الإمام زين العابدين (ع): رائد الحرية والعلم والأخلاق

الإمام زين العابدين (ع): رائد الحرية والعلم والأخلاق

الإمام زين العابدين (ع): رائد الحرية والعلم والأخلاق


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

مدرسة ثقافية متنوّعة الأبعاد

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. في الخامس والعشرين من شهر محرّم كانت ذكرى وفاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، هذا الإمام الذي قال عنه بعض معاصريه: "ما رأيت أفضل منه ولا أفقه منه، وما رأيت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية"، قالوا: كيف ذلك؟ فقال: لأني رأيت الناس الذين يعرفونه يحسدونه، فكان الحسد يدفعهم إلى عداوته، ولكنهم كانوا لا يستطيعون أن يعبّروا عن عداوتهم له من شدة مداراتهم له، لأنه فرض نفسه على المجتمع كله.

هذا الإمام الذي عندما جاء إلى الكعبة ليطوف، وكانت ساحة الطواف مزدحمة بالناس، حتى إن الازدحام حال دون طواف ولي عهد الخلافة آنذاك هشام بن عبد الملك بن مروان، وعندما لمح الناس علي بن الحسين (ع) قادماً للطواف، انفرجوا له احتراماًُ وتعظيماً له، فسأل أحد أهل الشام هشاماً: من هذا؟ قال: لا أعرفه ـ وهو يعرفه ـ فأنشأ الفرزدق قصيدته الشهيرة:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته       والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلّهم       هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله       بجدّه أنبياء الله قد خُتموا

وليس قولك من هذا بضائره       العرب تعرف من أنكرت والعجم

كان المجتمع الإسلامي يعظّم الإمام زين العابدين (ع) ويحترمه، وهو الذي استطاع أن ينشر علم الإسلام في خط أهل البيت (ع) على كل المجتمع الإسلامي، سواء ممن يقول بإمامته أو ممن لا يقول بها، وهذا ما نعرفه عندما ندرس الذين تعلّموا عنده ورووا عنه الأحاديث في التاريخ والفقه وعلم الكلام والمواعظ والأدعية، ونحن نقرأ الصحيفة السجادية التي يمكن أن تتحوّل أدعيتها إلى مدرسة ثقافية لو أن الناس قرأوها وتدبّروها، وهكذا عندما نقرأ الأدعية الأخرى، كدعاء "أبي حمزة الثمالي" وغيره مما روي عنه.

من وصاياه: الصبر على الحق

كان الإمام زين العابدين (ع) الإمام الذي يتمثّله الناس في عبادته الخالصة لله، وفي زهده وأخلاقيته وسعة صدره، قد عاش (ع) مأساة كربلاء من بدايتها إلى نهايتها مع أبيه الحسين (ع)، حتى إن الحسين (ع) قبل أن ينطلق إلى الميدان ليواجه الشهادة، جلس معه ولده زين العابدين (ع)، وهو ما حدّث به الإمام الباقر (ع) ولده الإمام الصادق (ع) قال: لما حضرت أبي علي بن الحسين (ع) الوفاة، ضمني إلى صدره وقال: «يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، ولما ذكر أن أباه أوصاه: " "يا بني: اصبر على الحق وإن كان مرّاً". فهذه كانت آخر وصايا الإمام الحسين (ع) لولده، وكأنه أراد أن يقول: نحن انطلقنا من الحق والله هو الحق، ورسالته وقرآنه هو الحق، وانطلقنا من رسول الله (ص) الذي حمل دعوة الحق، والحق مرّ وكريه مطعمه، وقد قال علي (ع): "ما ترك لي الحق من صديق"، لذلك فإن وصية الحسين (ع) كانت: دعوة إلى الصبر على الحق، الحق في العقيدة والشريعة والسياسة وفي كل واقع الناس، وإن كان مرّاً، لأن الحقَّ مرّ في تكاليفه، ولكنه حلوّ في نتائجه في حياة الناس وعند الله تعالى.

محرر العبيد ومثقف المجتمع

وعندما نقرأ سيرة الإمام زين العابدين (ع)، نجد أنه كان محرر العبيد، حيث كانت بعض الظروف تقتضي استعبادهم، وقد شجّع الإسلام في تشريعاته على تحريرهم، وذلك كما في من أفطر مثلاً في شهر رمضان متعمداً، فقد جعل كفارته صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً أو عتق رقبة، فالإسلام وضع خطة واقعية تشريعية لتحرير العبيد، فكان (ع) يشتري العبيد لا ليستعبدهم، بل كان يبعثهم في أيام الحج للقيام بخدمة الحجاج، وكان يعلّمهم ويثقفهم ويؤدبهم، وفي نهاية المطاف كان يجمعهم في شهر رمضان ويسألهم ـ تواضعاً منه ـ عمّا أساء به إليهم، ويطلب منهم ـ تعليماً لهم ـ أن يرفعوا أيديهم بالدعاء إلى الله أننا عفونا عن عبدك علي بن الحسين في ما أساء به إلينا ـ وطبعاً هو لم يسئ ـ اللهم فاعفُ عنه كما عفونا عنه، ثم يحررهم ويعطيهم المال الذي يستغنون به عن الناس، ويقال إنه أعتق أكثر من ألف عبد..

من بين الأمور التي كان الإمام زين العابدين (ع) يثقِّف بها الناس هي مسألة الابتعاد عن العصبيات، ومجتمعنا في الشرق هو مجتمع العصبيات العائلية والحزبية والمذهبية والشخصانية، ولا تزال العصبية تحكم الكثير من المؤمنين، حتى الذين يعطون لأنفسهم عنواناً دينياً، فالإمام زين العابدين (ع) أعطى برنامجاً للعصبية المحرّمة، وأفقاً جديداً لعلاقة الإنسان مع قومه وجماعته، فكان (ع) يقول: "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها ـ وقد قال رسول الله (ص): "العصبية في النار" ـ أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه ـ لا يلام الإنسان على حبّ قومه وعشيرته وجماعته، لأن الله لا يكبت عاطفتك تجاه الناس الذين يتحركون في دائرتك ـ ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"، أما أن تعطي تأييدك وقوتك وطاقتك في سبيل أن تنصر من يتحرك في دائرتك حتى لو كان من تتحرك معه ظالماً، فإن ذلك من العصبية التي يأثم عليها الإنسان ويحاسبه الله عليها.

مدرسة في التواضع والإخلاص

وكان (ع) إذا سافر ـ والسفر كان سابقاً ضمن قافلة ـ سافر مع قوم لا يعرفونه، وذات يوم سافر مع جماعة لا يعرفونه، فكانوا يتعاملون معه كتعاملهم مع شخص منهم، فكلّفوه (ع) بجمع الحطب، فقام بكل بساطة وإخلاص ليجمع الحطب من هنا وهناك، في هذه الأثناء، وصلت قافلة أخرى وفيها من يعرف زين العابدين (ع)، فرآه يجمع الحطب، فجاء إلى أصحاب القافلة وسألهم: أتعرفون من هذا؟ قالوا: رجل من أهل المدينة، فقال لهم: هذا الإمام علي بن الحسين زين العابدين!! فقامت القافلة إليه وسألوه: لماذا لم تعرّفنا عن نفسك حتى نضعك في منزلتك؟ فقال (ع): "لقد سافرت مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول الله ما لا أستحق ـ وطبعاً هذا الحديث تواضعاً منه ـ وما أحبّ أن آخذ برسول الله ما لا أعطي مثله"..

والدرس الذي نستفيده من هذه الرواية، أنه في مجتمعنا الكثير من الشخصيات الدينية والسياسية والاجتماعية، ممّن يرى أن من واجب الناس أن تحترمه لأنه عالم أو وجيه في قومه، فإذا كنت عالماً فعليك أن تعطي من علمك للناس، وإذا كان الناس يحترمونك لموقعك الاجتماعي أو السياسي، فعليك أن تعطي من موقعك ما يخدم الناس ويصلح أمورهم، لأن الله تعالى لم يعطِ لإنسان أيّ حق إلا بعد أن أخذ عليه الحق للناس، ومن هناك أعظم من النبي (ص)؟ ومع ذلك فإن من واجباته (ص) أن يعلّم الناس ويزكيهم ويثقفهم: {يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، وهكذا من واجبات العالِم أن يعطي علمه للناس، وإذا كنت سياسياً أن تجعل كل طاقتك وإمكانيّاتك السياسية في خدمة قضايا المجتمع، فهناك معادلتان لا بد أن نحفظهما، وهما: عندما تعطي لا تفكّر ماذا ستأخذ: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}، والمعادلة الثانية هي: عندما تريد أن تأخذ من الناس فعليك أن تفكّر ماذا أعطيت.

لقد كان الإمام زين العابدين (ع) قمةً في العلم والروح والعطاء والأخلاق وفي محبته وخدمته للناس كلهم، ولا بد لنا أن نفهم الإمام زين العابدين بهذا الإطار، ومع الأسف، فقد حصرناه بالمأساة، صحيح أنه كان يبكي على أبيه الحسين (ع) ويذكّر الناس بكربلاء، ولكنه كان الصابر الذي يعلّم الناس ويحررهم ويقوم برسالته كاملة غير منقوصة، فلا تحبسوا أهل البيت (ع) داخل المأساة، وإن كان علينا أن نعمل لنتذكّر مآسيهم، ولكن مآسيهم لم تنطلق من حالات ذاتية من أوضاعهم، بل كانت مأساة في خط القضية، ولذلك عندما نتذكر المأساة، فعلينا أن نتذكر القضية؛ قضية الإسلام وقضية الإصلاح في أمة جده (ص)، وبهذا نتذكّر عليّ بن الحسين (ع). 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل مسؤولياتكم أمام كل الواقع الذي نعيشه، هذا الواقع الذي اندفع فيه الاستكبار ليصنع في أمتنا وكل عالمنا الإسلامي المأساة الثقافية والاقتصادية والسياسية والأمنية، من أجل أن يربك كل الواقع، لنعيش في متاهات سياساته التي يدفعها إلى هذا الموقع أو ذاك، في حرب عسكرية تارةً واقتصادية أخرى، فلا يستقر أيّ موقع من هذه المواقع، وبهذا نعيش الاهتزاز في عقولنا ومواقفنا وأفكارنا وحركتنا، لذلك لا بد أن نكون الواعين لذلك كله، فلا تنطلي علينا اللعبة التي يحركها المستكبرون في عالمنا..

وعلينا أن نحفظ الحكمة التي ورثناها من خلال أحاديثنا الشريفة: إن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، وقد قال الإمام الصادق (ع) وهو يصف المؤمن: "المؤمن حسَن المعونة، خفيف المؤونة، جيد التدبير لمعيشته، لا يلسع من جحر مرتين"، وقد لدغنا من الجحر الأمريكي والبريطاني والفرنسي والغربي اللدغات الاقتصادية والسياسية والأمنية مرات ومرات، ولكننا لا نتعلّم، والمؤمن هو الذي يتعلّم من تجاربه السلبية والإيجابية، فماذا هناك؟ 

زيف الادعاءات الأمريكية بشأن العراق

مرّ عام على الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني في العراق من خلال تضخيم خطر النظام الطاغي على أمن أمريكا وعلى العالم بفعل امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، ما كشفت كل وسائل الأمم المتحدة في التفتيش وكل أجهزة الاحتلال كذبه وكذب البيانات التي أطلقها الرئيس بوش ومستشاروه بما يزيد عن مائتين وسبعة وثلاثين بياناً، الأمر الذي تحوّل إلى فضيحة دولية. فالمسألة ليست مجرد مسألة سياسية خاضعة للعبة السياسية الدولية في ألاعيب المخابرات، ولكنها مسألة حرب تركت آثارها السلبية على المنطقة كلها وعلى العالم كله، وأربكت التحالفات السياسية الدولية، وأثارت أكثر من مشكلة لأكثر من دولةٍ في المنطقة وخارجها في توزيع الاتهامات الكاذبة بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ومنح إسرائيل الضوء الأخضر للعبث بالشعب الفلسطيني بالأسلحة الأمريكية المدمّرة وبالسياسة المنحازة لها بالمطلق، وباختراق العراق أمنياً واقتصادياً وعسكرياً...

ولا تزال آثار هذه الكذبة السياسية المخابراتية تثير الجدل حول رئيسي الوزراء في كل من بريطانيا وأستراليا، كما أنها أسقطت رئيس وزراء إسبانيا الذي تنكّر لشعبه الذي رفض رفضاً شاملاً للحرب، وأدّت سياسته إلى التفجيرات الإجرامية المأساوية التي حصدت المدنيين الأبرياء مما عدّه الكثيرون من نتائج الحلف مع أمريكا في الحرب.

وإذا كان هؤلاء الكَذَبة يتحدثون عن النتيجة الإيجابية بإسقاط النظام الطاغي الوحشي الذي هلّل له الشعب العراقي والمنطقة كلها، فإننا لا نمانع في ذلك، ولكن الجميع يعرفون أن الغزو لم يستهدف تحرير الشعب هناك، بل السيطرة على نفط العراق وتحويله إلى موقع متقدم لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة، وإلى جسر سياسي وأمني واقتصادي للعبور إليها، ولكن الاحتلال لم يسلّم السلطة للعراقيين بالقوة اللازمة التي يستطيعون من خلالها الحفاظ على أمن بلدهم الذين هم أعرف بكل مواقعه، ليستمر في احتلاله إلى المدى الذي يحقق فيها كل أهدافه، وإذا كان الأمريكيون يتحدثون عن الديمقراطية، فإن الجميع يعرفون أن الاحتلال لا يحققها، لأنه ـ من خلال ما يملكه من السيطرة على إرادة الشعب بشكل مباشر أو غير مباشر ـ لا يجلب الديمقراطية، كما أن الاستعباد السياسي والأمني لا يحقق الحرية...

نرحِّب بالتطورات في إسبانيا:

إننا نرحّب بالتطورات السياسية في إسبانيا؛ البلد الصديق للعرب وللمسلمين، ونرى فيها ضربة قاصمةً للخطة الأمريكية التي تسعى للسيطرة على أوروبا وجرّها إلى سياستها الاستكبارية الإمبراطورية، وإشارة إلى الشعوب الأوروبية أن تدرس العلاقات مع أمريكا دراسةً واعيةً تؤكد حريتها في اتخاذ قراراتها في الحرب والسلم، وتفرض على حكامها السياسة التي تخدم الحرية للشعوب، وأن تعمل على تغيير إداراتها التي تتنكر لإراداتها في رفض الحرب غير المشروعة... وإننا في الوقت نفسه، ندعو شعوبنا العربية والإسلامية إلى أن تأخذ الدرس من الشعب الإسباني في تغيير حكومته إذا خالفت مصالحه، ليبقى الشعب سيّد قراره، وليطرد كل الذين يفرضون عليه سياسة غير منسجمة مع مصالحه. ونسجّل نقطة سلبية على واقع الأنظمة في المنطقة التي يحتقر القائمون عليها شعوبهم بمصادرة حرياتهم والتحكم فيهم بالوسائل المخابراتية وقوانين الطوارىء وحماية الفساد والخضوع للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي جعل أمريكا التي كانت حاضنةً وداعمةً لها، تتحدث عن إصلاح الشرق الأوسط الكبير...

إن على شعوبنا أن تعي خطورة الواقع الذي يحكم كلَّ أمورها في اتجاه تحرير المستقبل من ذلك كله، بالإصلاح الذي ينبع من إرادتها لا من إرادة المستكبرين، وعلى العراقيين الذين يواجهون المجازر المتنقلة التي يقوم بها المجرمون ضد المدنيين، أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، وأن يأخذوا بأسباب الوحدة، وأن يفكروا طويلاً في وعد السيادة المستقبلي، ليدرسوا مدى جديّته وواقعيته ونوعية الحرية في حركة القوة التي تحفظ الأمن والقرار الذي يحفظ للبلد سلامته ونموّه وسيادته، لأن السيادة التي يمنحها المحتل قد تكون استعباداً في ثوب الحرية.

ثبات الشعب الفلسطيني

ونصل إلى فلسطين، لنحيي الشهيدين المجاهدين اللذين قاما بعملية أشدود النوعية التي هزّت الكيان الصهيوني، وأثبتت له أنّ المجاهدين يستطيعون الوصول إلى أي موقع استراتيجي له، بالرغم من الجدار العنصري ومن الحواجز الموضوعة في الطريق، ونعتقد أن كل التهديدات العسكرية والخطط الوحشية لاحتلال غزة من جديد لن تؤثر على إرادة هذا الشعب الصابر المجاهد الذي قرّر نقل العدو من مأزق إلى مأزق، بالرغم من جراحه النازفة بفعل الوحشية النازية التي يمارسها جيشه وتؤيدها الإدارة الأمريكية، لأن الحرية سوف تنتصر ولو من بعد حين.

ونشير إلى الأحداث القلقة التي حدثت في سوريا من خلال بعض الخلفيات السياسية التي عملت على إرباك الواقع بإثارة المسألة الكردية من دون أيّ أساس سياسي أو أمني أو اقتصادي للمواطنين الأكراد هناك. إننا نلاحظ الأصابع الأمريكية التي تتحرك لتلعب بالمنطقة، ولا سيما سوريا الصمود، ولتربك أمنها ولتثير حولها أكثر من جدل سياسي، في الوقت الذي تخطط لإطلاق العقوبات التي يعرف الجميع أنها لن تستطيع أن تسقط صلابة الموقف وإرادة الصمود.

ومن جهة أخرى، فإن هناك حديثاً لبعض ممثلي الأمم المتحدة عن إمكانية إرسال القوات الدولية إلى غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي الذي تحقق بفضل المقاومة كنصر مميز، والسؤال: لماذا لم تنطلق الأمم المتحدة للضغط على إسرائيل لتحقيق الفصل بينها وبين الشعب الفلسطيني لمنع الاجتياح والاحتلال والمجازر الوحشية، أم هي الإرادة الأمريكية التي تحكم قرارات الأمم المتحدة؟.

لبنان: الحاجة إلى ذهنية التغيير

وأخيراً، ماذا في لبنان... هل هي الهدنة السياسية في الحرب المتحركة بين مواقع النفوذ التي تتحرك بين وقت وآخر لإرباك القضايا الحيوية ولتجميد المشاريع الإنمائية ولمواجهة التحديات المصيرية؟ أو هي التسويات التي لا تخضع لقاعدة وطنية، بل قد تحملها المصالح الشخصية أو الحزبية، ولا سيما في موسم الانتخابات التي كنا نرجو أن تتحرك التحالفات فيها على أساس برنامج إصلاحي شامل يحقق للناس في مدنهم وقراهم حكومات محلية ليست على شاكلة الحكومة الوطنية... وسؤالنا للشعب الذي يستعد للدخول في المعركة، هل هناك خطة مدروسة للبرنامج الذي يحقق مصالحكم ومشاريعكم الإنمائية البلدية، أم أن المسألة هي الخطة الموضوعة للاستغراق في الأشخاص أو في الجهات النافذة هنا وهناك؟ إن لبنان بحاجة إلى شعب يفكر ويخطط ويملك ذهنية التغيير ويؤكد إرادته في ذلك كله، وليس بحاجة إلى شعب يهتف بانفعال، ويتحمس بارتجال، ويبصم عندما يراد له أن يوقّع.

الإمام زين العابدين (ع): رائد الحرية والعلم والأخلاق


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

مدرسة ثقافية متنوّعة الأبعاد

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً}. في الخامس والعشرين من شهر محرّم كانت ذكرى وفاة الإمام علي بن الحسين زين العابدين (ع)، هذا الإمام الذي قال عنه بعض معاصريه: "ما رأيت أفضل منه ولا أفقه منه، وما رأيت له صديقاً في السرّ ولا عدوّاً في العلانية"، قالوا: كيف ذلك؟ فقال: لأني رأيت الناس الذين يعرفونه يحسدونه، فكان الحسد يدفعهم إلى عداوته، ولكنهم كانوا لا يستطيعون أن يعبّروا عن عداوتهم له من شدة مداراتهم له، لأنه فرض نفسه على المجتمع كله.

هذا الإمام الذي عندما جاء إلى الكعبة ليطوف، وكانت ساحة الطواف مزدحمة بالناس، حتى إن الازدحام حال دون طواف ولي عهد الخلافة آنذاك هشام بن عبد الملك بن مروان، وعندما لمح الناس علي بن الحسين (ع) قادماً للطواف، انفرجوا له احتراماًُ وتعظيماً له، فسأل أحد أهل الشام هشاماً: من هذا؟ قال: لا أعرفه ـ وهو يعرفه ـ فأنشأ الفرزدق قصيدته الشهيرة:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته       والبيت يعرفه والحل والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلّهم       هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهله       بجدّه أنبياء الله قد خُتموا

وليس قولك من هذا بضائره       العرب تعرف من أنكرت والعجم

كان المجتمع الإسلامي يعظّم الإمام زين العابدين (ع) ويحترمه، وهو الذي استطاع أن ينشر علم الإسلام في خط أهل البيت (ع) على كل المجتمع الإسلامي، سواء ممن يقول بإمامته أو ممن لا يقول بها، وهذا ما نعرفه عندما ندرس الذين تعلّموا عنده ورووا عنه الأحاديث في التاريخ والفقه وعلم الكلام والمواعظ والأدعية، ونحن نقرأ الصحيفة السجادية التي يمكن أن تتحوّل أدعيتها إلى مدرسة ثقافية لو أن الناس قرأوها وتدبّروها، وهكذا عندما نقرأ الأدعية الأخرى، كدعاء "أبي حمزة الثمالي" وغيره مما روي عنه.

من وصاياه: الصبر على الحق

كان الإمام زين العابدين (ع) الإمام الذي يتمثّله الناس في عبادته الخالصة لله، وفي زهده وأخلاقيته وسعة صدره، قد عاش (ع) مأساة كربلاء من بدايتها إلى نهايتها مع أبيه الحسين (ع)، حتى إن الحسين (ع) قبل أن ينطلق إلى الميدان ليواجه الشهادة، جلس معه ولده زين العابدين (ع)، وهو ما حدّث به الإمام الباقر (ع) ولده الإمام الصادق (ع) قال: لما حضرت أبي علي بن الحسين (ع) الوفاة، ضمني إلى صدره وقال: «يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي حين حضرته الوفاة، ولما ذكر أن أباه أوصاه: " "يا بني: اصبر على الحق وإن كان مرّاً". فهذه كانت آخر وصايا الإمام الحسين (ع) لولده، وكأنه أراد أن يقول: نحن انطلقنا من الحق والله هو الحق، ورسالته وقرآنه هو الحق، وانطلقنا من رسول الله (ص) الذي حمل دعوة الحق، والحق مرّ وكريه مطعمه، وقد قال علي (ع): "ما ترك لي الحق من صديق"، لذلك فإن وصية الحسين (ع) كانت: دعوة إلى الصبر على الحق، الحق في العقيدة والشريعة والسياسة وفي كل واقع الناس، وإن كان مرّاً، لأن الحقَّ مرّ في تكاليفه، ولكنه حلوّ في نتائجه في حياة الناس وعند الله تعالى.

محرر العبيد ومثقف المجتمع

وعندما نقرأ سيرة الإمام زين العابدين (ع)، نجد أنه كان محرر العبيد، حيث كانت بعض الظروف تقتضي استعبادهم، وقد شجّع الإسلام في تشريعاته على تحريرهم، وذلك كما في من أفطر مثلاً في شهر رمضان متعمداً، فقد جعل كفارته صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكيناً أو عتق رقبة، فالإسلام وضع خطة واقعية تشريعية لتحرير العبيد، فكان (ع) يشتري العبيد لا ليستعبدهم، بل كان يبعثهم في أيام الحج للقيام بخدمة الحجاج، وكان يعلّمهم ويثقفهم ويؤدبهم، وفي نهاية المطاف كان يجمعهم في شهر رمضان ويسألهم ـ تواضعاً منه ـ عمّا أساء به إليهم، ويطلب منهم ـ تعليماً لهم ـ أن يرفعوا أيديهم بالدعاء إلى الله أننا عفونا عن عبدك علي بن الحسين في ما أساء به إلينا ـ وطبعاً هو لم يسئ ـ اللهم فاعفُ عنه كما عفونا عنه، ثم يحررهم ويعطيهم المال الذي يستغنون به عن الناس، ويقال إنه أعتق أكثر من ألف عبد..

من بين الأمور التي كان الإمام زين العابدين (ع) يثقِّف بها الناس هي مسألة الابتعاد عن العصبيات، ومجتمعنا في الشرق هو مجتمع العصبيات العائلية والحزبية والمذهبية والشخصانية، ولا تزال العصبية تحكم الكثير من المؤمنين، حتى الذين يعطون لأنفسهم عنواناً دينياً، فالإمام زين العابدين (ع) أعطى برنامجاً للعصبية المحرّمة، وأفقاً جديداً لعلاقة الإنسان مع قومه وجماعته، فكان (ع) يقول: "إن العصبية التي يأثم عليها صاحبها ـ وقد قال رسول الله (ص): "العصبية في النار" ـ أن يرى الرجل شرار قومه خيراً من خيار قوم آخرين، وليس من العصبية أن يحبّ الرجل قومه ـ لا يلام الإنسان على حبّ قومه وعشيرته وجماعته، لأن الله لا يكبت عاطفتك تجاه الناس الذين يتحركون في دائرتك ـ ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم"، أما أن تعطي تأييدك وقوتك وطاقتك في سبيل أن تنصر من يتحرك في دائرتك حتى لو كان من تتحرك معه ظالماً، فإن ذلك من العصبية التي يأثم عليها الإنسان ويحاسبه الله عليها.

مدرسة في التواضع والإخلاص

وكان (ع) إذا سافر ـ والسفر كان سابقاً ضمن قافلة ـ سافر مع قوم لا يعرفونه، وذات يوم سافر مع جماعة لا يعرفونه، فكانوا يتعاملون معه كتعاملهم مع شخص منهم، فكلّفوه (ع) بجمع الحطب، فقام بكل بساطة وإخلاص ليجمع الحطب من هنا وهناك، في هذه الأثناء، وصلت قافلة أخرى وفيها من يعرف زين العابدين (ع)، فرآه يجمع الحطب، فجاء إلى أصحاب القافلة وسألهم: أتعرفون من هذا؟ قالوا: رجل من أهل المدينة، فقال لهم: هذا الإمام علي بن الحسين زين العابدين!! فقامت القافلة إليه وسألوه: لماذا لم تعرّفنا عن نفسك حتى نضعك في منزلتك؟ فقال (ع): "لقد سافرت مع قوم يعرفونني فأعطوني برسول الله ما لا أستحق ـ وطبعاً هذا الحديث تواضعاً منه ـ وما أحبّ أن آخذ برسول الله ما لا أعطي مثله"..

والدرس الذي نستفيده من هذه الرواية، أنه في مجتمعنا الكثير من الشخصيات الدينية والسياسية والاجتماعية، ممّن يرى أن من واجب الناس أن تحترمه لأنه عالم أو وجيه في قومه، فإذا كنت عالماً فعليك أن تعطي من علمك للناس، وإذا كان الناس يحترمونك لموقعك الاجتماعي أو السياسي، فعليك أن تعطي من موقعك ما يخدم الناس ويصلح أمورهم، لأن الله تعالى لم يعطِ لإنسان أيّ حق إلا بعد أن أخذ عليه الحق للناس، ومن هناك أعظم من النبي (ص)؟ ومع ذلك فإن من واجباته (ص) أن يعلّم الناس ويزكيهم ويثقفهم: {يا أيها النبي إنّا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، وهكذا من واجبات العالِم أن يعطي علمه للناس، وإذا كنت سياسياً أن تجعل كل طاقتك وإمكانيّاتك السياسية في خدمة قضايا المجتمع، فهناك معادلتان لا بد أن نحفظهما، وهما: عندما تعطي لا تفكّر ماذا ستأخذ: {ويطعمون الطعام على حبه مسكيناً ويتيماً وأسيراً* إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءً ولا شكوراً}، والمعادلة الثانية هي: عندما تريد أن تأخذ من الناس فعليك أن تفكّر ماذا أعطيت.

لقد كان الإمام زين العابدين (ع) قمةً في العلم والروح والعطاء والأخلاق وفي محبته وخدمته للناس كلهم، ولا بد لنا أن نفهم الإمام زين العابدين بهذا الإطار، ومع الأسف، فقد حصرناه بالمأساة، صحيح أنه كان يبكي على أبيه الحسين (ع) ويذكّر الناس بكربلاء، ولكنه كان الصابر الذي يعلّم الناس ويحررهم ويقوم برسالته كاملة غير منقوصة، فلا تحبسوا أهل البيت (ع) داخل المأساة، وإن كان علينا أن نعمل لنتذكّر مآسيهم، ولكن مآسيهم لم تنطلق من حالات ذاتية من أوضاعهم، بل كانت مأساة في خط القضية، ولذلك عندما نتذكر المأساة، فعلينا أن نتذكر القضية؛ قضية الإسلام وقضية الإصلاح في أمة جده (ص)، وبهذا نتذكّر عليّ بن الحسين (ع). 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله في كل مسؤولياتكم أمام كل الواقع الذي نعيشه، هذا الواقع الذي اندفع فيه الاستكبار ليصنع في أمتنا وكل عالمنا الإسلامي المأساة الثقافية والاقتصادية والسياسية والأمنية، من أجل أن يربك كل الواقع، لنعيش في متاهات سياساته التي يدفعها إلى هذا الموقع أو ذاك، في حرب عسكرية تارةً واقتصادية أخرى، فلا يستقر أيّ موقع من هذه المواقع، وبهذا نعيش الاهتزاز في عقولنا ومواقفنا وأفكارنا وحركتنا، لذلك لا بد أن نكون الواعين لذلك كله، فلا تنطلي علينا اللعبة التي يحركها المستكبرون في عالمنا..

وعلينا أن نحفظ الحكمة التي ورثناها من خلال أحاديثنا الشريفة: إن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، وقد قال الإمام الصادق (ع) وهو يصف المؤمن: "المؤمن حسَن المعونة، خفيف المؤونة، جيد التدبير لمعيشته، لا يلسع من جحر مرتين"، وقد لدغنا من الجحر الأمريكي والبريطاني والفرنسي والغربي اللدغات الاقتصادية والسياسية والأمنية مرات ومرات، ولكننا لا نتعلّم، والمؤمن هو الذي يتعلّم من تجاربه السلبية والإيجابية، فماذا هناك؟ 

زيف الادعاءات الأمريكية بشأن العراق

مرّ عام على الاحتلال الأمريكي ـ البريطاني في العراق من خلال تضخيم خطر النظام الطاغي على أمن أمريكا وعلى العالم بفعل امتلاكه لأسلحة الدمار الشامل، ما كشفت كل وسائل الأمم المتحدة في التفتيش وكل أجهزة الاحتلال كذبه وكذب البيانات التي أطلقها الرئيس بوش ومستشاروه بما يزيد عن مائتين وسبعة وثلاثين بياناً، الأمر الذي تحوّل إلى فضيحة دولية. فالمسألة ليست مجرد مسألة سياسية خاضعة للعبة السياسية الدولية في ألاعيب المخابرات، ولكنها مسألة حرب تركت آثارها السلبية على المنطقة كلها وعلى العالم كله، وأربكت التحالفات السياسية الدولية، وأثارت أكثر من مشكلة لأكثر من دولةٍ في المنطقة وخارجها في توزيع الاتهامات الكاذبة بامتلاك أسلحة الدمار الشامل، ومنح إسرائيل الضوء الأخضر للعبث بالشعب الفلسطيني بالأسلحة الأمريكية المدمّرة وبالسياسة المنحازة لها بالمطلق، وباختراق العراق أمنياً واقتصادياً وعسكرياً...

ولا تزال آثار هذه الكذبة السياسية المخابراتية تثير الجدل حول رئيسي الوزراء في كل من بريطانيا وأستراليا، كما أنها أسقطت رئيس وزراء إسبانيا الذي تنكّر لشعبه الذي رفض رفضاً شاملاً للحرب، وأدّت سياسته إلى التفجيرات الإجرامية المأساوية التي حصدت المدنيين الأبرياء مما عدّه الكثيرون من نتائج الحلف مع أمريكا في الحرب.

وإذا كان هؤلاء الكَذَبة يتحدثون عن النتيجة الإيجابية بإسقاط النظام الطاغي الوحشي الذي هلّل له الشعب العراقي والمنطقة كلها، فإننا لا نمانع في ذلك، ولكن الجميع يعرفون أن الغزو لم يستهدف تحرير الشعب هناك، بل السيطرة على نفط العراق وتحويله إلى موقع متقدم لخدمة المصالح الأمريكية في المنطقة، وإلى جسر سياسي وأمني واقتصادي للعبور إليها، ولكن الاحتلال لم يسلّم السلطة للعراقيين بالقوة اللازمة التي يستطيعون من خلالها الحفاظ على أمن بلدهم الذين هم أعرف بكل مواقعه، ليستمر في احتلاله إلى المدى الذي يحقق فيها كل أهدافه، وإذا كان الأمريكيون يتحدثون عن الديمقراطية، فإن الجميع يعرفون أن الاحتلال لا يحققها، لأنه ـ من خلال ما يملكه من السيطرة على إرادة الشعب بشكل مباشر أو غير مباشر ـ لا يجلب الديمقراطية، كما أن الاستعباد السياسي والأمني لا يحقق الحرية...

نرحِّب بالتطورات في إسبانيا:

إننا نرحّب بالتطورات السياسية في إسبانيا؛ البلد الصديق للعرب وللمسلمين، ونرى فيها ضربة قاصمةً للخطة الأمريكية التي تسعى للسيطرة على أوروبا وجرّها إلى سياستها الاستكبارية الإمبراطورية، وإشارة إلى الشعوب الأوروبية أن تدرس العلاقات مع أمريكا دراسةً واعيةً تؤكد حريتها في اتخاذ قراراتها في الحرب والسلم، وتفرض على حكامها السياسة التي تخدم الحرية للشعوب، وأن تعمل على تغيير إداراتها التي تتنكر لإراداتها في رفض الحرب غير المشروعة... وإننا في الوقت نفسه، ندعو شعوبنا العربية والإسلامية إلى أن تأخذ الدرس من الشعب الإسباني في تغيير حكومته إذا خالفت مصالحه، ليبقى الشعب سيّد قراره، وليطرد كل الذين يفرضون عليه سياسة غير منسجمة مع مصالحه. ونسجّل نقطة سلبية على واقع الأنظمة في المنطقة التي يحتقر القائمون عليها شعوبهم بمصادرة حرياتهم والتحكم فيهم بالوسائل المخابراتية وقوانين الطوارىء وحماية الفساد والخضوع للولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي جعل أمريكا التي كانت حاضنةً وداعمةً لها، تتحدث عن إصلاح الشرق الأوسط الكبير...

إن على شعوبنا أن تعي خطورة الواقع الذي يحكم كلَّ أمورها في اتجاه تحرير المستقبل من ذلك كله، بالإصلاح الذي ينبع من إرادتها لا من إرادة المستكبرين، وعلى العراقيين الذين يواجهون المجازر المتنقلة التي يقوم بها المجرمون ضد المدنيين، أن يرتفعوا إلى مستوى المرحلة، وأن يأخذوا بأسباب الوحدة، وأن يفكروا طويلاً في وعد السيادة المستقبلي، ليدرسوا مدى جديّته وواقعيته ونوعية الحرية في حركة القوة التي تحفظ الأمن والقرار الذي يحفظ للبلد سلامته ونموّه وسيادته، لأن السيادة التي يمنحها المحتل قد تكون استعباداً في ثوب الحرية.

ثبات الشعب الفلسطيني

ونصل إلى فلسطين، لنحيي الشهيدين المجاهدين اللذين قاما بعملية أشدود النوعية التي هزّت الكيان الصهيوني، وأثبتت له أنّ المجاهدين يستطيعون الوصول إلى أي موقع استراتيجي له، بالرغم من الجدار العنصري ومن الحواجز الموضوعة في الطريق، ونعتقد أن كل التهديدات العسكرية والخطط الوحشية لاحتلال غزة من جديد لن تؤثر على إرادة هذا الشعب الصابر المجاهد الذي قرّر نقل العدو من مأزق إلى مأزق، بالرغم من جراحه النازفة بفعل الوحشية النازية التي يمارسها جيشه وتؤيدها الإدارة الأمريكية، لأن الحرية سوف تنتصر ولو من بعد حين.

ونشير إلى الأحداث القلقة التي حدثت في سوريا من خلال بعض الخلفيات السياسية التي عملت على إرباك الواقع بإثارة المسألة الكردية من دون أيّ أساس سياسي أو أمني أو اقتصادي للمواطنين الأكراد هناك. إننا نلاحظ الأصابع الأمريكية التي تتحرك لتلعب بالمنطقة، ولا سيما سوريا الصمود، ولتربك أمنها ولتثير حولها أكثر من جدل سياسي، في الوقت الذي تخطط لإطلاق العقوبات التي يعرف الجميع أنها لن تستطيع أن تسقط صلابة الموقف وإرادة الصمود.

ومن جهة أخرى، فإن هناك حديثاً لبعض ممثلي الأمم المتحدة عن إمكانية إرسال القوات الدولية إلى غزة بعد الانسحاب الإسرائيلي الذي تحقق بفضل المقاومة كنصر مميز، والسؤال: لماذا لم تنطلق الأمم المتحدة للضغط على إسرائيل لتحقيق الفصل بينها وبين الشعب الفلسطيني لمنع الاجتياح والاحتلال والمجازر الوحشية، أم هي الإرادة الأمريكية التي تحكم قرارات الأمم المتحدة؟.

لبنان: الحاجة إلى ذهنية التغيير

وأخيراً، ماذا في لبنان... هل هي الهدنة السياسية في الحرب المتحركة بين مواقع النفوذ التي تتحرك بين وقت وآخر لإرباك القضايا الحيوية ولتجميد المشاريع الإنمائية ولمواجهة التحديات المصيرية؟ أو هي التسويات التي لا تخضع لقاعدة وطنية، بل قد تحملها المصالح الشخصية أو الحزبية، ولا سيما في موسم الانتخابات التي كنا نرجو أن تتحرك التحالفات فيها على أساس برنامج إصلاحي شامل يحقق للناس في مدنهم وقراهم حكومات محلية ليست على شاكلة الحكومة الوطنية... وسؤالنا للشعب الذي يستعد للدخول في المعركة، هل هناك خطة مدروسة للبرنامج الذي يحقق مصالحكم ومشاريعكم الإنمائية البلدية، أم أن المسألة هي الخطة الموضوعة للاستغراق في الأشخاص أو في الجهات النافذة هنا وهناك؟ إن لبنان بحاجة إلى شعب يفكر ويخطط ويملك ذهنية التغيير ويؤكد إرادته في ذلك كله، وليس بحاجة إلى شعب يهتف بانفعال، ويتحمس بارتجال، ويبصم عندما يراد له أن يوقّع.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية