فاطمة(ع) الأحبّ إلى رسول الله:
ما تمنَّى غيرها نسلاً ومن يلد الزهراء يزهد في سواها
إنها فاطمة الزهراء(ع) الّتي تصادف في هذه الأيام ذكرى مولدها. وقد كان للزّهراء(ع) عدة أخوات من خديجة، وعلى الرّغم من أنّ الله سبحانه أكّد تعدّد بنات النبيّ، إلاّ أنّ بعض الناس ينكرون أن يكون للنبي بنات غير الزهراء، وقد خاطب الله رسوله قائلاً: {قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ المُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ}(الأحزاب/59)، ما يدلّ على التعدد، وهذا ما أكّدته الرواية الواردة في حديث الإمام الصّادق(ع) عن رسول الله(ص).
ولكن المسألة في الفرق بين الزهراء(ع) وبين بنات النبي(ص)، أنّ بناته الأخريات كنّ في رعاية أمهن أم المؤمنين خديجة(ع)، فهي التي ربَّتهن، في حين أنه(ص) هو الذي ربّى الزهراء(ع). ولذلك كانت حتى في طفولتها الأولى تتحرك معه، وكانت في عاطفتها الإنسانية والروحية والبنوية تعيش معه، حتى إنَّ التاريخ يذكر أن المشركين وضعوا بعض أمعاء الشاة على ظهر رسول الله وهو ساجد، فأُخبرت الزهراء بالأمر وهي طفلة في ذلك الوقت، فجاءت وأزالت ذلك عن أبيها، ووقفت أمامهم في موقف التحدي وهي بنت خمس سنوات أو أقل، وشتمتهم وأنّبتهم، ما يدلُّ على أنّها كانت في تلك المرحلة في موقف الوعي للرسالة وللرسول.
وقد تحدّثت عنها عائشة أمَّ المؤمنين فقالت: «ما رأيت أحداً أشبه سمتاً وهدياً ودلاًّ برسول الله في قيامها وقعودها من فاطمة، وكانت إذا دخلت على النبيّ، قام إليها وقبّلها وأجلسها في مجلسه، وكان النبيّ إذا دخل عليها، قامت من مجلسها فقبّلته وأجلسته في مجلسها»، ويذكر المؤرِّخّون أنها عندما كانت تمشي، كانت لا تُخطئ مشية رسول الله، إذ كانت تمشي مشيته من خلال تأثرها به، وكانت العلاقة بينها وبينه في ما يتحدّث عنه المؤرّخون، أنّه كان إذا رجع من غزوٍ أو سفرٍ، أتى المسجد فصلّى فيه ركعتين شكراً لله على أنه أرجعه من سفره، ثم ثنّى بفاطمة، ثم يأتي أزواجه، بحيث كانت الزهراء(ع) هي الأقرب إليه من زوجاته.
وينقل المؤرخون أن النبي(ص) كان إذا سافر، كان آخر الناس به عهداً فاطمة، وإذا رجع من سفره كان أول الناس به عهداً فاطمة. وينقل بعض المؤرخين في سيرتها(ع)، أنَّ رسول الله كان راجعاً من سفره، فأقبل إلى بيت فاطمة يريد الدخول إليه ثم رجع، فاستغربت فاطمة ذلك، وعرفت أنّه لا بد من أن يكون هناك شيء رآه رسول الله في مدخل البيت ولم يرتح إليه، فنظرت، فإذا ليس هناك إلا ستار (برداية) أهداها إليها عليّ(ع) ممّا حصل عليه في بعض المعارك، فأخذت هذا الستار وقالت لولديها الحسن والحسين(ع): «انطلقا إلى أبي، فأقرئاه السّلام وقولا له: ما أحدثنا بعدك غير هذا، فما شأنك به؟»، فجاء الحسنان(ع) يحملان هذا الستار، وكان النبي(ص) على المنبر، فأبلغاه الرسالة وأعطياه الستار، فهزّت هذه الأريحية رسول الله فقال: «فداها أبوها، فداها أبوها، فداها أبوها، ما لآل محمد وللدّنيا، إنهم خُلقوا للآخرة»، وأخذ الستار وتصدّق به على الفقراء. وسئلت عائشة أم المؤمنين: «أيّ الناس كان الأحبّ إلى رسول الله»؟ قالت: «فاطمة»، فسئلت: «ومن الرجال»؟ قالت: «زوجها، إن كان ما علمته صوّاماً قوّاماً».
في مدرسة رسول الله(ص):
وقد ورد عن رسول الله(ص) عندما زوّج فاطمة من عليّ(ع)، أنه قال: «لولا أنَّ الله تبارك وتعالى خلق عليّاً ما كان لفاطمة كفؤ»، لأننا نعرف أنّ فاطمة وعليّاً(ع) كانا معاً في طفولتهما وفي بداية شبابهما، يتعلّمان في مدرسة رسول الله، كانا معاً في بيته يسمعان القرآن أول ما ينـزل على رسول الله، وكان يعطيهما من علمه ما يملأ عقليهما علماً، وشخصيتهما قوةً من الوعي والروحانية. ونحن نسمع ما ورد عن النبي(ص) بحقّ عليّ: «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»، وما جاء عن عليّ(ع): «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، كل باب يفتح ألف باب».
وكانت فاطمة تتعلّم من رسول الله كما يتعلّم عليّ(ع) منه، ولذلك، لم يكن هناك أحد من الصحابة يملك العلم الذي تملكه فاطمة إلاّ عليّ(ع)، وقد رأينا أنّ النبي(ص) عندما تحدث عن الزهراء(ع)، لم يكن حديثه حديث العاطفة، من خلال حديث الأب عن ابنته، ونحن لا ننكر أن يكون هناك عاطفة للأب تجاه ابنته، ولكن عندما تكون المسألة مسألة بيان القيمة والمنـزلة، فإن ذلك لا ينطلق من خلال العاطفة.
سيِّدة نساء العالمين:
فقد ورد عن النبي(ص)، ممّا رواه السنّة والشيعة، عدة أحاديث عن الزهراء(ع)، من بينها: «أنها سيدة نساء أهل الجنة»، و«أنّها سيدة نساء العالمين»، «وأنّها سيدة نساء هذه الأمة». ويروى أن النبي(ص) قال لها: «يا بنية، أما ترضين أن تكوني سيدة نساء العالمين»؟ قالت: «يا أبتِ، وأين مريم ابنة عمران؟»، قال(ص): «تلك سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك، أما والله زوّجتك سيداً في الدنيا والآخرة». وجاء فيما رواه البخاري في صحيحه: «فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني». وجاء في صحيح مسلم: «إنما ابنتي فاطمة بضعة مني، يؤذيني ما أذاها، ويسرّني ما سرّها». ويروي الإمام الحسن(ع) عن عبادة والدته، يقول: «رأيت أمي فاطمة قامت في محرابها ليلة جمعتها، فلم تزل راكعةً ساجدة حتى اتّضح عمود الصبح، وسمعتها تدعو للمؤمنين والمؤمنات وتسمّيهم وتكثر الدعاء لهم، ولا تدعو لنفسها بشيء، فقلت لها: يا أماه، لم لا تدعين لنفسك كما تدعين لغيرك؟ قالت: يا بني، الجار ثم الدار».
وكانت الزَّهراء(ع) وهي مثقلةٌ بأعمال البيت وبتربية أطفالها وخدمتها لأبيها ولزوجها، كانت تجد الوقت للدّعوة إلى الله، ولتعليم المؤمنات ما تعلّمته من رسول الله(ص)، وكان(ص) يوجّهها ويطلق لها التعاليم، ويطلب منها أن تعلّم المسلمات من ذلك، ومن بين ذلك ما روي عن الأئمة(ع)، ورواه صاحب وسائل الشيعة، أن رسول الله كان يأمر فاطمة أن تعلّم المؤمنات مسائل الحيض، وكانت، كما ينقل بعض رواة تاريخها، تكتب عن النبي(ص)، حتى إنها أضاعت بعض ما كتبته، فقالت لجاريتها فضة: «إبحثي عنها، فإنها تعدل عندي حسناًَ وحسيناً».
الزّهراء المحبّة والصّابرة:
وعندما حضرت رسول الله(ص) الوفاة، جاءت إليه الزهراء، فضمّها إليه وهمس في أذنها فبكت، وضمّها إليه مرةً ثانية فضحكت، وعندما سئلت عن ذلك لم تفشِ بهذا السرّ في حياة النبي(ص)، ولكنَّها أفشته بعد وفاته، حيث قالت: «إنّه أخبرني أنه يموت فبكيت، ثمّ أخبرني أنّي أوّل أهل بيته لحوقاً به فضحكت». وكان عمر الزهراء(ع) عند وفاتها ثمانية عشر سنةً، وفي أكثر الروايات ثمانية وعشرين سنة، وكانت زوجة تحبّ زوجها ويحبها، فقد كانت أماً تحب أولادها ويحبُّونها. ومهما كانت العلاقة بين الأب وابنته، فإنها عادةً تحبّ أن تعيش مع زوجها وأولادها، ولكن ضحك الزهراء(ع) يدلُّ على قوة العلاقة الروحية بينها وبين رسول الله، بحيث ترتاح وتُسر لأنّها سوف تكون أول أهل بيته لحوقاً به، وكانت تأخذ بولديها الحسن والحسين(ع) إلى قبر جدهما وتحدّثهما عنه، حتى تملأ عقلهما وقلبهما بالنبي(ص).
ونحن نعرف أنّ الزهراء(ع) عانت الكثير بعد رسول الله(ص)، واضطُهدت، عندما هدّدوا بالهجوم على دارها وإحراقه، وقيل لمن هدَّد: «إن فيها فاطمة»، فقال: «وإنْ»، وغُصبت فدكاً التي هي نحلة من رسول الله لها، ولكنها كانت الصابرة القوية، ووقفت مع عليّ(ع) تدافع عن حقه وشرعية إمامته، فوقفت خطيبةً في مسجد رسول الله(ص)، وألقت تلك الخطبة الرائعة التي تحدثت فيها عن أسرار التشريع الإسلامي، ودافعت فيها عن حقّ عليّ(ع)، ووجَّهت المسلمين إلى ما يجب عليهم من الالتزام بالحق، وكانت تريد أن تظهر احتجاجها على ما فعله البعض معها ومع عليّ(ع)، فأوصت أن تُدفن ليلاً وأن لا يحضر جنازتها أحد ممن تجرّأ عليها وعلى بيتها واغتصب الخلافة من زوجها.
كانت الزهراء(ع) الإنسانة العظيمة العالمة الطَّاهرة الصابرة التي قال عنها رسول الله(ص): «إنها أم أبيها»، وكانت القدوة لكلِّ المسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، في العلم والروحانية والقرب إلى الله والدعوة إلى الإسلام والجهاد. فالسلام عليها يوم وُلدت ويوم ماتت ويوم تبعث حيّة.
الخطبة الثانية
بسم الله الرَّحمن الرحيم
عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف بالوحدة الإسلامية، وبالقوة في مواجهة المستكبرين والظالمين، وبالوعي للإسلام كله، وبالموقف الواحد الذي تحدّث الله تعالى عنه: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}(الصَّف/4)، فماذا هناك؟
الهدف الإسرائيلي: القطيعة بين الفلسطينيين:
في المشهد الفلسطيني، هناك ظاهرتان سلبيّتان؛ الظاهرة الأولى: هي الانقسام السياسي الذي يمثل في مظهره الواقعي انفصال غزة عن الضفة الغربية، وهو ما خططت له إسرائيل بطريقة غير مباشرة، ونفّذته بإثارتها الفتنة الدموية من خلال الجماعات التي ارتبطت بها مخابراتياً، بحيث أدّت إلى الانفصال الحكومي الذي يرفض بعض أطرافه الحوار حول الأحداث المؤلمة، كما يرفض استقبال لجنة تقصي الحقائق التي قرَّرتها الجامعة العربية في اجتماعاتها الأخيرة، لأن المطلوب هو تلبية رغبة إسرائيل وأمريكا ـ ومعهما الغرب كله وبعض الدول العربية ـ بأن لا تكون هناك حكومة وحدة وطنية تشارك فيها حركة حماس، الأمر الذي وجد فيه هذا الفريق الفلسطيني ـ وهو فريق السلطة ـ الفرصة الذهبية التي تمنحه المبرّر لإقالة الحكومة، ولإخراج وزراء حماس منها، وهو ما حقَّق الهدف الإسرائيلي والغربي وأهداف بعض الدُّول العربية، حتى انطلق الجميع في تظاهرة احتفالية تأييدية داعمة للحكومة الجديدة، تأكيداً على رفض إعادة اللّحمة بين الفريقين الفلسطينيين، والتهديد بمواقف سلبية أخرى، في الوقت الذي لم يحصل فريق السلطة من الدعم المالي إلا على مقدار زهيد، كما لم تفِ إسرائيل بإطلاق بعض الأسرى من فتح، وتخفيف القيود عن الشَّعب الفلسطيني في إزالة المعابر في الضفَّة الغربية، بل إنَّ الصَّهاينة بدلاً من ذلك، قاموا باجتياح نابلس وجنين، وقد نقلت بعض الوكالات الإعلامية، أنَّ الرئيس الفلسطيني محمود عباس كان قد طلب تأجيل اللّقاء مع الملك السعودي عبد الله، على خلفية معلومات قدمتها مصر والأردن وأطراف عربية أخرى للرئيس الفلسطيني، تؤكد موقف الملك الداعي إلى التّمسّك باتفاق مكة، في وقت لا يريد عباس استئناف هذا الحوار الذي رفضته إسرائيل وأمريكا منذ البداية.
وقد كان رئيس وزراء العدو واضحاً عندما قال في الكنيست، إنَّه في اللَّحظة التي يجدِّد فيها أبو مازن علاقته مع حماس، ستقطع إسرائيل الاتصال معه. وهذا ما يفسِّر القطيعة النهائية بينه وبين حماس، وامتناعه عن دفع رواتب الموظفين في الضفة والقطاع الذين يبلغ عددهم 23 ألف موظف، بحجة أنهم توظفوا في عهد حكومة إسماعيل هنية الأولى، أو حكومة الوحدة الوطنية المقالة، ما يوحي بأنه شرط إسرائيلي في دفع بعض الأرصدة المالية، وهو ما يجعل حكومة الطوارئ خاضعة للشروط الإسرائيلية في حرمان هؤلاء الموظفين من رواتبهم المستحقة، والتمهيد لوضع تقسيمي في واقع الشعب الفلسطيني، لتكون الحكومة حكومة فتح لا حكومة الجميع.
العدوان على غزة بمباركة دولية وعربية:
الظاهرة الثانية: العدوان الجوي والبري الصاروخي على المواطنين في غزة وعلى السيارات المدنية من أجل اغتيال بعض الشخصيات المطلوبة لدى العدوّ، ما أدى إلى سقوط الكثير من الشهداء والجرحى بطريقة وحشية، من دون أن ترتفع الأصوات الغربية والعربية للاحتجاج على ذلك واستنكاره، ما يوحي أن هذا العدوان كان بموافقة دولية وعربية. وقد تحدَّثت بعض الصحف الإسرائيلية أن السَّلطة الفلسطينية ـ ومعها بعض العرب ـ تأمل أن تقوم القوات الصهيونية بالهجوم على غزَّة والعدوان على الملتزمين بحكومة حماس، لتكون في موقع النيابة عن الفريق الذي يعادي حركة حماس، ولا سيّما أن أمريكا الإسرائيلية، وإسرائيل الأمريكية، والعرب "المتأمركين"، يخططون لإسقاط أية حركة مقاومة للعدوّ وللسياسة الأمريكية في المنطقة، لأنَّ الدم الفلسطيني لا يمثل أية مشكلة مأساوية لهؤلاء.
إنَّنا نخشى وصول الأوضاع إلى المستوى الَّذي يراد من خلاله إيجاد الحلّ في الصراع العربي الإسرائيلي على أساس الاستراتيجية الأمريكية الإسرائيلية في تحقيق أهداف إسرائيل وإقامة الدولة الفلسطينية، بما يجعلها دولةً شبحاً لا دولة حقيقيّة. وعلى الشعب الفلسطيني في غزة والضفة الغربية والقدس، أن يلتفتوا إلى خطوط هذه الإدارة الخبيثة التي ما زالت تثير الحديث عن السلام الذي لن يكون سلاماً عربياً على كل حال، بل يبقى سلاماً إسرائيلياً تصفِّق له أكثر الدول العربية المعتدلة، حسب المصطلح الأمريكي.
أمريكا الخطر الأوّل على السلام العالمي:
وفي المشهد الأمريكيّ، لا يزال الرئيس الأمريكي يلاحق الأوضاع في الشرق الأوسط، للضَّغط على أكثر من دولةٍ عربيَّة وأوروبية لمواجهة الملف النووي السلمي الإيراني، ولإصدار القرار الجديد في العقوبات الاقتصادية والأمنية في مجلس الأمن الذي تسيطر عليه إدارته، وهناك من يتحدث أن وزيرة خارجيته رايس تعتبر نفسها وزيرة خارجية العالم، وأنّ وزراء الغرب القديم أو الجديد، وحتّى إشعار آخر، يعملون رؤساء مكاتب فرعية تحت إدارة هذه المعلمة.
إنَّ واشنطن لا تهتمُّ لهوية من يبادر بل تريد أن يدرك الجميع، أن قوانين اللعبة التي تضعها هي الّتي ينبغي أن تكون المعتمدة لديهم حتى إشعار آخر، وهذا ما نلاحظه في جولات الموفدين الأمريكيين إلى العالم العربي، حيث يتم استدعاء المسؤولين في أكثر من دولة، على طريقة استدعاء الرئيس لمرؤوسيه، لإصدار التعاليم الأمنية والسياسية والاقتصادية، وتنفيذها لمصلحة أمريكا وإسرائيل على حساب مصالح شعوبهم، وهذا هو الذي نلمحه في تحديدها موقعيّة هذه الدول في مشاكل العالم العربي أو في أوضاعهم الخاصة، لتمنع دولة هنا من التدخل في شؤون هذا البلد، ولتفسح في المجال لدولة أخرى للتدخل بطريقة سلبية لإثارة المشاكل في بلد معين، كما نرى ذلك في الوضع العراقي والوضع اللبناني، الذي يهتزُّ سياسياً أو يسقط أمنياً من أجل تحقيق الاستراتيجية الأمريكية في المنطقة، لأن أمريكا ـ في إدارتها الاستكبارية ـ توظِّف عملاءها أو حلفاءها، لخدمة مشاريعها في المنطقة والعالم، وهي تتحرك من موقع الفشل في بعض المناطق، كالعراق وأفغانستان وباكستان، إلى موقع آخر تحاول النجاح فيه، كلبنان الذي انطلقت حركتها فيه من العدوان الإسرائيلي الذي خططت له، ثم عملت على توظيف بعض الأوضاع القلقة الطائفية والمذهبية والحزبية، من خلال الذين يخضعون لسياستها، في إثارة المشاكل في بلدهم، وتعقيد الأزمات الصعبة، ومنع اللبنانيين من حلّ المشكلة أو تلك.
ولكننا نلاحظ كيف أن سياستها في المنطقة وفي العالم الثالث، وحتى في أوروبا أو داخل الرأي العام الأمريكي، قد سقطت سقوطاً كبيراً، حيث إنها تركت تأثيرات سلبية حتى على الشعوب الغربية نفسها، وقد أكّدت استطلاعات الرأي الأوروبية، أن أمريكا أصبحت تمثل الخطر الأول على السلام في العالم.
لبنان: الخشية من انفجار الأزمات:
وفي الداخل اللبناني، نرى كيف يواجه اللبنانيون في المناطق المحرومة، كالبقاع وعكار والجنوب، مشكلة السقوط الاقتصادي والحرمان المعيشي والتمييز الطائفي، لأن الذين يشرفون على تنفيذ المسؤوليات في البلد، مشغولون عن الواقع الشعبي بالتزاماتهم السّلطوية، وبأزماتهم السياسية الخاضعة للتدخّلات الخارجية التي تلعب في الساحة اللبنانية لعبة الأمم في اعتبارها موقعاً من مواقع تحريك النفوذ السياسي في الضغوط الموزّعة في حركة الأوضاع في المنطقة.
ومن جانب آخر، فإنّ البلد يفقد الأمن على المستوى الفردي والجماعي، حتى إنَّ كبار الساسة الذين يعيشون تحت هاجس الخوف من الاغتيال، من جهاز هنا وتنظيم هناك، أصبحوا يهاجرون إلى بلدان الغرب ليجدوا الأمن فيه على حياتهم. هذا، إلى جانب الاهتزاز الأمني الخطير في الشمال في مخيَّم نهر البارد، وما يواجهه الجيش الوطني من التحدّيات. ومن جهةٍ أخرى، فإن هناك خشية من تطور الأحداث في الجنوب بما يرتبط باليونفيل أو بالمخيّمات، حيث تبرز تأكيدات متواصلة بأن هناك جهات تعمل لمنع الاستقرار في البلد.
إننا نقول لكلِّ المسؤولين في الدولة وفي الساحة السياسية، إن هذا النوع من التلاعب بمصير البلد، من خلال الامتناع عن تسهيل الحلول الواقعية للأزمة المستعصية، سوف يدمّر البلد اقتصادياً وأمنياً وسياسياً، وهذا ما يواجهه الجميع في الأوضاع الصعبة القاسية التي تنتج الخوف والجوع والهجرة والحرمان، وإن تأييداً خارجياً دولياً أو إقليمياً لن ينقذكم من المصير المحتوم، ولن يحلَّ للوطن مشكلته.
إن الشعب يصرخ بصوت عال، ولكن الآذان التي يراد لها أن تسمع الصرخات لا تزال صمّاء، فإلى أين يسير البلد؟! وكيف نتجاوز الأخطار التي يثيرها اللاعبون في الساحة.