الإمام الكاظم(ع): أمثولة الجود بالنفس لتأصيل الإسلام

الإمام الكاظم(ع): أمثولة الجود بالنفس لتأصيل الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الإمام الكاظم(ع): أمثولة الجود بالنفس لتأصيل الإسلام

الكاظم(ع) باب الحوائج

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33]. من أهل هذا البيت، ومن أئمتهم، الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الخامس والعشرين من هذا الشهر، شهر رجب.

لقد ملأ هذا الإمام مرحلته علماً، فكان مرجعاً لكبار العلماء، وكان المؤرِّخون والمفكّرون يأتون إليه ويروون عنه. وكان(ع) يلقَّب بباب الحوائج، لأنه ما قصده أحد في حياته ممن كان يعاني من دَين أو فقر أو حرمان، إلا وأعطاه ما يقضي به دَينه ويرفع عنه حرمانه، وكان أيضاً باب الحوائج إلى الله تعالى، حيث كان الناس يتوسّلون به ويستشفعون به إلى الله لقضاء حوائجهم. وكان(ع) يجسِّد أخلاق رسول الله(ص) وأخلاق أجداده من الأئمة الهداة (عليهم السلام) في رعاية المستضعفين والتواضع لهم، فكان يرعى الفقراء والمستضعفين ويحترمهم ويراعي مشاعرهم.

وينقل لنا كتّاب سيرته في وصف تواضعه(ع): أنه كان سائراً في الطريق، فرأى شخصاً مستضعفاً دميم المنظر، قبيحاً في صورته، أسود اللون، فنـزل عن دابته وجلس معه يحادثه، وسأله إذا كان له حاجة عنده أن يرجع إليه فيها ليقضيها له، فاستنكر عليه أصحابه ذلك وقالوا: "يابن رسول الله، أتنـزل إلى هذا ثمّ تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج"؟! فقال(ع) لهم: "عبد من عبيد الله، وأخٌ في كتاب الله، وجارٌ في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعل الدهر يرد من حاجاتنا إليه، فيرانا، بعد الزهو عليه، متواضعين بين يديه".

انفتاحه(ع) على الأعداء

ومن أخلاقياته(ع)، أنه كان منفتحاً على أعدائه الذين كانوا يسبّونه ويسبّون آباءه ويبغضونهم، منطلقاً في ذلك من قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} [فصِّلت:34]. تنقل لنا كتب السيرة: أنه كان هناك شخص من ولد عمر بن الخطاب يبغض الإمام الكاظم(ع) ويحقد عليه ويسبّه، حتى ضاق به أصحاب الإمام وأرادوا قتله، فمنعهم أشد المنع، ثم سأل عن هذا الرجل، فقالوا له إنّه في بستان له، فذهب الإمام(ع) إليه وهو راكب على دابته، فلما دخل البستان، قال هذا الحاقد للإمام(ع): لا تطأ زرعنا، فلم يلتفت إليه، إلى أن جلس إليه وضاحكه، ثم قال(ع) له: "كم غرمت في زرعك هذا"؟ قال: مائة دينار، فقال(ع): "فكم ترجو أن تصيب؟"، قال: أنا لا أعلم الغيب؟، فقال له الإمام(ع): "إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه؟"، قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار، فأعطاه ثلاثمائة دينار وقال: "هذا زرعك على حاله". وبدأ يحادثه إلى أن قام من عنده، فلما خرج من عنده ودخل المسجد صاح الرجل: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"، فالتفت الإمام(ع) إلى أصحابه وسألهم: "أيّما كان خيراً، ما أردتم، أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار"، وتلك هي أخلاق أئمة أهل البيت(ع).

وكان الإمام الكاظم(ع) يوجّه أحد أصحابه، وهو يونس بن عبد الرحمن، على الأسلوب الذي ينبغي أن يتعاطى به مع الناس، فقال له: "يا يونس، ارفق بهم ـ أي عندما تحدّث الناس، حدّثهم بكلام ليّن ـ فإن كلامك يدقّ عليهم"، قال: إنهم يقولون لي: يا زنديق، فقال(ع): "وما يضرّك أن يكون في يدك لؤلؤة فيقول الناس هي حصاة، وما ينفعك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس إنها لؤلؤة؟". المهم هو أن تثق أنت بما عندك، مهما قال الناس عنك. هذا هو الأسلوب القرآني الذي جسَّده الأئمة من أهل البيت(ع) في خط توجيه أصحابهم والناس الذين ينتمون إليهم، وهو أن يدرس الإنسان نفسه ويعرف أنه على الخط الصحيح، بحيث إذا جاء من يتّهمه بالضلال أو بالكفر، أدرك أنه لا قيمة لكل هذه التهم والأقوال طالما أنه يسير في الخط الذي أراد الله تعالى له أن يكون فيه.

فالإمام الكاظم(ع) انطلق ليملأ مرحلته علماً وروحانيةً وتقوى وعبادةً، وكان من الأئمة المظلومين، فقد عاش في آخر حياته في زمن خلافة الرشيد، وكان هذا الأخير يتحدّى الإمام، حتى إنّه جاء في كتب السيرة: أنّ الرشيد وقف وهو يزور مقام النبي(ص) ليزهو على أصحابه فقال: "السلام عليك يابن العم"، فالتفت الإمام الكاظم(ع) فقال: "السلام عليك يا أبتِ"، فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه، ثم سأل الإمام(ع): "لِمَ قلت إنك أقرب إلى رسول الله منّا؟"، فقرأ الإمام(ع) عليه الآية التي تعتبر أن عيسى(ع) من ذرية نوح وإبراهيم، وهو يتصل بهما بواسطة الأم، ثم قدم له(ع) الحجة في ذلك، فقال له: "لو بعث رسول الله حيّاً وخطب منك كريمتك، هل كنت تجيبه إلى ذلك"؟ فقال: "سبحان الله، وإني لأفتخر بذلك على العرب والعجم"، فقال(ع): "ولكنّه لا يخطب منّي، ولا أزوّجه، لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم".

مواجهة الخليفة الرشيد

ولعل الأساس الذي جعل الخليفة الرشيد يفكر في قتل الإمام الكاظم(ع)، هو ما ذكر من أن أحد أقرباء الإمام(ع) الذي قد يكون ابن أخيه إسماعيل، أو أخاه محمد بن جعفر، وكان الرشيد يغريهم بالمال، جاء إلى الرشيد وقال له: "يا أمير المؤمنين، خليفتان في الأرض، موسى بن جعفر بالمدينة يُجبى له الخراج، وأنت بالعراق يُجبى إليك الخراج"، فحقد الرشيد على الإمام(ع)، لأنه خاف من ثقة الناس به، وهو يعرف أن أهل البيت(ع) كانوا في الدرجة العليا من الوثاقة واحترام الناس لهم، حتى إن المأمون عندما سُئِل: من أين تعلّمت التشيّع؟ قال: من أبي هارون، قالوا: كيف، وهو المعروف بعداوته لأهل البيت(ع)؟ فقال: جاء موسى بن جعفر إلى أبي زائراً، فاستقبله وأجلسه معه واحترمه أشدّ الاحترام، وعندما خرج سألته: من هذا؟ قال: هذا موسى بن جعفر، ولو عرف الناس منه ما نعرف لنازعونا الملك، فقال: إذاً، لماذا لا تتنازل لهم؟ قال: يا بني، إن الملك عقيم، ولو نازعتني الملك لأخذت الذي فيه عيناك.

فقد كانوا يخافون من تأثير الأئمة(ع) على الناس وثقتهم بهم وتعظيمهم لهم، لذلك عندما جاء الرشيد إلى المدينة، خاطب رسول الله(ص) قائلاً: "إني أعتذر إليك من أمرٍ أريد أن أفعله، إني أريد أن أسجن موسى بن جعفر، لأنه يثير الفتنة بين الناس". وأرسل الإمام(ع) إلى سجن قريبه عيسى بن موسى، وبقي عنده سنة، وأراد منه أن يقتله، فأرسل الأخير إليه يقول له: خذه مني، لأنني وضعت عليه جاسوساً ولم أجد منه إلا الصلاة والصيام، ولم أسمعه يدعو عليّ أو عليك، وكنت أسمعه يناجي ربه ويقول: "اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك وقد فعلت، فلك الحمد". فنقله إلى سجن الفضل بن الربيع، وعندما رأى أن الفضل يعظّمه ويوسّع عليه نقله إلى سجن السندي بن شاهك الذي قدّم له طعاماً مسموماً، فانتقل إلى جوار ربه، وكان الإمام الشهيد الذي عانى ما عاناه في تلك السجون المظلمة القاسية، حتى إنه كان لا يعرف الليل من النهار، فأوكل شخصاً ليعرّفه مواعيد الصلاة.

تجسيده(ع) للإسلام

إن عظمة أئمتنا من أهل البيت(ع)، أنهم كانوا يجسّدون الإسلام كأصفى ما يكون، فكان كل واحدٍ منهم إسلاماً متجسّداً، وعلينا أن نتّبعهم في مواعظهم وإرشاداتهم وتعاليمهم في كل أمورنا، لأنهم وإن غابوا عنا بالجسد، فإنهم الأحياء بيننا في كل تراثهم الذي أصّلوا فيه الإسلام للأمة.

ومما يروى عنه(ع) في وصيته لبعض أولاده أنه قال: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الأخوان الثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلّون فيها للذاتكم في غير محرّم". وأيضاً من وصاياه(ع) لشيعته: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه".

وعنه(ع) وهو يحدّثنا عن العلم: "أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلا به ـ تحصيل العلم الذي يتوقف عليه صحة عملك ـ وأوجب العلم عليك ما أنت مسؤول عن العمل به، وألزم العلم لك ما دلّك على صلاح قلبك، وأظهر لك فساده، وأحمد العلم عاقبةً ما زاد في عملك في العاجل وأزلفك في الآجل، فلا تشتغلن بعلم ما لا يضرّك جهله، ولا تغفلن عن علم ما يزيد من جهلك تركه".

من وصاياه(ع) ومواعظه

ومن وصاياه(ع) لأصحابه: "لا تستكثروا كثير الخير، ولا تستقلُّوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصَف، وسارعوا إلى طاعة الله، وأصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة فإنما ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحلّ لكم فإن ذلك عليكم".

وفي حديثه(ع) لبعض أصحابه، وهو حديث موجّه إلى الناس الحياديين الذين لا يملكون موقفاً أو رأياً، يقول(ع): "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة"، قال: وما الإمّعة؟ قال(ع): "لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إن رسول الله (ص) قال: يا أيها الناس، إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحبّ إليكم من نجد الخير".

وقال(ع) لبعض أصحابه وهو يعظه: "اتقِ الله، وقل الحق وإن كان فيه هلاكك ـ في الدنيا ـ فإن فيه نجاتك ـ عند الله ـ واتقِ الله، ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك ـ في الدنيا ـ فإن فيه هلاكك".

هذا بعض من سيرة الإمام الكاظم(ع) ووصاياه، وقد دُفن(ع) في مقابر قريش في الكاظمية، ومن ثم دُفن فيها بعده حفيده محمد الجواد(ع)، وهذا ما جعل أحد الشعراء يقول:

لذْ إن دهتك الرزايـا               والدهر عيشك نكّـد

بكاظم  الغيظ  موسى                وبـالجـواد  محمَّـد

صلى الله على موسى الكاظم(ع) وعلى آبائه وأولاده، ورزقنا الله شفاعتهم.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، {وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2]، وانطلقوا في مواجهة التحديات التي توجّه إلى العالم الإسلامي من موقع الوحدة التي أراد الله تعالى للمسلمين أن يتواصوا بها، فماذا هناك؟

مزايدة أوروبية في دعم إسرائيل

حظي كيان العدو في الأيام والأسابيع الماضية بمزيد من العطف الغربي، وهو الذي لا يحتاج إلى كثير من هذا العطف، لأنه أصبح يتحكّم بكثير من الإدارات الغربية ويوجّه سياساتها الخارجية، ولكن تصاعد وتيرة العطف الغربي عليه، يوحي بأن بعض الدول الغربية قد لاحظت وجود حال من الانكسار بدأت تصيب اليهود في فلسطين المحتلة بعد تساقط الخطوط الحمر التي تحدث عنها الكثيرون، وخصوصاً في أعقاب عملية التبادل الأخيرة، وانتصار منطق المقاومة، والتداعي المتواصل لمنطق العدوّ وشروطه.

وقد كان من اللافت أن يزايد رئيس الوزراء البريطاني (براون) على سلفه (بلير) أمام الكنيست الصهيوني فيعلن أنه كان صديقاً لإسرائيل طوال حياته ـ على طريقة الرئيس الفرنسي ساركوزي ـ ويؤكِّد وقوف بريطانيا مع إسرائيل عندما تشعر بأن سلمها واستقرارها ووجودها باتوا مهددين، ويشنّ حملةً على إيران ويهددها بمزيد من العزلة من خلال ردّ جماعي، ربما لأن ضمير المسؤولين البريطانيين ـ عموماً ـ لا يزال يعمل على وتيرة وعد بلفور... أما حديثه ـ براون ـ عن ضرورة تجميد الاستيطان، فيأتي في سياق الكلام الذي يسهل صرفه في البورصة السياسية العربية.

ولا يبتعد مضمون كلام ـ براون ـ حول التزام الأمن الإسرائيلي عن مضمون الكلام والزيارات التي قام بها بوش والمستشارة الألمانية والمرشح الجمهوري الأمريكي، وصولاً إلى زيارة المرّح الديمقراطي الأمريكي أوباما الأخيرة التي استنفد فيها كل عبارات الخضوع لليهود؛ من وصفه إسرائيل بالمعجزة، إلى إصراره على أن تكون القدس عاصمةً للكيان الصهيوني، بما ينتظر أن يجني ثماره في الانتخابات الرئاسية القادمة.

إنّ تكرار الكلام الغربي حول الالتزام المطلق بأمن إسرائيل، والإعلان عن رفض تعرّض اليهود لمحرقة جديدة، كما أعلن المرشح الجمهوري الأمريكي قبل أيام، لا يهدف إلى طمأنة الصهاينة فحسب، بل يمثل أيضاً دعوةً غير مباشرة لإسرائيل إلى استكمال حربها على الفلسطينيين، وقتلهم بدم بارد، بحجة أنها مهددة في أمنها، وأن ذلك يمثل دفاعاً عن النفس وعن الحضارة وسط محيط من "المتوحّشين"، كما قال الرئيس الحالي لكيان العدو شمعون بيريز ذات مرة.

وفي المقابل، فإن على الفلسطينيين ـ بمن فيهم المسؤولون في السلطة ـ أن يعرفوا أن الغرب يبيعهم كلاماً استهلاكياً، وأنه عندما يتحدث عن "فرص السلام الحقيقية" ـ كما يقول "براون" ـ فهو يعني أن على إسرائيل أن تستغل الفرص المتاحة للقضاء على الفلسطينيين أو على أي شيء يتصل بالدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وهو ما ينبغي أن يثير في الفصائل الفلسطينية كلها، وخصوصاً فتح وحماس، الغيرة الوطنية والدينية للدفع بالحوار الفلسطيني الداخلي إلى الواجهة، ولجعله أولويةً حاسمةً لا تقبل الجدل ولا تتوقف عند الرهانات السياسية هنا وهناك.

وليس بعيداً من ذلك، ما نلحظه من استعجال أمريكي لإبرام اتفاقية أمنية مع العراق تضمن استمرار الاحتلال، ولكن بطريقة التفافية أو بأساليب جديدة، كما نرصد استخداماً متزايداً لوسائل القتل والعنف من قبل قوات الحلف الأطلسي ضد المدنيين الأفغان، حيث قتلت قوات الحلف في ضرباتها الجوية مؤخراً حوالي 60 مدنياً أفغانياً معظمهم من النساء والأطفال، الأمر الذي يثير الكثير من علامات الاستفهام، وهو ما يكشف حقائق الكثير من الدور الذي يُراد للحلف الأطلسي أن يضطلع به في بلادنا بفعل الإشراف الأمريكي المباشر على حركته.

الحلف الأطلسي: خطّة مواجهة العالم الإسلامي

لقد قام الحلف الأطلسي تحت عنوان مواجهة الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، ولكننا نلاحظ أنه تحوّل إلى حلف عسكري يواجه الشعوب الإسلامية بكل حقدٍ وعدوانية، ولا يحترم استقلالها وأمنها، لأن ثمة عقيدة جديدة قد رُسمت لهذا الحلف ويراد ترسيخها في أذهان جنوده، ومفادها أن الإسلام المتحرك في خط الحرية يمثل الخطر الذي ينبغي مواجهته، وقد قال القائد الأعلى السابق لقوات حلف الأطلسي "جون كالفن" في كلمته الوداعية في بلجيكا: "لقد ربحنا الحرب الباردة، وها نحن نعود اليوم بعد 70 عاماً من الصراعات الضالة إلى محور الصراع القائم منذ 1300 سنة، إنها المجابهة الكبيرة مع الإسلام".

إن هذا الكلام الخطير الذي يمثل دعوةً صريحة إلى محاربة العالم الإسلامي، ومواجهة الإسلام، كدين وثقافة ومشروع، بات حركةً تلاحق بلداننا وشعوبنا، لتحاول أن تنتقم منها بطريقة وحشية أو استعراضية بدلاً من أن تدخل في حوار حضاري معها، وهذا ما ينبغي للعالم الإسلامي أن يعرفه لترتيب الأوضاع الإسلامية بالطريقة التي لا تسمح للأعداء باختراق نسيجنا الإسلامي، واستغلال نقاط ضعفنا وتمزقاتنا، وهو الأمر الذي يستدعي أن نتوحّد سنّةً وشيعةً لدرء الخطر الذي يتهدد الإسلام كله ولا يقتصر على مذهب بعينه.

مشروعية السلاح في مواجهة المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي

أما في لبنان، فإننا لا نعتقد بأن الجدل الذي تستمر الإثارة فيه بين وقتٍ وآخر، وعند هذه المحطة الحكومية أو تلك المحطة البيانية، حول سلاح المقاومة وشرعيته، يُغيّر في حقيقة الأمر شيئاً حول أهمية هذا السلاح للبنان، وخوف الأعداء منه، وخصوصاً أن شرعية السلاح انطلقت فيما يشبه الاستفتاء الشعبي في كل أوجه الاحتفال بانتصارات المقاومة، والتي توّجتها احتفالات الأسبوع الفائت بعودة الأسرى، كما أن مشروعية هذا السلاح انطلقت من الأرض ومن حضوره الدائم في مشروع الأمة المواجه للمشروع الأمريكي والإسرائيلي، ولذلك فإن الحوار ينبغي أن يتمحور حول كيفية انخراط الجميع في مشروع الدفاع عن لبنان، لا أن نُسقط من أيدينا ورقةً استراتيجيةً كبيرةً ظلّت حاضرةً دائماً لحساب الوطن والأمة.

إنني أتساءل: ما دام الجميع يجزمون بأن إسرائيل عدوّة، وأن هذه المسألة يستوي فيها الموقف الشعبي مع الرسمي، فلماذا نظل نثير السؤال حول سلاح المقاومة، بدلاً من أن يتداعى الجميع لرسم خطة عملية على المستوى الأمني والسياسي، وحتى الاقتصادي، لحفظ مجتمع المقاومة والتصدي للخطر الإسرائيلي عندما ينطلق ضدنا وضد وطننا، من دون أن يستبعد ذلك كله التنسيق مع الدولة والجيش، مع إبقاء التمايز لكل موقع من هذه المواقع في خصوصياته والتزاماته وبرامجه، ما يجعل الموقف في لبنان واحداً، لا تجزيئية فيه؟!

وفي ضوء ذلك، فإن العملية القيصرية التي احتاجها الواقع اللبناني لولادة رئاسة الجمهورية والحكومة، ربما تفرض نفسها على البيان الوزاري، لتمتد إلى أوضاع مجلس الوزراء في عمل الحكومة، ولاسيما في بقاء التدخلات الدولية والعربية لهذا الفريق أو ذاك، وهو ما لا يملك الكثيرون التخلص منه، وخصوصاً أن هناك انتظاراً للانتخابات النيابية التي قد يصعب خوضها من قِبَل بعض الأطراف في شكلٍ مستقل، بعيداً من الخطوط السياسية التي تتحرك فيها أكثر من دولة إقليمية أو دولية من خلال الأرصدة التمويلية الموضوعة في خدمة هذا المحور الداخلي أو ذاك، انطلاقاً من بقاء لبنان الساحة لكل الذين يعالجون مشاريعهم الخاصة في صراعات المنطقة.

إننا في الوقت الذي نشدد على الشعب اللبناني أن لا يُغرق نفسه في ضباب الأحلام الوردية، نؤكِّد أهمّيته أن يبقى واعياً لمصالحه الحيوية من دون استغراق في الخضوع لزعامة هنا أو زعامة هناك، أو لحالة مذهبية أو طائفية مثيرة، بل إن مسؤوليته هي الرقابة على الجميع، ومحاسبة الذين يملكون إدارة شؤونه بعيداً عن المبالغة في تضخيم الأشخاص والأحزاب، فقد لُدغ هذا الشعب من أكثر الأفاعي خطراً، ومن ألف جحر وجحر، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فكيف بمئات اللدغات؟! هذا بلاغ للناس ولينذَروا به، وليعرفوا ما هو الفاصل بين الذين صنعوا مأساة التاريخ والذين قد يصنعون مأساة الحاضر والمستقبل.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 22 رجب 1429 هـ  الموافق: 25/07/2008 م

بسم الله الرحمن الرحيم

خطبة الجمعة لسماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

الإمام الكاظم(ع): أمثولة الجود بالنفس لتأصيل الإسلام

الكاظم(ع) باب الحوائج

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً} [الأحزاب:33]. من أهل هذا البيت، ومن أئمتهم، الإمام موسى بن جعفر الكاظم(ع)، الذي نلتقي بذكرى وفاته في الخامس والعشرين من هذا الشهر، شهر رجب.

لقد ملأ هذا الإمام مرحلته علماً، فكان مرجعاً لكبار العلماء، وكان المؤرِّخون والمفكّرون يأتون إليه ويروون عنه. وكان(ع) يلقَّب بباب الحوائج، لأنه ما قصده أحد في حياته ممن كان يعاني من دَين أو فقر أو حرمان، إلا وأعطاه ما يقضي به دَينه ويرفع عنه حرمانه، وكان أيضاً باب الحوائج إلى الله تعالى، حيث كان الناس يتوسّلون به ويستشفعون به إلى الله لقضاء حوائجهم. وكان(ع) يجسِّد أخلاق رسول الله(ص) وأخلاق أجداده من الأئمة الهداة (عليهم السلام) في رعاية المستضعفين والتواضع لهم، فكان يرعى الفقراء والمستضعفين ويحترمهم ويراعي مشاعرهم.

وينقل لنا كتّاب سيرته في وصف تواضعه(ع): أنه كان سائراً في الطريق، فرأى شخصاً مستضعفاً دميم المنظر، قبيحاً في صورته، أسود اللون، فنـزل عن دابته وجلس معه يحادثه، وسأله إذا كان له حاجة عنده أن يرجع إليه فيها ليقضيها له، فاستنكر عليه أصحابه ذلك وقالوا: "يابن رسول الله، أتنـزل إلى هذا ثمّ تسأله عن حوائجه وهو إليك أحوج"؟! فقال(ع) لهم: "عبد من عبيد الله، وأخٌ في كتاب الله، وجارٌ في بلاد الله، يجمعنا وإياه خير الآباء آدم، وأفضل الأديان الإسلام، ولعل الدهر يرد من حاجاتنا إليه، فيرانا، بعد الزهو عليه، متواضعين بين يديه".

انفتاحه(ع) على الأعداء

ومن أخلاقياته(ع)، أنه كان منفتحاً على أعدائه الذين كانوا يسبّونه ويسبّون آباءه ويبغضونهم، منطلقاً في ذلك من قوله تعالى: {ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه وليّ حميم} [فصِّلت:34]. تنقل لنا كتب السيرة: أنه كان هناك شخص من ولد عمر بن الخطاب يبغض الإمام الكاظم(ع) ويحقد عليه ويسبّه، حتى ضاق به أصحاب الإمام وأرادوا قتله، فمنعهم أشد المنع، ثم سأل عن هذا الرجل، فقالوا له إنّه في بستان له، فذهب الإمام(ع) إليه وهو راكب على دابته، فلما دخل البستان، قال هذا الحاقد للإمام(ع): لا تطأ زرعنا، فلم يلتفت إليه، إلى أن جلس إليه وضاحكه، ثم قال(ع) له: "كم غرمت في زرعك هذا"؟ قال: مائة دينار، فقال(ع): "فكم ترجو أن تصيب؟"، قال: أنا لا أعلم الغيب؟، فقال له الإمام(ع): "إنما قلت لك: كم ترجو أن يجيئك فيه؟"، قال: أرجو أن يجيئني مائتا دينار، فأعطاه ثلاثمائة دينار وقال: "هذا زرعك على حاله". وبدأ يحادثه إلى أن قام من عنده، فلما خرج من عنده ودخل المسجد صاح الرجل: "الله أعلم حيث يجعل رسالته"، فالتفت الإمام(ع) إلى أصحابه وسألهم: "أيّما كان خيراً، ما أردتم، أو ما أردت أن أصلح أمره بهذا المقدار"، وتلك هي أخلاق أئمة أهل البيت(ع).

وكان الإمام الكاظم(ع) يوجّه أحد أصحابه، وهو يونس بن عبد الرحمن، على الأسلوب الذي ينبغي أن يتعاطى به مع الناس، فقال له: "يا يونس، ارفق بهم ـ أي عندما تحدّث الناس، حدّثهم بكلام ليّن ـ فإن كلامك يدقّ عليهم"، قال: إنهم يقولون لي: يا زنديق، فقال(ع): "وما يضرّك أن يكون في يدك لؤلؤة فيقول الناس هي حصاة، وما ينفعك أن يكون في يدك حصاة فيقول الناس إنها لؤلؤة؟". المهم هو أن تثق أنت بما عندك، مهما قال الناس عنك. هذا هو الأسلوب القرآني الذي جسَّده الأئمة من أهل البيت(ع) في خط توجيه أصحابهم والناس الذين ينتمون إليهم، وهو أن يدرس الإنسان نفسه ويعرف أنه على الخط الصحيح، بحيث إذا جاء من يتّهمه بالضلال أو بالكفر، أدرك أنه لا قيمة لكل هذه التهم والأقوال طالما أنه يسير في الخط الذي أراد الله تعالى له أن يكون فيه.

فالإمام الكاظم(ع) انطلق ليملأ مرحلته علماً وروحانيةً وتقوى وعبادةً، وكان من الأئمة المظلومين، فقد عاش في آخر حياته في زمن خلافة الرشيد، وكان هذا الأخير يتحدّى الإمام، حتى إنّه جاء في كتب السيرة: أنّ الرشيد وقف وهو يزور مقام النبي(ص) ليزهو على أصحابه فقال: "السلام عليك يابن العم"، فالتفت الإمام الكاظم(ع) فقال: "السلام عليك يا أبتِ"، فتغيّر وجه الرشيد وتبيّن الغيظ فيه، ثم سأل الإمام(ع): "لِمَ قلت إنك أقرب إلى رسول الله منّا؟"، فقرأ الإمام(ع) عليه الآية التي تعتبر أن عيسى(ع) من ذرية نوح وإبراهيم، وهو يتصل بهما بواسطة الأم، ثم قدم له(ع) الحجة في ذلك، فقال له: "لو بعث رسول الله حيّاً وخطب منك كريمتك، هل كنت تجيبه إلى ذلك"؟ فقال: "سبحان الله، وإني لأفتخر بذلك على العرب والعجم"، فقال(ع): "ولكنّه لا يخطب منّي، ولا أزوّجه، لأنه والدنا لا والدكم، فلذلك نحن أقرب إليه منكم".

مواجهة الخليفة الرشيد

ولعل الأساس الذي جعل الخليفة الرشيد يفكر في قتل الإمام الكاظم(ع)، هو ما ذكر من أن أحد أقرباء الإمام(ع) الذي قد يكون ابن أخيه إسماعيل، أو أخاه محمد بن جعفر، وكان الرشيد يغريهم بالمال، جاء إلى الرشيد وقال له: "يا أمير المؤمنين، خليفتان في الأرض، موسى بن جعفر بالمدينة يُجبى له الخراج، وأنت بالعراق يُجبى إليك الخراج"، فحقد الرشيد على الإمام(ع)، لأنه خاف من ثقة الناس به، وهو يعرف أن أهل البيت(ع) كانوا في الدرجة العليا من الوثاقة واحترام الناس لهم، حتى إن المأمون عندما سُئِل: من أين تعلّمت التشيّع؟ قال: من أبي هارون، قالوا: كيف، وهو المعروف بعداوته لأهل البيت(ع)؟ فقال: جاء موسى بن جعفر إلى أبي زائراً، فاستقبله وأجلسه معه واحترمه أشدّ الاحترام، وعندما خرج سألته: من هذا؟ قال: هذا موسى بن جعفر، ولو عرف الناس منه ما نعرف لنازعونا الملك، فقال: إذاً، لماذا لا تتنازل لهم؟ قال: يا بني، إن الملك عقيم، ولو نازعتني الملك لأخذت الذي فيه عيناك.

فقد كانوا يخافون من تأثير الأئمة(ع) على الناس وثقتهم بهم وتعظيمهم لهم، لذلك عندما جاء الرشيد إلى المدينة، خاطب رسول الله(ص) قائلاً: "إني أعتذر إليك من أمرٍ أريد أن أفعله، إني أريد أن أسجن موسى بن جعفر، لأنه يثير الفتنة بين الناس". وأرسل الإمام(ع) إلى سجن قريبه عيسى بن موسى، وبقي عنده سنة، وأراد منه أن يقتله، فأرسل الأخير إليه يقول له: خذه مني، لأنني وضعت عليه جاسوساً ولم أجد منه إلا الصلاة والصيام، ولم أسمعه يدعو عليّ أو عليك، وكنت أسمعه يناجي ربه ويقول: "اللهم إنك تعلم أني كنت أسألك أن تفرّغني لعبادتك وقد فعلت، فلك الحمد". فنقله إلى سجن الفضل بن الربيع، وعندما رأى أن الفضل يعظّمه ويوسّع عليه نقله إلى سجن السندي بن شاهك الذي قدّم له طعاماً مسموماً، فانتقل إلى جوار ربه، وكان الإمام الشهيد الذي عانى ما عاناه في تلك السجون المظلمة القاسية، حتى إنه كان لا يعرف الليل من النهار، فأوكل شخصاً ليعرّفه مواعيد الصلاة.

تجسيده(ع) للإسلام

إن عظمة أئمتنا من أهل البيت(ع)، أنهم كانوا يجسّدون الإسلام كأصفى ما يكون، فكان كل واحدٍ منهم إسلاماً متجسّداً، وعلينا أن نتّبعهم في مواعظهم وإرشاداتهم وتعاليمهم في كل أمورنا، لأنهم وإن غابوا عنا بالجسد، فإنهم الأحياء بيننا في كل تراثهم الذي أصّلوا فيه الإسلام للأمة.

ومما يروى عنه(ع) في وصيته لبعض أولاده أنه قال: "اجتهدوا في أن يكون زمانكم أربع ساعات: ساعة لمناجاة الله، وساعة لأمر المعاش، وساعة لمعاشرة الأخوان الثقات الذين يعرّفونكم عيوبكم ويخلصون لكم في الباطن، وساعة تخلّون فيها للذاتكم في غير محرّم". وأيضاً من وصاياه(ع) لشيعته: "ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم، فإن عمل حسناً استزاد الله، وإن عمل سيئاً استغفر الله منه وتاب إليه".

وعنه(ع) وهو يحدّثنا عن العلم: "أولى العلم بك ما لا يصلح لك العمل إلا به ـ تحصيل العلم الذي يتوقف عليه صحة عملك ـ وأوجب العلم عليك ما أنت مسؤول عن العمل به، وألزم العلم لك ما دلّك على صلاح قلبك، وأظهر لك فساده، وأحمد العلم عاقبةً ما زاد في عملك في العاجل وأزلفك في الآجل، فلا تشتغلن بعلم ما لا يضرّك جهله، ولا تغفلن عن علم ما يزيد من جهلك تركه".

من وصاياه(ع) ومواعظه

ومن وصاياه(ع) لأصحابه: "لا تستكثروا كثير الخير، ولا تستقلُّوا قليل الذنوب، فإن قليل الذنوب يجتمع حتى يصير كثيراً، وخافوا الله في السر حتى تعطوا من أنفسكم النصَف، وسارعوا إلى طاعة الله، وأصدقوا الحديث، وأدّوا الأمانة فإنما ذلك لكم، ولا تدخلوا في ما لا يحلّ لكم فإن ذلك عليكم".

وفي حديثه(ع) لبعض أصحابه، وهو حديث موجّه إلى الناس الحياديين الذين لا يملكون موقفاً أو رأياً، يقول(ع): "أبلغ خيراً وقل خيراً ولا تكن إمّعة"، قال: وما الإمّعة؟ قال(ع): "لا تقل أنا مع الناس وأنا كواحد من الناس، إن رسول الله (ص) قال: يا أيها الناس، إنما هما نجدان، نجد خير ونجد شر، فلا يكن نجد الشر أحبّ إليكم من نجد الخير".

وقال(ع) لبعض أصحابه وهو يعظه: "اتقِ الله، وقل الحق وإن كان فيه هلاكك ـ في الدنيا ـ فإن فيه نجاتك ـ عند الله ـ واتقِ الله، ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك ـ في الدنيا ـ فإن فيه هلاكك".

هذا بعض من سيرة الإمام الكاظم(ع) ووصاياه، وقد دُفن(ع) في مقابر قريش في الكاظمية، ومن ثم دُفن فيها بعده حفيده محمد الجواد(ع)، وهذا ما جعل أحد الشعراء يقول:

لذْ إن دهتك الرزايـا               والدهر عيشك نكّـد

بكاظم  الغيظ  موسى                وبـالجـواد  محمَّـد

صلى الله على موسى الكاظم(ع) وعلى آبائه وأولاده، ورزقنا الله شفاعتهم.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، {وتعاونوا على البرّ والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان} [المائدة:2]، وانطلقوا في مواجهة التحديات التي توجّه إلى العالم الإسلامي من موقع الوحدة التي أراد الله تعالى للمسلمين أن يتواصوا بها، فماذا هناك؟

مزايدة أوروبية في دعم إسرائيل

حظي كيان العدو في الأيام والأسابيع الماضية بمزيد من العطف الغربي، وهو الذي لا يحتاج إلى كثير من هذا العطف، لأنه أصبح يتحكّم بكثير من الإدارات الغربية ويوجّه سياساتها الخارجية، ولكن تصاعد وتيرة العطف الغربي عليه، يوحي بأن بعض الدول الغربية قد لاحظت وجود حال من الانكسار بدأت تصيب اليهود في فلسطين المحتلة بعد تساقط الخطوط الحمر التي تحدث عنها الكثيرون، وخصوصاً في أعقاب عملية التبادل الأخيرة، وانتصار منطق المقاومة، والتداعي المتواصل لمنطق العدوّ وشروطه.

وقد كان من اللافت أن يزايد رئيس الوزراء البريطاني (براون) على سلفه (بلير) أمام الكنيست الصهيوني فيعلن أنه كان صديقاً لإسرائيل طوال حياته ـ على طريقة الرئيس الفرنسي ساركوزي ـ ويؤكِّد وقوف بريطانيا مع إسرائيل عندما تشعر بأن سلمها واستقرارها ووجودها باتوا مهددين، ويشنّ حملةً على إيران ويهددها بمزيد من العزلة من خلال ردّ جماعي، ربما لأن ضمير المسؤولين البريطانيين ـ عموماً ـ لا يزال يعمل على وتيرة وعد بلفور... أما حديثه ـ براون ـ عن ضرورة تجميد الاستيطان، فيأتي في سياق الكلام الذي يسهل صرفه في البورصة السياسية العربية.

ولا يبتعد مضمون كلام ـ براون ـ حول التزام الأمن الإسرائيلي عن مضمون الكلام والزيارات التي قام بها بوش والمستشارة الألمانية والمرشح الجمهوري الأمريكي، وصولاً إلى زيارة المرّح الديمقراطي الأمريكي أوباما الأخيرة التي استنفد فيها كل عبارات الخضوع لليهود؛ من وصفه إسرائيل بالمعجزة، إلى إصراره على أن تكون القدس عاصمةً للكيان الصهيوني، بما ينتظر أن يجني ثماره في الانتخابات الرئاسية القادمة.

إنّ تكرار الكلام الغربي حول الالتزام المطلق بأمن إسرائيل، والإعلان عن رفض تعرّض اليهود لمحرقة جديدة، كما أعلن المرشح الجمهوري الأمريكي قبل أيام، لا يهدف إلى طمأنة الصهاينة فحسب، بل يمثل أيضاً دعوةً غير مباشرة لإسرائيل إلى استكمال حربها على الفلسطينيين، وقتلهم بدم بارد، بحجة أنها مهددة في أمنها، وأن ذلك يمثل دفاعاً عن النفس وعن الحضارة وسط محيط من "المتوحّشين"، كما قال الرئيس الحالي لكيان العدو شمعون بيريز ذات مرة.

وفي المقابل، فإن على الفلسطينيين ـ بمن فيهم المسؤولون في السلطة ـ أن يعرفوا أن الغرب يبيعهم كلاماً استهلاكياً، وأنه عندما يتحدث عن "فرص السلام الحقيقية" ـ كما يقول "براون" ـ فهو يعني أن على إسرائيل أن تستغل الفرص المتاحة للقضاء على الفلسطينيين أو على أي شيء يتصل بالدولة الفلسطينية القابلة للحياة، وهو ما ينبغي أن يثير في الفصائل الفلسطينية كلها، وخصوصاً فتح وحماس، الغيرة الوطنية والدينية للدفع بالحوار الفلسطيني الداخلي إلى الواجهة، ولجعله أولويةً حاسمةً لا تقبل الجدل ولا تتوقف عند الرهانات السياسية هنا وهناك.

وليس بعيداً من ذلك، ما نلحظه من استعجال أمريكي لإبرام اتفاقية أمنية مع العراق تضمن استمرار الاحتلال، ولكن بطريقة التفافية أو بأساليب جديدة، كما نرصد استخداماً متزايداً لوسائل القتل والعنف من قبل قوات الحلف الأطلسي ضد المدنيين الأفغان، حيث قتلت قوات الحلف في ضرباتها الجوية مؤخراً حوالي 60 مدنياً أفغانياً معظمهم من النساء والأطفال، الأمر الذي يثير الكثير من علامات الاستفهام، وهو ما يكشف حقائق الكثير من الدور الذي يُراد للحلف الأطلسي أن يضطلع به في بلادنا بفعل الإشراف الأمريكي المباشر على حركته.

الحلف الأطلسي: خطّة مواجهة العالم الإسلامي

لقد قام الحلف الأطلسي تحت عنوان مواجهة الاتحاد السوفياتي ودول المنظومة الاشتراكية، ولكننا نلاحظ أنه تحوّل إلى حلف عسكري يواجه الشعوب الإسلامية بكل حقدٍ وعدوانية، ولا يحترم استقلالها وأمنها، لأن ثمة عقيدة جديدة قد رُسمت لهذا الحلف ويراد ترسيخها في أذهان جنوده، ومفادها أن الإسلام المتحرك في خط الحرية يمثل الخطر الذي ينبغي مواجهته، وقد قال القائد الأعلى السابق لقوات حلف الأطلسي "جون كالفن" في كلمته الوداعية في بلجيكا: "لقد ربحنا الحرب الباردة، وها نحن نعود اليوم بعد 70 عاماً من الصراعات الضالة إلى محور الصراع القائم منذ 1300 سنة، إنها المجابهة الكبيرة مع الإسلام".

إن هذا الكلام الخطير الذي يمثل دعوةً صريحة إلى محاربة العالم الإسلامي، ومواجهة الإسلام، كدين وثقافة ومشروع، بات حركةً تلاحق بلداننا وشعوبنا، لتحاول أن تنتقم منها بطريقة وحشية أو استعراضية بدلاً من أن تدخل في حوار حضاري معها، وهذا ما ينبغي للعالم الإسلامي أن يعرفه لترتيب الأوضاع الإسلامية بالطريقة التي لا تسمح للأعداء باختراق نسيجنا الإسلامي، واستغلال نقاط ضعفنا وتمزقاتنا، وهو الأمر الذي يستدعي أن نتوحّد سنّةً وشيعةً لدرء الخطر الذي يتهدد الإسلام كله ولا يقتصر على مذهب بعينه.

مشروعية السلاح في مواجهة المشروع الأمريكي ـ الإسرائيلي

أما في لبنان، فإننا لا نعتقد بأن الجدل الذي تستمر الإثارة فيه بين وقتٍ وآخر، وعند هذه المحطة الحكومية أو تلك المحطة البيانية، حول سلاح المقاومة وشرعيته، يُغيّر في حقيقة الأمر شيئاً حول أهمية هذا السلاح للبنان، وخوف الأعداء منه، وخصوصاً أن شرعية السلاح انطلقت فيما يشبه الاستفتاء الشعبي في كل أوجه الاحتفال بانتصارات المقاومة، والتي توّجتها احتفالات الأسبوع الفائت بعودة الأسرى، كما أن مشروعية هذا السلاح انطلقت من الأرض ومن حضوره الدائم في مشروع الأمة المواجه للمشروع الأمريكي والإسرائيلي، ولذلك فإن الحوار ينبغي أن يتمحور حول كيفية انخراط الجميع في مشروع الدفاع عن لبنان، لا أن نُسقط من أيدينا ورقةً استراتيجيةً كبيرةً ظلّت حاضرةً دائماً لحساب الوطن والأمة.

إنني أتساءل: ما دام الجميع يجزمون بأن إسرائيل عدوّة، وأن هذه المسألة يستوي فيها الموقف الشعبي مع الرسمي، فلماذا نظل نثير السؤال حول سلاح المقاومة، بدلاً من أن يتداعى الجميع لرسم خطة عملية على المستوى الأمني والسياسي، وحتى الاقتصادي، لحفظ مجتمع المقاومة والتصدي للخطر الإسرائيلي عندما ينطلق ضدنا وضد وطننا، من دون أن يستبعد ذلك كله التنسيق مع الدولة والجيش، مع إبقاء التمايز لكل موقع من هذه المواقع في خصوصياته والتزاماته وبرامجه، ما يجعل الموقف في لبنان واحداً، لا تجزيئية فيه؟!

وفي ضوء ذلك، فإن العملية القيصرية التي احتاجها الواقع اللبناني لولادة رئاسة الجمهورية والحكومة، ربما تفرض نفسها على البيان الوزاري، لتمتد إلى أوضاع مجلس الوزراء في عمل الحكومة، ولاسيما في بقاء التدخلات الدولية والعربية لهذا الفريق أو ذاك، وهو ما لا يملك الكثيرون التخلص منه، وخصوصاً أن هناك انتظاراً للانتخابات النيابية التي قد يصعب خوضها من قِبَل بعض الأطراف في شكلٍ مستقل، بعيداً من الخطوط السياسية التي تتحرك فيها أكثر من دولة إقليمية أو دولية من خلال الأرصدة التمويلية الموضوعة في خدمة هذا المحور الداخلي أو ذاك، انطلاقاً من بقاء لبنان الساحة لكل الذين يعالجون مشاريعهم الخاصة في صراعات المنطقة.

إننا في الوقت الذي نشدد على الشعب اللبناني أن لا يُغرق نفسه في ضباب الأحلام الوردية، نؤكِّد أهمّيته أن يبقى واعياً لمصالحه الحيوية من دون استغراق في الخضوع لزعامة هنا أو زعامة هناك، أو لحالة مذهبية أو طائفية مثيرة، بل إن مسؤوليته هي الرقابة على الجميع، ومحاسبة الذين يملكون إدارة شؤونه بعيداً عن المبالغة في تضخيم الأشخاص والأحزاب، فقد لُدغ هذا الشعب من أكثر الأفاعي خطراً، ومن ألف جحر وجحر، والمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، فكيف بمئات اللدغات؟! هذا بلاغ للناس ولينذَروا به، وليعرفوا ما هو الفاصل بين الذين صنعوا مأساة التاريخ والذين قد يصنعون مأساة الحاضر والمستقبل.

مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 22 رجب 1429 هـ  الموافق: 25/07/2008 م

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية