لأن التشيع خط للفكر والعمل: لنكن في خط رسول الله (ص) وأهل البيت (ع)

لأن التشيع خط للفكر والعمل: لنكن في خط رسول الله (ص) وأهل البيت (ع)

لأن التشيع خط للفكر والعمل: لنكن في خط رسول الله (ص) وأهل البيت (ع)


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

أهل البيت(ع): تأكيد الدعوة الإسلامية:

كان لأهل البيت (ع) خلال مسيرتهم خطّة تثقيفية يبثون فيها التوعية ويركزون فيها على الإسلام، على أساس صنع فريق من المسلمين يلتزم فكرهم وخطهم وروحانيتهم، في الانفتاح على موقعهم القيادي بما تمثّله الإمامة من موقع قيادي، كانوا (ع) يتحرّكون في تأكيد الدعوة الإسلامية التي انطلق بها رسول الله (ص) وتحرك معه في بداية البدايات عليّ (ع)، الذي رشف الإسلام قبل أن يبعث الله تعالى رسوله بالإسلام؛ رشفه من شفتي رسول الله (ص)، ومن كل هذا الينبوع المتدفق روحانيةً وأخلاقيةً وتأملات تنفتح على معرفة الله تعالى، وهكذا ترعرع وعاش في حضنه وفي بيته، وكان معه في مسجده فكان أول من صلّى معه، ولازمه في دعوته، وحمل معه أماناته التي ائتمنه فيها على أن يرجعها إلى أصحابها، وكان معه في ليلة هجرته وبات على فراشه ليغطي انسحابه، ثم انطلق معه في حربه، فكان فارس "بدر" وأحد" و"الأحزاب" و"حنين" و"خيبر"، وكان معه في تربيته وتعليمه للناس.

ولذلك، كان عليّ (ع) نفس رسول الله (ص)، كان عقله من عقله وعلمه من علمه وحركيته في الإسلام من حركيته، وكان يقول وهو يقضي الليل والنهار: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب». ولذلك، كان عليّ (ع) هو الشخصيّة الوحيدة المؤهّلة للقيادة من بين المسلمين، لأنه كان يجمع الإسلام كله في عقله وروحه وقلبه، وكما قال "الخليل بن أحمد الفراهيدي" عندما سئل: لم قدّمت عليّاً؟ فقال: «احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل أنه إمام الكل». وقد قال بعض الخلفاء الذين تقدّموه: «قضية ولا أبو الحسن لها»، والكل يروي: «لولا عليّ لهلك عمر».

التشيّع: الإسلام المنفتح الأصيل:

وهكذا، نشأ التشيّع، لم ينشأ ليكون فريقاً غير فريق الإسلام، لأن علياً (ع) ليس لديه إلا الإسلام، وأبناء عليّ من الأئمة (ع) ليس لديهم إلا الإسلام، الإسلام الحيّ المنفتح الأصيل الذي تضحي قيادته بكل الأشياء في سبيل أن يسلم الإسلام والمسلمون، وهذا ما جاء في كتابه لأهل مصر: «فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنما هي متاع أيام قلائل»، وقال: «لأسلمنَّ ـ أو لأسالمن ـ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصّة». كان (ع) يحدّق بالإسلام ليحميه ويحفظه، فكان يعمل بقوة لتأكيد التجربة الإسلامية الأصيلة، بحيث كان يشعر وهو يسير داخل الخلافة وخارجها، أنَّ رسول الله (ص) في عقله يحدّثه، وأنه ينبض في قلبه وفي حركته، فارقه رسول الله (ص)، فغسّله وكفّنه ودفنه، ولكنه بقي معه، لأنه عاش رسول الله كما لم يعشه أحد، وعرفه كما لم يعرفه أحد، واندمج في روح رسول الله (ص) كما لم يندمج فيه أحد.

لذلك، كان مع عليّ (ع) في بداية هذا البناء الإسلامي الأصيل في خط التشيّع سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار، وكان معه الحسن والحسين (ع)، وانطلقت المسيرة، وانطلق معه هؤلاء الذين أعطوا كل حياتهم للإسلام، وعندما أُريد لهم أن يتبرأوا من عليّ وإلا قتلهم معاوية، رفضوا ذلك، وقد قال عليّ (ع): «ستدعون إلى سبّي والبراءة مني، أما السبّ فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني، فإني وُلدت على الفطرة وسبقت إلى الإسلام والهجرة». لا تتبرأوا من عليّ، لأن البراءة من عليّ هي براءة من الإسلام، لأن علياً يمثل التجسيد الحيّ للإسلام، ولذلك انطلق التشيّع لا ليكون عنواناً آخر غير الإسلام، ولكن انطلق ليكون العمق الفكري والروحي والحركي والأخلاقي والشرعي للإسلام كله.

ولهذا، فإن أئمة أهل البيت (ع) أكَّدوا أن مسألة التشيّع ليست حباً ساذجاً، ليست مجرد خفقة قلب، أن تقول أحبّ عليّاً وتأخذ حريتك مع كلِّ الذين حاربهم عليّ؟! لقد حارب عليّ (ع) الظالمين والكافرين والمتمردين على الله، فكيف تحبّ عليّاً وأنت تؤيّد كل أولئك أو تدعمهم أو تسير معهم، وكأنك وفّيت قسطك للعلى، لأن البعض قال لك: حبّ عليّ حسنة لا يضر معها شيء؟ عليّ عانى ما عانى من أجل الإسلام، والأئمة من بعده أكدوا ذلك. فالتشيّع إذاً خط للفكر بأن يكون فكرك فكر الحق في خط الإسلام، والتشيّع خط للعاطفة بأن تكون عاطفتك ممزوجة بالإسلام، والتشيّع خط للعمل بأن يكون عملك منفتحاً على الإسلام كله. واستمعوا إلى الإمام الباقر (ع) في حديثٍ سمعتموه كثيراً منّي، ولكن تأمَّلوا فيه وهو يخاطب جابر، وليعرف كل واحد منا هل هو شيعي، يقول (ع):

«يا جابر، أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع لله والأمانة وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلا من خير ـ فلا تتكلم على الناس ولا تسبّ ولا تلعن، وقد قال الإمام الصادق (ع): «ما أيسر ما قبل الناس منكم، كفّوا ألسنتكم عن الناس" ـ وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء»، قال جابر: قلت: يا بن رسول الله، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة!! فقال (ع): «يا جابر، لا تذهبنَّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاه، ثم لا يكون فعّالاً، فلو قال إني أحبّ رسول الله، فرسول الله خير من عليّ، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبه إياه شيئاً. فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله ما يُتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلا بالعمل والورع».

ونلاحظ أن الإمام الباقر (ع) يركز الخطّ الوسطي للتشيّع، لأن بعض الناس يدّعون محبة أهل البيت (ع) ويصل بهم، الأمر لى أن يجعلوا أهل البيت (ع) في درجة قريبة من الله، فيبتعدون بذلك عن معنى العبودية لله، وكثيراً ما نسمعها هذه الأيام من الذين يقولون لك: لا تدعُ الله فأهل البيت هم الذين يرزقون ويميتون ويحيون ويقضون الحوائج، لأننا ـ بحسب دعوى هؤلاء ـ لا نستطيع أن نتواصل مع الله، بل نتواصل مع أهل البيت (ع)، لأن الله ولاّهم على الكون؟؟ هذا المنطق يرفضه أهل البيت (ع)، من المؤكد أن لهم الشفاعة، ولكنّهم لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى الله له الشفاعة، وقد حدّثنا الله تعالى في القرآن الكريم عن لسان النبي (ص): {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء} (الأعراف/188)، {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} (هود/31)، والله هو الذي يرزق وينصر ويشفي ويعطي، ونحن نتوسّل بأهل البيت والأنبياء لأن الله تعالى جعل لهم ذلك، هم واسطة في الهداية. لذلك يطلب الإمام الباقر (ع) من شيعته أن يكونوا في خط التوازن والاعتدال، يقول (ع):

«يا معشر الشيعة، شيعة آل محمَّد، كونوا النمرقة الوسطى ـ وهي الوسادة غير المرتفعة وغير المنخفضة، بحيث تنام وترتاح عليها، بمعنى لا تكونوا غلاةً ولا تكونوا جاحدين ومنكرين ـ يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي»، فقال له رجل من الأنصار يقال له "سعد": جُعلت فداك، ما الغالي؟ قال (ع): «قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منا ولسنا منهم» ـ الله تعالى جعلهم المصطفين الأخيار والهداة، ولكن كل شيء هو من الله تعالى ـ فقال: وما التالي؟ قال (ع): «المرتاد، يريد الخير، يبلغه الخير ويوجر عليه»، يقول: ثم أقبل الإمام الباقر (ع) علينا وهو يقول: «والله ما معنا براءة من النار ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجة، ولا نتقرّب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لا تنفعه ولايتنا، ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا».

وفي جانب آخر، نلاحظ كيف يتعامل المسلمون _ والشيعة بشكل خاص _ مع بعضهم بعضاً، وقد سأل الإمام رجلاً عمّن خلّف من إخوانه، فأجابه بحسن الثناء والتزكية والإطراء، فقال: «كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم»؟ قال: قليلة. قال: «وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم»؟ قال: قليلة. قال: «كيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم»؟ فقال: إنك تذكر أخلاقاً قلّ ما هي فيمن عندنا!! فقال (ع): «فكيف تزعم عن هؤلاء أنهم من الشيعة»؟ وعن الإمام الصادق (ع): «معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، احفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»، وعن الإمام الصادق (ع): «يا شيعة آل محمد، إنه ليس منا من لم يملك نفسه عند الغضب، ولم يحسن صحبة من صاحبه، ومرافقة من رافقه، ومصالحة من صالحه، ومخالقة من خالقه».

ونقرأ عن الإمام الباقر (ع) في رسالة إلى بعض شيعته عبر أحد أصحابه يقال له "خيثمة"، قال: «أبلغ من ترى من موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإن لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا، يا خيثمة أبلغ موالينا أنّا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بالعمل، وأنهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع، وأن أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره».

أهل البيت(ع): انفتاح على الناس

إنَّ أهل البيت (ع) يريدون أن يجعلوا من المسلمين الملتزمين بخط الإمامة والولاية لهم، النموذج الروحي والفكري والشرعي والأخلاقي الذي ينفتح على الناس ويعيش معهم، من أجل أن يبذل كل طاقاته في سبيل الخير والعدل والحق. وعلى ضوء هذا، فإننا نستوحي من كلّ هذا الكلام، أنَّ على كلِّ هؤلاء أن يعيشوا الأخوّة الإسلامية والإيمانية، أن لا يحقد بعضهم على بعض لمجرد اختلاف عائلي أو شخصي أو حزبي هنا وهناك، لأنّ الذين يتحرّكون من أجل أن يزرعوا الأحقاد في نفوس المسلمين، ولا سيّما المسلمين السائرين في خط الأئمة من أهل البيت (ع)، وذلك لاختلافهم سياسياً أو حزبياً أو عائلياً، فإنهم يخونون الله والرسول، ويخونون أماناتهم حتى لو هتفوا باسم الإسلام والتشيّع، لأنّ الله تعالى يريد للمسلمين أن يردُّوا أيّ خلاف بينهم إليه سبحانه وإلى الرسول، أن لا نردّه إلى الظالمين والمستكبرين، أن يكون الله ورسوله والهداة من أئمة أهل البيت، هم القاعدة التي نرجع إليها في ما نختلف فيه، أن لا ننسى ربنا عندما نعيش في واقع اجتماعي أو سياسي نختلف فيه، أن لا ننسى ربَّنا ونبيّنا وأئمتنا وإسلامنا، لأن الذين ينسون الله ورسوله وأولياءه، فإن معنى ذلك أنهم يخرجون من الإسلام عملياً، وإن هتفوا بالإسلام كلامياً وشعاراتياً.

لنرجع إلى عليّ (ع) ولنلتفّ حوله، وهو الذي أعطى رسول الله والإسلام كل شيء، لنرجع إلى الحسن والحسين والأئمة (ع) الذين ضحوا من أجل الإسلام والمسلمين كلهم، لا تلتفتوا إلى من يريد أن يثير الفتنة وينشر الحقد والبغضاء فيما بينكم، لأن معنى أن نكون شيعةً لأهل البيت (ع)، أن نكون في خط عليّ والحسن والحسين والأئمة (ع)، وفي خطّ رسول الله (ص)، وأن نقف صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا* واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. لقد قال عليّ (ع) في آخر وصاياه: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً». هذا هو الخط الكبير الذي أراد عليّ أن يكون وصيته الأخيرة، ونحن نعيش في عالم يتحرك فيه الظالمون ليزيدوا ظلم المظلومين، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المحلي، ولذلك علينا أن ننفتح على بعضنا بعضاً، لنرفض الظلم كله من أيّ شخص كان، ونؤمن بالعدل كله في كل مواقعنا، لأن القضية تتصل بدنيانا وآخرتنا وبمسؤوليتنا أمام الله.

ونحن نواجه في كلِّ يوم وأسبوع هؤلاء الطغاة والمستكبرين الذين يلتقون مع بعضهم بعضاً في مجلس أمن هنا وقمة للـ"كبار" هناك، من أجل أن يخططوا كيف يصادرون قضايانا ومصادر قوتنا، من أجل أن نكون خاضعين للضغوط التي يفرضونها علينا، فتعالوا لنرى ماذا هناك في المنطقة والعالم بما يتصل بالمشاكل الكبرى التي تعيش في الواقع الإسلامي والمستضعف:

العراق: وهم السيادة

لا يزال العراق الجرح الكبير في حياة شعبه وفي جسد الأمة كلها، من حيث تطلّعه إلى الحرية والسيادة والاستقلال وإرادته في تقرير المصير.. ولكن المشكلة هي أن أمريكا لا تزال تملك الوضع الأمني كله كقائدة للقوات المتعددة الجنسيات، التي تحولت من قوات احتلال إلى قوات "شرعية" بفعل قرار مجلس الأمن، على أساس معاهدة مع الحكومة العراقية الجديدة التي لا تملك أية شرعية وطنية، لأنها لم تُنتخب من الشعب بل عُيّنت من الإدارة الأمريكية، بمساعدة المندوب الاستشاري للأمين العام للأمم المتحدة، في التحضير لدور سياديّ لا يملك أية قوة عسكرية وأمنية وإدارية ذاتية، بل الأمر كله بيد الدولة القائدة في فرض الأمن، واختيار مواقعه بكل حرية في خطوط مصالحها الاستراتيجية في العراق والمنطقة، بعيداً عن أيّ اعتراض أو رفض سيادي من الحكومة العراقية في اختيار المواقع والساحات والوسائل، بل هو التشاور الذي لا يملك أحد طرفيه أية قوة فاعلة..

إنَّ هناك أكثر من بند في القرار الجماعي في مجلس الأمن قد يصفّق له الكثيرون في دلالاته التي تحمل أكثر من تفسير للموالين والمعارضين، من خلال غموضه النظري والتطبيقي، لأن الصياغة الضبابية كانت تريد إرضاء المعترضين من الدول ليكون القرار إجماعياً يخدم موقع الرئيس الأمريكي في الانتخابات الرئاسية القادمة..

إننا نتطلّع ـ مع كلِّ الذين يعيشون الاهتمام بقضية هذا الشعب المنكوب ـ إلى أن يصبح العراق في المستقبل حراً سيّداً مستقلاً آمناً، يملك قراره في تقرير مصيره وفي علاقاته الدولية، ولكن لا بد له من أن يواجه الموقف بأعمق حالات الحذر..

إننا نخشى من أن تخطط الدول الاستكبارية ليكون العراق على صورة مصالحها وعلى هامش مصالحها، الأمر الذي يفرض الوعي الدقيق لكل الخطوط الدولية والإقليمية التي حوّلته إلى ساحة متنوّعة للحرب ضد ما يسمّى الإرهاب، أو لترتيب المنطقة من خلال ذلك..

والسؤال: كيف ينظر العراقيون إلى التجربة الجديدة التي قد تتحوّل إلى تجربة دائمة في الأشخاص والأوضاع والقرارات؟ وكيف هو شكل السيادة "الحزيرانية" من دون قوة ذاتية فاعلة؟ والجواب لدى المستقبل الذي نرجو أن يحفل بالتفاؤل، لا أن يبقى بين التشاؤم والتفاؤل، كما هي قضايا المنطقة التي تضج بالاهتزازات والمتغيّرات القادمة، في أحاديث الإصلاح والتطوير والحريات وحقوق الإنسان، من خلال تخطيط الآخرين الذين يملكون القرار كله للشرق الأوسط، في لعبة الشطرنج السياسي الذي تخضع له أكثر الأنظمة من خلال مسؤوليها، ولكن باسم أنهم هم الذين يغيّرون من الداخل المفتوح على أكثر من ثغرة في الخارج..

وهذا ما لاحظناه في قمة الثماني التي تحدثت عن الشراكة بيننا وبينهم، وعن عناوين استهلاكية كثيرة يجذبنا بريقها، وتخدّرنا عناوينها، ويفترسنا كل الواقع الذي يختفي في داخلها، ولا سيما أنهم يحدثوننا عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي يلعبون فيه بكل مستقبل الشعب الفلسطيني لحساب إسرائيل، من دون أن يتقدّموا خطوةً واحدة نحو خريطة الطريق التي تحوّلت حبراً باهتاً على ورق ممزّق، لأن الانتخابات الأمريكية تمنع الرئيس المرشّح وإدارته من أيّ عمل فاعل.. إن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، فما بالنا نضع أصابعنا في الجحر الذي لُدغنا منه آلاف المرات بكل قضايانا؟؟

فلسطين: خطط خادعة لتطويق المجاهدين

أما فلسطين، فلا تزال تتحرك عربياً ودولياً في الدائرة الضيّقة في الخطة الضبابية الخادعة التي يحركها "شارون" في خطة الانسحاب من غزة، التي لا تُعرف معالمها ولا طبيعتها بشكل حاسم وواضح، ولا سيما أنها تعيش في الجدل الداخلي في الحكومة الصهيونية بعيداً عن الشعب الفلسطيني الذي يُراد له أن يتقبّل ما يُرسم له من مستقبل أمريكي ـ صهيوني..

وهذا هو الذي بدأ يتحرك في الدائرة العربية في ضمان الأمن الصهيوني في غزة ـ بعد الانسحاب منها ـ أو في الضفة الغربية في تعقيدات غامضة.. وتبقى القضية الفلسطينية في خطوط الجانب الأمني، خارج الخط السياسي، وفي مشروع الحرب ضد الإرهاب.. وتستمر الاغتيالات والاعتقالات والمداهمات والحصار وتدمير البيوت، ويستمر بناء الجدار العنصري الذي لم يعد يذكره أحد، ويُمنع المجاهدون ـ عربياً ودولياً ـ من الرد الجهادي تحت طائلة تهمة الإرهاب..

ومن المفارقات أن الدول الثماني تتحدث عن مواجهة أسلحة الدمار الشامل، لتثير التساؤل حول سوريا وإيران اللتين تعلنان خلوّهما منها، وابتعادهما عن التخطيط لإنتاجها، بينما تعرف هذه الدول أن إسرائيل تملك ترسانة كبيرة من السلاح النووي والكيميائي والبيولوجي، من دون أن تسمح لأحد ـ حتى لوكالة الطاقة النووية ـ بالحديث عنها في أيّ مشروع رقابي أو رفضي، لأن ما يجوز لإسرائيل أمريكياً ودولياً لا يجوز لغيرها!!

لبنان: أزمة المديونية والسجالات

أما في لبنان الذي يطلُّ على أزمة المديونية من باب الجحيم الاقتصادي، ويبشّر الكثيرون فيه بموسم صيف حار على وقع التعتيم الذي يتهدده جراء الأزمة المتصاعدة في مسألة الكهرباء وأسعار المحروقات وما إلى ذلك.. بالإضافة إلى السجال السياسي الذي لا ينتهي، ويبقى بعيداً عن ملامح التخطيط..

لبنان هذا أصبح عرضة ليس للمخاطر الاقتصادية واللااستقرار السياسي فحسب، بل حتى للاختراقات الأمنية من قِبَل العدو التي زادت في الآونة الأخيرة، في الخروقات الجوية الصهيونية والاعتداءات التي طاولت أكثر من منطقة في الجنوب، وفي التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة وآخرها تهديد رئيس أركان جيش العدو وما يسمّى بقائد المنطقة الشمالية لسوريا ولبنان، وتهديد "نتنياهو" بضرب البنى التحتية المائية والكهربائية وغيرهما.. ولكن تبقى المقاومة في ردّها المتوازن على اعتداءات العدو وتهديداته باللغة التي يفهمها، تؤكد استمرار توازن الرعب معه بما لا يتيح له التمادي في عدوانه.

لأن التشيع خط للفكر والعمل: لنكن في خط رسول الله (ص) وأهل البيت (ع)


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

أهل البيت(ع): تأكيد الدعوة الإسلامية:

كان لأهل البيت (ع) خلال مسيرتهم خطّة تثقيفية يبثون فيها التوعية ويركزون فيها على الإسلام، على أساس صنع فريق من المسلمين يلتزم فكرهم وخطهم وروحانيتهم، في الانفتاح على موقعهم القيادي بما تمثّله الإمامة من موقع قيادي، كانوا (ع) يتحرّكون في تأكيد الدعوة الإسلامية التي انطلق بها رسول الله (ص) وتحرك معه في بداية البدايات عليّ (ع)، الذي رشف الإسلام قبل أن يبعث الله تعالى رسوله بالإسلام؛ رشفه من شفتي رسول الله (ص)، ومن كل هذا الينبوع المتدفق روحانيةً وأخلاقيةً وتأملات تنفتح على معرفة الله تعالى، وهكذا ترعرع وعاش في حضنه وفي بيته، وكان معه في مسجده فكان أول من صلّى معه، ولازمه في دعوته، وحمل معه أماناته التي ائتمنه فيها على أن يرجعها إلى أصحابها، وكان معه في ليلة هجرته وبات على فراشه ليغطي انسحابه، ثم انطلق معه في حربه، فكان فارس "بدر" وأحد" و"الأحزاب" و"حنين" و"خيبر"، وكان معه في تربيته وتعليمه للناس.

ولذلك، كان عليّ (ع) نفس رسول الله (ص)، كان عقله من عقله وعلمه من علمه وحركيته في الإسلام من حركيته، وكان يقول وهو يقضي الليل والنهار: «علّمني رسول الله ألف باب من العلم، فُتح لي من كل باب ألف باب». ولذلك، كان عليّ (ع) هو الشخصيّة الوحيدة المؤهّلة للقيادة من بين المسلمين، لأنه كان يجمع الإسلام كله في عقله وروحه وقلبه، وكما قال "الخليل بن أحمد الفراهيدي" عندما سئل: لم قدّمت عليّاً؟ فقال: «احتياج الكل إليه، واستغناؤه عن الكل، دليل أنه إمام الكل». وقد قال بعض الخلفاء الذين تقدّموه: «قضية ولا أبو الحسن لها»، والكل يروي: «لولا عليّ لهلك عمر».

التشيّع: الإسلام المنفتح الأصيل:

وهكذا، نشأ التشيّع، لم ينشأ ليكون فريقاً غير فريق الإسلام، لأن علياً (ع) ليس لديه إلا الإسلام، وأبناء عليّ من الأئمة (ع) ليس لديهم إلا الإسلام، الإسلام الحيّ المنفتح الأصيل الذي تضحي قيادته بكل الأشياء في سبيل أن يسلم الإسلام والمسلمون، وهذا ما جاء في كتابه لأهل مصر: «فخشيت إن أنا لم أنصر الإسلام وأهله، أن أرى فيه ثلماً أو هدماً تكون المصيبة به عليّ أعظم من فوت ولايتكم هذه، التي إنما هي متاع أيام قلائل»، وقال: «لأسلمنَّ ـ أو لأسالمن ـ ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليَّ خاصّة». كان (ع) يحدّق بالإسلام ليحميه ويحفظه، فكان يعمل بقوة لتأكيد التجربة الإسلامية الأصيلة، بحيث كان يشعر وهو يسير داخل الخلافة وخارجها، أنَّ رسول الله (ص) في عقله يحدّثه، وأنه ينبض في قلبه وفي حركته، فارقه رسول الله (ص)، فغسّله وكفّنه ودفنه، ولكنه بقي معه، لأنه عاش رسول الله كما لم يعشه أحد، وعرفه كما لم يعرفه أحد، واندمج في روح رسول الله (ص) كما لم يندمج فيه أحد.

لذلك، كان مع عليّ (ع) في بداية هذا البناء الإسلامي الأصيل في خط التشيّع سلمان وأبو ذر والمقداد وعمّار، وكان معه الحسن والحسين (ع)، وانطلقت المسيرة، وانطلق معه هؤلاء الذين أعطوا كل حياتهم للإسلام، وعندما أُريد لهم أن يتبرأوا من عليّ وإلا قتلهم معاوية، رفضوا ذلك، وقد قال عليّ (ع): «ستدعون إلى سبّي والبراءة مني، أما السبّ فسبّوني فإنه لي زكاة ولكم نجاة، وأما البراءة فلا تتبرأوا مني، فإني وُلدت على الفطرة وسبقت إلى الإسلام والهجرة». لا تتبرأوا من عليّ، لأن البراءة من عليّ هي براءة من الإسلام، لأن علياً يمثل التجسيد الحيّ للإسلام، ولذلك انطلق التشيّع لا ليكون عنواناً آخر غير الإسلام، ولكن انطلق ليكون العمق الفكري والروحي والحركي والأخلاقي والشرعي للإسلام كله.

ولهذا، فإن أئمة أهل البيت (ع) أكَّدوا أن مسألة التشيّع ليست حباً ساذجاً، ليست مجرد خفقة قلب، أن تقول أحبّ عليّاً وتأخذ حريتك مع كلِّ الذين حاربهم عليّ؟! لقد حارب عليّ (ع) الظالمين والكافرين والمتمردين على الله، فكيف تحبّ عليّاً وأنت تؤيّد كل أولئك أو تدعمهم أو تسير معهم، وكأنك وفّيت قسطك للعلى، لأن البعض قال لك: حبّ عليّ حسنة لا يضر معها شيء؟ عليّ عانى ما عانى من أجل الإسلام، والأئمة من بعده أكدوا ذلك. فالتشيّع إذاً خط للفكر بأن يكون فكرك فكر الحق في خط الإسلام، والتشيّع خط للعاطفة بأن تكون عاطفتك ممزوجة بالإسلام، والتشيّع خط للعمل بأن يكون عملك منفتحاً على الإسلام كله. واستمعوا إلى الإمام الباقر (ع) في حديثٍ سمعتموه كثيراً منّي، ولكن تأمَّلوا فيه وهو يخاطب جابر، وليعرف كل واحد منا هل هو شيعي، يقول (ع):

«يا جابر، أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول بحبنا أهل البيت، فوالله ما شيعتنا إلا من اتقى الله وأطاعه، وما كانوا يُعرفون يا جابر إلا بالتواضع والتخشّع لله والأمانة وكثرة ذكر الله، والصوم والصلاة والبرّ بالوالدين والتعاهد للجيران من الفقراء وأهل المسكنة والغارمين والأيتام، وصدق الحديث وتلاوة القرآن وكفّ الألسن عن الناس إلا من خير ـ فلا تتكلم على الناس ولا تسبّ ولا تلعن، وقد قال الإمام الصادق (ع): «ما أيسر ما قبل الناس منكم، كفّوا ألسنتكم عن الناس" ـ وكانوا أمناء عشائرهم في الأشياء»، قال جابر: قلت: يا بن رسول الله، ما نعرف اليوم أحداً بهذه الصفة!! فقال (ع): «يا جابر، لا تذهبنَّ بك المذاهب، حسب الرجل أن يقول أحبّ علياً وأتولاه، ثم لا يكون فعّالاً، فلو قال إني أحبّ رسول الله، فرسول الله خير من عليّ، ثم لا يتبع سيرته ولا يعمل بسنّته، ما نفعه حبه إياه شيئاً. فاتقوا الله واعملوا لما عند الله، ليس بين الله وبين أحد قرابة، أحبّ العباد إلى الله عزّ وجلّ وأكرمهم عليه أتقاهم وأعملهم بطاعته. يا جابر، والله ما يُتقرّب إلى الله تبارك وتعالى إلا بالطاعة، وما معنا براءة من النار، ولا على الله لأحد من حجة، من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، وما تُنال ولايتنا إلا بالعمل والورع».

ونلاحظ أن الإمام الباقر (ع) يركز الخطّ الوسطي للتشيّع، لأن بعض الناس يدّعون محبة أهل البيت (ع) ويصل بهم، الأمر لى أن يجعلوا أهل البيت (ع) في درجة قريبة من الله، فيبتعدون بذلك عن معنى العبودية لله، وكثيراً ما نسمعها هذه الأيام من الذين يقولون لك: لا تدعُ الله فأهل البيت هم الذين يرزقون ويميتون ويحيون ويقضون الحوائج، لأننا ـ بحسب دعوى هؤلاء ـ لا نستطيع أن نتواصل مع الله، بل نتواصل مع أهل البيت (ع)، لأن الله ولاّهم على الكون؟؟ هذا المنطق يرفضه أهل البيت (ع)، من المؤكد أن لهم الشفاعة، ولكنّهم لا يشفعون إلاّ لمن ارتضى الله له الشفاعة، وقد حدّثنا الله تعالى في القرآن الكريم عن لسان النبي (ص): {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء} (الأعراف/188)، {ولا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول إني ملك} (هود/31)، والله هو الذي يرزق وينصر ويشفي ويعطي، ونحن نتوسّل بأهل البيت والأنبياء لأن الله تعالى جعل لهم ذلك، هم واسطة في الهداية. لذلك يطلب الإمام الباقر (ع) من شيعته أن يكونوا في خط التوازن والاعتدال، يقول (ع):

«يا معشر الشيعة، شيعة آل محمَّد، كونوا النمرقة الوسطى ـ وهي الوسادة غير المرتفعة وغير المنخفضة، بحيث تنام وترتاح عليها، بمعنى لا تكونوا غلاةً ولا تكونوا جاحدين ومنكرين ـ يرجع إليكم الغالي ويلحق بكم التالي»، فقال له رجل من الأنصار يقال له "سعد": جُعلت فداك، ما الغالي؟ قال (ع): «قوم يقولون فينا ما لا نقوله في أنفسنا، فليس أولئك منا ولسنا منهم» ـ الله تعالى جعلهم المصطفين الأخيار والهداة، ولكن كل شيء هو من الله تعالى ـ فقال: وما التالي؟ قال (ع): «المرتاد، يريد الخير، يبلغه الخير ويوجر عليه»، يقول: ثم أقبل الإمام الباقر (ع) علينا وهو يقول: «والله ما معنا براءة من النار ولا بيننا وبين الله قرابة، ولا لنا على الله حجة، ولا نتقرّب إلى الله إلا بالطاعة، فمن كان منكم مطيعاً لله تنفعه ولايتنا، ومن كان منكم عاصياً لله لا تنفعه ولايتنا، ويحكم لا تغتروا، ويحكم لا تغتروا».

وفي جانب آخر، نلاحظ كيف يتعامل المسلمون _ والشيعة بشكل خاص _ مع بعضهم بعضاً، وقد سأل الإمام رجلاً عمّن خلّف من إخوانه، فأجابه بحسن الثناء والتزكية والإطراء، فقال: «كيف عيادة أغنيائهم على فقرائهم»؟ قال: قليلة. قال: «وكيف مشاهدة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم»؟ قال: قليلة. قال: «كيف صلة أغنيائهم لفقرائهم في ذات أيديهم»؟ فقال: إنك تذكر أخلاقاً قلّ ما هي فيمن عندنا!! فقال (ع): «فكيف تزعم عن هؤلاء أنهم من الشيعة»؟ وعن الإمام الصادق (ع): «معاشر الشيعة، كونوا لنا زيناً، ولا تكونوا علينا شيناً، قولوا للناس حسناً، احفظوا ألسنتكم وكفّوها عن الفضول وقبيح القول»، وعن الإمام الصادق (ع): «يا شيعة آل محمد، إنه ليس منا من لم يملك نفسه عند الغضب، ولم يحسن صحبة من صاحبه، ومرافقة من رافقه، ومصالحة من صالحه، ومخالقة من خالقه».

ونقرأ عن الإمام الباقر (ع) في رسالة إلى بعض شيعته عبر أحد أصحابه يقال له "خيثمة"، قال: «أبلغ من ترى من موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيّهم على فقيرهم وقويّهم على ضعيفهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإن لقيا بعضهم بعضاً حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا، يا خيثمة أبلغ موالينا أنّا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلا بالعمل، وأنهم لن ينالوا ولايتنا إلا بالورع، وأن أشدّ الناس حسرةً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره».

أهل البيت(ع): انفتاح على الناس

إنَّ أهل البيت (ع) يريدون أن يجعلوا من المسلمين الملتزمين بخط الإمامة والولاية لهم، النموذج الروحي والفكري والشرعي والأخلاقي الذي ينفتح على الناس ويعيش معهم، من أجل أن يبذل كل طاقاته في سبيل الخير والعدل والحق. وعلى ضوء هذا، فإننا نستوحي من كلّ هذا الكلام، أنَّ على كلِّ هؤلاء أن يعيشوا الأخوّة الإسلامية والإيمانية، أن لا يحقد بعضهم على بعض لمجرد اختلاف عائلي أو شخصي أو حزبي هنا وهناك، لأنّ الذين يتحرّكون من أجل أن يزرعوا الأحقاد في نفوس المسلمين، ولا سيّما المسلمين السائرين في خط الأئمة من أهل البيت (ع)، وذلك لاختلافهم سياسياً أو حزبياً أو عائلياً، فإنهم يخونون الله والرسول، ويخونون أماناتهم حتى لو هتفوا باسم الإسلام والتشيّع، لأنّ الله تعالى يريد للمسلمين أن يردُّوا أيّ خلاف بينهم إليه سبحانه وإلى الرسول، أن لا نردّه إلى الظالمين والمستكبرين، أن يكون الله ورسوله والهداة من أئمة أهل البيت، هم القاعدة التي نرجع إليها في ما نختلف فيه، أن لا ننسى ربنا عندما نعيش في واقع اجتماعي أو سياسي نختلف فيه، أن لا ننسى ربَّنا ونبيّنا وأئمتنا وإسلامنا، لأن الذين ينسون الله ورسوله وأولياءه، فإن معنى ذلك أنهم يخرجون من الإسلام عملياً، وإن هتفوا بالإسلام كلامياً وشعاراتياً.

لنرجع إلى عليّ (ع) ولنلتفّ حوله، وهو الذي أعطى رسول الله والإسلام كل شيء، لنرجع إلى الحسن والحسين والأئمة (ع) الذين ضحوا من أجل الإسلام والمسلمين كلهم، لا تلتفتوا إلى من يريد أن يثير الفتنة وينشر الحقد والبغضاء فيما بينكم، لأن معنى أن نكون شيعةً لأهل البيت (ع)، أن نكون في خط عليّ والحسن والحسين والأئمة (ع)، وفي خطّ رسول الله (ص)، وأن نقف صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، اللهم هل بلغت؟ اللهم فاشهد.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله حق تقاته ولا تموتنّ إلا وأنتم مسلمون، {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا* واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألّف بين قلوبكم وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها}. لقد قال عليّ (ع) في آخر وصاياه: «كونا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً». هذا هو الخط الكبير الذي أراد عليّ أن يكون وصيته الأخيرة، ونحن نعيش في عالم يتحرك فيه الظالمون ليزيدوا ظلم المظلومين، سواء على المستوى الدولي أو الإقليمي أو المحلي، ولذلك علينا أن ننفتح على بعضنا بعضاً، لنرفض الظلم كله من أيّ شخص كان، ونؤمن بالعدل كله في كل مواقعنا، لأن القضية تتصل بدنيانا وآخرتنا وبمسؤوليتنا أمام الله.

ونحن نواجه في كلِّ يوم وأسبوع هؤلاء الطغاة والمستكبرين الذين يلتقون مع بعضهم بعضاً في مجلس أمن هنا وقمة للـ"كبار" هناك، من أجل أن يخططوا كيف يصادرون قضايانا ومصادر قوتنا، من أجل أن نكون خاضعين للضغوط التي يفرضونها علينا، فتعالوا لنرى ماذا هناك في المنطقة والعالم بما يتصل بالمشاكل الكبرى التي تعيش في الواقع الإسلامي والمستضعف:

العراق: وهم السيادة

لا يزال العراق الجرح الكبير في حياة شعبه وفي جسد الأمة كلها، من حيث تطلّعه إلى الحرية والسيادة والاستقلال وإرادته في تقرير المصير.. ولكن المشكلة هي أن أمريكا لا تزال تملك الوضع الأمني كله كقائدة للقوات المتعددة الجنسيات، التي تحولت من قوات احتلال إلى قوات "شرعية" بفعل قرار مجلس الأمن، على أساس معاهدة مع الحكومة العراقية الجديدة التي لا تملك أية شرعية وطنية، لأنها لم تُنتخب من الشعب بل عُيّنت من الإدارة الأمريكية، بمساعدة المندوب الاستشاري للأمين العام للأمم المتحدة، في التحضير لدور سياديّ لا يملك أية قوة عسكرية وأمنية وإدارية ذاتية، بل الأمر كله بيد الدولة القائدة في فرض الأمن، واختيار مواقعه بكل حرية في خطوط مصالحها الاستراتيجية في العراق والمنطقة، بعيداً عن أيّ اعتراض أو رفض سيادي من الحكومة العراقية في اختيار المواقع والساحات والوسائل، بل هو التشاور الذي لا يملك أحد طرفيه أية قوة فاعلة..

إنَّ هناك أكثر من بند في القرار الجماعي في مجلس الأمن قد يصفّق له الكثيرون في دلالاته التي تحمل أكثر من تفسير للموالين والمعارضين، من خلال غموضه النظري والتطبيقي، لأن الصياغة الضبابية كانت تريد إرضاء المعترضين من الدول ليكون القرار إجماعياً يخدم موقع الرئيس الأمريكي في الانتخابات الرئاسية القادمة..

إننا نتطلّع ـ مع كلِّ الذين يعيشون الاهتمام بقضية هذا الشعب المنكوب ـ إلى أن يصبح العراق في المستقبل حراً سيّداً مستقلاً آمناً، يملك قراره في تقرير مصيره وفي علاقاته الدولية، ولكن لا بد له من أن يواجه الموقف بأعمق حالات الحذر..

إننا نخشى من أن تخطط الدول الاستكبارية ليكون العراق على صورة مصالحها وعلى هامش مصالحها، الأمر الذي يفرض الوعي الدقيق لكل الخطوط الدولية والإقليمية التي حوّلته إلى ساحة متنوّعة للحرب ضد ما يسمّى الإرهاب، أو لترتيب المنطقة من خلال ذلك..

والسؤال: كيف ينظر العراقيون إلى التجربة الجديدة التي قد تتحوّل إلى تجربة دائمة في الأشخاص والأوضاع والقرارات؟ وكيف هو شكل السيادة "الحزيرانية" من دون قوة ذاتية فاعلة؟ والجواب لدى المستقبل الذي نرجو أن يحفل بالتفاؤل، لا أن يبقى بين التشاؤم والتفاؤل، كما هي قضايا المنطقة التي تضج بالاهتزازات والمتغيّرات القادمة، في أحاديث الإصلاح والتطوير والحريات وحقوق الإنسان، من خلال تخطيط الآخرين الذين يملكون القرار كله للشرق الأوسط، في لعبة الشطرنج السياسي الذي تخضع له أكثر الأنظمة من خلال مسؤوليها، ولكن باسم أنهم هم الذين يغيّرون من الداخل المفتوح على أكثر من ثغرة في الخارج..

وهذا ما لاحظناه في قمة الثماني التي تحدثت عن الشراكة بيننا وبينهم، وعن عناوين استهلاكية كثيرة يجذبنا بريقها، وتخدّرنا عناوينها، ويفترسنا كل الواقع الذي يختفي في داخلها، ولا سيما أنهم يحدثوننا عن الصراع العربي ـ الإسرائيلي الذي يلعبون فيه بكل مستقبل الشعب الفلسطيني لحساب إسرائيل، من دون أن يتقدّموا خطوةً واحدة نحو خريطة الطريق التي تحوّلت حبراً باهتاً على ورق ممزّق، لأن الانتخابات الأمريكية تمنع الرئيس المرشّح وإدارته من أيّ عمل فاعل.. إن المؤمن لا يُلدغ من جحر مرتين، فما بالنا نضع أصابعنا في الجحر الذي لُدغنا منه آلاف المرات بكل قضايانا؟؟

فلسطين: خطط خادعة لتطويق المجاهدين

أما فلسطين، فلا تزال تتحرك عربياً ودولياً في الدائرة الضيّقة في الخطة الضبابية الخادعة التي يحركها "شارون" في خطة الانسحاب من غزة، التي لا تُعرف معالمها ولا طبيعتها بشكل حاسم وواضح، ولا سيما أنها تعيش في الجدل الداخلي في الحكومة الصهيونية بعيداً عن الشعب الفلسطيني الذي يُراد له أن يتقبّل ما يُرسم له من مستقبل أمريكي ـ صهيوني..

وهذا هو الذي بدأ يتحرك في الدائرة العربية في ضمان الأمن الصهيوني في غزة ـ بعد الانسحاب منها ـ أو في الضفة الغربية في تعقيدات غامضة.. وتبقى القضية الفلسطينية في خطوط الجانب الأمني، خارج الخط السياسي، وفي مشروع الحرب ضد الإرهاب.. وتستمر الاغتيالات والاعتقالات والمداهمات والحصار وتدمير البيوت، ويستمر بناء الجدار العنصري الذي لم يعد يذكره أحد، ويُمنع المجاهدون ـ عربياً ودولياً ـ من الرد الجهادي تحت طائلة تهمة الإرهاب..

ومن المفارقات أن الدول الثماني تتحدث عن مواجهة أسلحة الدمار الشامل، لتثير التساؤل حول سوريا وإيران اللتين تعلنان خلوّهما منها، وابتعادهما عن التخطيط لإنتاجها، بينما تعرف هذه الدول أن إسرائيل تملك ترسانة كبيرة من السلاح النووي والكيميائي والبيولوجي، من دون أن تسمح لأحد ـ حتى لوكالة الطاقة النووية ـ بالحديث عنها في أيّ مشروع رقابي أو رفضي، لأن ما يجوز لإسرائيل أمريكياً ودولياً لا يجوز لغيرها!!

لبنان: أزمة المديونية والسجالات

أما في لبنان الذي يطلُّ على أزمة المديونية من باب الجحيم الاقتصادي، ويبشّر الكثيرون فيه بموسم صيف حار على وقع التعتيم الذي يتهدده جراء الأزمة المتصاعدة في مسألة الكهرباء وأسعار المحروقات وما إلى ذلك.. بالإضافة إلى السجال السياسي الذي لا ينتهي، ويبقى بعيداً عن ملامح التخطيط..

لبنان هذا أصبح عرضة ليس للمخاطر الاقتصادية واللااستقرار السياسي فحسب، بل حتى للاختراقات الأمنية من قِبَل العدو التي زادت في الآونة الأخيرة، في الخروقات الجوية الصهيونية والاعتداءات التي طاولت أكثر من منطقة في الجنوب، وفي التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة وآخرها تهديد رئيس أركان جيش العدو وما يسمّى بقائد المنطقة الشمالية لسوريا ولبنان، وتهديد "نتنياهو" بضرب البنى التحتية المائية والكهربائية وغيرهما.. ولكن تبقى المقاومة في ردّها المتوازن على اعتداءات العدو وتهديداته باللغة التي يفهمها، تؤكد استمرار توازن الرعب معه بما لا يتيح له التمادي في عدوانه.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية