ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
الصدق قيمة أخلاقية روحية...
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، ويقول سبحانه وهو يتحدث عن يوم القيامة: {قال الله هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبداً رضي الله عنهم ورضوا عنه ذلك الفوز العظيم}، ويقول تعالى عن المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله عندما عاهدوه أن تكون كلُّ حياتهم في سبيل الإخلاص له ولدينه ولكل ما يحبّه ويرضاه في الحياة: {من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا* ليجزي الله الصادقين بصدقهم ويعذّب المنافقين إن شاء أو يتوب عليهم إنَّ الله كان غفوراً رحيماً}. ويتحدث الله تعالى عن المهاجرين الذين هاجروا مع النبي (ص) فراراً بدينهم ونصرةً للإسلام وللرسول: {للفقراء المهاجرين الذين أُخرجوا من ديارهم وأموالهم يبتغون فضلاً من الله ورضواناً وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون}.
هذه الآيات الكريمة تؤكد الصدق كقيمة إسلامية أخلاقية روحية عملية حركية، يريد الله للناس أن يعيشوها في كل وجدانهم، فيكونون الصادقين في إيمانهم وكلامهم وأعمالهم ومواقفهم وعقودهم وعهودهم، لأن الصدق هو الذي يعطي الحياة الوضوح، باعتبار أنه يكشف لك عن واقع الأمور، فبه تعرف كيف يفكر الناس عندما يتحدثون عن فكرهم، وكيف يخططون عندما يتحدثون عن مخططاتهم، وكيف يتحركون عندما يتحدثون عن الأحداث التي تمر عليهم وعن المشاعر والعواطف التي يحملونها لبعضهم بعضاً.
إن الصدق عندما يكون الطابع العام لحركة الناس في الحياة، فإنه يعطيهم الوضوح والإحساس بأنهم يتحركون في نور لا في ظلام، بينما الكذب الذي يمثل الكلمة أو الموقف أو العهد أو الوعد الذي يطمس حقيقة الأمور، يجعلك تعيش في تخبّط وارتباك لا تدري معه أين تنتهي بك الحركة.
ولعل المشكلة في كثير من الواقع الذي يعيشه الناس، سواء فيما مضى من التاريخ أو في ما يواجهه الناس من الواقع، أن الكذب هو الذي يحركهم في كل قضاياهم، حتى في الحرب والسلم والسياسة والثقافة والاجتماع، فالتاجر يكذب في حديثه عن الأسعار والبضاعة، والسياسي يكذب في ما يعد به الناس من برامج وخطط، والمحارب يكذب في حركته، وهكذا تتحرك المخابرات الدولية والإقليمية والمحلية من أجل أن تصنع الأكاذيب التي تثير فيها الحروب المذهبية والعرقية والاجتماعية. ومن المؤسف أنَّ الكذب تحرك لتكون له شرعيّة عند الكثيرين من الذين قد يحملون عنوان الإيمان والدين، فيبرّرون لأنفسهم الكذب في ما يتحركون به من الألاعيب السياسية، سواء كانت ألاعيب انتخابية أو سياسية أو حزبية، تحت عنوان المصلحة وما إلى ذلك، حتى أصبحت لا تعرف كيف تميّز بين الصدق والكذب، وهذا ما يكثر في أوساط العاملين في السياسة والاجتماع عندما يضعون البرامج التي لا تستطيع أن تفرّق فيها بين الكلمة الكاذبة والكلمة الصادقة، ما يجعل الناس يعيشون الضياع هنا وهناك...
الصدق عنوان رسالات الأنبياء:
لقد أراد الله تعالى للصدق أن يتحرك في حياة الناس، فجعله عنوان رسالات الأنبياء في ما يقابلون به الناس في القضايا السلوكية، يقول الإمام الصادق (ع): «إن الله عزّ وجل لم يبعث نبياً إلا بصدق الحديث وأداء الأمانة إلى البرّ والفاجر»، بحيث كان الصدق هو العنوان الكبير لرسالات الأنبياء، لأن الصدق مقترناً بالأمانة هو الذي يجعل الناس يعيشون الانفتاح على الحقيقة في كلِّ أوضاعهم وأمورهم، ويؤكد الثقة بينهم. وبذلك أراد الإمام الصادق (ع) أن يخرجنا من حالة السذاجة والبساطة في إعطائنا الثقة لبعض الناس، فلا نؤخذ بظواهر الأمور، بل نلج إلى بواطنها وواقعها. يقول (ع): «لا تغتروا بصلاتهم ولا بصيامهم، فإن الرجل ربما لهج بالصلاة والصوم حتى لو تركه استوحش ـ بحيث تحوّلت إلى عادة ـ ولكن اختبروهم عند صدق الحديث وأداء الأمانة»..
وفي حديث عنه (ع) يقول: «من صدق لسانه زكى عمله»، باعتبار أن صدق اللسان إنما ينطلق من قاعدة التقوى. وعن أحد الرواة الذين دخلوا على الإمام الباقر (ع) وطلب منه أن يحدّثه، فقال (ع) له: «تعلّموا الصدق قبل الحديث»، لأن الكثيرين من الناس كانوا يكذبون على رسول الله (ص)، حتى قال: «لقد كثرت الكذابة عليّ، فمن كذب عليّ متعمداً فليتبوّأ مقعده من النار». وعن (أبي كهمس) قال: قلت لأبي عبد الله الصادق (ع): عبد الله بن أبي يعفور يقرئك السلام، فقال (ع): «عليك وعليه السلام، إذا أتيت عبد الله فأقرئه السلام وقل له: إن جعفر بن محمد يقول لك: انظر ما بلغ به عليّ عند رسول الله فالزمه، فإن عليّاً إنما بلغ ما بلغ به عند رسول الله (ص)، بصدق الحديث وأداء الأمانة»، وهذه هي صفات النبي (ص) حتى غلبت صفة «الصادق الأمين» على اسمه.
وعن الإمام الصادق (ع) لـ (فضيل بن يسار): «يا فضيل، إن الصادق أول ما يصدّقه الله عزّ وجلّ ـ من خلال مراقبة الله له في كل كلامه ومواقفه وعهوده ـ وتصدّقه نفسه». وعنه (ع): «إنما سمّي إسماعيل صادق الوعد لأنه وعد رجلاً في مكان فانتظره في ذلك المكان سنة، فسمّاه الله عزّ وجلّ صادق الوعد»، ثم قال (ع): «إن الرجل أتاه بعد ذلك فقال له إسماعيل: ما زلت منتظراً لك».. وفي الحديث عن الإمام الباقر (ع): «إن الرجل ليصدق حتى يكتبه الله صدّيقاً». وعن الصادق (ع): «كونوا دعاةً للناس بالخير بغير ألسنتكم ليروا منكم الاجتهاد والصدق والورع»، فإن الناس إذا رأوا منكم ذلك اتّبعوكم.
إن الله تعالى يريد منا أن نكون الصادقين في مواقفنا وإيماننا وعلاقتنا مع الناس، حتى نجعل مجتمعنا مجتمعاً صادقاً يعيش الوضوح في دينه وفي كل أوضاعه السياسية والاقتصادية والأمنية وما إلى ذلك، وعلينا أن نستمع إلى قول الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين}، ليكون الصادقون في المجتمع الذين يعيشون الصدق في كلماتهم وبرامجهم وعهودهم، هم الذين تلتزمونهم وتؤيدونهم وتساعدونهم من خلال التجربة الحيّة الواعية، لأن في ذلك سلامة الدين والدنيا.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في كلِّ هذه الفتن التي أقبلت كقطع الليل المظلم يزحم بعضها بعضاً، علينا أن نرى مواقع أقدامنا ونتعرّف أهدافنا، ونواجه كلَّ التحدّيات التي يضعها الظالمون والمستكبرون أمامنا، باحتلالهم مواقعنا الإسلامية في فلسطين والعراق، وانتهاكهم مقدّساتنا الدينية والاجتماعية، ومواجهتهم لنا بمجازرهم وممارساتهم القمعية وما إلى ذلك. وهكذا لا نزال ننتقل من مأساة إلى مأساة، فتعالوا لنعرف ماذا هناك:
الانتفاضة: تحطيم العنفوان الإسرائيلي
الوحش الصهيوني يلقي صواريخه المدمِّرة من الطائرات الحربية الأمريكية على السكان، المدنيين الفلسطينيين في غزة بوحشية مجنونة، بعد اجتياح المناطق الآهلة بالسكان بأسلحته المتطوِّرة التي حصدت الأطفال والنساء والشيوخ، وشرّدت كثيراً من العائلات عن بيوتها، باسم مكافحة ما يسمّونه الإرهاب..
ولكنَّ المجاهدين الفلسطينيين واجهوا الموقف ببطولة نوعية متحدية دمّرت آلياتهم العسكرية، وقتلت جنودها المعتدين الذين تطايرت أشلاؤهم في الهواء واختلطت بأشلاء الآليات، ما أدى إلى إلحاق هزيمة عسكرية بالجيش الصهيوني، ونكسة سياسية بحكومة "شارون" الذي لم يستطع ـ حتى الآن ـ أن يمنح الأمن لليهود في كيانه، وللجنود من عسكره، الأمر الذي أدّى إلى حصول ما يشبه الصدمة العنيفة التي تحوّلت إلى رسالة فلسطينية لإسرائيل وأمريكا بأن كلَّ الترسانة الصهيونية لا يمكن أن تسقط إرادة هذا الشعب أو تُضعف مقاومته أو تُتعب حركته، لأن أجيال الشهداء تنتج في كل مرحلة أجيالاً من المجاهدين الذين يتابعون حركة الجهاد من أجل الحرية والاستقلال..
كما هي رسالة إلى القادة العرب، الذين لا يزالون يتنازعون حول القمة العربية في البيان الإنشائي وفي مستوى الحضور وتاريخه، تماماً كما لو كانوا في حالة استرخاء سياسي، في الوقت الذي تعصف فيه الرياح بالواقع العربي كله، أمنياً وسياسياً واقتصادياً.. إنها رسالة فلسطين من كلِّ شعبها إليهم، أنهم إذا كانوا يخافون من عنفوان "شارون" وسطوة "بوش"، فإنَّ المجاهدين الفلسطينيين سوف يُسقطون ذلك العنفوان الشاروني وتلك السطوة الأمريكية، بجهادهم وصمودهم البطولي النادر الذي يصنع تاريخ النصر في مواجهة الوضع الرسمي العربي الذي لا يزال يعيش في أجواء أكثر من هزيمة..
إن قيمة الهجوم الفلسطيني على آليات العدو وجنوده الذين تطايرت أشلاؤهم في الهواء، إنما تكمن في أنه يمثل تطاير أشلاء الاحتلال في حركة عاصفة الجهاد والصمود، واهتزاز الوضع السياسي للعدو، وسقوط عنفوانه، وفقدان توازنه النفسي، وانكشاف الأكذوبة الأمريكية ـ الإسرائيلية في شعار "الحرب ضد الإرهاب".. إننا نحيي أبطالنا المجاهدين في فلسطين، ونريد للشعوب العربية والإسلامية أن تقف معهم، لتبقى المعركة واحدة أمام الهدف الواحد، والمستقبل المشترك في فلسطين وخارجها.
العراق: سقوط هيبة أمريكا
أما في العراق، فإن المشهد يتكرر من خلال حركة المحتل الأمريكي الوحشي المجنون الذي غرق في الرمال المتحركة في العراق، ووقع في شباك المقاومة العراقية الرافضة له جملةً وتفصيلاً، والتي كشفت عن جنونه العسكري الذي بدأ يحصد المدنيين في بيوتهم وسياراتهم وساحاتهم المدنية بدون رحمة، ولا سيَّما في المدن المقدّسة مثل كربلاء والنجف، التي وضعت المرجعيات الدينية فيها خطوطاً حمراء على اجتياحها، ولكنه لم يحترم ذلك كمحاولة لعرض عضلاته العسكرية، واستعراض قواته المدججة بالأسلحة المتطوّرة التي لا تُستخدم عادةً إلا في الحروب الكبيرة..
لقد عرف العراقيون أن الذهنية الحاقدة على إنسانية الإنسان، والتي مارست أكثر أساليب التعذيب وحشيةً على الأسرى والسجناء، وأفظعها إذلالاً وإهانةً لكرامتهم، هي نفسها الذهنية التي تطلق صواريخها على المدنيين في الأماكن الآهلة بالسكان من دون رحمة، باسم فرض القانون والدفاع عن جنودها، وهذا ما عرفه العالم في إحصائيات القتلى والجرحى الذين بلغوا الآلاف من المدنيين العراقيين في شهر واحد.. إنها الوحشية التي تستخدمها قوات الاحتلال في ممارسة عمليات القتل في العراق بدم بارد، على الطريقة التي تتحرَّك بها قوات الجيش الصهيوني في فلسطين..
لقد سقطت هيبة أمريكا في العراق، كما تساقطت صورة القيم التي يتحدث عنها الرئيس الأمريكي حول حقوق الإنسان وحرية الشعوب والديمقراطية أمام الدكتاتورية الإمبراطورية المغلّفة بالغلاف الإنساني الذي تكشّف زيفه في الواقع.
وفي هذا الجو، فإننا في الوقت الذي نشجب فيه الأساليب الأمريكية في تعذيب الأسرى وقتل المدنيين العراقيين وانتهاك حرمة المقدّسات الدينية، نرفض الطريقة التي قامت بها بعض الجهات في قتل أحد المواطنين الأمريكيين من دون ذنب، مما قد تستفيد منه الإدارة الأمريكية في التخفّف من حجم المأزق الذي تعيش فيه إعلامياً وسياسياً، الأمر الذي يجعل هذا العمل يرتدُّ سلباً على حركة المواجهة للمسؤولين الأمريكيين في الممارسات الوحشية في التعذيب.
وهناك نقطتان لا بد من الوقوف عندهما:
قانون محاسبة سوريا إذعان لإسرائيل
ـ أولاً: إن توقيع الرئيس الأمريكي على قانون محاسبة سوريا الذي يفرض بعض العقوبات عليها، يجسّد الخضوع الأمريكي لإسرائيل في القرارات المتصلة بالعالم العربي، ولا سيما سوريا التي أكدت استقلالها وانفتاحها على الحوار، ورفضها للضغوط المفروضة عليها..
إن أمريكا تكرر الكذبة الكبرى المفضوحة في تبرير الحرب على العراق بامتلاكه أسلحة الدمار الشامل، لتتهم سوريا وغيرها من الدول غير الخاضعة لها بذلك، بالرغم من تصريح سوريا بأنها لا تملك شيئاً من ذلك، في الوقت الذي تملك فيه إسرائيل كل أسلحة الدمار الشامل بمساعدة أمريكية لتطويرها وتحسين نوعيتها، وترفض التوقيع على معاهدة حظر الأسلحة النووية، كما تتحدث عن دعم سوريا لما تسمّيه الإرهاب، والذي تقصد به دعم حركات التحرر في فلسطين وسوريا ولبنان، من دون أن تسجّل على إسرائيل إرهابها في احتلال أرض لبنان وسوريا وفلسطين..
إن أمريكا أرادت من سوريا دعم احتلالها للعراق، وهذا ما لا ينسجم مع المبادئ السياسية السورية في قضايا الحرية والاستقلال.. والسؤال هو: من يتولى محاسبة أمريكا وإسرائيل، الدولتين المارقتين اللتين تعتبران نفسيهما فوق القانون والمحاسبة؟؟
نستنكر مجازر نيجيريا
ـ ثانياً: إننا نستنكر المجازر التي حصلت أخيراً في نيجيريا ضد المسيحيين، كرد فعل للمجازر التي حصلت في مكان آخر في ذلك البلد ضد المسلمين.. إننا نرفض هذا النوع من الفعل ورد الفعل في النزاعات الدينية، ونريد للمسيحيين والمسلمين أن يرتفعوا إلى مستوى القيم المسيحية والإسلامية المشتركة، في الدعوة إلى المحبة والرحمة والكلمة السواء، والحوار بالوسائل الحضارية والتعايش على قاعدة القيم الإنسانية.. ونطالب الحكومة النيجيرية والعقلاء من الشعب النيجيري الطيب أن يعالجوا هذه المشاكل الدموية بحكمة ورويّة ومسؤولية، لأن مثل هذه الأحداث ليست في مصلحة الإسلام والمسيحية على حدٍّ سواء.
لبنان بحاجة إلى صرخة شعبية
أما في لبنان، فإنَّ الجدل الدائر لا ينفتح في أغلب طروحاته على البرامج التنموية، وعلى الوفاق الإنساني الوطني، وعلى المشاريع الحيوية للمواطنين، في الوقت الذي يتخبط الشعب في مشاكل الغلاء، ولا سيما في ارتفاع أسعار المازوت والبنزين، المادة الحيوية للناس الفقراء.. وإذا كانت الدولة تتحدث عن ارتفاع أسعار الطاقة في العالم، فإنها تستطيع مواجهة الموقف بطريقة لا تُثقل كاهل الشعب الذي يرزح تحت ثقل الأزمات الاقتصادية..
إن لبنان بحاجة إلى صرخة شعبية مدوّية كتلك التي تحرّك الأموات، لا إلى ملهاة تحرك كل عصبياته في إنتاج العداوة والب |