ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
لا نزال في أجواء ذكرى الإمام جعفر الصادق(ع)، وهو الإمام الذي عاش إمامته في عقول الناس ليرفع وعي عقولهم، حتى تبقى عقولهم في عمق أسرار المعرفة مع الحق، فلا ينفذ إليها شيء من الباطل، وعاشت إمامته في قلوب الناس، لتبقى هذه القلوب تنبض بالحبّ لا بالحقد، وبالخير لا بالشر، لأن الله تعالى يريد للقلب أن يخفق بكل المعاني والقيم الروحية التي تنفع الناس.
الطـاقة مسؤوليـة
وهكذا كان الإمام الصادق(ع) يثقف الإنسان في المجتمع الذي يريد أن يبنيه في الواقع الإسلامي، بأن يفجر طاقاته في خدمة الناس، أن لا يكون الإنسان أنانياً في طاقته، بحيث يعيش لذاته عندما يرزقه الله علماً، أو جاهاً أو مالاً وما إلى ذلك، بل إن الله تعالى يريد له أن يفكر بأن طاقته هي أمانة الله عنده، وأن الطاقة مسؤولية وليست مجرد شرف يزهو به. ولذلك، فلا بد للإنسان من أن يمارس مسؤوليته في تحريك طاقاته في الحياة.
ونقرأ في بعض أحاديث الإمام الصادق(ع) يقول: "إن الله لم ينعم على عبدٍ بنعمة إلا وألزمه فيها الحجة من قبله ـ بمعنى أن الله في حسابه للإنسان وسؤاله له، سوف يقول له: أعطيتك هذه النعمة وحمّلتك المسؤوليات التي تتصل بها، فماذا صنعت بها ـ فمن منّ الله عليه فجعله موسعاً عليه في ماله، فحجته عليه ماله، ثم تعاهده الفقراء بعده بنوافله ـ عندما يعطيك الله مالاً، فيقول لك: لقد حمّلتك مسؤوليات في هذا المال، أن تنفقه على نفسك وحاجاتك الشخصية، وعلى عيالك في ما حمّلتك من مسؤوليتهم، لا تبذّر لأن المبذّرين كانوا إخوان الشياطين، ولا تسرف لأن الله لا يحبّ المسرفين، ثم بعد أن تستكمل حاجاتك الشخصية والعائلية في مالك، هناك حق للفقراء فيه، وهو الحقوق الشرعية، كالخمس والزكاة: {وفي أموالهم حقٌ للسائل والمحروم}، فهي حقوق فرضها الله عليك وجعلها أمانة الله عندك، وعليك أن تؤدي الأمانات إلى أهلها، فمن لم يدفع حق الله لعباد الله، فإنه يكون سارقاً لما يملكه عباد الله في ماله، حتى ورد عندنا في بعض الكلمات: "إن الله شرّك الفقراء في أموال الأغنياء"، "إن الله فرض للفقراء في أموال الأغنياء ما يكفيهم، ولو علم أنه لا يكفيهم لزادهم". وهناك نوافل ومستحبات في المال كالصدقات التي يستحب للإنسان أن يتصدّق بها للفقراء بما يفضل عنده، وقد جعل الله درهم الصدقة بعشر، وقد ورد أن الصدقة تدفع البلاء.
نُصرة الضعيف والمظلوم
كما فرض الله على الإنسان ردّ المظالم ـ ومَنْ منّ الله عليه فجعله قوياً في بدنه فحجته عليه القيام بما كلّفه ـ فالله تعالى جعل على الصحيح الصلاة والصوم، وفرض على المستطيع للحج أن يحج إلى بيت الله، وهكذا في التكاليف الأخرى التي تحتاج إلى قوة بدنية، من دفع الظلم وإعانة الضعيف ـ ثم احتمال من هو دونه ممن هو أضعف منه ـ بأن تعين الضعيف الذي يحتاج إلى قوتك، في أن تنصره على ظالمه وتنقذه من ضعفه ـ ومن منّ الله عليه فجعله شريفاً في قومه ـ كان رجلاً يملك أن يسعى في قضايا الناس وحوائجهم للتخفيف عن آلامهم والصلح بينهم ـ جميلاً في صورته ـ عندما يمثل جمال الصورة قيمة ترفع صاحبها ـ فعليه أن لا يغمط حقوق الضعفاء لحال شرفه وجماله"، بأن لا يستغل قوته للضغط على الضعفاء.
وجاء في الحديث عن الإمام الصادق(ع)، أن النبي(ص) قال لأحد أصحابه: "ألا أدلك على عمل إذا أنت فعلته دخلت الجنة"؟ قال: بلى يا رسول الله، قال(ص): "أنل مما أنالك الله"، فقال: يا رسول الله، إذا كنت أحوج ممن أنيله؟ قال(ص): "فانصر المظلوم"، فقال: فإن كنت أضعف ممن أنصره؟ قال(ص): "فاصنع للأخرق" ـ وهو البسيط الذي يفتقر للخبرة والعقل، فلا يستطيع أن يدبّر نفسه، فتعطيه من خبرتك وفكرك ومعرفتك ـ قال: فإن كنت أخرق ممن أصنع له؟ قال(ص): "فاصمت لسانك إلا من خير"، لسانك بيدك فاضبطه، وأمسكه عن كل كلمة شر، ولا تطلقه إلا في الخير، فإن ذلك عمل تستطيع أن تدخل به الجنة، ثم قال (ص) له: "أما يسرّك أن تكون فيك خصلة من هذه الخصال تجرّك إلى الجنة"؟.
التنافس في المعروف
وفي الحديث عنه(ع) يقول: "إن الله يقول: الخلق عيالي، فأحبّهم إليَّ ألطفهم بهم وأسعاهم في حوائجهم"، أحبّ الناس إلى الله من سعى في حاجات عياله، فلو ألطف شخص بأولادنا وعيالنا وسعى في حوائجنا ألا نحبه؟ وبذلك نفهم أن الإسلام يريد للإنسان أن ينفع كل الناس، لأن الناس كلهم عيال الله، وبهذا تتسع الروح الإسلامية. وفي حديث عن الإمام الصادق(ع): "تنافسوا في المعروف لإخوانكم، وكونوا من أهله، فإن للجنة باباً يقال له المعروف، لا يدخله إلا من اصطنع المعروف في الحياة الدنيا، فإن العبد ليمشي في حاجة أخيه المؤمن، فيوكّل الله عزّ وجلّ ملكين، واحداً عن يمينه وآخر عن شماله، يستغفران له ربه، ويدعوان بقضاء حاجته"، ثم قال(ع): "والله، لرسول الله أسرّ بقضاء حاجة المؤمن إذا وصلت إليه من صاحب الحاجة".
وعن الإمام الصادق(ع): "المؤمن أخو المؤمن كالجسد الواحد، إن اشتكى شيئاً منه وجد ألم ذلك في سائر جسده، وأرواحهما من روح واحدة، وإن روح المؤمن لأشدُّ اتصالاً بروح الله من اتصال شعاع الشمس بها". هذا النوع من المشاركة الروحية، بحيث إنك تتحسس في شعورك كل شعور الألم في ما يشعر به أخوك المؤمن. ويقول(ع) أيضاً وهو يشجّع المسلمين إلى طريقة التعامل في ما بينهم: "المسلم أخو المسلم، هو عينه ومرآته ودليله، لا يخونه ولا يخدعه ولا يظلمه ولا يكذبه ولا يغتابه". وينقل الإمام عن رسول الله(ص) أنه قال: "أنسك الناس نسكاً ـ أكثر الناس عبادةً وطاعةً ـ أنصحهم جيباً ـ أنقاهم صدراً ـ وأسلمهم قلباً لجميع المسلمين". معنى ذلك، أن الإنسان يفتح قلبه لجميع المسلمين بعيداً عن مسألة المذهبية التي يعلّمنا إياها المذهبيّون، أن يحقد الإنسان على المسلمين الذين ليسوا من مذهبه. ويقول(ع): "إن النبي قال: من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس منهم، ومن سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين ولم يجبه فليس بمسلم".
هذه تعاليم الأئمة من أهل البيت(ع)، ومنهم الإمام الصادق(ع) الذي يوجّهنا إلى تعاليم الإسلام الحق الذي يجعل منا أمة متعاونة تنفتح على كل قضاياها وآلامها، ويشعر الإنسان بمسؤوليته عن أن يفجّر طاقاته في الخير للناس كلهم.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}، وواجهوا الموقف من موقع واحد، فإن المستكبرين والكافرين يواجهون الواقع الإسلامي كله من موقع واحد، في تحالفاتهم ضد كل قضايانا وقضايا المستضعفين، حتى نستطيع أن ننتصر بنصر الله تعالى، عندما يُنصَر الله بنصرة دينه وبنصرة المستضعفين والمؤمنين، ولا يزال المسلمون في العالم كله يواجهون أكثر من مشكلة سياسية واقتصادية وأمنية في كل مواقع حياتهم، وعليهم أن يعدّوا عدّة القوة في الموقف والسلاح، لينطلقوا صفاً واحداً كأنهم بنيان مرصوص، فماذا هناك؟
أمريكا وإسرائيل: السِلْم المخادع
هناك في المنطقة العربية همسٌ خفيٌ، وتصريحات ضبابية، وحركات دبلوماسية، لإيجاد مناخ سياسي منفتح على العدو الإسرائيلي لتطبيع العلاقات معه، تحت تأثير التخطيط للحل السلمي الفلسطيني ـ الإسرائيلي من قِبَل دولة عربية هنا تقترب من إسرائيل للسعي لإيجاد انفراج في الواقع الفلسطيني، مما يشجّعه العدو ولكن بشروطه المعقّدة التي لا تقدّم أيّ شيء إيجابي، لأن الخطة الإسرائيلية هي أن تأخذ من العرب صلحاً تدريجياً من دون أن تقدّم لهم أيّ شيء، وهذا ما عشناه في التجارب السابقة منذ مدريد والصلح المصري ـ الأردني ـ الإسرائيلي، والتطبيع الخليجي في بعض مناطق الخليج.
لقد كانت المساعي الأمريكية ـ ولا تزال ـ تطرح أكثر من أسلوب مخادع للسلم، في الوقت الذي كان العدو ينفّذ خطته التدميرية في تدمير البنية التحتية للشعب الفلسطيني، بعمليات اغتيال القيادات وذبح المدنيين من الأطفال والنساء والشيوخ والشباب، وجرف المزارع، وهدم البيوت، ومصادرة الأراضي، وبناء المستوطنات، انتهاءً بالجدار العنصري الفاصل، لإيجاد أمر واقع جعل الرئيس الأمريكي يتحدث من خلاله عن ضرورة الاعتراف به مراعاة للمتغيّرات الواقعية، ما يعني إسقاط كل قرارات الأمم المتحدة، ابتداءً من 242، مروراً بـ338، وانتهاءً بـ194، حتى إن اتفاق أوسلو لم يعد له أيّ معنى في الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية، للوصول إلى تصريحه الاستهلاكي بالعزم على "بناء دولتين إسرائيلية وفلسطينية"، على أساس خارطة الطريق التي صادرت القرارات السابقة، ومارست ضغوطاً هائلة على الفلسطينيين لإدخال القضية الفلسطينية في دائرة الحرب ضد الإرهاب، ليكون إيقاف الانتفاضة شرطاً للمفاوضات قبل أن تقوم إسرائيل بأيّ خطوة في وقف إطلاق النار والامتناع عن أعمالها الوحشية المدمِّرة.
وقد سقط الواقع العربي الرسمي تحت تأثير الهزيمة المفروضة عليه من التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي، الذي لم يسمح للعرب السائرين في الركب الأمريكي بأيّ موقف أو موقع للقوة، لأن المطلوب ـ أمريكياً وإسرائيلياً ـ هو أن يكونوا في موقع الضعف، لتكون إسرائيل في موقع القوة الأقوى، وبذلك سقطت كل مؤتمرات القمة العربية ـ ومعها القمة الإسلامية ـ تحت أقدام الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية.
الاحتلال يمثّل الشرّ والإرهاب
وفي هذا الجو، فإننا نتابع في الإعلام الآن الفضائح الوحشية للجنود الأمريكيين في العراق، والإسرائيليين في فلسطين، في تعذيبهم للسجناء، وقتلهم المدنيين بدم بارد، ما يدل على أن هؤلاء لا يتمتعون بأية أخلاقية إنسانية، وأن شعارات الإدارة الأمريكية والإسرائيلية في الحديث عن حقوق الإنسان والمحاكمات الاستعراضية، تمثل نوعاً من ذر الرماد في العيون، وخداع الرأي العام الدولي. وهذا ما يؤكد أنّ الاحتلال لا يمثل أية قيمة إنسانية مما يرفع شعاره القائمون عليه، وأنه الشر كله والإرهاب كله الذي يُراد لـه قهر الشعوب المستضعفة تحت شعارات إنسانية لا علاقة لها بحقوق الإنسان.
إننا نريد للشعب الفلسطيني أن يكون واعياً للعبة الجديدة القديمة، ليدرس المرحلة الجديدة بالطريقة الوحدوية التي تجمع الشعب الفلسطيني على القضايا الحيوية المصيرية، والقيادة الموحّدة الجامعة للأطياف الفلسطينية، من أجل الوصول إلى شاطئ الأمان. ونريد إلى جانب ذلك للعالمين العربي والإسلامي أن يعِيَا المستقبل المدمِّر الذي قد يرسمه المحتلون، من أجل التخطيط لبعضٍ من مواقع القوة التي تبعدهم عن السقوط السياسي والاقتصادي والأمني.
العراق: خشيةٌ من التقسيم
أما العراق الذي تتصاعد فيه حدة العنف، ويُقتل فيه الأبرياء في كل يوم، فإنّ الرئيس الأمريكي ووزير دفاعه يبشّران بأن "العنف سيتصاعد فيه أكثر" مع اقتراب موعد الانتخابات الذي لا يزال مثاراً للجدل من ناحية أمنية وسياسية، مع الخوف من المشاريع الفيدرالية التي قد توحي بالمشروع التقسيمي الذي يسيء إلى وحدة العراق، ما قد ينعكس سلباً على المنطقة كلها، وربما تخطط الاستخبارات الأمريكية فيه لحرب أهلية، كما تحدثت عن ذلك قبل شهر، إضافة إلى تقرير سريّ نشرته بعض الصحف الأمريكية جاء فيه أن الوضع "قد يتفاقم مع تزايد العنف، ولا سيما العنف الديني". ونحن نسأل: مَن المسؤول عن هذا الوضع؟ ومَن الذي عمل ويعمل على الإيقاع بين المسلمين في العراق؟.
إننا نقول للشعب العراقي الجريح: إن عليه دراسة الموقف بالوعي والحذر والوحدة الإسلامية والوطنية، في سبيل عراقٍ حرّ موحّد يصنع المستقبل لأبنائه، ويفجّر الطاقات المبدعة التي يختزنها هذا الشعب في تاريخه الحضاري الذي يمكن أن يعدّ الأرض لحضارة جديدة، وإنسان جديد، يؤكد الحرية والاستقلال وحقوق الإنسان للمنطقة كلها، لا على أساس ما يريده الاحتلال الأمريكي من صنع عراق يحقق للمصالح الأمريكية سيطرتها على كل المنطقة، للمزيد من العبث بثرواتها وطاقاتها وإنسانها كله.
لبنان: الحفاظ على الطاقات
أما لبنان، فإنّه يغرق في السجال السياسي الذي قد يبتعد عن التركيز الموضوعي في دراسة الأمور بالطريقة العقلانية التي تدرس المشكلة على قاعدة الحلول الواقعية، وبالمنهج الأخلاقي الذي لا يسيء إلى منظومة القيم في لغة التجاذب وفي أسلوب المواجهة.
إن المطلوب في عملية النقد للسياسة والقضاء والاقتصاد، أن يملك كل فريق ذهنية السياسي الذي يريد أن يرفع مستوى بلده ويحل مشكلاته، وحيثيات القضاء في القضايا المثارة التي يطلق فيها الحكم أو ينقد فيها القرار، وثقافة الاقتصادي في مواجهة الأزمات والمشاكل الاقتصادية التي يُراد معالجتها وتقديم الحلول لها، ومسؤولية الممثل للشعب الذي منحه ثقته من أجل أن يصنع له لبنانه على قاعدة حضارية للإشعاع الفكري والإنساني، والانفتاح على المستقبل الذي يوحِّد المواطنين، لا على مستقبل الطائفية التي تدخله في الكهوف والمغاور المظلمة، وتُسلِمه لأكثر من احتلال قريب أو بعيد من أجل تحقيق طموح وطمع الذين يريدونه بقرة حلوباً، لا وطناً يحقق للإنسان فيه معنى الإنسانية التي تعطي قبل أن تأخذ، وتنتج قبل أن تستهلك، وتفجّر طاقاته نحو الإبداع بدلاً من إهدارها في أنفاق المجهول والضياع. |