ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الصلاة عبادة روحية
يقول الله سبحانه تعالى في كتابه الكريم: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون} (البقرة:83)، وقال سبحانه: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} (التوبة:60).
يؤكد الله سبحانه في هاتين الآيتين، كما في غيرهما من الآيات، على أكثر من حقيقة في حركة الإيمان الإنساني، لأنه تعالى حمّل الإنسان المؤمن المسؤولية عن نفسه وعن المجتمعات التي تعاني الحرمان أو التي تضيق بها سبل العيش الكريم، إضافةً إلى مسألة التوحيد الخالص، والإحسان إلى الوالدين.
وقد تكررت الآيات التي تضع إيتاء الزكاة إلى جانب إقامة الصلاة، لأنّ الزكاة تتحرك في أكثر من موقع من مواقع الحرمان، لتكون احتياطاً اقتصادياً يدفعه المؤمنون كعبادة مالية إلى الجهات التي أراد الله لها من خلال هذه الأموال أن تعمل على حلّ مشكلات الفقراء والمحرومين.
فكأن الله يريد أن يقول للإنسان إن هناك عبادتين؛ عبادة تعرج فيها روحك إلى الله بروحك لتؤكد عبوديتك له، عندما تمارس توحيدك له في العبادة، من خلال هذه الصلاة التي فرضها عليك خمس مرات في اليوم، والتي مثلها كمثل ماء النبع الذي يكون على باب الإنسان، فيغتسل منه خمس مرات، فلا يبقى على جسده شيء من القذارة، وكذلك الصلاة، فإنه يغتسل بها روحياً، فلا يبقى عليه ذنب في هذا اليوم.
كذلك ورد في بعض الأحاديث في تفسير آية: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود:115)، ما معناه، أن الصلاة التي يصليها الإنسان، تُذهب سيئاته التي أتى بها قبل الصلاة. وقد ورد في الحديث: "الصلاة معراج روح المؤمن إلى الله"، فكما أن النبي عرج بجسده إلى الله، فإنّ المؤمن يعرج بروحه في صلاته إلى الله، ليلتقي به في لقاء العبودية والمحبة والانفتاح عليه، في كل ما يهمه من أمره، وفي كل ما يعيشه ويتطلبه من حاجات.
الزكاة فريضة شرعية
فالزكاة، كما كل الفرائض الإسلامية، كالخمس وغيره، هي عبادة لله، ولكنها متصلة بالمجتمع، والزكاة والخمس من العبادات التي لا بد من أن يأتي بها الإنسان قربةً إلى الله، تماماً كما هو أمر الصلاة التي يأتي بها الإنسان قربةً إلى الله، إلا أنّها عبادة مالية، بحيث يدفع الإنسان من ماله ما فرضه الله عليه امتثالاً لأمر الله وتقرباً إليه.
وهذا مما لم يكن مختصاً بالدين الإسلامي فحسب، فنحن نقرأ في الآية الأولى قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل...}، ونقرأ أيضاً ما قاله تعالى بالنسبة إلى السيد المسيح(ع) عندما نطق وهو في المهد:{قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} (مريم:30-31).
وفي الدين الإسلامي، نقرأ قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء ـ وهم الذين لا يجدون ما يستطيعون من خلاله أن يوفروا لأنفسهم مصاريفهم في حاجاتهم السنوية ـ والمساكين ـ والمسكين هو الذي يكون أشد حاجةً ومأساةً من الفقير، وهو الذي لا يملك مؤونة سنته، ويضطر إلى أن يسأل الناس ـ والعاملين عليها ـ وهم الموظفون الذين يجمعون الزكاة ـ والمؤلفة قلوبهم ـ وهم الذين كان النبي يتألفهم ليقوي إيمانهم، ليجعلهم في الموقع القوي في المجتمع، من خلال التزامهم بالإسلام ـ وفي الرقاب ـ لأن الإسلام أكّد تحرير الإنسان من العبودية. وقد كان المجتمع في عهد الرسول(ص) وقبله، يأخذ بما كانت أكثر شعوب العالم تتداوله، وهو استعباد الإنسان، فأراد الله تعالى من خلال الإسلام أن ينهي هذه الحالة، فجعل مصرفاً من الزكاة لتحرير الرقاب، وهم الذين فرضت عليهم الظروف والأوضاع أن يصبحوا عبيداً للآخرين ـ والغارمين ـ وهم المديونون الذين لا يستطيعون وفاء الديون المتراكمة عليهم ـ وفي سبيل الله ـ في كل ما يحتاجه الإسلام في تأكيد قوّته، وفي مواجهة التحديات التي تفرض عليه ـ وابن السبيل ـ وهو الإنسان المسافر الذي ينقطع أثناء سفره من المال، ولا يستطيع أن يستدين من أي أحد، فجعل الإسلام له حصة من الزكاة ـ فريضة من الله}. فالزكاة ليست إحساناً، وليست مسألةً شخصيةً اختياريةً إحسانيةً، بل هي من الفرائض التي فرضها الله، كما هي فريضة الصلاة. وقد ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(ع): "إن الله فرض في أموال الأغنياء للفقراء ما يكتفون به، ولو علم أنّ الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم".
وفي رواية أخرى: "إنّ الله تعالى شرّك الفقراء مع الأغنياء في أموالهم"، وهذه مسألة لا بدّ من الالتفات إليها، وهي أنّ مَن يمتنع عن دفع الحقوق المفروضة عليه، يعتبر عند الله سارقاً، يسرق الأموال التي فرضها الله تعالى للفقراء والمساكين وما إلى ذلك، فالإنسان الذي يبقى عنده مال إلى آخر سنته ولا يخمّسه، يعتبر عند الله سارقاً لهذا الحق من المسكين والفقير.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزكاة. لذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى عندما فرض علينا الحقوق الشرعية، أراد من خلال ذلك أن يخلق نوعاً من أنواع التوازن الاجتماعي والتكافل الاجتماعي، صحيح أنّ الخمس والزكاة قد لا يسدّان كل الحاجات في المجتمع، ولكن لا إشكال في أنهما يخففان الكثير من الحاجات. ولذلك فإنّ الإنسان الذي يمتنع عن دفع هذه الضرائب الشرعية، هو كالذي لا يصلي، فهذه فريضة وتلك فريضة.
ونحن نعرف، أيها الأحبة، كم من المشاريع في مناطقنا ودولنا الإسلامية تُقام من أموال الخمس، كالمستشفيات والمدارس ودور الأيتام وغيرها، وأيضاً في المسائل الجهادية، من خلال تجهيز المقاومين ودعمهم بهذه الأموال، وهكذا.
حقّ اليتيم وثواب تكفّله
إنّ هذه الضرائب إنما تنطلق من أجل سدّ الحاجات، سواء كانت حاجات شخصية للفقراء، أو اجتماعية للأيتام والطلاب والمقاومة، وما إلى ذلك من الأمور، والمجتمع الذي يحافظ على الالتزام بهذه الفريضة الإسلامية، هو مجتمع يستطيع أن يبني نفسه بناءً اجتماعياً واقتصادياً وتربوياً وثقافياً وجهادياً. ونحن نعرف أنّ الله سبحانه أوصى بالمحتاجين، وخصوصاً الأيتام، الذين تحدّث عنهم الإمام علي(ع) في آخر أيام حياته، عندما كان يوصي ولديه الحسن والحسين(ع)، فقد قال لهما: "الله الله في الأيتام ـ وهذه الكلمة تُقال بشكل استغاثة في مقام دفع الناس إلى الاهتمام بمسألة الأيتام، لأنها من القضايا المهمة والخطرة ـ فلا تغبوا أفواههم ـ بمعنى أن تطعموهم يوماً وتجوّعوهم يوماً ـ ولا يضيعوا بحضرتكم ـ اقضوا لهم ما يحتاجونه من تعليم وتربية وسكنى وأشياء أخرى، لأنكم لو تركتموهم، لتحوّلوا إلى مجرمين يستغلهم الأشخاص الذين لا تقوى لهم ولا دين، في توظيفهم في قضايا غير إنسانية وغير إسلامية ـ فقد سمعت رسول الله(ص) يقول: من عال ييتماً حتى يستغني ـ ما دام يحتاج إلى تربية وتعليم وسكن ـ أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة، كما أوجب لآكل مال اليتيم النار".
بمعنى أن المال الذي تصرفه على اليتيم، فإنّ ثوابه عند الله الجنة: "ما شرٌ بشر بعده الجنة، وما خيرٌ بخير بعده النار". وفي حديث آخر عن الرسول(ص): "كن لليتيم كالأب الرحيم ـ اعتبر اليتيم ولدك، وعامله كما تعامل أولادك بالرحمة ـ واعلم أنك تزرع كذلك تحصد".
وفي الحديث عن الرسول(ص): "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بيده إلى السبّابة والوسطى، بمعنى أنّ الذي يتكفّل اليتيم يكون في الجنة في جوار رسول الله(ص).
وفي حديث آخر، يقول(ص): "إن في الجنة داراً يقال لها دار الفرح، لا يدخلها إلا من فرّح يتامى المؤمنين". فالله يقول لك: كما فرّحت اليتيم، فأنا أعطيك داراً في الجنة فيها كل الفرح وكل السعادة. وقد ورد عن الإمام علي(ع): "ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحماً له، إلا كتب الله له بكلِّ شعرة مرت يده عليها حسنة".
في مقابل ذلك، قد نلاحظ عند بعض الناس أنه عندما يموت الأب، ويترك أولاداً كباراً وأولاداً أيتاماً، فإنّ الأولاد الكبار غالباً ما يضعون أيديهم على مال أخوتهم الأيتام، واليتيم لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فيستهلكون ماله بحجّة الوصاية عليه، ولكنّ الله تعالى يقول في ذلك:{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} (النساء:10).وهكذا ورد عن الزهراء(ع): "فرض الله مجانبة أكل أموال اليتامى إجارةً من الظلم". ومن الطبيعي أن علينا أن نرعى اليتيم بكل إحسان وعاطفة، حتى إذا أردنا أن نؤدبه، فلا نؤدبه بالعنف، لأنّ الله يقول: {فأما اليتيم فلا تقهر} (الضحى:9).
وهكذا، أيها الأحبة، يريد الله للمجتمع الإسلامي أن يكون مجتمع التكافل والتعاون وأوجب على الناس الذين أعطاهم من نعمه، رعاية الناس الذين يفقدون فرص العيش الكريم، لأن الطريق إلى الجنة هو في هذا السير.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالمسؤولية الكاملة عن كل ما حمّلكم الله إياه في سد كل حاجات الفئات الفقيرة والمحرومة، ومواجهة حاجات الواقع الإسلامي كله في الدفاع عنه، وفي مواجهة الذين يكيدون له ويمكرون فيه ويفرضون عليه التحديات الكبرى، واجهوا ذلك كله بالمسؤولية، وانطلقوا من خلال الوحدة الإسلامية، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (آل عمران:103)، ويقول أيضاً: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4). فماذا هناك؟
إسرائيل: اعتراف رسمي بالهزيمة في لبنان
لا يزال الجدل السياسي يهزّ الكيان الصهيوني حول الحرب العدوانية التي شنّها على لبنان في تمّوز 2006، حيث بتنا نجد تغييباً لسلسلة من القواعد التي كان العدوّ يتباهى بها، من قبيل المحاسبة، وصولاً إلى المعاقبة، حتّى على مستوى رؤساء الحكومات؛ الأمر الذي يخفي وراءه اهتزازاً بنيويّاً أصاب هذا الكيان في كثير من مستوياته، وكانت النتيجة أن اعترف العدوّ بالهزيمة أمام المقاومة في لبنان، من دون أن يرتّب على هذا الاعتراف آثاراً سياسيّة داخليّة، تحت سلسلة من الحجج والعناوين التي أظهرت كيان العدوّ كأيّ دولة من دول العالم الثالث في طريقة إدارة شؤونها السياسية والقضائيّة أمام الاستحقاقات الكبرى.
لقد اعترفت إسرائيل بهزيمتها أمام المجاهدين المقاومين، في الوقت الذي شعر كثير من العرب بالعقدة من المقاومة، لأنّها تربك مشاريع السلام التي يلهثون وراءها، إضافةً إلى التعقيدات الداخليّة اللبنانيّة التي حمّلت المجاهدين مسؤولية الحرب، وأثارت الحديث عن مأساة الصامدين مع المقاومة، وأدخلت قضية الانتصار في الجدل الداخلي، حتى كأن إسرائيل هي المنتصرة، وانطلق الحديث عن المطالبة بنـزع سلاح المقاومة في ما الحرب لم تضع أوزارها بعد، من دون أن ينطلق تخطيط على المستوى الرسمي لتسليح الجيش ودعمه ومنحه القرار السياسي ليصبح قادراً على ردّ العدوان الإسرائيلي؛ الأمر الذي يوحي بغياب المسؤوليّة عن الوطن والمستقبل لدى كثير من الطبقة السياسية.
إننا نعتبر أن الهزيمة التي أصابت إسرائيل، هي ـ أيضاً ـ هزيمة للإدارة الأمريكية، التي كانت الحرب حربها، حيث اعتُبرت هذه الحرب بوّابة أمريكا إلى الشرق الأوسط الجديد، وقد مارست الإدارة الأمريكيّة ضغوطاً هائلة لإطالة أمد العدوان، خصوصاً أن مجلس الأمن لم يُصدر إلى الآن قراراً بوقف إطلاق النار، مانحاً كيان العدوّ نوعاً من حرّية تجديد العدوان عبر القرار 1701 الذي اعتبرته إسرائيل نصراً لها.
فلسطين: العملية الاستشهادية تصدم العدو
وهذا هو منهج الإدارة الأمريكية تجاه كلّ شعوب المنطقة وقضاياها، حيث لا تزال تشجّع العدو على قصف المدن والقرى الفلسطينيّة وارتكاب المجازر وتحريك الاغتيال، تحت حجّة الدفاع عن النفس، تماماً كما يدافع الذئب عن نفسه حين يقتل الحِمْلان الوديعة.
ولكن أبطال الانتفاضة لا يزالون يواجهون العدو بصواريخهم التي هزّت أمنه، وأربكت مستوطناته، وقد مثّلت العملية الاستشهادية في ديمونة صدمةً عسكريةً ومعنويةً للعدو، ولاسيما أن المجاهدين قد استعادوا هذا الأسلوب الموجع في حربهم مع العدو.
وإنّنا نأسف أن تصدر الرئاسة الفلسطينيّة بيان استنكار وإدانة للعمليّة، متناسيةً أن العدو يحرّك قراره السياسي وترسانته العسكريّة لقتل المدنيّين وتدمير البيوت وجرف البساتين، لأن المسألة لدى هذا العدوّ هي تخدير السلطة الفلسطينية من خلال الاجتماعات الثنائيّة وإذلالها، والامتناع عن منحها أية مبادرة لتخفيف الضغوط عن الشعب الفلسطيني على المعابر، وفرض الحصار التجويعي والحيوي على المدنيين، بما يمثل العقاب الجماعي الذي رفضت أمريكا إدانته في مجلس الأمن، ومنعت استصدار قرار لرفع المقاطعة عن قطاع غزة، لأن إدانة هذا الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، يمثل إدانةً للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان.
إنّ الولايات المتّحدة الأمريكية لا تؤمن بحقوق الإنسان العربي والمسلم والمستضعف، وهي تتعامل مع الأنظمة العربيّة كأدوات لخدمة مشاريع هيمنتها في المنطقة، أو كمصارف تموّل كلّ حروبها عليهم، أو مجرد أوراق لصرف الأنظار عن أزمات داخليّة تعانيها الإدارة الأمريكية في واقعها الداخلي.
إنّ على الحكومات العربية أن ترجع إلى صوابها، وأن تفهم طبيعة اللعبة التي تمتد من فلسطين إلى كل بلد عربي خاضع للسياسة الإسرائيلية والأمريكية، والتي تجعل من الاستقلال نكتة سمجة في العالم العربي.
إيران: تقدّم علمي وقلق أمريكي
وفي مظهر للاستكبار العالمي الذي يرفض لشعوب المنطقة أن تتحرك في عمليّة صناعة القوّة الذاتيّة، سارعت واشنطن إلى التنديد بالخطوة الإيرانية في خروجها إلى الفضاء الخارجي، من طريق إرسالها لصاروخ إيراني الصنع، صُمّم لإطلاق أول قمر اصطناعي للبحوث، في خطوة تظهر التقدم العلمي الذي حققته طهران في المجال التكنولوجي والعلمي، وعبّر البيت الأبيض عن الأسف أن تواصل إيران اختبار صواريخ، معتبراً أنّ النظام الإيراني مستمر في اتخاذ خطوات "لن تؤدي إلا إلى زيادة عزلته وعزلة الشعب الإيراني عن المجتمع الدولي"، من دون أن يخفي بعض المحلّلين العسكريّين الأمريكيّين، أن هذا الاختبار قد يثير قلق الولايات المتحدة وإسرائيل.
أما تعليقنا على ذلك، فهو أن أمريكا لا تريد لإيران الحصول على التقدم العلمي الذي قد يمكّنها من إنتاج صواريخ دفاعية، وقد تحدث المحللون أن هذا الاختبار جاء بعد مرور أسابيع قليلة فقط على إجراء إسرائيل اختباراً صاروخياً، ليكون هذا الاختبار الإيراني رسالةً من إيران تقول فيها لإسرائيل: إننا نستطيع أن نفعل ما يمكنكم عمله مهما يكن. والملاحظ أن أمريكا لم تنكر على إسرائيل اختبارها الصاروخي، انطلاقاً من استراتيجيتها في أن تبقى إسرائيل أقوى دولة في المنطقة وفي استخدامها، إذا لزم الأمر، لمهاجمة إيران بقصف مواقعها النووية السلميّة...
أما حديثها عن عزلة إيران عن المجتمع الدولي، فإننا نلاحظ أن أمريكا هي التي أصبحت تعيش العزلة السياسية عن شعوب العالم الثالث، من خلال رفض هذه الشعوب لاستراتيجيتها العدوانية الاستكبارية، وخصوصاً في المآسي التي تلحقها بالشعوب الأفريقية بالتخطيط مع حلفائها، أو في صراعها مع بعضهم الآخر، كما في كينيا وتشاد والسودان والصومال.
لبنان: توظيف المجزرة توظيفاً سياسياً
أما لبنان، فلا يزال الشعب ينتظر انتهاء التحقيقات العسكرية والقضائية التي تكشف المجرمين الذين أطلقوا الرصاص على الضحايا من شهداء وجرحى، والذين خططوا لتحويل الحركة المطلبية في التظاهر السلمي إلى مأساة إنسانية، في خطة خبيثة تعمل على أن يفقد لبنان خصوصيته الحضارية في المطالبة بقضاياه الحيوية وتطلعاته السياسية وأوضاعه الاقتصادية، كما يفعل ذلك كل شعوب العالم المتحضر الذين قد تتطوّر تظاهراتهم إلى أعمال سلبية تخريبية، من دون أن تثير أية ردود فعل عنيفة على مستوى الجرائم الدموية، ومن دون أن تنطلق التصريحات برفض النـزول إلى الشارع لأنه لا يحلّ مشكلة، كما يزعمون.
إن لبنان هو بلد الحرية السياسية الشعبية التي يريد البعض أن لا تنطلق إلا لحسابهم، ونحن نؤكد أن مسألة الشارع لا مشكلة فيها، بل هي حركة إيجابية إذا كانت سلميةً لا عنف فيها. ولذلك فإن رفض النـزول إلى الشارع الذي انطلق من مواقع دينية رسمية أو سياسية أو حزبية، سوف يُفقد لبنان خصوصيته في أنه بلد الحرية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن المجازر التي حدثت في منطقة الشياح، لم تحرّك لدى كثيرين العنصر الإنساني لرفض الجريمة، بل استخدمت استخداماً سياسياً لا يملك العقلانية والموضوعية، بل لقد حاول البعض تحريك المسألة في عملية ردود فعل تختزن التهديد اللاواعي. ونحن نعرف أن الإخلاص للوطن يفرض على الجميع أن يدققوا في تصريحاتهم وكلماتهم للابتعاد عن عناصر الإثارة.
ثم إن الحديث عن بعض الجهات الأمنية الرسمية بأسلوب العصمة المطلقة التي لا يمكن محاسبة من أخطأ منها، ولا محاكمتها إذا أجرمت، هو حديث يبتعد بالمشكلة عن الحل، فلا بد من أن يحاسَب المخطىء ويحاكَم المجرم، فلا قدسية لأحد عندما تكون القضية قضية الشعب كله، سواء كان في موقع ديني أو حكومي أو سياسي أو أمني؛ ومن هنا تبدأ حركة الدولة نحو احترام نفسها وإنسانها وحماية مستقبلها.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:
الصلاة عبادة روحية
يقول الله سبحانه تعالى في كتابه الكريم: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحساناً وذي القربى واليتامى والمساكين وقولوا للناس حسناً وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة ثم توليتم إلا قليلاً منكم وأنتم معرضون} (البقرة:83)، وقال سبحانه: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم} (التوبة:60).
يؤكد الله سبحانه في هاتين الآيتين، كما في غيرهما من الآيات، على أكثر من حقيقة في حركة الإيمان الإنساني، لأنه تعالى حمّل الإنسان المؤمن المسؤولية عن نفسه وعن المجتمعات التي تعاني الحرمان أو التي تضيق بها سبل العيش الكريم، إضافةً إلى مسألة التوحيد الخالص، والإحسان إلى الوالدين.
وقد تكررت الآيات التي تضع إيتاء الزكاة إلى جانب إقامة الصلاة، لأنّ الزكاة تتحرك في أكثر من موقع من مواقع الحرمان، لتكون احتياطاً اقتصادياً يدفعه المؤمنون كعبادة مالية إلى الجهات التي أراد الله لها من خلال هذه الأموال أن تعمل على حلّ مشكلات الفقراء والمحرومين.
فكأن الله يريد أن يقول للإنسان إن هناك عبادتين؛ عبادة تعرج فيها روحك إلى الله بروحك لتؤكد عبوديتك له، عندما تمارس توحيدك له في العبادة، من خلال هذه الصلاة التي فرضها عليك خمس مرات في اليوم، والتي مثلها كمثل ماء النبع الذي يكون على باب الإنسان، فيغتسل منه خمس مرات، فلا يبقى على جسده شيء من القذارة، وكذلك الصلاة، فإنه يغتسل بها روحياً، فلا يبقى عليه ذنب في هذا اليوم.
كذلك ورد في بعض الأحاديث في تفسير آية: {إن الحسنات يذهبن السيئات} (هود:115)، ما معناه، أن الصلاة التي يصليها الإنسان، تُذهب سيئاته التي أتى بها قبل الصلاة. وقد ورد في الحديث: "الصلاة معراج روح المؤمن إلى الله"، فكما أن النبي عرج بجسده إلى الله، فإنّ المؤمن يعرج بروحه في صلاته إلى الله، ليلتقي به في لقاء العبودية والمحبة والانفتاح عليه، في كل ما يهمه من أمره، وفي كل ما يعيشه ويتطلبه من حاجات.
الزكاة فريضة شرعية
فالزكاة، كما كل الفرائض الإسلامية، كالخمس وغيره، هي عبادة لله، ولكنها متصلة بالمجتمع، والزكاة والخمس من العبادات التي لا بد من أن يأتي بها الإنسان قربةً إلى الله، تماماً كما هو أمر الصلاة التي يأتي بها الإنسان قربةً إلى الله، إلا أنّها عبادة مالية، بحيث يدفع الإنسان من ماله ما فرضه الله عليه امتثالاً لأمر الله وتقرباً إليه.
وهذا مما لم يكن مختصاً بالدين الإسلامي فحسب، فنحن نقرأ في الآية الأولى قوله تعالى: {وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل...}، ونقرأ أيضاً ما قاله تعالى بالنسبة إلى السيد المسيح(ع) عندما نطق وهو في المهد:{قال إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبياً* وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} (مريم:30-31).
وفي الدين الإسلامي، نقرأ قوله تعالى: {إنما الصدقات للفقراء ـ وهم الذين لا يجدون ما يستطيعون من خلاله أن يوفروا لأنفسهم مصاريفهم في حاجاتهم السنوية ـ والمساكين ـ والمسكين هو الذي يكون أشد حاجةً ومأساةً من الفقير، وهو الذي لا يملك مؤونة سنته، ويضطر إلى أن يسأل الناس ـ والعاملين عليها ـ وهم الموظفون الذين يجمعون الزكاة ـ والمؤلفة قلوبهم ـ وهم الذين كان النبي يتألفهم ليقوي إيمانهم، ليجعلهم في الموقع القوي في المجتمع، من خلال التزامهم بالإسلام ـ وفي الرقاب ـ لأن الإسلام أكّد تحرير الإنسان من العبودية. وقد كان المجتمع في عهد الرسول(ص) وقبله، يأخذ بما كانت أكثر شعوب العالم تتداوله، وهو استعباد الإنسان، فأراد الله تعالى من خلال الإسلام أن ينهي هذه الحالة، فجعل مصرفاً من الزكاة لتحرير الرقاب، وهم الذين فرضت عليهم الظروف والأوضاع أن يصبحوا عبيداً للآخرين ـ والغارمين ـ وهم المديونون الذين لا يستطيعون وفاء الديون المتراكمة عليهم ـ وفي سبيل الله ـ في كل ما يحتاجه الإسلام في تأكيد قوّته، وفي مواجهة التحديات التي تفرض عليه ـ وابن السبيل ـ وهو الإنسان المسافر الذي ينقطع أثناء سفره من المال، ولا يستطيع أن يستدين من أي أحد، فجعل الإسلام له حصة من الزكاة ـ فريضة من الله}. فالزكاة ليست إحساناً، وليست مسألةً شخصيةً اختياريةً إحسانيةً، بل هي من الفرائض التي فرضها الله، كما هي فريضة الصلاة. وقد ورد في أحاديث أئمة أهل البيت(ع): "إن الله فرض في أموال الأغنياء للفقراء ما يكتفون به، ولو علم أنّ الذي فرض لهم لا يكفيهم لزادهم".
وفي رواية أخرى: "إنّ الله تعالى شرّك الفقراء مع الأغنياء في أموالهم"، وهذه مسألة لا بدّ من الالتفات إليها، وهي أنّ مَن يمتنع عن دفع الحقوق المفروضة عليه، يعتبر عند الله سارقاً، يسرق الأموال التي فرضها الله تعالى للفقراء والمساكين وما إلى ذلك، فالإنسان الذي يبقى عنده مال إلى آخر سنته ولا يخمّسه، يعتبر عند الله سارقاً لهذا الحق من المسكين والفقير.
وكذلك الأمر بالنسبة إلى الزكاة. لذلك، فإنّ الله سبحانه وتعالى عندما فرض علينا الحقوق الشرعية، أراد من خلال ذلك أن يخلق نوعاً من أنواع التوازن الاجتماعي والتكافل الاجتماعي، صحيح أنّ الخمس والزكاة قد لا يسدّان كل الحاجات في المجتمع، ولكن لا إشكال في أنهما يخففان الكثير من الحاجات. ولذلك فإنّ الإنسان الذي يمتنع عن دفع هذه الضرائب الشرعية، هو كالذي لا يصلي، فهذه فريضة وتلك فريضة.
ونحن نعرف، أيها الأحبة، كم من المشاريع في مناطقنا ودولنا الإسلامية تُقام من أموال الخمس، كالمستشفيات والمدارس ودور الأيتام وغيرها، وأيضاً في المسائل الجهادية، من خلال تجهيز المقاومين ودعمهم بهذه الأموال، وهكذا.
حقّ اليتيم وثواب تكفّله
إنّ هذه الضرائب إنما تنطلق من أجل سدّ الحاجات، سواء كانت حاجات شخصية للفقراء، أو اجتماعية للأيتام والطلاب والمقاومة، وما إلى ذلك من الأمور، والمجتمع الذي يحافظ على الالتزام بهذه الفريضة الإسلامية، هو مجتمع يستطيع أن يبني نفسه بناءً اجتماعياً واقتصادياً وتربوياً وثقافياً وجهادياً. ونحن نعرف أنّ الله سبحانه أوصى بالمحتاجين، وخصوصاً الأيتام، الذين تحدّث عنهم الإمام علي(ع) في آخر أيام حياته، عندما كان يوصي ولديه الحسن والحسين(ع)، فقد قال لهما: "الله الله في الأيتام ـ وهذه الكلمة تُقال بشكل استغاثة في مقام دفع الناس إلى الاهتمام بمسألة الأيتام، لأنها من القضايا المهمة والخطرة ـ فلا تغبوا أفواههم ـ بمعنى أن تطعموهم يوماً وتجوّعوهم يوماً ـ ولا يضيعوا بحضرتكم ـ اقضوا لهم ما يحتاجونه من تعليم وتربية وسكنى وأشياء أخرى، لأنكم لو تركتموهم، لتحوّلوا إلى مجرمين يستغلهم الأشخاص الذين لا تقوى لهم ولا دين، في توظيفهم في قضايا غير إنسانية وغير إسلامية ـ فقد سمعت رسول الله(ص) يقول: من عال ييتماً حتى يستغني ـ ما دام يحتاج إلى تربية وتعليم وسكن ـ أوجب الله عز وجل له بذلك الجنة، كما أوجب لآكل مال اليتيم النار".
بمعنى أن المال الذي تصرفه على اليتيم، فإنّ ثوابه عند الله الجنة: "ما شرٌ بشر بعده الجنة، وما خيرٌ بخير بعده النار". وفي حديث آخر عن الرسول(ص): "كن لليتيم كالأب الرحيم ـ اعتبر اليتيم ولدك، وعامله كما تعامل أولادك بالرحمة ـ واعلم أنك تزرع كذلك تحصد".
وفي الحديث عن الرسول(ص): "أنا وكافل اليتيم في الجنة كهاتين" وأشار بيده إلى السبّابة والوسطى، بمعنى أنّ الذي يتكفّل اليتيم يكون في الجنة في جوار رسول الله(ص).
وفي حديث آخر، يقول(ص): "إن في الجنة داراً يقال لها دار الفرح، لا يدخلها إلا من فرّح يتامى المؤمنين". فالله يقول لك: كما فرّحت اليتيم، فأنا أعطيك داراً في الجنة فيها كل الفرح وكل السعادة. وقد ورد عن الإمام علي(ع): "ما من مؤمن ولا مؤمنة يضع يده على رأس يتيم ترحماً له، إلا كتب الله له بكلِّ شعرة مرت يده عليها حسنة".
في مقابل ذلك، قد نلاحظ عند بعض الناس أنه عندما يموت الأب، ويترك أولاداً كباراً وأولاداً أيتاماً، فإنّ الأولاد الكبار غالباً ما يضعون أيديهم على مال أخوتهم الأيتام، واليتيم لا يستطيع أن يدافع عن نفسه، فيستهلكون ماله بحجّة الوصاية عليه، ولكنّ الله تعالى يقول في ذلك:{إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً وسيصلون سعيراً} (النساء:10).وهكذا ورد عن الزهراء(ع): "فرض الله مجانبة أكل أموال اليتامى إجارةً من الظلم". ومن الطبيعي أن علينا أن نرعى اليتيم بكل إحسان وعاطفة، حتى إذا أردنا أن نؤدبه، فلا نؤدبه بالعنف، لأنّ الله يقول: {فأما اليتيم فلا تقهر} (الضحى:9).
وهكذا، أيها الأحبة، يريد الله للمجتمع الإسلامي أن يكون مجتمع التكافل والتعاون وأوجب على الناس الذين أعطاهم من نعمه، رعاية الناس الذين يفقدون فرص العيش الكريم، لأن الطريق إلى الجنة هو في هذا السير.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالمسؤولية الكاملة عن كل ما حمّلكم الله إياه في سد كل حاجات الفئات الفقيرة والمحرومة، ومواجهة حاجات الواقع الإسلامي كله في الدفاع عنه، وفي مواجهة الذين يكيدون له ويمكرون فيه ويفرضون عليه التحديات الكبرى، واجهوا ذلك كله بالمسؤولية، وانطلقوا من خلال الوحدة الإسلامية، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا} (آل عمران:103)، ويقول أيضاً: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4). فماذا هناك؟
إسرائيل: اعتراف رسمي بالهزيمة في لبنان
لا يزال الجدل السياسي يهزّ الكيان الصهيوني حول الحرب العدوانية التي شنّها على لبنان في تمّوز 2006، حيث بتنا نجد تغييباً لسلسلة من القواعد التي كان العدوّ يتباهى بها، من قبيل المحاسبة، وصولاً إلى المعاقبة، حتّى على مستوى رؤساء الحكومات؛ الأمر الذي يخفي وراءه اهتزازاً بنيويّاً أصاب هذا الكيان في كثير من مستوياته، وكانت النتيجة أن اعترف العدوّ بالهزيمة أمام المقاومة في لبنان، من دون أن يرتّب على هذا الاعتراف آثاراً سياسيّة داخليّة، تحت سلسلة من الحجج والعناوين التي أظهرت كيان العدوّ كأيّ دولة من دول العالم الثالث في طريقة إدارة شؤونها السياسية والقضائيّة أمام الاستحقاقات الكبرى.
لقد اعترفت إسرائيل بهزيمتها أمام المجاهدين المقاومين، في الوقت الذي شعر كثير من العرب بالعقدة من المقاومة، لأنّها تربك مشاريع السلام التي يلهثون وراءها، إضافةً إلى التعقيدات الداخليّة اللبنانيّة التي حمّلت المجاهدين مسؤولية الحرب، وأثارت الحديث عن مأساة الصامدين مع المقاومة، وأدخلت قضية الانتصار في الجدل الداخلي، حتى كأن إسرائيل هي المنتصرة، وانطلق الحديث عن المطالبة بنـزع سلاح المقاومة في ما الحرب لم تضع أوزارها بعد، من دون أن ينطلق تخطيط على المستوى الرسمي لتسليح الجيش ودعمه ومنحه القرار السياسي ليصبح قادراً على ردّ العدوان الإسرائيلي؛ الأمر الذي يوحي بغياب المسؤوليّة عن الوطن والمستقبل لدى كثير من الطبقة السياسية.
إننا نعتبر أن الهزيمة التي أصابت إسرائيل، هي ـ أيضاً ـ هزيمة للإدارة الأمريكية، التي كانت الحرب حربها، حيث اعتُبرت هذه الحرب بوّابة أمريكا إلى الشرق الأوسط الجديد، وقد مارست الإدارة الأمريكيّة ضغوطاً هائلة لإطالة أمد العدوان، خصوصاً أن مجلس الأمن لم يُصدر إلى الآن قراراً بوقف إطلاق النار، مانحاً كيان العدوّ نوعاً من حرّية تجديد العدوان عبر القرار 1701 الذي اعتبرته إسرائيل نصراً لها.
فلسطين: العملية الاستشهادية تصدم العدو
وهذا هو منهج الإدارة الأمريكية تجاه كلّ شعوب المنطقة وقضاياها، حيث لا تزال تشجّع العدو على قصف المدن والقرى الفلسطينيّة وارتكاب المجازر وتحريك الاغتيال، تحت حجّة الدفاع عن النفس، تماماً كما يدافع الذئب عن نفسه حين يقتل الحِمْلان الوديعة.
ولكن أبطال الانتفاضة لا يزالون يواجهون العدو بصواريخهم التي هزّت أمنه، وأربكت مستوطناته، وقد مثّلت العملية الاستشهادية في ديمونة صدمةً عسكريةً ومعنويةً للعدو، ولاسيما أن المجاهدين قد استعادوا هذا الأسلوب الموجع في حربهم مع العدو.
وإنّنا نأسف أن تصدر الرئاسة الفلسطينيّة بيان استنكار وإدانة للعمليّة، متناسيةً أن العدو يحرّك قراره السياسي وترسانته العسكريّة لقتل المدنيّين وتدمير البيوت وجرف البساتين، لأن المسألة لدى هذا العدوّ هي تخدير السلطة الفلسطينية من خلال الاجتماعات الثنائيّة وإذلالها، والامتناع عن منحها أية مبادرة لتخفيف الضغوط عن الشعب الفلسطيني على المعابر، وفرض الحصار التجويعي والحيوي على المدنيين، بما يمثل العقاب الجماعي الذي رفضت أمريكا إدانته في مجلس الأمن، ومنعت استصدار قرار لرفع المقاطعة عن قطاع غزة، لأن إدانة هذا الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، يمثل إدانةً للاحتلال الأمريكي للعراق وأفغانستان.
إنّ الولايات المتّحدة الأمريكية لا تؤمن بحقوق الإنسان العربي والمسلم والمستضعف، وهي تتعامل مع الأنظمة العربيّة كأدوات لخدمة مشاريع هيمنتها في المنطقة، أو كمصارف تموّل كلّ حروبها عليهم، أو مجرد أوراق لصرف الأنظار عن أزمات داخليّة تعانيها الإدارة الأمريكية في واقعها الداخلي.
إنّ على الحكومات العربية أن ترجع إلى صوابها، وأن تفهم طبيعة اللعبة التي تمتد من فلسطين إلى كل بلد عربي خاضع للسياسة الإسرائيلية والأمريكية، والتي تجعل من الاستقلال نكتة سمجة في العالم العربي.
إيران: تقدّم علمي وقلق أمريكي
وفي مظهر للاستكبار العالمي الذي يرفض لشعوب المنطقة أن تتحرك في عمليّة صناعة القوّة الذاتيّة، سارعت واشنطن إلى التنديد بالخطوة الإيرانية في خروجها إلى الفضاء الخارجي، من طريق إرسالها لصاروخ إيراني الصنع، صُمّم لإطلاق أول قمر اصطناعي للبحوث، في خطوة تظهر التقدم العلمي الذي حققته طهران في المجال التكنولوجي والعلمي، وعبّر البيت الأبيض عن الأسف أن تواصل إيران اختبار صواريخ، معتبراً أنّ النظام الإيراني مستمر في اتخاذ خطوات "لن تؤدي إلا إلى زيادة عزلته وعزلة الشعب الإيراني عن المجتمع الدولي"، من دون أن يخفي بعض المحلّلين العسكريّين الأمريكيّين، أن هذا الاختبار قد يثير قلق الولايات المتحدة وإسرائيل.
أما تعليقنا على ذلك، فهو أن أمريكا لا تريد لإيران الحصول على التقدم العلمي الذي قد يمكّنها من إنتاج صواريخ دفاعية، وقد تحدث المحللون أن هذا الاختبار جاء بعد مرور أسابيع قليلة فقط على إجراء إسرائيل اختباراً صاروخياً، ليكون هذا الاختبار الإيراني رسالةً من إيران تقول فيها لإسرائيل: إننا نستطيع أن نفعل ما يمكنكم عمله مهما يكن. والملاحظ أن أمريكا لم تنكر على إسرائيل اختبارها الصاروخي، انطلاقاً من استراتيجيتها في أن تبقى إسرائيل أقوى دولة في المنطقة وفي استخدامها، إذا لزم الأمر، لمهاجمة إيران بقصف مواقعها النووية السلميّة...
أما حديثها عن عزلة إيران عن المجتمع الدولي، فإننا نلاحظ أن أمريكا هي التي أصبحت تعيش العزلة السياسية عن شعوب العالم الثالث، من خلال رفض هذه الشعوب لاستراتيجيتها العدوانية الاستكبارية، وخصوصاً في المآسي التي تلحقها بالشعوب الأفريقية بالتخطيط مع حلفائها، أو في صراعها مع بعضهم الآخر، كما في كينيا وتشاد والسودان والصومال.
لبنان: توظيف المجزرة توظيفاً سياسياً
أما لبنان، فلا يزال الشعب ينتظر انتهاء التحقيقات العسكرية والقضائية التي تكشف المجرمين الذين أطلقوا الرصاص على الضحايا من شهداء وجرحى، والذين خططوا لتحويل الحركة المطلبية في التظاهر السلمي إلى مأساة إنسانية، في خطة خبيثة تعمل على أن يفقد لبنان خصوصيته الحضارية في المطالبة بقضاياه الحيوية وتطلعاته السياسية وأوضاعه الاقتصادية، كما يفعل ذلك كل شعوب العالم المتحضر الذين قد تتطوّر تظاهراتهم إلى أعمال سلبية تخريبية، من دون أن تثير أية ردود فعل عنيفة على مستوى الجرائم الدموية، ومن دون أن تنطلق التصريحات برفض النـزول إلى الشارع لأنه لا يحلّ مشكلة، كما يزعمون.
إن لبنان هو بلد الحرية السياسية الشعبية التي يريد البعض أن لا تنطلق إلا لحسابهم، ونحن نؤكد أن مسألة الشارع لا مشكلة فيها، بل هي حركة إيجابية إذا كانت سلميةً لا عنف فيها. ولذلك فإن رفض النـزول إلى الشارع الذي انطلق من مواقع دينية رسمية أو سياسية أو حزبية، سوف يُفقد لبنان خصوصيته في أنه بلد الحرية.
هذا من جهة، ومن جهة أخرى، فإن المجازر التي حدثت في منطقة الشياح، لم تحرّك لدى كثيرين العنصر الإنساني لرفض الجريمة، بل استخدمت استخداماً سياسياً لا يملك العقلانية والموضوعية، بل لقد حاول البعض تحريك المسألة في عملية ردود فعل تختزن التهديد اللاواعي. ونحن نعرف أن الإخلاص للوطن يفرض على الجميع أن يدققوا في تصريحاتهم وكلماتهم للابتعاد عن عناصر الإثارة.
ثم إن الحديث عن بعض الجهات الأمنية الرسمية بأسلوب العصمة المطلقة التي لا يمكن محاسبة من أخطأ منها، ولا محاكمتها إذا أجرمت، هو حديث يبتعد بالمشكلة عن الحل، فلا بد من أن يحاسَب المخطىء ويحاكَم المجرم، فلا قدسية لأحد عندما تكون القضية قضية الشعب كله، سواء كان في موقع ديني أو حكومي أو سياسي أو أمني؛ ومن هنا تبدأ حركة الدولة نحو احترام نفسها وإنسانها وحماية مستقبلها.