنهم هو من أعظم المحرّمات، ولأنّ قتل أيّ بريء هو بمثابة قتل للنّاسٍ جميعاً.
أيّها اللّبنانيّون: إنَّ عليكم أن تتوحَّدوا جميعاً في مواجهة صنّاع الجريمة، سواء كانوا مجرمين في مواقع السياسة، أو في مواقع الحقد والجهل، وأن تعملوا على فضح خفافيش الظّلام، وأن تفكّروا في مستقبل أولادكم وكيف تسلّمون هذا البلد، وكيف تؤسّسون لحركتهم في بنائه أو