ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
لا عقدة من التاريخ الميلادي:
هذا اليوم هو آخر يوم من السنة الميلادية ألفين وأربعة، ليبدأ العالم سنة جديدة غداً. ونحن عندما نودّع سنة ونستقبل أخرى، سواء كانت هذه السنة تبدأ بميلاد السيد المسيح الذي هو رسول الله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم، أو كانت سنة هجرية تبدأ من هجرة رسول الله(ص) من مكة إلى المدينة، ليبدأ تأسيس الدولة الإسلامية، فإننا في التاريخ الميلادي أو الهجري نعيش المناسبتين معاً، فالله تعالى تحدث في القرآن الكريم عن المعجزة في ولادة السيد المسيح(ع)، كما تحدث في القرآن عن هجرة النبي(ص): {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا}.
ونحن ـ كمسلمين ـ ليس عندنا أي مشكلة سلبية في هاتين المناسبتين، لأن الإسلام يجمع بين الرسل، فنحن نؤمن بالله تعالى ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، ونؤمن بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم صلوات الله وسلامه)، ولذلك فإن ميزة الإسلام أنه يجمع في عقيدة المسلم كلَّ الرسل وكلَّ الرسالات، بينما لا يجمع الآخرون من النّصارى واليهود بين كلِّ الرسل، فالنصارى لا يؤمنون برسالة النبي محمد(ص) وبالقرآن ككتاب منـزل، واليهود لا يؤمنون بالسيد المسيح(ع) وبالنبي محمد(ص)، ولذلك فهم لا يؤمنون بالإنجيل وبالقرآن، أما المسلمون فإنهم يؤمنون بكلِّ ذلك.
التاريخ الهجري وكيفية صنع المستقبل:
ولذلك لا عقدة عندنا من التاريخ الميلادي كما التاريخ الهجري، ولكننا نؤكد على المسلمين جميعاً، أن لا ينسوا التاريخ الهجري لأنه تاريخ الإسلام، فأنت عندما تقف مع التاريخ الهجري ـ وهو 1425 للهجرة ـ فإنك تعيش مع هجرة النبي(ص) لتتذكَّر الظروف التي هاجر(ص) فيها من أجل رسالته، وتتذكر كيف أن المشركين حاولوا قتله وأثاروا الحروب عليه، ثم تتذكَّر سيرة النبي(ص) مع أصحابه في المدينة، وما جرى على حركة الإسلام والمسلمين حتى يومنا هذا، فالتاريخ الهجري يجعلك تستعيد في تصوّراتك كلَّ ما يتّصل بإسلامك في الماضي والحاضر، ويؤكّد لك كيف تصنع تاريخ الإسلام للمستقبل، لأن المسلمين جميعاً مسؤولون عن أن يصنع كلُّ جيل منهم تاريخاً إسلامياً جديداً في الدّعوة إلى الإسلام، وفي تأكيد مواقع العزة والحرية والقوة للمسلمين، ليشعر الإنسان ـ وهو يسجّل هذا التاريخ ـ بإسلامه، وبأنّه يمثِّل امتداداً لكلِّ ذلك التاريخ، وأنه جزء من هذه المسيرة الإسلامية، ليتحمّل كلَّ مسؤوليّاتها.
لنفرح فرح المسؤولية:
فعندما نودّع سنة ونستقبل أخرى، كيف نتصوّر المسألة؟ ربما يتصوَّر الناس المسألة بطريقة تقليدية استهلاكية يغفلون فيها عن أنفسهم في ما مضى من سنة أو في ما يستقبلون من سنة. إنَّ نهاية سنة وبداية أخرى جديدة، لا بدَّ للإنسان أن يتصوّرها بهذه الطريقة: فنحن عندما نودِّع سنةً، فإنَّ معنى ذلك أننا خسرنا من عمرنا سنة، لقد ماتت سنة من عمرنا، لأننا نموت بالمفرَّق لا بالجملة، فالإنسان كل يوم يولد فيه صباحاً ويموت في حجم الزمن مساءً، ولهذا نقرأ في الدّعاء المنسوب إلى الإمام زين العابدين(ع) يوم الأربعاء: «لك الحمد أن بعثتني من مرقدي، ولو شئت جعلته سرمداً»، وقد ورد عن النبي(ص): «إنكم لتموتن كما تنامون، ولتُبعثن كما تستيقظون».
ومعنى ذلك، أن سنةً مضت من عمرنا وماتت، إلى جانب السنين التي خسرناها في الماضي، وأننا نستقبل سنةً جديدة نتحمّل كلّ مسؤوليّاتها بعد أن تحمّلنا مسؤوليات السنين الماضية، والآن يقول الله لنا: جرّبوا في سنتكم الجديدة أم هل تكونون في مستوى المسؤولية؟ هل تكونون في خطِّ الله والعمل الصالح؛ أم تكون سنة انحراف عن الخطّ؟ لذلك، علينا أن لا نشغل أنفسنا باللّهو والعبث، كما يفعل الكثيرون في هذه الليلة، التي يستنفدون فيها كلّ جدّيتهم ووعيهم وانفتاحهم على المستقبل، فالكثيرون من الناس يغرقون عقولهم بالخمر، فلا يعون شيئاً، ويغرقون أوضاعهم بالغفلة في كلِّ اللّهو والعبث، كأنهم يريدون أن يوحوا لأنفسهم بالفرح. ونحن نريد للإنسان أن يفرح، ولكن أن يفرح فرح المسؤولية؛ أن تفرح لأنَّ الله تعالى منحك عمراً جديداً، ولأنه أعطاك فرصةً جديدة لتحصل على رضاه من خلال طاعتك له، أن يكون رأس السنة منطلق وعي، أن تفكِّر ماذا تفعل في سنتك الجديدة؟ وكيف تستغفر لما فعلته في السنة الماضية، فكِّر في أمّتك كيف كانت في السنة الماضية وما حلّ بها من انتصارات أو هزائم، ومن خسائر وأرباح.
بداية السنة ودراسة الأرباح والخسائر:
إننا نلاحظ في بدايات السنة كيف أنَّ أصحاب التجارات الكبرى والمصارف يعيشون حالة طوارئ من أجل أن يدقّقوا في حساباتهم، ويدرسوا الأرباح والخسائر وميزانياتهم للسنة القادمة، وعلينا أن نفعل ذلك كله في كل القضايا التي تتصل بعلاقتنا بالله وبالناس وبالحياة، أن نعمل على أن ندرس الأرباح والخسائر وكيف نواجه المستقبل، ما هي ميزانيتنا في طاعة الله ومشاريع الخير؟ وما هي ميزانيتنا في ما نؤكده ونعمل له في قوّة الأمة وعزّتها وكرامتها؟
ونحن نقرأ في دعاء الإمام زين العابدين(ع) في بداية كلِّ يوم، ويمكن أن نستخدمه في بداية كلِّ شهر وفي بداية كلِّ سنة: «اللهمَّ وهذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنّا ودّعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذمّ، اللهمّ فارزقنا حسن مصاحبته، واعصمنا من سوء مفارقته». فالإمام(ع) عندما يريد أن يبرمج يومه، وهو ما يمكن لنا أن نبرمج فيه سنتنا، يقول: «اللهمَّ ووفّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه ـ ونستطيع أن نقول في سنتنا هذه ـ لاتّباع الخير وهجران الشر، وشكر النعم، واتّباع السنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحقِّ وإعزازه، وإرشاد الضالّ، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف».
-هذه هي المبادئ التي تجعل من الزمن زمناً يتحرك فيه الإنسان من أجل أن يفجّر كلِّ طاقاته، مما يحمّله الله من مسؤوليات تجاه نفسه وتجاه النّاس من حوله. والله تعالى يقول للناس الذين يعيشون في هذه الليلة الحاضر كيف يفكرون في الغد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ـ ليجلس كل واحد مع نفسه في نهاية كلِّ سنة، ليدرس ماذا قدّم للسنة القادمة، لغد المستقبل في بقية عمره، ولغد المستقبل في الآخرة ـ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}، فعلينا أن نعمل من أجل الحساب، أن نحاسب أنفسنا عن كل ما فعلناه، وعمّا نريد أن نفعله.
وفي حديث النبي(ص): «أكيس الكيّسين ـ أعقل العقلاء ـ من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقى، من أتبع نفسه هواه وتمنّى على الله الأماني». ويقول(ص): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا ليوم العرض الأكبر». ويقول الإمام عليّ(ع): «حاسب نفسك لنفسك، فإنَّ غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك»، ويقول(ع): «حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها، والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا وتأهّبوا قبل أن تُبعثوا». وفي كلام الإمام الكاظم(ع): «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل سيئاً استغفر الله وتاب إليه».
كيفية محاسبة النفس:
وعن كيفية محاسبة النفس، يقول الإمام علي(ع): «إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه في ما أفنيته، أذكرت الله أم حمدتيه، أقضيت حقّ أخٍ مؤمن، أنفّست عنه كربه، أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده، أحفظته بعد الموت في مخلّفيه، أكففت عنه غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، أأعنت مسلماً، فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير، حمد الله عزّ وجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً، استغفر الله عزّ وجلّ وعزم على ترك معاودته».
عندما نعيش الماضي، علينا أن نتوازن في الحاضر، وعندما نعيش الحاضر، علينا أن نخطِّط للمستقبل، ولا سيما إذا كان المستقبل مستقبل الآخرة، أن لا نعيش الغفلة عما نقبل عليه من حساب المسؤولية، {يوم يقوم الناس لربّ العالمين}، {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}. لقد ماتت سنة من عمرنا، وعلينا أن نستقبل سنة جديدة نطيع الله فيها، ونتوب إليه من سيئات أعمالنا، ونخلص إليه في ما حمّلنا من مسؤولية، ولا نستغرق في الغفلة التي يستغرق فيها الآخرون، خصوصاً هذه العادة السيئة التي تدلُّ على تخلّف اجتماعي، وهي عادة إطلاق الرصاص ليلة رأس السنة. الرصاص طاقة تشتريها بمال، ومشكلتنا أننا نطلق الرصاص في الحزن وفي الفرح، لماذا؟ هذا دليل على ضعف عقل وتخلّف، إننا نحتاج إلى الرصاص باعتباره ثروةً لنقاتل به من يطلق الرصاص علينا، ومع الأسف أننا نستعمله في عصبياتنا.
ثم، هذه التربية السيئة التي نربّي عليها أولادنا، وهي المفرقعات التي تمنع الناس من أن يأخذوا راحتهم في بيوتهم وتفزع الأطفال، لماذا؟ لأننا متخلّفون ونربي أولادنا على التخلّف، وقد أطلقت منذ سنين فتوى بتحريم الاتّجار بالمفرقعات، وتحريم أن يعطي أحدكم ولده مالاً لشرائها، لأن هذا يسيء للمجتمع ولاستقراره ولحالة الهدوء فيه. الحضارة ليست أن تملك التلفزيون والبراد والغسّالة وكل وسائل الراحة، بل الحضارة كلُّ الحضارة، هي أن تحترم مشاعر الناس، وهي أن تكون محلّتك وبلدك هادئاً، بحيث يشعر الناس فيه بالراحة والسكون، ولكننا ـ مع الأسف ـ لسنا متحضّرين، بل إننا متخلّفون.
لذلك، علينا أن نعمل من أجل أن يكون عيدنا عيد الفرح الروحي والاجتماعي، عيد السكينة والهدوء، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله، وواجهوا العام الجديد بمسؤولياتكم عن أنفسكم وعن المسلمين وعن كلِّ الواقع الإسلامي، وعليكم أن تواجهوا الموقف بالوعي الكامل لكلِّ ما عشتموه، ولكل ما تريدون أن تعيشوا فيه، وعلينا أن ندرس ماذا هناك:
لتجاوز مفاعيل الزلزال المأساوية:
عاش العالم كله المأساة الكبرى التي حصدت ما قد يزيد عن المائة ألف ضحية، وشرّدت الملايين، وأدّت إلى الخسارة بالمليارات، من خلال الزلزال العنيف، وما أعقبه من حركة مدّ بحري هائلة، اجتاحت ثماني دول آسيوية، في كارثة طبيعية ناشئة من القوانين المودعة في الأرض بفعل اهتزازها حول محورها، وهو جزء من الحركة الطبيعية للأرض، التي تتنفّس فتنفث بعضاً مما فيها، وتدفع ما عليها إلى مواقع أخرى...
إننا نشارك كلَّ هذه البلدان آلامها وأوضاعها المأساوية، وندعو العالم كله إلى المساعدة في تجاوز المفاعيل المأساوية لهذه الكارثة المهولة، لأن المشكلة المتنقلة في هذه الأوضاع الطبيعية لا تقتصر على بلد دون بلد، بل لا بد للعالم أن يمثّل الوحدة الكونية في تجاوز النتائج القاسية للكوارث العاصفة في بلد هنا وبلد هناك، من خلال وحدة المشاعر والمصالح الإنسانية العامة.
ولكن إلى جانب ذلك، هناك زلزال سياسي وأمني متحرك، يحمل عنوان الحرب على الإرهاب، ككلمة حقٍّ يُراد بها باطل، فيتحوّل إلى زلزال لتغيير الوجهة السياسية للمنطقة وما حولها، على حساب شعوبها لحساب الاستكبار العالمي، ولا سيما الأمريكي والصهيوني... وإذا كان زلزال الأرض يترك بصماته في الطبيعة والبشر، في إيجابيّاته وسلبيّاته، فإنَّ زلزال الأمن والسياسة يظل في حركة دائبة لا تنتهي، في أطماع أمريكا بالنفط ومصادر الثروة المتنوّعة في العالم، لحساب اقتصادها ومصادرة الشعوب في قضاياها الحيوية المصيرية، ليطلّ العالم على عام جديد فيه من الكوارث الأمنية والسياسية والاقتصادية مما صنعه المستكبرون، ما لا تتوازن معه أرقام الكوارث الطبيعية التي تشكّل جزءاً من حركة الطبيعة، لأن أمريكا تعمل على أن تكون الدولة القائدة الواحدة المسيطرة على مقدّرات العالم، من دون اعتبار للمصالح الحيوية للشعوب كلّها، من مستضعفين وغيرهم، وإن كانت شعوبنا العربية والإسلامية هي التي تدفع أكثر الأثمان فداحةً.
فلسطين: الوحدة هدف استراتيجي:
ففي فلسطين، يواصل الصّهاينة ـ بالتحالف مع أمريكا ـ حربهم ضد الشعب الفلسطيني على جميع المستويات، فلم تتوقف الاغتيالات، ولم تتراجع المداهمات والاجتياحات والاعتقالات، وتهديم البيوت وتشريد أهلها، وقصف المخيمات بطريقة عشوائية كما لو كانت مواقع للجيوش العسكرية...
وقد بدأت اللّعبة السياسيّة الصهيونيّة في فرض الشروط السياسية والأمنية التي تلغي القضايا المصيرية للشعب الفلسطيني، وتصادر كلَّ قرارات الأمم المتّحدة، بالتّنسيق مع أمريكا الّتي لم تعترض على الحكومة الصهيونية في رفضها لتدخّل الاتحاد الأوروبي للحلّ السلمي، بل إنها اعترضت على مسألة السلام مع سوريا، بحجة أنها "ضعيفة ولا بدَّ لها من الانتظار" ريثما يأتي الوقت الأمريكي ـ الإسرائيلي الملائم لمصلحتها ـ على حدّ قول الرئيس الأمريكي ـ الأمر الذي يوحي بأن هذه الدولة التي تتحدث عن السلام في المنطقة، غير جادّة في الموضوع، وخصوصاً على مستوى الدّولة الفلسطينية التي يُراد لها أن تحقِّق للشعب الفلسطيني بعضاً من حقوقه الشرعيّة. وإذا كانت تتحرك مع إسرائيل للوصول إلى قيادة فلسطينية جديدة، فإنها بدأت تزرع الألغام في طريقها، وتتحدَّث عن مطالبها التعجيزية في تفكيك الانتفاضة لحساب الأمن الصهيوني الذي لا يقدّم في مقابل ذلك أيّ شيء للأمن الفلسطيني.
إنَّ مشكلة السياسة الأمريكية في كلِّ تاريخ القضية الفلسطينية، هي أنها تمثل الخطة التي تسهّل لليهود تنفيذ استراتيجيتهم في السيطرة على أكثر الأرض الفلسطينية، فلا يبقى لأهلها إلا ما يشبه السجن المتحرك بين منطقة وأخرى. وهذا ما ينبغي للفلسطينيين أن يعرفوه، ليؤكّدوا وحدتهم الوطنية من خلال الحوار الموضوعي العقلاني الذي لا يتجاوز الهدف الاستراتيجي، ولا يسيء إلى السلام الفلسطيني _ الفلسطيني الذي هو أساس الوحدة، وروح القضية، ومعنى الدولة. فلا تُسقطوا الجغرافيا تحت تأثير استهلاك السياسة، ولا تتنازلوا عن الاستراتيجيا تحت ضغوط الخدع السياسية والتكتيك الملغوم. إنَّ الحق في الوطن وفي الإنسان هو الأقوى من الاحتلال والاستكبار مهما طال الزمن.
العراق: محاولات لإيقاد الفتنة:
أمَّا العراق، فإنَّه يسقط فيه العشرات في كلِّ يوم، بفعل الفوضى الأمنية التي انطلقت من سياسات وحسابات المحتلّ منذ البداية، فهو يطلُّ على لغة سياسية وأمنية جديدة تحمل كلَّ عناصر الفتنة، ويُراد لها أن تحرق الأخضر واليابس، على حساب قضيَّة الشعب العراقي ومسألة التحرير.
إننا نفهم أن يسجّل فريق اعتراضه ورفضه للانتخابات في ظلِّ وجود المحتلّ وتحت حرابه، أما أن تصبح لغة الاغتيال والقتل هي اللغة التي يُراد لها أن تنفّذ ذلك بالوسائل الإجرامية للأبرياء لمجرَّد اختيارهم للانتخاب، أما أن تتحرك لغة التكفير والاتهام بالارتداد والخيانة للذين قد يكون لهم رأي معين في هذا المشروع الانتخابي، بفعل اجتهاد معين على أساس اعتبار ذلك وسيلةً لإخراج المحتلّ بإرادة عراقية حرّة شرعية، أما أن يثير البعض مسألة السنّة والشيعة في الإطار المذهبي من خلال الخلاف في المسألة السياسية لإثارة الحساسيات المذهبية، من أجل الفتنة التي إذا انطلقت في الساحة العراقية فإنها سوف تمتد إلى العالم العربي والإسلامي، أمَّا أن يتحدَّث البعض عن خطر شيعي في الواقع العراقي في الوقت الذي لم يطالب المسلمون الشيعة إلا بأن يعيشوا في عراق وحدوي لا تقسيم فيه يتساوى فيه الجميع بالحقوق والواجبات، فإن ذلك إنما ينطلق في خطة أمريكية صهيونية إجرامية، من أجل تحويل العراق إلى قنبلة موقوتة تتفجّر في المنطقة كلّها، لتوزّع خطوطها على جيران العراق وعلى اتجاهات الواقع الإسلامي كلّه. وفي ذلك الخدمة لكلِّ خطط الاستكبار العالمي الذي لا يزال يحدّق بالثروة العراقية، وبالمشاريع المتحرّكة لمصالحه في المنطقة كلها. ولعل من اللافت أنَّ الذين يتحدّثون عن مواجهة المحتلّ، يخدمون سياسته من حيث يعلمون ولا يعلمون.
لبنان: المصالحة مع الوطن:
أما لبنان، فإننا نستمع إلى الأصوات التي تتحدث عن المصالحة تحت عنوان معين تارةً، وعن التوافق تحت سقف سياسي معين تارة أخرى، وتتوسّع فيه دائرة التحالفات وتتوالى الزيارات. إنَّ لبنان بحاجة إلى حركة سياسية في العمق، وإلى لقاءات مصارحات خلف الكواليس، وإلى حوارات حقيقية بعيداً عن القفشات الإعلامية والاستعراضات التلفزيونية.
إنَّ المطلوب الآن من الجميع هو المصالحة مع الوطن، وتأكيد المواطنية المنفتحة على العدالة للجميع في القوانين، ولا سيّما قانون الانتخاب، بعيداً عن سياسة التخوين وعن خلفيّات الأطماع الطائفية والشخصية، والدفاع عن المجرمين لمصلحة زعامات هنا وهناك لحسابات سياسية خاصة.
أيُّها اللبنانيون: هل تريدون وطناً تتقاذفونه في لعبة الكرة في ملعب السياسة، أم تريدون دولةً قائمة على العدالة للمواطنين جميعاً، تدرس المشاريع الخارجية والداخلية في نطاق مصلحة الإنسان، بما يحقِّق للوطن الحرية والكرامة والاستقلال، بالوسائل الواقعية التي تعرف كيف تحمي الإنسان من شياطين الاستكبار والصهيونية وخطط الظالمين.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
لا عقدة من التاريخ الميلادي:
هذا اليوم هو آخر يوم من السنة الميلادية ألفين وأربعة، ليبدأ العالم سنة جديدة غداً. ونحن عندما نودّع سنة ونستقبل أخرى، سواء كانت هذه السنة تبدأ بميلاد السيد المسيح الذي هو رسول الله وروح منه وكلمته ألقاها إلى مريم، أو كانت سنة هجرية تبدأ من هجرة رسول الله(ص) من مكة إلى المدينة، ليبدأ تأسيس الدولة الإسلامية، فإننا في التاريخ الميلادي أو الهجري نعيش المناسبتين معاً، فالله تعالى تحدث في القرآن الكريم عن المعجزة في ولادة السيد المسيح(ع)، كما تحدث في القرآن عن هجرة النبي(ص): {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا، فأنزل الله سكينته عليه وأيّده بجنود لم تروها وجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا}.
ونحن ـ كمسلمين ـ ليس عندنا أي مشكلة سلبية في هاتين المناسبتين، لأن الإسلام يجمع بين الرسل، فنحن نؤمن بالله تعالى ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر، ونؤمن بنوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد (عليهم صلوات الله وسلامه)، ولذلك فإن ميزة الإسلام أنه يجمع في عقيدة المسلم كلَّ الرسل وكلَّ الرسالات، بينما لا يجمع الآخرون من النّصارى واليهود بين كلِّ الرسل، فالنصارى لا يؤمنون برسالة النبي محمد(ص) وبالقرآن ككتاب منـزل، واليهود لا يؤمنون بالسيد المسيح(ع) وبالنبي محمد(ص)، ولذلك فهم لا يؤمنون بالإنجيل وبالقرآن، أما المسلمون فإنهم يؤمنون بكلِّ ذلك.
التاريخ الهجري وكيفية صنع المستقبل:
ولذلك لا عقدة عندنا من التاريخ الميلادي كما التاريخ الهجري، ولكننا نؤكد على المسلمين جميعاً، أن لا ينسوا التاريخ الهجري لأنه تاريخ الإسلام، فأنت عندما تقف مع التاريخ الهجري ـ وهو 1425 للهجرة ـ فإنك تعيش مع هجرة النبي(ص) لتتذكَّر الظروف التي هاجر(ص) فيها من أجل رسالته، وتتذكر كيف أن المشركين حاولوا قتله وأثاروا الحروب عليه، ثم تتذكَّر سيرة النبي(ص) مع أصحابه في المدينة، وما جرى على حركة الإسلام والمسلمين حتى يومنا هذا، فالتاريخ الهجري يجعلك تستعيد في تصوّراتك كلَّ ما يتّصل بإسلامك في الماضي والحاضر، ويؤكّد لك كيف تصنع تاريخ الإسلام للمستقبل، لأن المسلمين جميعاً مسؤولون عن أن يصنع كلُّ جيل منهم تاريخاً إسلامياً جديداً في الدّعوة إلى الإسلام، وفي تأكيد مواقع العزة والحرية والقوة للمسلمين، ليشعر الإنسان ـ وهو يسجّل هذا التاريخ ـ بإسلامه، وبأنّه يمثِّل امتداداً لكلِّ ذلك التاريخ، وأنه جزء من هذه المسيرة الإسلامية، ليتحمّل كلَّ مسؤوليّاتها.
لنفرح فرح المسؤولية:
فعندما نودّع سنة ونستقبل أخرى، كيف نتصوّر المسألة؟ ربما يتصوَّر الناس المسألة بطريقة تقليدية استهلاكية يغفلون فيها عن أنفسهم في ما مضى من سنة أو في ما يستقبلون من سنة. إنَّ نهاية سنة وبداية أخرى جديدة، لا بدَّ للإنسان أن يتصوّرها بهذه الطريقة: فنحن عندما نودِّع سنةً، فإنَّ معنى ذلك أننا خسرنا من عمرنا سنة، لقد ماتت سنة من عمرنا، لأننا نموت بالمفرَّق لا بالجملة، فالإنسان كل يوم يولد فيه صباحاً ويموت في حجم الزمن مساءً، ولهذا نقرأ في الدّعاء المنسوب إلى الإمام زين العابدين(ع) يوم الأربعاء: «لك الحمد أن بعثتني من مرقدي، ولو شئت جعلته سرمداً»، وقد ورد عن النبي(ص): «إنكم لتموتن كما تنامون، ولتُبعثن كما تستيقظون».
ومعنى ذلك، أن سنةً مضت من عمرنا وماتت، إلى جانب السنين التي خسرناها في الماضي، وأننا نستقبل سنةً جديدة نتحمّل كلّ مسؤوليّاتها بعد أن تحمّلنا مسؤوليات السنين الماضية، والآن يقول الله لنا: جرّبوا في سنتكم الجديدة أم هل تكونون في مستوى المسؤولية؟ هل تكونون في خطِّ الله والعمل الصالح؛ أم تكون سنة انحراف عن الخطّ؟ لذلك، علينا أن لا نشغل أنفسنا باللّهو والعبث، كما يفعل الكثيرون في هذه الليلة، التي يستنفدون فيها كلّ جدّيتهم ووعيهم وانفتاحهم على المستقبل، فالكثيرون من الناس يغرقون عقولهم بالخمر، فلا يعون شيئاً، ويغرقون أوضاعهم بالغفلة في كلِّ اللّهو والعبث، كأنهم يريدون أن يوحوا لأنفسهم بالفرح. ونحن نريد للإنسان أن يفرح، ولكن أن يفرح فرح المسؤولية؛ أن تفرح لأنَّ الله تعالى منحك عمراً جديداً، ولأنه أعطاك فرصةً جديدة لتحصل على رضاه من خلال طاعتك له، أن يكون رأس السنة منطلق وعي، أن تفكِّر ماذا تفعل في سنتك الجديدة؟ وكيف تستغفر لما فعلته في السنة الماضية، فكِّر في أمّتك كيف كانت في السنة الماضية وما حلّ بها من انتصارات أو هزائم، ومن خسائر وأرباح.
بداية السنة ودراسة الأرباح والخسائر:
إننا نلاحظ في بدايات السنة كيف أنَّ أصحاب التجارات الكبرى والمصارف يعيشون حالة طوارئ من أجل أن يدقّقوا في حساباتهم، ويدرسوا الأرباح والخسائر وميزانياتهم للسنة القادمة، وعلينا أن نفعل ذلك كله في كل القضايا التي تتصل بعلاقتنا بالله وبالناس وبالحياة، أن نعمل على أن ندرس الأرباح والخسائر وكيف نواجه المستقبل، ما هي ميزانيتنا في طاعة الله ومشاريع الخير؟ وما هي ميزانيتنا في ما نؤكده ونعمل له في قوّة الأمة وعزّتها وكرامتها؟
ونحن نقرأ في دعاء الإمام زين العابدين(ع) في بداية كلِّ يوم، ويمكن أن نستخدمه في بداية كلِّ شهر وفي بداية كلِّ سنة: «اللهمَّ وهذا يوم حادث جديد، وهو علينا شاهد عتيد، إن أحسنّا ودّعنا بحمد، وإن أسأنا فارقنا بذمّ، اللهمّ فارزقنا حسن مصاحبته، واعصمنا من سوء مفارقته». فالإمام(ع) عندما يريد أن يبرمج يومه، وهو ما يمكن لنا أن نبرمج فيه سنتنا، يقول: «اللهمَّ ووفّقنا في يومنا هذا وليلتنا هذه ـ ونستطيع أن نقول في سنتنا هذه ـ لاتّباع الخير وهجران الشر، وشكر النعم، واتّباع السنن، ومجانبة البدع، والأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، وحياطة الإسلام، وانتقاص الباطل وإذلاله، ونصرة الحقِّ وإعزازه، وإرشاد الضالّ، ومعاونة الضعيف، وإدراك اللهيف».
-هذه هي المبادئ التي تجعل من الزمن زمناً يتحرك فيه الإنسان من أجل أن يفجّر كلِّ طاقاته، مما يحمّله الله من مسؤوليات تجاه نفسه وتجاه النّاس من حوله. والله تعالى يقول للناس الذين يعيشون في هذه الليلة الحاضر كيف يفكرون في الغد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد ـ ليجلس كل واحد مع نفسه في نهاية كلِّ سنة، ليدرس ماذا قدّم للسنة القادمة، لغد المستقبل في بقية عمره، ولغد المستقبل في الآخرة ـ واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}، فعلينا أن نعمل من أجل الحساب، أن نحاسب أنفسنا عن كل ما فعلناه، وعمّا نريد أن نفعله.
وفي حديث النبي(ص): «أكيس الكيّسين ـ أعقل العقلاء ـ من حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقى، من أتبع نفسه هواه وتمنّى على الله الأماني». ويقول(ص): «حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحاسبوا، وزنوها قبل أن توزنوا، وتجهّزوا ليوم العرض الأكبر». ويقول الإمام عليّ(ع): «حاسب نفسك لنفسك، فإنَّ غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك»، ويقول(ع): «حاسبوا أنفسكم بأعمالها وطالبوها بأداء المفروض عليها، والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا وتأهّبوا قبل أن تُبعثوا». وفي كلام الإمام الكاظم(ع): «ليس منا من لم يحاسب نفسه في كلِّ يوم، فإن عمل خيراً استزاد الله منه وحمد الله عليه، وإن عمل سيئاً استغفر الله وتاب إليه».
كيفية محاسبة النفس:
وعن كيفية محاسبة النفس، يقول الإمام علي(ع): «إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفس إن هذا يوم مضى عليك لا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه في ما أفنيته، أذكرت الله أم حمدتيه، أقضيت حقّ أخٍ مؤمن، أنفّست عنه كربه، أحفظته بظهر الغيب في أهله وولده، أحفظته بعد الموت في مخلّفيه، أكففت عنه غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، أأعنت مسلماً، فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير، حمد الله عزّ وجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصية أو تقصيراً، استغفر الله عزّ وجلّ وعزم على ترك معاودته».
عندما نعيش الماضي، علينا أن نتوازن في الحاضر، وعندما نعيش الحاضر، علينا أن نخطِّط للمستقبل، ولا سيما إذا كان المستقبل مستقبل الآخرة، أن لا نعيش الغفلة عما نقبل عليه من حساب المسؤولية، {يوم يقوم الناس لربّ العالمين}، {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها}. لقد ماتت سنة من عمرنا، وعلينا أن نستقبل سنة جديدة نطيع الله فيها، ونتوب إليه من سيئات أعمالنا، ونخلص إليه في ما حمّلنا من مسؤولية، ولا نستغرق في الغفلة التي يستغرق فيها الآخرون، خصوصاً هذه العادة السيئة التي تدلُّ على تخلّف اجتماعي، وهي عادة إطلاق الرصاص ليلة رأس السنة. الرصاص طاقة تشتريها بمال، ومشكلتنا أننا نطلق الرصاص في الحزن وفي الفرح، لماذا؟ هذا دليل على ضعف عقل وتخلّف، إننا نحتاج إلى الرصاص باعتباره ثروةً لنقاتل به من يطلق الرصاص علينا، ومع الأسف أننا نستعمله في عصبياتنا.
ثم، هذه التربية السيئة التي نربّي عليها أولادنا، وهي المفرقعات التي تمنع الناس من أن يأخذوا راحتهم في بيوتهم وتفزع الأطفال، لماذا؟ لأننا متخلّفون ونربي أولادنا على التخلّف، وقد أطلقت منذ سنين فتوى بتحريم الاتّجار بالمفرقعات، وتحريم أن يعطي أحدكم ولده مالاً لشرائها، لأن هذا يسيء للمجتمع ولاستقراره ولحالة الهدوء فيه. الحضارة ليست أن تملك التلفزيون والبراد والغسّالة وكل وسائل الراحة، بل الحضارة كلُّ الحضارة، هي أن تحترم مشاعر الناس، وهي أن تكون محلّتك وبلدك هادئاً، بحيث يشعر الناس فيه بالراحة والسكون، ولكننا ـ مع الأسف ـ لسنا متحضّرين، بل إننا متخلّفون.
لذلك، علينا أن نعمل من أجل أن يكون عيدنا عيد الفرح الروحي والاجتماعي، عيد السكينة والهدوء، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله، وواجهوا العام الجديد بمسؤولياتكم عن أنفسكم وعن المسلمين وعن كلِّ الواقع الإسلامي، وعليكم أن تواجهوا الموقف بالوعي الكامل لكلِّ ما عشتموه، ولكل ما تريدون أن تعيشوا فيه، وعلينا أن ندرس ماذا هناك:
لتجاوز مفاعيل الزلزال المأساوية:
عاش العالم كله المأساة الكبرى التي حصدت ما قد يزيد عن المائة ألف ضحية، وشرّدت الملايين، وأدّت إلى الخسارة بالمليارات، من خلال الزلزال العنيف، وما أعقبه من حركة مدّ بحري هائلة، اجتاحت ثماني دول آسيوية، في كارثة طبيعية ناشئة من القوانين المودعة في الأرض بفعل اهتزازها حول محورها، وهو جزء من الحركة الطبيعية للأرض، التي تتنفّس فتنفث بعضاً مما فيها، وتدفع ما عليها إلى مواقع أخرى...
إننا نشارك كلَّ هذه البلدان آلامها وأوضاعها المأساوية، وندعو العالم كله إلى المساعدة في تجاوز المفاعيل المأساوية لهذه الكارثة المهولة، لأن المشكلة المتنقلة في هذه الأوضاع الطبيعية لا تقتصر على بلد دون بلد، بل لا بد للعالم أن يمثّل الوحدة الكونية في تجاوز النتائج القاسية للكوارث العاصفة في بلد هنا وبلد هناك، من خلال وحدة المشاعر والمصالح الإنسانية العامة.
ولكن إلى جانب ذلك، هناك زلزال سياسي وأمني متحرك، يحمل عنوان الحرب على الإرهاب، ككلمة حقٍّ يُراد بها باطل، فيتحوّل إلى زلزال لتغيير الوجهة السياسية للمنطقة وما حولها، على حساب شعوبها لحساب الاستكبار العالمي، ولا سيما الأمريكي والصهيوني... وإذا كان زلزال الأرض يترك بصماته في الطبيعة والبشر، في إيجابيّاته وسلبيّاته، فإنَّ زلزال الأمن والسياسة يظل في حركة دائبة لا تنتهي، في أطماع أمريكا بالنفط ومصادر الثروة المتنوّعة في العالم، لحساب اقتصادها ومصادرة الشعوب في قضاياها الحيوية المصيرية، ليطلّ العالم على عام جديد فيه من الكوارث الأمنية والسياسية والاقتصادية مما صنعه المستكبرون، ما لا تتوازن معه أرقام الكوارث الطبيعية التي تشكّل جزءاً من حركة الطبيعة، لأن أمريكا تعمل على أن تكون الدولة القائدة الواحدة المسيطرة على مقدّرات العالم، من دون اعتبار للمصالح الحيوية للشعوب كلّها، من مستضعفين وغيرهم، وإن كانت شعوبنا العربية والإسلامية هي التي تدفع أكثر الأثمان فداحةً.
فلسطين: الوحدة هدف استراتيجي:
ففي فلسطين، يواصل الصّهاينة ـ بالتحالف مع أمريكا ـ حربهم ضد الشعب الفلسطيني على جميع المستويات، فلم تتوقف الاغتيالات، ولم تتراجع المداهمات والاجتياحات والاعتقالات، وتهديم البيوت وتشريد أهلها، وقصف المخيمات بطريقة عشوائية كما لو كانت مواقع للجيوش العسكرية...
وقد بدأت اللّعبة السياسيّة الصهيونيّة في فرض الشروط السياسية والأمنية التي تلغي القضايا المصيرية للشعب الفلسطيني، وتصادر كلَّ قرارات الأمم المتّحدة، بالتّنسيق مع أمريكا الّتي لم تعترض على الحكومة الصهيونية في رفضها لتدخّل الاتحاد الأوروبي للحلّ السلمي، بل إنها اعترضت على مسألة السلام مع سوريا، بحجة أنها "ضعيفة ولا بدَّ لها من الانتظار" ريثما يأتي الوقت الأمريكي ـ الإسرائيلي الملائم لمصلحتها ـ على حدّ قول الرئيس الأمريكي ـ الأمر الذي يوحي بأن هذه الدولة التي تتحدث عن السلام في المنطقة، غير جادّة في الموضوع، وخصوصاً على مستوى الدّولة الفلسطينية التي يُراد لها أن تحقِّق للشعب الفلسطيني بعضاً من حقوقه الشرعيّة. وإذا كانت تتحرك مع إسرائيل للوصول إلى قيادة فلسطينية جديدة، فإنها بدأت تزرع الألغام في طريقها، وتتحدَّث عن مطالبها التعجيزية في تفكيك الانتفاضة لحساب الأمن الصهيوني الذي لا يقدّم في مقابل ذلك أيّ شيء للأمن الفلسطيني.
إنَّ مشكلة السياسة الأمريكية في كلِّ تاريخ القضية الفلسطينية، هي أنها تمثل الخطة التي تسهّل لليهود تنفيذ استراتيجيتهم في السيطرة على أكثر الأرض الفلسطينية، فلا يبقى لأهلها إلا ما يشبه السجن المتحرك بين منطقة وأخرى. وهذا ما ينبغي للفلسطينيين أن يعرفوه، ليؤكّدوا وحدتهم الوطنية من خلال الحوار الموضوعي العقلاني الذي لا يتجاوز الهدف الاستراتيجي، ولا يسيء إلى السلام الفلسطيني _ الفلسطيني الذي هو أساس الوحدة، وروح القضية، ومعنى الدولة. فلا تُسقطوا الجغرافيا تحت تأثير استهلاك السياسة، ولا تتنازلوا عن الاستراتيجيا تحت ضغوط الخدع السياسية والتكتيك الملغوم. إنَّ الحق في الوطن وفي الإنسان هو الأقوى من الاحتلال والاستكبار مهما طال الزمن.
العراق: محاولات لإيقاد الفتنة:
أمَّا العراق، فإنَّه يسقط فيه العشرات في كلِّ يوم، بفعل الفوضى الأمنية التي انطلقت من سياسات وحسابات المحتلّ منذ البداية، فهو يطلُّ على لغة سياسية وأمنية جديدة تحمل كلَّ عناصر الفتنة، ويُراد لها أن تحرق الأخضر واليابس، على حساب قضيَّة الشعب العراقي ومسألة التحرير.
إننا نفهم أن يسجّل فريق اعتراضه ورفضه للانتخابات في ظلِّ وجود المحتلّ وتحت حرابه، أما أن تصبح لغة الاغتيال والقتل هي اللغة التي يُراد لها أن تنفّذ ذلك بالوسائل الإجرامية للأبرياء لمجرَّد اختيارهم للانتخاب، أما أن تتحرك لغة التكفير والاتهام بالارتداد والخيانة للذين قد يكون لهم رأي معين في هذا المشروع الانتخابي، بفعل اجتهاد معين على أساس اعتبار ذلك وسيلةً لإخراج المحتلّ بإرادة عراقية حرّة شرعية، أما أن يثير البعض مسألة السنّة والشيعة في الإطار المذهبي من خلال الخلاف في المسألة السياسية لإثارة الحساسيات المذهبية، من أجل الفتنة التي إذا انطلقت في الساحة العراقية فإنها سوف تمتد إلى العالم العربي والإسلامي، أمَّا أن يتحدَّث البعض عن خطر شيعي في الواقع العراقي في الوقت الذي لم يطالب المسلمون الشيعة إلا بأن يعيشوا في عراق وحدوي لا تقسيم فيه يتساوى فيه الجميع بالحقوق والواجبات، فإن ذلك إنما ينطلق في خطة أمريكية صهيونية إجرامية، من أجل تحويل العراق إلى قنبلة موقوتة تتفجّر في المنطقة كلّها، لتوزّع خطوطها على جيران العراق وعلى اتجاهات الواقع الإسلامي كلّه. وفي ذلك الخدمة لكلِّ خطط الاستكبار العالمي الذي لا يزال يحدّق بالثروة العراقية، وبالمشاريع المتحرّكة لمصالحه في المنطقة كلها. ولعل من اللافت أنَّ الذين يتحدّثون عن مواجهة المحتلّ، يخدمون سياسته من حيث يعلمون ولا يعلمون.
لبنان: المصالحة مع الوطن:
أما لبنان، فإننا نستمع إلى الأصوات التي تتحدث عن المصالحة تحت عنوان معين تارةً، وعن التوافق تحت سقف سياسي معين تارة أخرى، وتتوسّع فيه دائرة التحالفات وتتوالى الزيارات. إنَّ لبنان بحاجة إلى حركة سياسية في العمق، وإلى لقاءات مصارحات خلف الكواليس، وإلى حوارات حقيقية بعيداً عن القفشات الإعلامية والاستعراضات التلفزيونية.
إنَّ المطلوب الآن من الجميع هو المصالحة مع الوطن، وتأكيد المواطنية المنفتحة على العدالة للجميع في القوانين، ولا سيّما قانون الانتخاب، بعيداً عن سياسة التخوين وعن خلفيّات الأطماع الطائفية والشخصية، والدفاع عن المجرمين لمصلحة زعامات هنا وهناك لحسابات سياسية خاصة.
أيُّها اللبنانيون: هل تريدون وطناً تتقاذفونه في لعبة الكرة في ملعب السياسة، أم تريدون دولةً قائمة على العدالة للمواطنين جميعاً، تدرس المشاريع الخارجية والداخلية في نطاق مصلحة الإنسان، بما يحقِّق للوطن الحرية والكرامة والاستقلال، بالوسائل الواقعية التي تعرف كيف تحمي الإنسان من شياطين الاستكبار والصهيونية وخطط الظالمين.