إيّاكم والفرقة، فإن يد الله مع الجماعة

إيّاكم والفرقة، فإن يد الله مع الجماعة

دعوة علي(ع) إلى الأجيال:
إيّاكم والفرقة، فإن يد الله مع الجماعة

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فالّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران:103).


الاعتصام بحبل الله

نزلت هذه الآية الكريمة على النبي(ص)، لتذكّر المسلمين من المهاجرين والأنصار، بما كانوا يعيشونه من عصبية عشائرية حصدت المئات والآلاف منهم في حروبهم التاريخية التي استمرت عشرات السنين، ثمّ جاء الإسلام، فصنع لهم عقولاً إنسانية روحية جديدة، وفتح القلوب بعضها على بعض، وألّف بينهم في كل القضايا التي ترفع مستواهم وتؤكد وحدتهم، فعادوا إخواناً بالإيمان عندما آخى الله تعالى بينهم، وآخى الرسول(ص) بينهم: {إنما المؤمنون أخوة} (الحجرات:10)، وفتح لهم أبواب الجنة بعد أن كانت العصبيات قد فتحت لهم أبواب النيران، وساروا في طريق الهدى، بعد أن كانوا يتخبّطون في طريق الضلال.

  إن الإمام عليّ(ع) يريد منا أن ندرس التاريخ دراسة وعي لنعرف كيف صار الكبار صغاراً عندما تفرقوا، وكيف أصبح الصغار كباراً عندما اتحدوا واجتمعوا.

إنّ هذا النداء، ربما كان في تلك المرحلة موجّهاً للمسلمين الذين حاول اليهود في المدينة إثارة عصبياتهم من جديد، فأرسلوا إليهم من يذكّرهم بتاريخ العصبيات والحروب، ليستثير فيهم مكامن أحقادهم، حتى نادوا: "السلاح... السلاح"، وجاء رسول الله(ص) إليهم، وأفاض عليهم من روحه وروحانيته، ما جعلهم يرجعون إلى إسلامهم.

وهذه الآية تخاطب المسلمين في كل زمان ومكان، بأن يعتصموا بحبل الله جميعاً؛ أن يتمسكوا به ويرجعوا إليه. وحبل الله هو القرآن الذي خطّ لهم طريق الوحدة والسلامة والاستقامة، وهو الإسلام الذي حمّل كل واحد من المسلمين مسؤوليته، في أن يفجّر طاقته في الخير لا في الشر، وفي العدل لا في الظلم، وفي الحق لا في الباطل، وهكذا أراد للمسلمين أن يتوحّدوا، فإذا اختلفوا في أيّ أمر، فإن الله يقول لهم: لا تنطلقوا في خلافاتكم من خلال أهوائكم وعصبياتكم، ولكن انطلقوا إلى الله ورسوله، فاستنطقوا كتاب الله وسنّة نبيّه(ص) فيما تتنازعون فيه.

وهكذا نجد الأئمة من أهل البيت(ع)، الذين هم أئمة الهدى، والذين تحرك خط الإمامة عندهم في مراقبة الخط الذي يسير عليه المسلمون، لتصحيح ما أخطأوا فيه، ولتقويم ما انحرفوا فيه، فنقرأ عن الإمام عليّ(ع): "إلزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب". إن الجماعة التي تسير في الخط الذي أراد الله للناس أن يسيروا فيه، هي التي تحمي الأمة من خلال أنها تشد بعضها إلى بعض، وتؤكد موقع القوة. ونقرأ نصاً لولده الإمام الحسن(ع) فيما كان يخاطب قومه في صراعه مع معاوية، يقول فيه: "إنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد، إلا اشتد أمرهم واستحكمت عقدتهم"، ونقرأ في حديث الإمام عليّ(ع) مخاطباً أصحابه: "ليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي ـ أن يبغي بعضكم على بعض ـ ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين الله الذي لا يُقبل من أحد غيره، وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين".

دراسة واعية للتاريخ

ويقول الإمام عليّ(ع): "إحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات، بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم ـ ادرسوا تاريخ الأمم دراسة الوعي والعبرة، بحيث تستفيدون من الإيجابيات وتبتعدون عن السلبيات ـ واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء لـه عنهم، ومُدّت العافية به عليهم، وانقادت النعمة لـه معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم ـ ما هي الأمور التي أكدت الخط الإيجابي الذي حصلوا من خلاله على القوة في مواجهة أعدائهم، وعلى العزة في مواجهة كل وسائل إذلالهم ـ من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاضّ عليها، والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي. وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين؟! فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتّتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرّقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين".

 

نأمل أن يدرك اللبنانيون أهمية الحفاظ على وحدتهم الوطنية، ورصدهم للواقع كله، ومواجهتهم للأخطار المحيطة بالمنطقة، كما نأمل أن ينجح حوارهم لمصلحة الوطن كله لا لحساب تعقيداتهم الطائفية والحزبية والشخصية.

 

إن الإمام عليّاً(ع) يريد منا أن ندرس التاريخ دراسة وعي، لنعرف كيف صار الكبار صغاراً عندما تفرقوا، وكيف أصبح الصغار كباراً عندما اتحدوا واجتمعوا. وفي كلمة له(ع) يقول: "وأيم الله، ما اختلفت أمة قط بعد نبيّها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله". فهو يؤكِّد الوحدة الإسلامية بين المسلمين، ليلتقوا على ما اتفقوا عليه، وليتحدوا على أساس القاعدة الإسلامية الرحبة، وليتحاوروا بالعقل والمنطق والمسؤولية فيما اختلفوا فيه، لا أن يعتبروا أن اختلاف وجهات النظر سبيلٌ إلى التفرقة، ليلعن بعضهم بعضاً، وليقتل بعضهم بعضاً.

في الافتراق فتنة

ويقول(ع): "إياكم والتلوّن في دين الله، فإن جماعة فيما تكرهون من الحق، خير من فرقة فيما تحبون من الباطل"، ربما تحبون الباطل، لأنه ينفتح على أهوائكم، وتكرهون الحق، لأنه يحمّلكم المسؤولية الكبرى، ولكن لو درستم النتائج، فإن جماعة في الحق خير من فرقة من الباطل... ثم يقول لهم: "وإن الله سبحانه لم يعطِ أحداً بفرقة خيراً ممن مضى ولا ممن بقي". ويقول(ع): "إن الشيطان يسنّي لكم طرقه ـ يخطط طرقه التي يريد لكم أن تسيروا عليها ـ ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة ـ سواء كانت عقدة شخصية أو عصبية أو حزبية ـ ويعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة، فاصدفوا ـ ابتعدوا ـ عن نزغاته ونفثاته". ويقول(ع)، وهو يشير إلى من تفرقوا عنه ولم يقفوا معه في صراعه مع الباطل: "والله لأظن هؤلاء القوم سيدالون منكم ـ سينتصرون عليكم ـ باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم".

وفي الحديث عن رسول الله(ص): "لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا". وفي خطابه(ص) لبعض أصحابه الذين كانوا يتحركون في خط النفاق: "أذهبتم من عندي جميعاً وجئتم متفرقين؟ إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة". ويقول الإمام الباقر(ع) وهو يفسّر قوله تعالى: {أو يلبسكم شيعاً} (الأنعام:65)، "وهو اختلاف في الدين، وطعن بعضكم على بعض، {ويذيق بعضكم بأس بعض}، وهو أن يقتل بعضكم بعضاً، وكل هذا في أهل القبلة". وهذا ما نواجهه في الواقع الإسلامي الذي اختلف فيه المسلمون مذاهب، فهذا المذهب يكفّر ذاك المذهب، وذاك المذهب يلعن المذهب الآخر، وقد ورد في قوله تعالى وهو يخاطب الرسل كلهم: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء:92)، {وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون:52).

علي(ع) رائد الوحدة الإسلامية

إن هذه الآيات والأحاديث، تؤكد للمسلمين في كل مراحل حياتهم الاجتماعية، أن يلتقوا على ما اتفقوا عليه، فهناك توحيد الله الذي هو أساس الرسالات، وهناك النبوة التي يلتقي المسلمون عليها، وهناك الإيمان باليوم الآخر. وعندما اختلف المسلمون في قضية الإمامة، وأُبعِد صاحب الحق ورمز الإمامة، وهو عليّ بن أبي طالب عن حقه، وقف وقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة". وقد أعطى الذين أبعدوه وتقدّموه كل المشورة والمساعدة، وحفظهم في أنفسهم، لأنه كان يشعر بمسؤوليته عن الإسلام وهو خارج الخلافة، كما هو مسؤول عن الإسلام وهو داخلها، ولذلك نقول إن عليّاً(ع) هو رائد الوحدة الإسلامية.

 

إننا نريد للعراقيين أن يدرسوا الأخطار المحيطة بهم، ليعملوا على تأكيد الوحدة الوطنية والإسلامية، والابتعاد عن الاستغراق في خصوصياتهم الحزبية والعرقية والطائفية قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

ولذلك، فإننا نقرأ في كتابه إلى أهل مصر يقول: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحادث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه".

إن المرحلة التي يواجهها الإسلام والمسلمون في هذا الزمن، هي من أشد المراحل خطورةً على الإسلام والمسلمين، لأن الكفر والاستكبار، قد وقفا ضد الإيمان والمستضعفين، ولذلك، لا بد من أن يبرز الإيمان كله للشرك كله والاستكبار كله، تماماً كما برز عليّ(ع) في واقعة الأحزاب إلى عمرو بن عبد ود، الذي كانت تتجسّد فيه آنذاك قوة الشرك، وقد قال النبي(ص) وهو يرى في عليّ الإنسان الذي تجمّعت فيه قوة الإيمان: "برز الإيمان كله إلى الشرك كله".

فإذا كنتم تحبون رسول الله(ص) وعلياً والأئمة من أهل بيته، فخذوا بأسباب الوحدة، التقوا على ما تتفقون عليه، ولا تفسحوا في المجال للظالمين ولا للمستكبرين ولا للكافرين أن يستغلوا بعض خلافاتنا المذهبية أو الحزبية من أجل أن ينطلق المسلمون ليقتل بعضهم بعضاً، وليلعن بعضهم بعضاً، لأن الله حمّلنا مسؤولية الإسلام أن ننقله من جيلنا إلى الأجيال الأخرى. إن علينا أن نكون في مستوى الوعي في هذه المرحلة، حتى نحفظ إسلامنا وأمتنا، ونحصل على مواقع الحرية والعزة والكرامة، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين:26).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من موقع واحد: {إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4)، سواء كان القتال سياسياً، أو ثقافياً، أو أمنياً، أو اقتصادياً، لأن الله تعالى أرادنا أن نتحمّل مسؤوليتنا في أن نؤكد حريتنا وعزتنا ضد الذين يريدون إذلالنا وضدّ الذين يحشدون كل ما لديهم من قوة مدمِّرة في سبيل أن يسقطوا القوة الإسلامية، ولا نزال نعيش في صراع مع الكفر كله والاستكبار كله، فلنعرف ماذا هناك:

أمريكا: سياسة الخداع والمراوغة

في المشهد الفلسطيني، تتابع إسرائيل الحصار الغذائي والاقتصادي على الشعب الفلسطيني، من أجل تجويعه وإفقاره، عقوبةً له على اختياره لحركة حماس، ومنحها موقع القدرة على تأليف حكومة فاعلة أمينة نزيهة، تؤكد القيم الإسلامية الإنسانية في تأسيس الدولة... كما أن إسرائيل تتحرك في جرائمها في الاغتيال والاجتياح لخدمة انتخاباتها المقبلة، وتواجه العرب المقيمين في كيانها الغاصب كخطر على صفتها اليهودية...

 

إن أمريكا لا تشن حروبها لحسابها ولحساب تغيير خريطة المنطقة على قياس مصالحها فحسب، ولكنها تشن هذه الحروب لحساب إسرائيل أيضاً

وفي المشهد الأمريكي، يهدد الرئيس الأمريكي إيران، على خلفية أنها تشكّل تهديداً لحليفته القوية إسرائيل، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن إسرائيل هي التي قامت بتهديد إيران بقصف مفاعلاتها النووية عسكرياً.

إن الرئيس الأمريكي يطلق تهديده للحصول على تأييد مجلسي النواب والشيوخ في بلده، المؤيدين للصهيونية، أمام انخفاض شعبيته إلى أدنى مستوياتها، بفعل سياسته الملتوية والخادعة في الحرب على العراق، التي كلّفت الخزينة الأمريكية عشرات المليارات، والتي سقط فيها آلاف القتلى والجرحى الأمريكيين، من دون أية نتيجة.

ولا يزال الرئيس الأمريكي في خطاباته اليومية، يتحدث عمّا يسمّيه الانتصار الذي ليس له أية إمكانات في احتلاله، لأنه لا يملك أية سياسة فاعلة في حسابات احترام إرادة الشعب العراقي الذي يرفض السياسة الأمريكية واحتلالها، بعد انكشاف الخداع الواضح لـه، ما جعله يطالب بانسحاب قواتها من أراضيه، بعد أن جلبت للشعب المجازر والفقر والحرمان في السنين العجاف الثلاث.

أمريكا تشن الحروب لحساب إسرائيل

وإلى جانب ذلك، نستمع إلى وزير الحرب الأمريكي وهو يبشّر الأمريكيين بحروب جديدة قائلاً: "إن على أمريكا الاستعداد لصراع طويل ومستمر تتخلله حروب، وستكون حروباً محرجة"، تقدّم للعالم صور الأطفال المهشّمة والأشلاء الممزقة للعراقيين والأفغانيين والفلسطينيين... وفي المناسبة، فإن أمريكا لا تشن حروبها لحسابها ولحساب تغيير خريطة المنطقة على قياس مصالحها فحسب، ولكنها تشن هذه الحروب لحساب إسرائيل أيضاً، وهذا هو ما تعلنه وزيرة خارجيتها في اعتبار إيران "البنك المركزي للإرهاب"، ليصفّق لها ولرئيسها وإدارته الفريق الصهيوني والمحافظون الجدد في أمريكا، الذين يخططون لإعلان الحرب على إيران عند توفّر الظروف السياسية والأمنية، وهم يعلمون أن هذه المغامرة قد تتحوّل إلى حرب كارثية ضد أمنهم وأمن إسرائيل والمنطقة كلها.

 

إن المرحلة التي يواجهها الإسلام والمسلمون في هذا الزمن هي من أشد المراحل خطورة على الإسلام والمسلمين، لأن الكفر كله والاستكبار كله قد وقف ضد الإيمان كله والمستضعفين كلهم، ولذلك لا بد أن يبرز الإيمان كله للشرك كله والاستكبار كله.

إن على العالم المستضعف ـ وفي مقدمته العالمان العربي والإسلامي ـ أن يعرف خطورة أمريكا على أمنه واقتصاده ومصالحه، من خلال عرض عضلاتها العسكرية، لأنها تستغل قوتها في السيطرة على مقدّراته الحيوية، الأمر الذي يفرض على الجميع أن يكونوا على استعداد للمواجهة الدفاعية بكل ما يملكون من القوة. وعلى الشعب الأمريكي أن يقول كلمته الحاسمة في مواجهة هذه الإدارة، قبل أن تدخله في حماقة أخرى في المنطقة العربية والإسلامية.

ونحن في المناسبة نسأل دول الاتحاد الأوروبي التي تجري في سياستها وراء الإدارة الأمريكية في مسألة الملف النووي الإيراني: لماذا لا تكلّفون أنفسكم عناء الاستماع إلى إيران وهي التي تؤكد من خلال أعلى سلطة دينية فيها، حرمة إنتاج أسلحة نووية؟ ولماذا تتعاملون مع العرب والمسلمين دائماً بأسلوب الاتهام، بينما تضعون إسرائيل موضع الترحيب، ولا تثيرون الحديث عن أسلحتها النووية، ولا عن جرائمها اليومية ضد الفلسطينيين؟!

العراق: التخبط في مفاعيل الاحتلال

أما العراق، فإنه لا يزال يتخبط في مفاعيل الاحتلال من الناحية السياسية، في التدخّل الأمريكي مع أطيافه السياسية، لإرباك عملية تشكيل حكومته، من خلال خطوات السفير الأمريكي في بغداد، الذي يلعب اللعبة الطائفية في أكثر من موقع، ويتحرك بأصول اللعبة الأمنية التي تغض الطرف عن التكفيريين الذين يصنعون المجازر للمدنيين الأبرياء، ولاسيما للمسلمين الشيعة، وخصوصاً زوار كربلاء في أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، ويهجّرونهم من الأماكن المختلطة، ما أوجد في العراق حالة تهجيرية جديدة على مستوى الآلاف خوفاً من عمليات القتل... وذلك كله على مرأى ومسمع من قوات الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني، في الوقت الذي يتحدث الرئيس الأمريكي بأن الاحتلال سوف يبقى طويلاً في العراق، وربما إلى ما بعد انتهاء رئاسته.

إننا نهيب بأهلنا في العراق الانتباه إلى قواعد اللعبة الأمريكية التي تخطط وتعمل لمصادرة ثرواتهم، وتحويل بلادهم إلى مشكلة لكل جيرانها، ما يجعل منها ساحة للصراع على المستويين الإقليمي والدولي، وقاعدةً للإرهاب العالمي، الذي قد يحرق المنطقة على جميع المستويات. إننا نريد لهم أن يدرسوا الأخطار الداخلية والخارجية المحيطة بهم، ليعملوا على تأكيد الوحدة الوطنية والإسلامية، واللقاء على حكومة عراقية موحَّدة، والابتعاد عن الاستغراق في خصوصياتهم الحزبية والعرقية والطائفية، قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

القمة العربية وقضايا الأمة

ومن جانب آخر، فإن هناك قمة عربية سوف تُعقد في السودان، والسؤال: هل تؤكد هذه القمة الخلافات العربية حول القضايا المصيرية من خلال التدخّل الأمريكي في قراراتها، ولاسيما في تمييع المسألتين الفلسطينية والعراقية، وفي حركة الاحتلال هنا وهناك، ولاسيما أن الانتخابات الإسرائيلية القادمة سوف تنفتح على أكثر من خطر على الشعب الفلسطيني في الجانبين الأمني والسياسي، وخصوصاً في المرحلة التي تنطلق فيها حركة حماس لتشكيل حكومتها، ما يجعلنا نتقدّم إلى كل الأطياف الفلسطينية لتلتف حولها حفاظاً على قوة الموقع، وانفتاحاً على المستقبل في قضايا التحرير على أساس عناوين الوحدة؟

بناء لبنان الجديد بعقول لم تتلوّث

أما لبنان، الذي لا يزال يتلقى التهديدات من خلال وزير حرب العدو، ويواجه الاختراقات الإسرائيلية في الجو والبر والبحر، في الوقت الذي نجد أن بعض قادته يتحدثون عن نزع سلاح المقاومة، تنفيذاً للقرار 1559، الذي يعرف الجميع أنه قرار إسرائيلي ـ أمريكي فُرض على مجلس الأمن لمصلحة العدو الذي لا يرتاح لوجود قوة عربية لبنانية وطنية توازن مواقع القوة بينها وبينه... هذا إضافةً إلى الفوضى الأمريكية السياسية والأمنية التي تعمل على اهتزاز المنطقة لحسابها ولحساب إسرائيل.

لذا، نأمل أن يدرك اللبنانيون أهمية الحفاظ على وحدتهم الوطنية، ورصدهم للواقع كله، ومواجهتهم للأخطار المحيطة بالمنطقة، كما نأمل أن ينجح حوارهم لمصلحة الوطن كله، لا لحساب تعقيداتهم الطائفية والحزبية والشخصية، وأن يفكروا في الحلول اللبنانية ـ اللبنانية لا أن ينتظروا الإشارات الخارجية التي تخطط لترتيب المصير الداخلي للبلد لحساب العدو الصهيوني وحليفته أمريكا... وعليهم أن يلاحظوا أن الضغوط الدولية ـ والتي تحمل عنوان الأمم المتحدة كما في هذه الأيام ـ إنما توجّه إلى الوطن الصغير لتنفيذ قرارات مجلس الأمن لمصلحة إسرائيل، ولا توجّه إلى إسرائيل لتنفيذ قراراته لمصلحة الشعب الفلسطيني والمنطقة.

إن صناعة لبنان الجديد بمسؤولية لبنانية، بحاجة إلى عقول لم تتلوّث خططها بالألاعيب الطائفية، ولم يتحرك تاريخها بالحروب الوحشية، ولم تصادر الثروة اللبنانية بالسرقة والهدر من قِبَل لصوص المواقع والوظائف الذين كوّنوا الثروات الهائلة، من دون أن يملك أيّ قضاء وأيّ حكم نزيه أن يوجِّه إليهم السؤال: من أين لك هذا؟!

دعوة علي(ع) إلى الأجيال:
إيّاكم والفرقة، فإن يد الله مع الجماعة

 

ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فالّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبيّن الله لكم آياته لعلكم تهتدون} (آل عمران:103).


الاعتصام بحبل الله

نزلت هذه الآية الكريمة على النبي(ص)، لتذكّر المسلمين من المهاجرين والأنصار، بما كانوا يعيشونه من عصبية عشائرية حصدت المئات والآلاف منهم في حروبهم التاريخية التي استمرت عشرات السنين، ثمّ جاء الإسلام، فصنع لهم عقولاً إنسانية روحية جديدة، وفتح القلوب بعضها على بعض، وألّف بينهم في كل القضايا التي ترفع مستواهم وتؤكد وحدتهم، فعادوا إخواناً بالإيمان عندما آخى الله تعالى بينهم، وآخى الرسول(ص) بينهم: {إنما المؤمنون أخوة} (الحجرات:10)، وفتح لهم أبواب الجنة بعد أن كانت العصبيات قد فتحت لهم أبواب النيران، وساروا في طريق الهدى، بعد أن كانوا يتخبّطون في طريق الضلال.

  إن الإمام عليّ(ع) يريد منا أن ندرس التاريخ دراسة وعي لنعرف كيف صار الكبار صغاراً عندما تفرقوا، وكيف أصبح الصغار كباراً عندما اتحدوا واجتمعوا.

إنّ هذا النداء، ربما كان في تلك المرحلة موجّهاً للمسلمين الذين حاول اليهود في المدينة إثارة عصبياتهم من جديد، فأرسلوا إليهم من يذكّرهم بتاريخ العصبيات والحروب، ليستثير فيهم مكامن أحقادهم، حتى نادوا: "السلاح... السلاح"، وجاء رسول الله(ص) إليهم، وأفاض عليهم من روحه وروحانيته، ما جعلهم يرجعون إلى إسلامهم.

وهذه الآية تخاطب المسلمين في كل زمان ومكان، بأن يعتصموا بحبل الله جميعاً؛ أن يتمسكوا به ويرجعوا إليه. وحبل الله هو القرآن الذي خطّ لهم طريق الوحدة والسلامة والاستقامة، وهو الإسلام الذي حمّل كل واحد من المسلمين مسؤوليته، في أن يفجّر طاقته في الخير لا في الشر، وفي العدل لا في الظلم، وفي الحق لا في الباطل، وهكذا أراد للمسلمين أن يتوحّدوا، فإذا اختلفوا في أيّ أمر، فإن الله يقول لهم: لا تنطلقوا في خلافاتكم من خلال أهوائكم وعصبياتكم، ولكن انطلقوا إلى الله ورسوله، فاستنطقوا كتاب الله وسنّة نبيّه(ص) فيما تتنازعون فيه.

وهكذا نجد الأئمة من أهل البيت(ع)، الذين هم أئمة الهدى، والذين تحرك خط الإمامة عندهم في مراقبة الخط الذي يسير عليه المسلمون، لتصحيح ما أخطأوا فيه، ولتقويم ما انحرفوا فيه، فنقرأ عن الإمام عليّ(ع): "إلزموا السواد الأعظم، فإن يد الله مع الجماعة، وإياكم والفرقة، فإن الشاذ من الناس للشيطان، كما أن الشاذ من الغنم للذئب". إن الجماعة التي تسير في الخط الذي أراد الله للناس أن يسيروا فيه، هي التي تحمي الأمة من خلال أنها تشد بعضها إلى بعض، وتؤكد موقع القوة. ونقرأ نصاً لولده الإمام الحسن(ع) فيما كان يخاطب قومه في صراعه مع معاوية، يقول فيه: "إنه لم يجتمع قوم قط على أمر واحد، إلا اشتد أمرهم واستحكمت عقدتهم"، ونقرأ في حديث الإمام عليّ(ع) مخاطباً أصحابه: "ليردعكم الإسلام ووقاره عن التباغي والتهاذي ـ أن يبغي بعضكم على بعض ـ ولتجتمع كلمتكم، والزموا دين الله الذي لا يُقبل من أحد غيره، وكلمة الإخلاص التي هي قوام الدين".

دراسة واعية للتاريخ

ويقول الإمام عليّ(ع): "إحذروا ما نزل بالأمم قبلكم من المثلات، بسوء الأفعال وذميم الأعمال، فتذكروا في الخير والشر أحوالهم ـ ادرسوا تاريخ الأمم دراسة الوعي والعبرة، بحيث تستفيدون من الإيجابيات وتبتعدون عن السلبيات ـ واحذروا أن تكونوا أمثالهم، فإذا تفكّرتم في تفاوت حاليهم، فالزموا كل أمر لزمت العزة به شأنهم، وزاحت الأعداء لـه عنهم، ومُدّت العافية به عليهم، وانقادت النعمة لـه معهم، ووصلت الكرامة عليه حبلهم ـ ما هي الأمور التي أكدت الخط الإيجابي الذي حصلوا من خلاله على القوة في مواجهة أعدائهم، وعلى العزة في مواجهة كل وسائل إذلالهم ـ من الاجتناب للفرقة، واللزوم للألفة، والتحاضّ عليها، والتواصي بها. واجتنبوا كل أمر كسر فقرتهم وأوهن منّتهم، من تضاغن القلوب، وتشاحن الصدور، وتدابر النفوس، وتخاذل الأيدي. وتدبّروا أحوال الماضين من المؤمنين قبلكم، فانظروا كيف كانوا حيث كانت الأملاء مجتمعة، والأهواء مؤتلفة، والقلوب معتدلة، والأيدي مترادفة، والسيوف متناصرة، والبصائر نافذة، والعزائم واحدة، ألم يكونوا أرباباً في أقطار الأرضين، وملوكاً على رقاب العالمين؟! فانظروا إلى ما صاروا إليه في آخر أمورهم، حين وقعت الفرقة، وتشتّتت الألفة، واختلفت الكلمة والأفئدة، وتشعبوا مختلفين، وتفرّقوا متحاربين، قد خلع الله عنهم لباس كرامته، وسلبهم غضارة نعمته، وبقي قصص أخبارهم فيكم عبراً للمعتبرين".

 

نأمل أن يدرك اللبنانيون أهمية الحفاظ على وحدتهم الوطنية، ورصدهم للواقع كله، ومواجهتهم للأخطار المحيطة بالمنطقة، كما نأمل أن ينجح حوارهم لمصلحة الوطن كله لا لحساب تعقيداتهم الطائفية والحزبية والشخصية.

 

إن الإمام عليّاً(ع) يريد منا أن ندرس التاريخ دراسة وعي، لنعرف كيف صار الكبار صغاراً عندما تفرقوا، وكيف أصبح الصغار كباراً عندما اتحدوا واجتمعوا. وفي كلمة له(ع) يقول: "وأيم الله، ما اختلفت أمة قط بعد نبيّها إلا ظهر أهل باطلها على أهل حقها إلا ما شاء الله". فهو يؤكِّد الوحدة الإسلامية بين المسلمين، ليلتقوا على ما اتفقوا عليه، وليتحدوا على أساس القاعدة الإسلامية الرحبة، وليتحاوروا بالعقل والمنطق والمسؤولية فيما اختلفوا فيه، لا أن يعتبروا أن اختلاف وجهات النظر سبيلٌ إلى التفرقة، ليلعن بعضهم بعضاً، وليقتل بعضهم بعضاً.

في الافتراق فتنة

ويقول(ع): "إياكم والتلوّن في دين الله، فإن جماعة فيما تكرهون من الحق، خير من فرقة فيما تحبون من الباطل"، ربما تحبون الباطل، لأنه ينفتح على أهوائكم، وتكرهون الحق، لأنه يحمّلكم المسؤولية الكبرى، ولكن لو درستم النتائج، فإن جماعة في الحق خير من فرقة من الباطل... ثم يقول لهم: "وإن الله سبحانه لم يعطِ أحداً بفرقة خيراً ممن مضى ولا ممن بقي". ويقول(ع): "إن الشيطان يسنّي لكم طرقه ـ يخطط طرقه التي يريد لكم أن تسيروا عليها ـ ويريد أن يحل دينكم عقدة عقدة ـ سواء كانت عقدة شخصية أو عصبية أو حزبية ـ ويعطيكم بالجماعة الفرقة، وبالفرقة الفتنة، فاصدفوا ـ ابتعدوا ـ عن نزغاته ونفثاته". ويقول(ع)، وهو يشير إلى من تفرقوا عنه ولم يقفوا معه في صراعه مع الباطل: "والله لأظن هؤلاء القوم سيدالون منكم ـ سينتصرون عليكم ـ باجتماعهم على باطلهم، وتفرقكم عن حقكم".

وفي الحديث عن رسول الله(ص): "لا تختلفوا، فإن من كان قبلكم اختلفوا فهلكوا". وفي خطابه(ص) لبعض أصحابه الذين كانوا يتحركون في خط النفاق: "أذهبتم من عندي جميعاً وجئتم متفرقين؟ إنما أهلك من كان قبلكم الفرقة". ويقول الإمام الباقر(ع) وهو يفسّر قوله تعالى: {أو يلبسكم شيعاً} (الأنعام:65)، "وهو اختلاف في الدين، وطعن بعضكم على بعض، {ويذيق بعضكم بأس بعض}، وهو أن يقتل بعضكم بعضاً، وكل هذا في أهل القبلة". وهذا ما نواجهه في الواقع الإسلامي الذي اختلف فيه المسلمون مذاهب، فهذا المذهب يكفّر ذاك المذهب، وذاك المذهب يلعن المذهب الآخر، وقد ورد في قوله تعالى وهو يخاطب الرسل كلهم: {إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون} (الأنبياء:92)، {وأنا ربكم فاتقون} (المؤمنون:52).

علي(ع) رائد الوحدة الإسلامية

إن هذه الآيات والأحاديث، تؤكد للمسلمين في كل مراحل حياتهم الاجتماعية، أن يلتقوا على ما اتفقوا عليه، فهناك توحيد الله الذي هو أساس الرسالات، وهناك النبوة التي يلتقي المسلمون عليها، وهناك الإيمان باليوم الآخر. وعندما اختلف المسلمون في قضية الإمامة، وأُبعِد صاحب الحق ورمز الإمامة، وهو عليّ بن أبي طالب عن حقه، وقف وقال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصة". وقد أعطى الذين أبعدوه وتقدّموه كل المشورة والمساعدة، وحفظهم في أنفسهم، لأنه كان يشعر بمسؤوليته عن الإسلام وهو خارج الخلافة، كما هو مسؤول عن الإسلام وهو داخلها، ولذلك نقول إن عليّاً(ع) هو رائد الوحدة الإسلامية.

 

إننا نريد للعراقيين أن يدرسوا الأخطار المحيطة بهم، ليعملوا على تأكيد الوحدة الوطنية والإسلامية، والابتعاد عن الاستغراق في خصوصياتهم الحزبية والعرقية والطائفية قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

ولذلك، فإننا نقرأ في كتابه إلى أهل مصر يقول: "فما راعني إلا انثيال الناس على أبي بكر يبايعونه، فأمسكت يدي، حتى رأيت راجعة الناس قد رجعت عن الإسلام، يدعون إلى محق دين محمد(ص)، فخشيت إن لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنما هي متاع أيام قلائل، يزول منها ما كان، كما يزول السراب، أو كما يتقشع السحاب، فنهضت في تلك الأحادث، حتى زاح الباطل وزهق، واطمأن الدين وتنهنه".

إن المرحلة التي يواجهها الإسلام والمسلمون في هذا الزمن، هي من أشد المراحل خطورةً على الإسلام والمسلمين، لأن الكفر والاستكبار، قد وقفا ضد الإيمان والمستضعفين، ولذلك، لا بد من أن يبرز الإيمان كله للشرك كله والاستكبار كله، تماماً كما برز عليّ(ع) في واقعة الأحزاب إلى عمرو بن عبد ود، الذي كانت تتجسّد فيه آنذاك قوة الشرك، وقد قال النبي(ص) وهو يرى في عليّ الإنسان الذي تجمّعت فيه قوة الإيمان: "برز الإيمان كله إلى الشرك كله".

فإذا كنتم تحبون رسول الله(ص) وعلياً والأئمة من أهل بيته، فخذوا بأسباب الوحدة، التقوا على ما تتفقون عليه، ولا تفسحوا في المجال للظالمين ولا للمستكبرين ولا للكافرين أن يستغلوا بعض خلافاتنا المذهبية أو الحزبية من أجل أن ينطلق المسلمون ليقتل بعضهم بعضاً، وليلعن بعضهم بعضاً، لأن الله حمّلنا مسؤولية الإسلام أن ننقله من جيلنا إلى الأجيال الأخرى. إن علينا أن نكون في مستوى الوعي في هذه المرحلة، حتى نحفظ إسلامنا وأمتنا، ونحصل على مواقع الحرية والعزة والكرامة، {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} (المطففين:26).

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله... اتقوا الله، وواجهوا الموقف من موقع واحد: {إن الله يحبّ الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص} (الصف:4)، سواء كان القتال سياسياً، أو ثقافياً، أو أمنياً، أو اقتصادياً، لأن الله تعالى أرادنا أن نتحمّل مسؤوليتنا في أن نؤكد حريتنا وعزتنا ضد الذين يريدون إذلالنا وضدّ الذين يحشدون كل ما لديهم من قوة مدمِّرة في سبيل أن يسقطوا القوة الإسلامية، ولا نزال نعيش في صراع مع الكفر كله والاستكبار كله، فلنعرف ماذا هناك:

أمريكا: سياسة الخداع والمراوغة

في المشهد الفلسطيني، تتابع إسرائيل الحصار الغذائي والاقتصادي على الشعب الفلسطيني، من أجل تجويعه وإفقاره، عقوبةً له على اختياره لحركة حماس، ومنحها موقع القدرة على تأليف حكومة فاعلة أمينة نزيهة، تؤكد القيم الإسلامية الإنسانية في تأسيس الدولة... كما أن إسرائيل تتحرك في جرائمها في الاغتيال والاجتياح لخدمة انتخاباتها المقبلة، وتواجه العرب المقيمين في كيانها الغاصب كخطر على صفتها اليهودية...

 

إن أمريكا لا تشن حروبها لحسابها ولحساب تغيير خريطة المنطقة على قياس مصالحها فحسب، ولكنها تشن هذه الحروب لحساب إسرائيل أيضاً

وفي المشهد الأمريكي، يهدد الرئيس الأمريكي إيران، على خلفية أنها تشكّل تهديداً لحليفته القوية إسرائيل، في الوقت الذي يعرف الجميع، أن إسرائيل هي التي قامت بتهديد إيران بقصف مفاعلاتها النووية عسكرياً.

إن الرئيس الأمريكي يطلق تهديده للحصول على تأييد مجلسي النواب والشيوخ في بلده، المؤيدين للصهيونية، أمام انخفاض شعبيته إلى أدنى مستوياتها، بفعل سياسته الملتوية والخادعة في الحرب على العراق، التي كلّفت الخزينة الأمريكية عشرات المليارات، والتي سقط فيها آلاف القتلى والجرحى الأمريكيين، من دون أية نتيجة.

ولا يزال الرئيس الأمريكي في خطاباته اليومية، يتحدث عمّا يسمّيه الانتصار الذي ليس له أية إمكانات في احتلاله، لأنه لا يملك أية سياسة فاعلة في حسابات احترام إرادة الشعب العراقي الذي يرفض السياسة الأمريكية واحتلالها، بعد انكشاف الخداع الواضح لـه، ما جعله يطالب بانسحاب قواتها من أراضيه، بعد أن جلبت للشعب المجازر والفقر والحرمان في السنين العجاف الثلاث.

أمريكا تشن الحروب لحساب إسرائيل

وإلى جانب ذلك، نستمع إلى وزير الحرب الأمريكي وهو يبشّر الأمريكيين بحروب جديدة قائلاً: "إن على أمريكا الاستعداد لصراع طويل ومستمر تتخلله حروب، وستكون حروباً محرجة"، تقدّم للعالم صور الأطفال المهشّمة والأشلاء الممزقة للعراقيين والأفغانيين والفلسطينيين... وفي المناسبة، فإن أمريكا لا تشن حروبها لحسابها ولحساب تغيير خريطة المنطقة على قياس مصالحها فحسب، ولكنها تشن هذه الحروب لحساب إسرائيل أيضاً، وهذا هو ما تعلنه وزيرة خارجيتها في اعتبار إيران "البنك المركزي للإرهاب"، ليصفّق لها ولرئيسها وإدارته الفريق الصهيوني والمحافظون الجدد في أمريكا، الذين يخططون لإعلان الحرب على إيران عند توفّر الظروف السياسية والأمنية، وهم يعلمون أن هذه المغامرة قد تتحوّل إلى حرب كارثية ضد أمنهم وأمن إسرائيل والمنطقة كلها.

 

إن المرحلة التي يواجهها الإسلام والمسلمون في هذا الزمن هي من أشد المراحل خطورة على الإسلام والمسلمين، لأن الكفر كله والاستكبار كله قد وقف ضد الإيمان كله والمستضعفين كلهم، ولذلك لا بد أن يبرز الإيمان كله للشرك كله والاستكبار كله.

إن على العالم المستضعف ـ وفي مقدمته العالمان العربي والإسلامي ـ أن يعرف خطورة أمريكا على أمنه واقتصاده ومصالحه، من خلال عرض عضلاتها العسكرية، لأنها تستغل قوتها في السيطرة على مقدّراته الحيوية، الأمر الذي يفرض على الجميع أن يكونوا على استعداد للمواجهة الدفاعية بكل ما يملكون من القوة. وعلى الشعب الأمريكي أن يقول كلمته الحاسمة في مواجهة هذه الإدارة، قبل أن تدخله في حماقة أخرى في المنطقة العربية والإسلامية.

ونحن في المناسبة نسأل دول الاتحاد الأوروبي التي تجري في سياستها وراء الإدارة الأمريكية في مسألة الملف النووي الإيراني: لماذا لا تكلّفون أنفسكم عناء الاستماع إلى إيران وهي التي تؤكد من خلال أعلى سلطة دينية فيها، حرمة إنتاج أسلحة نووية؟ ولماذا تتعاملون مع العرب والمسلمين دائماً بأسلوب الاتهام، بينما تضعون إسرائيل موضع الترحيب، ولا تثيرون الحديث عن أسلحتها النووية، ولا عن جرائمها اليومية ضد الفلسطينيين؟!

العراق: التخبط في مفاعيل الاحتلال

أما العراق، فإنه لا يزال يتخبط في مفاعيل الاحتلال من الناحية السياسية، في التدخّل الأمريكي مع أطيافه السياسية، لإرباك عملية تشكيل حكومته، من خلال خطوات السفير الأمريكي في بغداد، الذي يلعب اللعبة الطائفية في أكثر من موقع، ويتحرك بأصول اللعبة الأمنية التي تغض الطرف عن التكفيريين الذين يصنعون المجازر للمدنيين الأبرياء، ولاسيما للمسلمين الشيعة، وخصوصاً زوار كربلاء في أربعينية الإمام الحسين (عليه السلام)، ويهجّرونهم من الأماكن المختلطة، ما أوجد في العراق حالة تهجيرية جديدة على مستوى الآلاف خوفاً من عمليات القتل... وذلك كله على مرأى ومسمع من قوات الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني، في الوقت الذي يتحدث الرئيس الأمريكي بأن الاحتلال سوف يبقى طويلاً في العراق، وربما إلى ما بعد انتهاء رئاسته.

إننا نهيب بأهلنا في العراق الانتباه إلى قواعد اللعبة الأمريكية التي تخطط وتعمل لمصادرة ثرواتهم، وتحويل بلادهم إلى مشكلة لكل جيرانها، ما يجعل منها ساحة للصراع على المستويين الإقليمي والدولي، وقاعدةً للإرهاب العالمي، الذي قد يحرق المنطقة على جميع المستويات. إننا نريد لهم أن يدرسوا الأخطار الداخلية والخارجية المحيطة بهم، ليعملوا على تأكيد الوحدة الوطنية والإسلامية، واللقاء على حكومة عراقية موحَّدة، والابتعاد عن الاستغراق في خصوصياتهم الحزبية والعرقية والطائفية، قبل أن يسقط الهيكل على رؤوس الجميع.

القمة العربية وقضايا الأمة

ومن جانب آخر، فإن هناك قمة عربية سوف تُعقد في السودان، والسؤال: هل تؤكد هذه القمة الخلافات العربية حول القضايا المصيرية من خلال التدخّل الأمريكي في قراراتها، ولاسيما في تمييع المسألتين الفلسطينية والعراقية، وفي حركة الاحتلال هنا وهناك، ولاسيما أن الانتخابات الإسرائيلية القادمة سوف تنفتح على أكثر من خطر على الشعب الفلسطيني في الجانبين الأمني والسياسي، وخصوصاً في المرحلة التي تنطلق فيها حركة حماس لتشكيل حكومتها، ما يجعلنا نتقدّم إلى كل الأطياف الفلسطينية لتلتف حولها حفاظاً على قوة الموقع، وانفتاحاً على المستقبل في قضايا التحرير على أساس عناوين الوحدة؟

بناء لبنان الجديد بعقول لم تتلوّث

أما لبنان، الذي لا يزال يتلقى التهديدات من خلال وزير حرب العدو، ويواجه الاختراقات الإسرائيلية في الجو والبر والبحر، في الوقت الذي نجد أن بعض قادته يتحدثون عن نزع سلاح المقاومة، تنفيذاً للقرار 1559، الذي يعرف الجميع أنه قرار إسرائيلي ـ أمريكي فُرض على مجلس الأمن لمصلحة العدو الذي لا يرتاح لوجود قوة عربية لبنانية وطنية توازن مواقع القوة بينها وبينه... هذا إضافةً إلى الفوضى الأمريكية السياسية والأمنية التي تعمل على اهتزاز المنطقة لحسابها ولحساب إسرائيل.

لذا، نأمل أن يدرك اللبنانيون أهمية الحفاظ على وحدتهم الوطنية، ورصدهم للواقع كله، ومواجهتهم للأخطار المحيطة بالمنطقة، كما نأمل أن ينجح حوارهم لمصلحة الوطن كله، لا لحساب تعقيداتهم الطائفية والحزبية والشخصية، وأن يفكروا في الحلول اللبنانية ـ اللبنانية لا أن ينتظروا الإشارات الخارجية التي تخطط لترتيب المصير الداخلي للبلد لحساب العدو الصهيوني وحليفته أمريكا... وعليهم أن يلاحظوا أن الضغوط الدولية ـ والتي تحمل عنوان الأمم المتحدة كما في هذه الأيام ـ إنما توجّه إلى الوطن الصغير لتنفيذ قرارات مجلس الأمن لمصلحة إسرائيل، ولا توجّه إلى إسرائيل لتنفيذ قراراته لمصلحة الشعب الفلسطيني والمنطقة.

إن صناعة لبنان الجديد بمسؤولية لبنانية، بحاجة إلى عقول لم تتلوّث خططها بالألاعيب الطائفية، ولم يتحرك تاريخها بالحروب الوحشية، ولم تصادر الثروة اللبنانية بالسرقة والهدر من قِبَل لصوص المواقع والوظائف الذين كوّنوا الثروات الهائلة، من دون أن يملك أيّ قضاء وأيّ حكم نزيه أن يوجِّه إليهم السؤال: من أين لك هذا؟!

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية