ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. في الثالث من هذا الشهر ـ رجب الحرام ـ كانت وفاة الإمام العاشر من أئمة أهل البيت(ع)، وهو الإمام علي الهادي(ع).
من فيوضات الإمام الهادي(ع)
ونحن أمام هذه الذكرى، نحاول أن نتعرّف بعض فيوضات هذا الإمام في ما كان يوصي به الناس ويعظهم، ويحدّد لهم المفاهيم الإسلامية، ويواجه كل قضايا الانحراف والغلو التي كانت تحدث بين وقت وآخر في الذهنية الإسلامية، حتى في الدائرة التي ينطلق بها السائرون في خط أهل البيت(ع)، مما كان يعيشه بعض الشيعة في زمن الإمام الهادي(ع)، ومما يعيشه بعض الشيعة في هذا الزمن بالذات، من خلال الانحراف الخارج عن المعقول وعن ظواهر القرآن الكريم.
وقد كان الإمام الهادي(ع)، محل تقدير وتعظيم من كل مجتمعه بالرغم من صغر سنّه، حيث كان كبار القوم، حتى ممن لهم مركز متقدّم في الخلافة العباسية التي كانت تتخذ موقفاً سلبياً من أئمة أهل البيت(ع)، لا يملكون إلا أن يقوموا تعظيماً له عندما يقبل على الناس، وقد أعطى الكثير من العلوم التي تميّز بها في أكثر من موقع ثقافي إسلامي، فأغنى بذلك الثقافة الإسلامية وجعلها تنفتح على حقائق الإسلام في عقيدته وشريعته.
كان(ع) يحدّث الناس عن رسول الله(ص) في العديد من الأمور، منها تحديد الفرق بين الإيمان والإسلام، كتوضيح للآية الكريمة: {قالت الأعراب آمنّا ـ والأعراب هي الفئة التي لا تملك الوعي الثقافي في التزاماتها وانتماءاتها وفهمها للأمور، بل كانت تتحرك على السطح من دون وعي، وهي موجودة في كلِّ شعب، وليس المراد من الأعراب العرب، بل كل من لم يتفقّه في الدين ـ قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم}، فالإيمان يمثل الالتزام العميق الذي ينطلق من العقل، وينفتح على القلب، ويتحرّك في الواقع؛ فعن الإمام الهادي(ع) قال في حديث عن رسول الله(ص): "الإيمان ما وقر في القلوب وصدّقته الأعمال ـ فأن تكون مؤمناً يعني أن يصدّق عملك وحركتك في الحياة إيمانك وعقيدتك في هذا المجال، لأن الإيمان ليس مجرد فكرة، ولكنه يمثل كل ما في كيانك في حركة الوعي، وفي مسيرة العمل ـ والإسلام ما جرى على اللسان ـ أن تتشهد الشهادتين ـ وحلّت به المناكحة". ولذا كان(ص) يكتفي من الناس الذين يأتون إليه أن يتشهدوا الشهادتين ليدخلهم في المجتمع الإسلامي ليكونوا جزءاً منه ويسمّوا مسلمين، أما الإيمان، فإنه لا بد أن ينفتح على ما في العقل والقلب وما يتحرك في العمل.
التأكيد على قيمة العقل
وقد سأله شخص من علماء اللغة العربية يقال له "ابن السكيت": لماذا بعث الله موسى بن عمران(ع) بالعصا واليد البيضاء وآلة السحر، وعيسى(ع) بآلة الطب، وبعث محمداً(ص) بالكلام والخطب؟ فقال الإمام الهادي(ع): "إن الله لما بعث موسى(ع) كان الغالب على أهل عصره السحر، فأتاهم من عند الله بما لم يكن في وسعهم مثله، وما أبطل به سحرهم وأثبت به الحجّة عليهم، وإن الله بعث عيسى(ع) في وقت ظهرت فيه الزمانات ـ الأمراض المزمنة كالبرص وغيره ـ واحتاج الناس إلى الطب، فأتاهم من عند الله بما لم يكن عندهم مثله، وبما أحيى لهم الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص بإذن الله، وأثبت به الحجة عليهم، وإن الله بعث محمداً(ص) في وقت كان الغالب على أهل عصره الخطب والكلام، فأتاهم من عند الله من مواعظه وحكمه ما أبطل به قولهم وأثبت به الحجة عليهم"، فقال ابن السكيت: والله ما رأيت مثلك قط، فما الحجة على الخلق اليوم؟ فقال(ع): "العقل، يعرف به الصادق على الله فيُصدّقه، والكاذب على الله فيكذّبه"، فقال ابن السكيت: هذا والله هو الجواب.
وبذلك نعرف أنّ الإمام الهادي(ع) كان يريد أن يؤكّد ما أكّده القرآن والسنّة النبوية الشريفة من قيمة العقل، فهو حجة الله على العباد، وهذا هو الأساس الذي لا بد للناس أن يأخذوا به، باعتبار أنه هو الذي يؤكد لهم الفرق بين الحقيقة والخرافة، وهو الذي يدفع بالتقدّم ويسقط التخلّف، ولذلك أرادنا الله تعالى ـ كما في أكثر من آية ـ أن ننمّي عقولنا ونربّيها حتى نستطيع أن ننفتح على كلِّ أسرار خلق الله لنتعرّف مواقع عظمته، وعلى كل امتدادات نعمه لنتعرّف فيوضاته، وأن نستخدم عقلنا في كل حياتنا، بحيث لا نتحرك خطوة، كأن نؤيِّد شخصاً أو نرفضه، أو أن نعطي شخصاً قيمة معينة سلبية أو إيجابية، إلا بعد أن ندرسه في عقولنا، بحيث لا نتحرك من خلال الغريزة أو العاطفة، بل ننطلق من خلال دراسة الأمور كلها من كل جوانبها، في نقاط الضعف والقوة.
ولذلك، فإن الإسلام يريد للأمة أن يكون مجتمعها مجتمع العقل لا العاطفة، فربّوا أنفسكم على العقلانية، وعوّدوا حتى أطفالكم أن يفكروا، ولقد سمعتم مني كثيراً دعوتكم إلى رفض كلِّ الذين يقولون لكم لا تفكّروا بل كونوا التابعين في تفكيركم، وكذلك رفض أن تقولوا للآخرين فكروا لنا، وأن تقولوا لهم فكّروا معنا، وقد جاء في الحديث: "من شاور الرجال شاركها في عقولها"، أن تضم عقلك إلى عقل الإنسان الآخر، لا أن تخضع عقلك لعقله، لأن الذي يفكر لك فإنه يفكر بمصالحه، أما الذي يفكر معك فإنه يغنيك بفكره وتجربته.
مواجهة الغلوّ والانحراف
وفي حديث عن الإمام الهادي(ع) رواه أحد علماء الرجال، وهو الشيخ الكشي، عن كتاب كتبه بعض أصحابه عن بعض الانحرافات في تأويل القرآن بما لا يعقل، يقول هذا الشخص: جُعلت فداك، إن عندنا قوماً يختلفون في معرفة فضلكم بأقاويل مختلفة تشمئز منها القلوب، وتضيق لها الصدور، ويروون في ذلك الأحاديث، لا يجوز لنا الإقرار بها لما فيها من القول العظيم، ولا يجوز ردّها ولا الجحود لها إذ نسبت إلى آبائك، فنحن وقوف عليها من ذلك، لأنهم يقولون ويتأوّلون معنى قولـه عزّ وجلّ: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}، وقوله عزّ وجل: {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة}، معناها رجل لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل، لا عدد دراهم ولا إخراج مال، وأشياء تشبهها من الفرائض والسنن والمعاصي، تأوّلوها وصيّروها على هذا الحد الذي ذكرت، فإن رأيت أن تمنّ على مواليك بما فيه سلامتهم ونجاتهم من الأقاويل التي تصيّرهم إلى العطب والهلاك، والذين ادّعوا هذه الأشياء ادّعوا أنهم أولياء ودعوا إلى طاعتهم ومنهم "علي بن حسكة"، و"القاسم اليقطيني"، فما تقول بالقبول منهم جميعاًَ؟ فكتب(ع): "ليس هذا ديننا فاعتزله".
وأمثال ذلك موجود في عصرنا، فبعض الناس يقولون إن ليلة القدر هي السيدة الزهراء(ع)، حتى وصل بعض الناس إلى حد الغلو، فقالوا إن معنى: {فصلِّ لربك وانحر}، معناها أنّ ربك هو الزهراء(ع)، وآخرون يقولون علينا أن لا ندعو الله بل أن ندعو أهل البيت(ع)، هذا غلوّ، ولكنه ـ للأسف ـ يسوّق ويقرأه بعض قرّاء التعزية. وقد وقف الإمام الهادي(ع) أمام هذه الحملة، وعلينا أن نقف أمام هذا التشويه الذي قد نجده في إيران والعراق ولبنان وغيره، ومشكلتي مع كثير من الناس أنني وقفت أمام كل هذا الانحراف العقائدي وما إلى ذلك، لأننا نريد أن نقدّم إسلاماً حضارياً بيّناً يمكن لنا أن نخاطب به العالم كله، لا إسلاماً يتحرك في خط الخرافة والغلوّ وما إلى ذلك، ونحن نتّبع أئمة أهل البيت(ع) في ذلك كله.
وكان من مواعظ الإمام الهادي(ع): "الناس في الدنيا بالأموال، وفي الآخرة بالأعمال"، ويقول(ع): "إنّ الله جعل الدنيا دار بلوى، والآخرة دار عقبى، وجعل بلوى الدنيا للآخرة سبباً".
هؤلاء هم أئمة أهل البيت(ع) الذين هم أئمتنا والحجة علينا، والذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وعلينا أن نتحرك في خط ولايتهم بالعمل بما وعظونا وأوصونا وبيّنوا لنا من الحقائق، فإنهم لن يصلوا بنا إلا إلى مواقع رضى الله تعالى.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في عباده وبلاده، فإنكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم، وواجهوا مسؤولياتكم في حماية الإسلام والمسلمين من كلِّ الذين يريدون إذلالهم وإسقاطهم، ونحن لا نزال في العالم الإسلامي وعالم المستضعفين نواجه التحديات الكبرى من الذين يعيثون في الأرض فساداً، ولا سيما من الاستكبار الأمريكي وربيبته إسرائيل، فلا بد لنا أن نعرف خطواتهم لنعرف كيف نواجهها بكل قوة وتخطيط وحكمة:
فلسطين: موقف الأسرى امتدادٌ للصمود
يتابع الجيش الصهيوني في فلسطين تدمير البيوت للفلسطينيين، وتشريد سكانها، فيما تقوم حكومة إسرائيل بمصادرة أراضي فلسطين لبناء ألف منزل جديد للمستوطنين القادمين من الولايات المتحدة الأمريكية وأمريكا الشمالية، في الوقت الذي تمتلئ غزة وغيرها بالكثافة السكانية الهائلة ـ من مسلمين ومسيحيين ـ من دون أيّ احتجاج أو استنكار عربي أو دولي، ما يعطّل قيام أية دولة فلسطينية مستقبلية في مشروع اللجنة الرباعية بقيادة أمريكا التي لا تزال تراوغ في تصريحاتها لإبقاء المشاريع الصهيونية بمنأى عن أي احتجاج دولي، حذراً من تأثير ذلك على الانتخابات الرئاسية القادمة.
وفي موازاة ذلك، يواصل الأسرى الفلسطينيون في المعتقلات الصهيونية إضرابهم عن الطعام، احتجاجاً على الممارسات الصهيونية البشعة بحقهم، والتي يستعمل فيها العدوّ كل أنواع التعذيب والتنكيل والمصادرة لحقوقهم الإنسانية، من دون أيّ موقف أمريكي أو أوروبي شاجب للموقف الصهيوني، بالرغم من تصريح وزير الأمن الداخلي الصهيوني بأنه "لا يعنيه في شيء إذا أضرب المعتقلون عن الطعام حتى الموت"، فيما قال مسؤولو السجون إنهم "يخطّطون لإقامة حفلات شواء خارج الزنازين لكسر إرادة السجناء"، ما يدل على أن الإنسان الفلسطيني لا قيمة لإنسانيته في السياسة الغربية، وخصوصاً الأمريكية، بل الإنسانية عندهم للصهيوني فحسب.
إننا نقول لأبنائنا وأخوتنا الأسرى من الفلسطينيين والعرب في سجون الاحتلال: إننا معكم، وإن قضيتكم هي قضيتنا، وإن موقفكم هذا امتداد للصمود الشعبي في السجن الكبير، وسوف تنتصرون في معركة الحرية إن عاجلاً أو آجلاً إن شاء الله تعالى.
العدوان على النجف جريمة
أما في العراق، فإننا نواجه الهجمة الأمريكية على النجف الأشرف التي تمثّل الأرض المقدّسة، بغطاء من الحكومة العراقية المؤقتة التي تعمل لحساب الاحتلال الأمريكي، في الوقت الذي تتحدث عن السيادة كلافتة، وتحاول هزّ العصا باسم الحفاظ على الأمن الداخلي، ولكنها تعرف أنّ الحل في المرحلة الحاضرة لا يكون بالعنف، بل بالوسائل السلمية التي واجهتها بالتهديد والوعيد بقصف الطائرات والمدافع والصواريخ الأمريكية التي لا تملك أية مسؤولية في اندفاعها بقتل الأبرياء.
إننا نعتبر أن تمكين القوات الأمريكية وحلفائها من العدوان على النجف الأشرف ـ وعلى المسلمين ـ يمثِّل جريمة كبرى في أعلى المستويات الإجرامية، وندعو إلى حلّ المسألة في النجف وغيرها بالوسائل السلمية، لأنّ الطريقة التي تمارسها هذه الحكومة سوف تؤدي إلى نتائج سلبية كبرى على صعيد الواقع العراقي من أكثر من جهة، ونرى أن بقاء الاحتلال الأمريكي للعراق، حتى لو كان بغطاء عراقي، سوف يؤدي إلى امتداد الاهتزاز الأمني بمختلف أوضاعه الداخلية والخارجية، ولا سيّما أن الإسرائيليين يقومون الآن بتدريب الجنود الأمريكيين على حرب المدن بالطريقة التي يقتلون فيها الشعب الفلسطيني، ليتعلّموا كيف يقتلون الشعب العراقي في مدنه وقراه.
لبنان: أين هو الاستحقاق الإنقاذي؟!
أما لبنان، فإنه لا يزال يعيش المشكلة التي لا يجد فيها أيّ تخطيط لحل قضايا المحرومين في المناطق الفقيرة، ولا سيما في الزراعة التي لا يجد فيها المزارع أيّ تشجيع لأوضاعه الزراعية ولتصريف منتجاته، بالإضافة إلى البطالة التي تفرض نفسها بنسبة كبيرة على اليد العاملة التي لا تجد أية فرصة للعمل، وإلى الهجرة التي يفقد فيها الوطن أفضل طاقاته الشبابية الكفوءة.
ويبقى ثالوث الفساد والهدر والتلاعب بالقوانين تحت أكثر من عنوان، بحيث يشعر الناس باليأس من أيّ إصلاح سياسي أو إداري، لأن الكثيرين ممن يملكون الفرص الكبيرة يبحثون عن مصادر الثروة الخفيّة من أجل تأمين المستقبل لأوضاعهم، من خلال فرض الضرائب التي يستغلها الذين يملكون الامتيازات في تسهيل الأمور للمشاريع والوظائف وما إلى ذلك... والسؤال: أين هو الاستحقاق الذي ينقذ البلد من كل هذا الأخطبوط الذي يفترس الوطن كله؟؟ |