ألقى سماحة آية الله العظمى، السيّد محمّد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
النّصيحة والغشّ
ميزان المحبة
كان شهر رمضان زمناً يختزن في داخله كلَّ ما يقرِّب الإنسان إلى الله، ويفتح عقله للخير، وقلبه للمحبّة، وينطلق ليؤصّل معنى الإنسانية، في عيش الإنسان روح الإنسانيّة مع الآخر، فيحبّ للآخر ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها، وهذا ما أراد الإسلام أن يوحي للإنسان بأنّه خطّ العدالة: "اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها".
وجوب النّصيحة
وفي ضوء ذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يكون ناصحاً للنَّاس في فكره، فينصحهم إذا استنصحوه، وناصحاً لهم في معاملاته، فيتعامل معهم بما يحقِّق لهم السَّعادة في أوضاعهم. وهكذا يتحوَّل الإنسان إلى شخصيَّةٍ كلُّها خيرٌ للنّاس، في كلّ ما يرتبط بحياته معهم، فيخرج عن الجانب الأنانيّ في ذاته، فلا يفكّر في زنزانة مطامعه وأهوائه، بل يفكِّر في النّاس وفي نفسه، ليعيش الحياة الاجتماعيّة السّليمة، فلا يكون فرديّاً، بل يسعى ليندمج بالمجتمع، فتكون سلامته من سلامة مجتمعه، ولا يفرض نفسه على النّاس بأنانيّته، فيتعالى عليهم، ويُشعر الآخرين بأنهم دون مستواه، سواء كان ذلك في حياته الفرديّة أو في حياته العائليّة.
ولذلك، ورد في بعض الأحاديث، أنَّ الفرق بين المؤمن والمنافق، "أنّ المنافق تأكل عائلتُه بشهوته، وأنّ المؤمن يأكل بشهوة عائلته"، حيث إنَّ المؤمن يفكّر في الآخرين تماماً كما يفكّر في نفسه أو أكثر، وهذا ما نقله الإمام الحسن بن عليّ (عليهما السّلام) عن والدته السيّدة الطّاهرة المعصومة، سيّدة نساء العالمين، فاطمة الزّهراء(ع)، عندما رآها في صلاة اللّيل وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، وكانت أحوج ما تكون للدّعاء انطلاقاً من ضعف جسدها، فسألها: "يا أمّاه، لمَ لا تدعين لنّفسك"؟ فقالت(ع): "يا بنيّ، الجار ثم الدّار".
وجاءت التّعاليم الإسلاميَّة لتؤكِّد النّصح للنّاس، في كلّ أمورهم، فقد ورد في الحديث: "عليك بالنّصيحة للنّاس، فلن تلقاه بعملٍ أفضل منه"، لأنَّ النّصح يعبّر عن اتّساع نفسك وإنسانيّتك لكلّ النّاس، فلا تتجمّد في داخل ذاتك. وقد ورد في بعض الأحاديث: "من استشاره أخوه ولم ينصحه سلبه الله رأيه"، فالله يعاقبه في الدّنيا، فيجعله شخصاً لا رأي له، بمعنى أنّ النّاس سوف تبتعد عنه بالمشورة والنّصيحة.
الغشّ نقيض النّصيحة
وفي مقابل النّصيحة هناك الغشّ، فكما أنّ الإنسان الذي ينصح النّاس يرتفع بإنسانيّته وبقربه إلى ربّه إلى المستوى الذي يجعله محبوباً عند الله، فإنّ الإنسان الذي يغشّ النّاس هو شخصٌ مبغوضٌ عند الله وخارجٌ عن الإسلام بالمعنى الاجتماعيّ والأخلاقيّ والرّوحيّ، وقد ورد عن رسول الله(ص): "ليس منّا مَن غشَّ مسلماً أو ضرّه أو ماكَرَه". وعنه(ص): "مَنْ غشَّ مسلماً في شراءٍ أو بيعٍ فليس منّا، ويُحشر يوم القيامة مع اليهود، لأنهم أغشّ الخلق للمسلمين". وعنه(ص): "مَن غشَّ أخاه المسلم، نَزَعَ الله بَركة رزقه، وأفسد عليه معيشته، ووكَلَه إلى نفسه".
وعن الإمام جعفر الصّادق(ع): "ليس منّا مَن غشّنا". وعن الإمام الكاظم(ع): "ملعون من غشَّ مسلماً أو ماكَرَه أو غرّه". وعن الإمام عليّ(ع): "مَن غشَّ النّاس في دينهم ـ فتحدّث إليهم بما ليس من الدّين على أنّه من الدّين ـفهو معاندٌ لله ورسوله". وعنه(ع): "إنّ أعظم الخيانة خيانة الأمّة، وأفظع الغشّ غشّ الأئمّة". وعنه(ع): "المؤمن لا يغشّ أخاه، ولا يخونه، ولا يخذله، ولا يتّهمه". وعنه(ع): "شرّ النّاس من يغشّ النّاس".
الغشّ في اللّحوم
وفي ضوء هذا، فنحن حينما نواجه الواقع الّذي نعيشه، نجد أنواعاً من الغشّ في المعاملات وفي البيع والشّراء، وفي مقدّم الّذين يغشّون، بعض النّاس الذين يستوردون اللّحوم غير المذكّاة، وهي المستوردة من بلادٍ لا تؤمن بما فرضه الله من التّذكية للحيوان المأكول، فيخلطون هذه اللّحوم غير المذكّاة، والتي هي بحكم الميتة، باللّحم المذبوح على الطّريقة الشّرعيّة، ويبيعون الجميع على أساس أنّه لحم حلال، وقد زحف هذا الموضوع إلينا، وحتى في مناطقنا، هناك أشخاص يستوردون اللّحم الذي لا وثوق في تذكيته وحلّيّته، ويخلطونه باللّحم المذكّى أو حتى لا يخلطونه، ثم يبيعونه للنّاس على أنّه حلال. نحن نقول إنّ هؤلاء ملعونون على لسان النبيّ(ص) والأئمّة من أهل البيت(ع)، وقد استمعتم إلى قول النبيّ(ص): "ليس منّا من غشّنا".
وقد أصدرتُ فتوى شرعيّة ملزمة، أنّكم إذا عرفتم شخصاً يغشّ النّاس، ويبيع اللّحم الحرام على أساس أنّه حلال، فقاطعوه ولا تشتروا منه حتى اللّحم الحلال، لأنّه يغشّ المسلمين، ولأنّه خارج عن الشّريعة الإسلاميّة في هذا المجال.
الغشّ في المعاملات
وفي رواية عن الإمام الباقر(ع) قال: "مَرّ النبي(ص) في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: "ما أرى طعامك إلا طيّباً"، وسأله عن سعره، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن يدسّ يديه في الطّعام، فَفَعل، فأخرج طعاماً رديّاً، فقال لصاحبه: "ما أراك إلا جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين". فقد حكم عليه بأنّه خائنٌ وغشّاشٌ للمسلمين. وهكذا في كلّ المعاملات. فمثلاً، قد يبيع الإنسان بعض الأطعمة أو الأغراض التي فيها عيوب، ولا يبيّن للنّاس هذه العيوب، بل ربما يوحي بأنّه لا عيب فيه، سواء كان شقّةً أو سيّارةً أو ما إلى ذلك... وذلك يعتبر غشّاً، ولا يجوز لإنسانٍ مسلم أن يبيع إنساناً إلا بعد أن يبيّن له ما فيه من العيوب، كما يبيّن له ما فيه من الأشياء الطيّبة، وإذا لم يبيّن البائع للشّاري العيب، فإنّ للمشتري أن يبطل البيع ويسترجع ماله.
الغشّ في الزّواج
وهناك نوعٌ من أنواع الغشّ في الزّواج، فمثلاً: إذا جاءك شخص يستنصحك في الزواج من امرأة قريبة لك، أو شابّ قريب لك، فإنّ عليك أن لا تغطّي عيوبه أو عيوبها، فإنّ ذلك من الغشّ، وتتحمّل بذلك المسؤوليّة المترتّبة على ذلك.
الغشّ السياسيّ والاجتماعيّ
ومن أنواع الغشّ في أيام الانتخابات، سواء البلديّة أو النيابيّة أو في مجال التّوظيف، أنّه يأتي شخص ويمدح هذا المرشّح أو ذاك، بمدائح ليست موجودةً فيه، ويحاول أن يخفي عيوبه، فإنّ ذلك من الغشّ الذي يُخرج فاعله عن الخطّ الإسلاميّ الأصيل.
وهناك الغشّ في الامتحانات، فلا يجوز لأيّ شخص أن يعطي الطلاب الجواب عن الأسئلة، سواء كان رفيقه أو أستاذه، فإنّ ذلك كلّه من الغشّ الذي يستوجب غضب الله عليه.
قيمة الأخلاق في الإسلام
إنّ قيمة الإسلام هي في أخلاقيّة الإنسان المسلم، وقد ورد عن النبيّ(ص): "إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، فإذا كان الإنسان يفكّر في الغشّ من أجل أن يحصل على ربحٍ أكثر أو نتائج أكبر، فإنّ عليه أن يعرف أنّ الغشّ يؤدّي إلى أن ينـزع الله عنه بركة رزقه. إنّ الإسلام ليس مجرّد صلاة وصيام، وإنما هو صدق وأمانة ونصح لله في خلقه، وعلينا أن نحسب حساب الآخرة كما نحسب حساب الدّنيا: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء:88ـ 89].
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
الدّعم الدّوليّ المطلق لإسرائيل
من قلب الأمم المتّحدة، وهي المنظّمة الدولية التي انطلقت من داخلها، قبل ما يزيد على الستين سنةً، إشارةُ الاعتراف بكيان العدوّ، والتي تمثّل انقلاباً على ميثاقها وشرعتها الإنسانيَّة، أراد الرّئيس الأمريكيّ للقضيّة الفلسطينيّة أن تنحدر إلى المستوى الذي يُقتصر فيه على الجانب الرمزيّ في صورةٍ ثلاثيّةٍ تجمعه ورئيس حكومة العدوّ ورئيس السّلطة الفلسطينيّة. وإذا كانت هذه الصّورة لا تعني شيئاً للرّاعي الأمريكيّ للتّسوية، ولا لمسؤولي العدوّ الذي أفصحت وسائل إعلامه عن أنّ اللّقاء كان مجرّد "مزحة" على حساب أوباما، فإنَّ ذلك يوحي بأنَّ مَنْ يُسمَّوْن "عرب الاعتدال" باتوا يتحرّكون في قضاياهم المصيريّة من خلال المزاح الذي نستذكر فيه قول الشّاعر: يا أمّةً ضحكتْ من جهلها الأممُ.
الرّئاسة الأمريكيّة: استعادة للصّورة الحقيقيّة!
وربّما يكون من أخطر ما خرجت به هذه القمّة، أنّها أعطت العدوّ الصهيوني الاعتراف الرئاسيّ الأمريكيّ بيهوديّة الكيان، ما جعل الإسرائيليّين يهلّلون فرحاً أمام هذا الإنجاز، من دون أن يُعطى العرب أيّ شيء ممّا كانوا يطالبون به، ولو على مستوى وقف الاستيطان.
وهكذا، استعادت الرئاسة الأمريكية صورتها الحقيقيّة، التي ترضخ دائماً للشروط الإسرائيليّة، فتطلق يد العدوّ ليبني ويتوسّع في الاستيطان إلى أبعد مدى. ومع ذلك، يحدّثونك في الساحات العربية عن السّلام الآتي من بين ألغام المرحلة، وعلى حساب حقائق التاريخ وآفاق المستقبل.
إنّنا نعتقد أنّ أوباما أخفق، كما أسلافه من الرّؤساء، عندما تحرّك كرئيسٍ مسكونٍ بتحقيق أهداف ذاتيّة يجعلها في سجلّ إنجازاته التاريخيّة، والتي لا تملك أن تنطلق مع الحقّ بعيداً عن تعنّت الاحتلال الصهيونيّ وإجرامه، لتجد أنَّ أهون الطّرق يكمن في الضّغط على العرب، من أجل "اتخاذ خطواتٍ ملموسة" ـ كما يعبّرون دائماً ـ، وهي العبارة التي أسقطت المبادرة العربيّة وجعلتها مجرّد كلماتٍ وأفكارٍ لا تساوي شيئاً، ولا تزال تتحرّك بالعرب في دوّامة التخلّي حتّى عن ورق التّوت.
الخداع الأمريكيّ الإسرائيليّ للفلسطينيّين
وإنّنا، أمام هذا الواقع، وأمام ما يجري داخل فلسطين المحتلّة من اغتيالاتٍ متفرّقة للفلسطينيين، ومحاكماتٍ ظالمة لهم، ومصادرةٍ لبيوتهم وأرضهم، وخصوصاً في القدس الشّريف، وأمام التوسّع الجديد والمتصاعد في الحفريات حول القدس نفسها لإنشاء مستوطناتٍ جديدة، وفي ظلّ المصادقات الحكوميّة الصهيونيّة الجديدة على بناء أربعمائة وخمسٍ وخمسين وحدةً سكنيّةً جديدةً في المستوطنات، نعتقد أنَّ المسألة لا تعدو كونها خديعةً كبرى يتوزّع فيها الجانبان الأمريكيّ والإسرائيليّ الأدوار، لتموت القضية الفلسطينية في رحم التفاصيل السياسية والعناوين الهامشية، وفي خطوات المجاملة التي لا يُسمح فيها للحَمَل بأن يغادر حضنَ الذّئاب، بما يتناسب مع الخطّة التي تقتضي التقاط الصّورة في اللّحظة السياسيّة المناسبة التي يُعمل فيها لمصادرة القضيّة بالكامل.
التمسّك بخيار المقاومة
إنّنا نقول للشعب الفلسطيني الذي تُرك في السّاحة وحده، حيث لا جامعة عربيّة تتحمّل المسؤوليّة، ولا لجنة للقدس تتحرّك حتى في مجال إصدار البيانات، ولا أموال عربيّة تذهب لحماية الفلسطينيين المَقْدسيين، في الوقت الذي تذهب المليارات العربية لحماية الشركات الغربية من الإفلاس، ولإعادة الروح إلى النوادي الرياضية الغربية هنا وهناك...
إنّنا نقول لهذا الشّعب المظلوم والمضطهد، والذي اجتمعت عليه محاور الاستكبار وجحافل الاحتلال وجيوش المتواطئين: إنّ عليك أن تواصل جهدك وجهادك في التمسّك بالأرض، والإصرار على احتضان القضيَّة، ومنع العدوّ من احتلال الذّاكرة، لأنّ الأمّة بشرفائها ومخلصيها معك، ولأنّ الظّلم الذي وجد أكبر مساحةٍ من مساحات التّواطؤ في الماضي والحاضر، سوف يصطدم بإصرار الشّعب على تحقيق أهدافه على مستوى المستقبل كلّه.
تحالف قوى الاستكبار لمحاصرة إيران
وعلى خطّ آخر، نرصد اجتماعاً جديداً وتحالفاً متجدّداً لقوى الاستكبار العالميّ لمحاصرة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، تحت عنوان "الملفّ النوويّ"، ليكون هذا الملفّ قاعدةً لتحقيق أهدافٍ أخرى يتّصل بعضها بالتّهويل على العرب، لإعطاء إيران دور الفزّاعة في المنطقة، ولعقد المزيد من صفقات التسلّح مع دول الخليج، للإبقاء على القواعد العسكريّة في المنطقة تحت عنوان الحماية، ولمحاصرة إيران ومنعها من أن تشكّل إزعاجاً للعدوّ الصهيونيّ ولمشروع الهيمنة على المنطقة وثرواتها الطبيعيّة، ولمواصلة الضّغط على الأمّة ومصادرة قرارها السياسيّ، ومنع قيام محورٍ وطنيّ إسلاميّ وعربيّ أصيل يرفض مصادرة الأمّة وبيع القضيّة الفلسطينيّة.
إنّنا نقول للعرب والمسلمين: إنّ إيران هي العنوان الذي تستخدمه حركة الدّعاية السياسيّة والإعلاميّة الغربيّة، ولكنّ المستهدف هو فلسطين، والأمّة بقضاياها الكبرى، وبمواقع العزّة والممانعة فيها.
العلاقات العربيّة ـ العربيّة: الاقتصار على الشّكليّات
وعلى صعيد الواقع العربي، نرى أنّ التّجربة السّابقة للعلاقات العربيّة - العربيّة بعد الأزمات التي كانت تحصل بين تلك الدول، تؤكّد أنّها علاقات تتحرّك على السّطح، بحيث تهتزّ لأيّ طارئ؛ بينما المطلوب في العلاقات العربيّة أن ترتكز إلى الوحدة التي يشعر معها العرب بأنّ القضايا العربيّة تمثّل عناصر اللّقاء بشكلٍ جدّيّ، لا أن تنطلق العلاقات من خلال لقاءات بروتوكوليّة أو مجاملات شكليّة، تقتصر على الراحة النفسيّة التي تضفيها على الشارع العربي، ثمّ لا تلبث أن تزول عندما تتدخّل بعض المحاور الدوليّة، أو حتّى بعض المحاور العربيّة المرتبطة بحركتها بالمحاور الدوليّة.
لبنان ومشكلة التبعيّة للخارج
أمّا في لبنان، الذي باتت أوضاعه الداخليّة أكثر التصاقاً بما يجري في الخارج، فإنّ علينا أن نراقب تطوّر العلاقات العربيّة في تأثيرها على المسألة اللّبنانيّة، لندرس جيّداً حجم التّعقيدات المحيطة بها؛ لأنّ المسألة اللّبنانيّة في تداعيات الحلول أو التّعقيد، ليست نتيجةً لطبيعة العلاقة بين دولتين عربيّتين، بل تتحرّك ـ إلى جانب ذلك ـ من خلال بعض المحاور الدّوليّة التي لا تزال تعتبر لبنان موقعاً من مواقعها الاستراتيجيّة الأساسيّة في المنطقة.
وربّما يكون على اللّبنانيّين أن ينتظروا طويلاً؛ فليس هناك في هذا العالم من تأخذه الرأفة حيال تصاعد أرقام الفقر في لبنان، وليس هناك من يتحسّس آلام الجوعى والمقهورين والمعذَّبين، ولا من يحزن لحال بلد الإشعاع الذي تلفّه الظّلمة من أقصاه إلى أقصاه، بما فيه أولئك الذين يرسلون خلاصة ثرواتهم البتروليّة والغازيّة إلى ما وراء البحار... وليس هناك من هو مستعدّ لاتخاذ خطوةٍ جريئةٍ لإخراج العلاقات العربيّة - العربيّة من تعقيداتها التي تكاد تكون شكليّةً في كثيرٍ من عناوينها. وكان الله بعون اللّبنانيين الذين يدفعون الأثمان مضاعفةً في كلّ الأزمات، ولكنّهم لا يلتفتون إلى مأساتهم ومعاناتهم عندما تُقرع الأجراس العصبيّة والمذهبيّة والسياسيّة على أبواب الانتخابات النيابيّة أو المحطّات الاستراتيجية.
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيّد محمّد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائيّة والسياسيّة والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
النّصيحة والغشّ
ميزان المحبة
كان شهر رمضان زمناً يختزن في داخله كلَّ ما يقرِّب الإنسان إلى الله، ويفتح عقله للخير، وقلبه للمحبّة، وينطلق ليؤصّل معنى الإنسانية، في عيش الإنسان روح الإنسانيّة مع الآخر، فيحبّ للآخر ما يحبّ لنفسه، ويكره له ما يكره لها، وهذا ما أراد الإسلام أن يوحي للإنسان بأنّه خطّ العدالة: "اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبّ لغيرك ما تحبّ لنفسك واكره له ما تكره لها".
وجوب النّصيحة
وفي ضوء ذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يكون ناصحاً للنَّاس في فكره، فينصحهم إذا استنصحوه، وناصحاً لهم في معاملاته، فيتعامل معهم بما يحقِّق لهم السَّعادة في أوضاعهم. وهكذا يتحوَّل الإنسان إلى شخصيَّةٍ كلُّها خيرٌ للنّاس، في كلّ ما يرتبط بحياته معهم، فيخرج عن الجانب الأنانيّ في ذاته، فلا يفكّر في زنزانة مطامعه وأهوائه، بل يفكِّر في النّاس وفي نفسه، ليعيش الحياة الاجتماعيّة السّليمة، فلا يكون فرديّاً، بل يسعى ليندمج بالمجتمع، فتكون سلامته من سلامة مجتمعه، ولا يفرض نفسه على النّاس بأنانيّته، فيتعالى عليهم، ويُشعر الآخرين بأنهم دون مستواه، سواء كان ذلك في حياته الفرديّة أو في حياته العائليّة.
ولذلك، ورد في بعض الأحاديث، أنَّ الفرق بين المؤمن والمنافق، "أنّ المنافق تأكل عائلتُه بشهوته، وأنّ المؤمن يأكل بشهوة عائلته"، حيث إنَّ المؤمن يفكّر في الآخرين تماماً كما يفكّر في نفسه أو أكثر، وهذا ما نقله الإمام الحسن بن عليّ (عليهما السّلام) عن والدته السيّدة الطّاهرة المعصومة، سيّدة نساء العالمين، فاطمة الزّهراء(ع)، عندما رآها في صلاة اللّيل وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، وكانت أحوج ما تكون للدّعاء انطلاقاً من ضعف جسدها، فسألها: "يا أمّاه، لمَ لا تدعين لنّفسك"؟ فقالت(ع): "يا بنيّ، الجار ثم الدّار".
وجاءت التّعاليم الإسلاميَّة لتؤكِّد النّصح للنّاس، في كلّ أمورهم، فقد ورد في الحديث: "عليك بالنّصيحة للنّاس، فلن تلقاه بعملٍ أفضل منه"، لأنَّ النّصح يعبّر عن اتّساع نفسك وإنسانيّتك لكلّ النّاس، فلا تتجمّد في داخل ذاتك. وقد ورد في بعض الأحاديث: "من استشاره أخوه ولم ينصحه سلبه الله رأيه"، فالله يعاقبه في الدّنيا، فيجعله شخصاً لا رأي له، بمعنى أنّ النّاس سوف تبتعد عنه بالمشورة والنّصيحة.
الغشّ نقيض النّصيحة
وفي مقابل النّصيحة هناك الغشّ، فكما أنّ الإنسان الذي ينصح النّاس يرتفع بإنسانيّته وبقربه إلى ربّه إلى المستوى الذي يجعله محبوباً عند الله، فإنّ الإنسان الذي يغشّ النّاس هو شخصٌ مبغوضٌ عند الله وخارجٌ عن الإسلام بالمعنى الاجتماعيّ والأخلاقيّ والرّوحيّ، وقد ورد عن رسول الله(ص): "ليس منّا مَن غشَّ مسلماً أو ضرّه أو ماكَرَه". وعنه(ص): "مَنْ غشَّ مسلماً في شراءٍ أو بيعٍ فليس منّا، ويُحشر يوم القيامة مع اليهود، لأنهم أغشّ الخلق للمسلمين". وعنه(ص): "مَن غشَّ أخاه المسلم، نَزَعَ الله بَركة رزقه، وأفسد عليه معيشته، ووكَلَه إلى نفسه".
وعن الإمام جعفر الصّادق(ع): "ليس منّا مَن غشّنا". وعن الإمام الكاظم(ع): "ملعون من غشَّ مسلماً أو ماكَرَه أو غرّه". وعن الإمام عليّ(ع): "مَن غشَّ النّاس في دينهم ـ فتحدّث إليهم بما ليس من الدّين على أنّه من الدّين ـفهو معاندٌ لله ورسوله". وعنه(ع): "إنّ أعظم الخيانة خيانة الأمّة، وأفظع الغشّ غشّ الأئمّة". وعنه(ع): "المؤمن لا يغشّ أخاه، ولا يخونه، ولا يخذله، ولا يتّهمه". وعنه(ع): "شرّ النّاس من يغشّ النّاس".
الغشّ في اللّحوم
وفي ضوء هذا، فنحن حينما نواجه الواقع الّذي نعيشه، نجد أنواعاً من الغشّ في المعاملات وفي البيع والشّراء، وفي مقدّم الّذين يغشّون، بعض النّاس الذين يستوردون اللّحوم غير المذكّاة، وهي المستوردة من بلادٍ لا تؤمن بما فرضه الله من التّذكية للحيوان المأكول، فيخلطون هذه اللّحوم غير المذكّاة، والتي هي بحكم الميتة، باللّحم المذبوح على الطّريقة الشّرعيّة، ويبيعون الجميع على أساس أنّه لحم حلال، وقد زحف هذا الموضوع إلينا، وحتى في مناطقنا، هناك أشخاص يستوردون اللّحم الذي لا وثوق في تذكيته وحلّيّته، ويخلطونه باللّحم المذكّى أو حتى لا يخلطونه، ثم يبيعونه للنّاس على أنّه حلال. نحن نقول إنّ هؤلاء ملعونون على لسان النبيّ(ص) والأئمّة من أهل البيت(ع)، وقد استمعتم إلى قول النبيّ(ص): "ليس منّا من غشّنا".
وقد أصدرتُ فتوى شرعيّة ملزمة، أنّكم إذا عرفتم شخصاً يغشّ النّاس، ويبيع اللّحم الحرام على أساس أنّه حلال، فقاطعوه ولا تشتروا منه حتى اللّحم الحلال، لأنّه يغشّ المسلمين، ولأنّه خارج عن الشّريعة الإسلاميّة في هذا المجال.
الغشّ في المعاملات
وفي رواية عن الإمام الباقر(ع) قال: "مَرّ النبي(ص) في سوق المدينة بطعام، فقال لصاحبه: "ما أرى طعامك إلا طيّباً"، وسأله عن سعره، فأوحى الله عزّ وجلّ إليه أن يدسّ يديه في الطّعام، فَفَعل، فأخرج طعاماً رديّاً، فقال لصاحبه: "ما أراك إلا جمعت خيانةً وغشّاً للمسلمين". فقد حكم عليه بأنّه خائنٌ وغشّاشٌ للمسلمين. وهكذا في كلّ المعاملات. فمثلاً، قد يبيع الإنسان بعض الأطعمة أو الأغراض التي فيها عيوب، ولا يبيّن للنّاس هذه العيوب، بل ربما يوحي بأنّه لا عيب فيه، سواء كان شقّةً أو سيّارةً أو ما إلى ذلك... وذلك يعتبر غشّاً، ولا يجوز لإنسانٍ مسلم أن يبيع إنساناً إلا بعد أن يبيّن له ما فيه من العيوب، كما يبيّن له ما فيه من الأشياء الطيّبة، وإذا لم يبيّن البائع للشّاري العيب، فإنّ للمشتري أن يبطل البيع ويسترجع ماله.
الغشّ في الزّواج
وهناك نوعٌ من أنواع الغشّ في الزّواج، فمثلاً: إذا جاءك شخص يستنصحك في الزواج من امرأة قريبة لك، أو شابّ قريب لك، فإنّ عليك أن لا تغطّي عيوبه أو عيوبها، فإنّ ذلك من الغشّ، وتتحمّل بذلك المسؤوليّة المترتّبة على ذلك.
الغشّ السياسيّ والاجتماعيّ
ومن أنواع الغشّ في أيام الانتخابات، سواء البلديّة أو النيابيّة أو في مجال التّوظيف، أنّه يأتي شخص ويمدح هذا المرشّح أو ذاك، بمدائح ليست موجودةً فيه، ويحاول أن يخفي عيوبه، فإنّ ذلك من الغشّ الذي يُخرج فاعله عن الخطّ الإسلاميّ الأصيل.
وهناك الغشّ في الامتحانات، فلا يجوز لأيّ شخص أن يعطي الطلاب الجواب عن الأسئلة، سواء كان رفيقه أو أستاذه، فإنّ ذلك كلّه من الغشّ الذي يستوجب غضب الله عليه.
قيمة الأخلاق في الإسلام
إنّ قيمة الإسلام هي في أخلاقيّة الإنسان المسلم، وقد ورد عن النبيّ(ص): "إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق"، فإذا كان الإنسان يفكّر في الغشّ من أجل أن يحصل على ربحٍ أكثر أو نتائج أكبر، فإنّ عليه أن يعرف أنّ الغشّ يؤدّي إلى أن ينـزع الله عنه بركة رزقه. إنّ الإسلام ليس مجرّد صلاة وصيام، وإنما هو صدق وأمانة ونصح لله في خلقه، وعلينا أن نحسب حساب الآخرة كما نحسب حساب الدّنيا: {يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}[الشّعراء:88ـ 89].
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الخطبة الثّانية
الدّعم الدّوليّ المطلق لإسرائيل
من قلب الأمم المتّحدة، وهي المنظّمة الدولية التي انطلقت من داخلها، قبل ما يزيد على الستين سنةً، إشارةُ الاعتراف بكيان العدوّ، والتي تمثّل انقلاباً على ميثاقها وشرعتها الإنسانيَّة، أراد الرّئيس الأمريكيّ للقضيّة الفلسطينيّة أن تنحدر إلى المستوى الذي يُقتصر فيه على الجانب الرمزيّ في صورةٍ ثلاثيّةٍ تجمعه ورئيس حكومة العدوّ ورئيس السّلطة الفلسطينيّة. وإذا كانت هذه الصّورة لا تعني شيئاً للرّاعي الأمريكيّ للتّسوية، ولا لمسؤولي العدوّ الذي أفصحت وسائل إعلامه عن أنّ اللّقاء كان مجرّد "مزحة" على حساب أوباما، فإنَّ ذلك يوحي بأنَّ مَنْ يُسمَّوْن "عرب الاعتدال" باتوا يتحرّكون في قضاياهم المصيريّة من خلال المزاح الذي نستذكر فيه قول الشّاعر: يا أمّةً ضحكتْ من جهلها الأممُ.
الرّئاسة الأمريكيّة: استعادة للصّورة الحقيقيّة!
وربّما يكون من أخطر ما خرجت به هذه القمّة، أنّها أعطت العدوّ الصهيوني الاعتراف الرئاسيّ الأمريكيّ بيهوديّة الكيان، ما جعل الإسرائيليّين يهلّلون فرحاً أمام هذا الإنجاز، من دون أن يُعطى العرب أيّ شيء ممّا كانوا يطالبون به، ولو على مستوى وقف الاستيطان.
وهكذا، استعادت الرئاسة الأمريكية صورتها الحقيقيّة، التي ترضخ دائماً للشروط الإسرائيليّة، فتطلق يد العدوّ ليبني ويتوسّع في الاستيطان إلى أبعد مدى. ومع ذلك، يحدّثونك في الساحات العربية عن السّلام الآتي من بين ألغام المرحلة، وعلى حساب حقائق التاريخ وآفاق المستقبل.
إنّنا نعتقد أنّ أوباما أخفق، كما أسلافه من الرّؤساء، عندما تحرّك كرئيسٍ مسكونٍ بتحقيق أهداف ذاتيّة يجعلها في سجلّ إنجازاته التاريخيّة، والتي لا تملك أن تنطلق مع الحقّ بعيداً عن تعنّت الاحتلال الصهيونيّ وإجرامه، لتجد أنَّ أهون الطّرق يكمن في الضّغط على العرب، من أجل "اتخاذ خطواتٍ ملموسة" ـ كما يعبّرون دائماً ـ، وهي العبارة التي أسقطت المبادرة العربيّة وجعلتها مجرّد كلماتٍ وأفكارٍ لا تساوي شيئاً، ولا تزال تتحرّك بالعرب في دوّامة التخلّي حتّى عن ورق التّوت.
الخداع الأمريكيّ الإسرائيليّ للفلسطينيّين
وإنّنا، أمام هذا الواقع، وأمام ما يجري داخل فلسطين المحتلّة من اغتيالاتٍ متفرّقة للفلسطينيين، ومحاكماتٍ ظالمة لهم، ومصادرةٍ لبيوتهم وأرضهم، وخصوصاً في القدس الشّريف، وأمام التوسّع الجديد والمتصاعد في الحفريات حول القدس نفسها لإنشاء مستوطناتٍ جديدة، وفي ظلّ المصادقات الحكوميّة الصهيونيّة الجديدة على بناء أربعمائة وخمسٍ وخمسين وحدةً سكنيّةً جديدةً في المستوطنات، نعتقد أنَّ المسألة لا تعدو كونها خديعةً كبرى يتوزّع فيها الجانبان الأمريكيّ والإسرائيليّ الأدوار، لتموت القضية الفلسطينية في رحم التفاصيل السياسية والعناوين الهامشية، وفي خطوات المجاملة التي لا يُسمح فيها للحَمَل بأن يغادر حضنَ الذّئاب، بما يتناسب مع الخطّة التي تقتضي التقاط الصّورة في اللّحظة السياسيّة المناسبة التي يُعمل فيها لمصادرة القضيّة بالكامل.
التمسّك بخيار المقاومة
إنّنا نقول للشعب الفلسطيني الذي تُرك في السّاحة وحده، حيث لا جامعة عربيّة تتحمّل المسؤوليّة، ولا لجنة للقدس تتحرّك حتى في مجال إصدار البيانات، ولا أموال عربيّة تذهب لحماية الفلسطينيين المَقْدسيين، في الوقت الذي تذهب المليارات العربية لحماية الشركات الغربية من الإفلاس، ولإعادة الروح إلى النوادي الرياضية الغربية هنا وهناك...
إنّنا نقول لهذا الشّعب المظلوم والمضطهد، والذي اجتمعت عليه محاور الاستكبار وجحافل الاحتلال وجيوش المتواطئين: إنّ عليك أن تواصل جهدك وجهادك في التمسّك بالأرض، والإصرار على احتضان القضيَّة، ومنع العدوّ من احتلال الذّاكرة، لأنّ الأمّة بشرفائها ومخلصيها معك، ولأنّ الظّلم الذي وجد أكبر مساحةٍ من مساحات التّواطؤ في الماضي والحاضر، سوف يصطدم بإصرار الشّعب على تحقيق أهدافه على مستوى المستقبل كلّه.
تحالف قوى الاستكبار لمحاصرة إيران
وعلى خطّ آخر، نرصد اجتماعاً جديداً وتحالفاً متجدّداً لقوى الاستكبار العالميّ لمحاصرة الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، تحت عنوان "الملفّ النوويّ"، ليكون هذا الملفّ قاعدةً لتحقيق أهدافٍ أخرى يتّصل بعضها بالتّهويل على العرب، لإعطاء إيران دور الفزّاعة في المنطقة، ولعقد المزيد من صفقات التسلّح مع دول الخليج، للإبقاء على القواعد العسكريّة في المنطقة تحت عنوان الحماية، ولمحاصرة إيران ومنعها من أن تشكّل إزعاجاً للعدوّ الصهيونيّ ولمشروع الهيمنة على المنطقة وثرواتها الطبيعيّة، ولمواصلة الضّغط على الأمّة ومصادرة قرارها السياسيّ، ومنع قيام محورٍ وطنيّ إسلاميّ وعربيّ أصيل يرفض مصادرة الأمّة وبيع القضيّة الفلسطينيّة.
إنّنا نقول للعرب والمسلمين: إنّ إيران هي العنوان الذي تستخدمه حركة الدّعاية السياسيّة والإعلاميّة الغربيّة، ولكنّ المستهدف هو فلسطين، والأمّة بقضاياها الكبرى، وبمواقع العزّة والممانعة فيها.
العلاقات العربيّة ـ العربيّة: الاقتصار على الشّكليّات
وعلى صعيد الواقع العربي، نرى أنّ التّجربة السّابقة للعلاقات العربيّة - العربيّة بعد الأزمات التي كانت تحصل بين تلك الدول، تؤكّد أنّها علاقات تتحرّك على السّطح، بحيث تهتزّ لأيّ طارئ؛ بينما المطلوب في العلاقات العربيّة أن ترتكز إلى الوحدة التي يشعر معها العرب بأنّ القضايا العربيّة تمثّل عناصر اللّقاء بشكلٍ جدّيّ، لا أن تنطلق العلاقات من خلال لقاءات بروتوكوليّة أو مجاملات شكليّة، تقتصر على الراحة النفسيّة التي تضفيها على الشارع العربي، ثمّ لا تلبث أن تزول عندما تتدخّل بعض المحاور الدوليّة، أو حتّى بعض المحاور العربيّة المرتبطة بحركتها بالمحاور الدوليّة.
لبنان ومشكلة التبعيّة للخارج
أمّا في لبنان، الذي باتت أوضاعه الداخليّة أكثر التصاقاً بما يجري في الخارج، فإنّ علينا أن نراقب تطوّر العلاقات العربيّة في تأثيرها على المسألة اللّبنانيّة، لندرس جيّداً حجم التّعقيدات المحيطة بها؛ لأنّ المسألة اللّبنانيّة في تداعيات الحلول أو التّعقيد، ليست نتيجةً لطبيعة العلاقة بين دولتين عربيّتين، بل تتحرّك ـ إلى جانب ذلك ـ من خلال بعض المحاور الدّوليّة التي لا تزال تعتبر لبنان موقعاً من مواقعها الاستراتيجيّة الأساسيّة في المنطقة.
وربّما يكون على اللّبنانيّين أن ينتظروا طويلاً؛ فليس هناك في هذا العالم من تأخذه الرأفة حيال تصاعد أرقام الفقر في لبنان، وليس هناك من يتحسّس آلام الجوعى والمقهورين والمعذَّبين، ولا من يحزن لحال بلد الإشعاع الذي تلفّه الظّلمة من أقصاه إلى أقصاه، بما فيه أولئك الذين يرسلون خلاصة ثرواتهم البتروليّة والغازيّة إلى ما وراء البحار... وليس هناك من هو مستعدّ لاتخاذ خطوةٍ جريئةٍ لإخراج العلاقات العربيّة - العربيّة من تعقيداتها التي تكاد تكون شكليّةً في كثيرٍ من عناوينها. وكان الله بعون اللّبنانيين الذين يدفعون الأثمان مضاعفةً في كلّ الأزمات، ولكنّهم لا يلتفتون إلى مأساتهم ومعاناتهم عندما تُقرع الأجراس العصبيّة والمذهبيّة والسياسيّة على أبواب الانتخابات النيابيّة أو المحطّات الاستراتيجية.