السير على منهج النبوّة والإمامة في الدعوة إلى الحوار والوحدة الإسلامية

السير على منهج النبوّة والإمامة في الدعوة إلى الحوار والوحدة الإسلامية

في ذكرى مولِدَي النبي(ص) والإمام الصادق(ع):
السير على منهج النبوّة والإمامة في الدعوة إلى الحوار والوحدة الإسلامية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

ارتباط وثيق بين النبوّة والإمامة:

في هذا اليوم، السابع عشر من شهر ربيع الأول، نلتقي بذكرى مولد رسول الله(ص)، على ما هو المشهور لدى علماء المسلمين الشيعة، كما نلتقي بذكرى ولادة الإمام جعفر الصادق(ع). ونحن في ذكرى المولدين، نرى أن هناك جسراً يربط بين انطلاقة النبوّة وبين حركة الإمامة، فالنبوّة انطلقت في رسول الله(ص) وحياً من الله تعالى الذي اصطفاه نبياً ورسولاً ومرشداً وبشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، والإمامة هي الامتداد الحركي للنبوّة، حيث يختزن الإمام كل الإسلام في عقله وقلبه، ويحرّكه في كل نشاطاته على جميع المستويات، وكما كان رسول الله (ص) للناس كافة وللمسلمين كافة، فقد كان الأئمة من أهل البيت (ع)، وفي مقدمتهم الإمام الصادق (ع)، للناس كافة وللمسلمين كافة.

وقد أكد الإمام الصادق (ع) في أكثر من حديث يروى عنه، أنه يلتزم ـ كآبائه وأبنائه ـ كتاب الله في كل ما قاله وحدّث به وفعله، ولذلك عندما كثر الوضّاعون الكذّابون الذي كانوا ينسبون إليه الأحاديث كذباً وزوراً، ويضعونها على لسانه، قال (ع): "ما خالف كتاب الله فهو زخرف"، ولذلك نجد أنّ رسول الله(ص) قد قرن الأئمة من أهل البيت(ع) بالقرآن، حينما قال للأمة: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". وهكذا، فإن كل كلام يُنسب إلى الأئمة من أهل البيت (ع) مما يخالف نص القرآن في ظاهره، أو يخالف روح القرآن في مضمونه ومعناه، فإنه مكذوب عليهم، وعلينا أن لا نأخذ به.

ويؤكد هذا أنّ الإمام الصادق(ع) في كل ما قاله وحدّث به لم يقله من نفسه، وإن كانت نفسه تجسّد الرسالة. كان حديثه(ع) حديث رسول الله (ص)، لأن الأئمة (ع) ليسوا مشرّعين، فالله تعالى قد أكمل دينه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}، فليس هناك بعد رسول الله (ص) أيّة شريعة وأي حكم، فقد قال الإمام الصادق (ع): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث عليّ، وحديث عليّ حديث رسول الله عن جبرائيل عن الله"، فكل ما جاء من أئمة أهل البيت(ع) فهو حديث حدّثوا به عن رسول الله (ص)، وقد كانوا الصادقين الذين يعتقد كل الناس بصدقهم، فلا يسألونهم عندما يروون حديثاً عن رسول الله (ص) عن الواسطة بينهم وبينه، لأنهم أخذوها من عين صافية ليس فيها أي عكر.

وهكذا، فإن الإمامة بكل معناها لم تبتعد عن كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه (ص)، بل عملت على توجيه الناس بكتاب الله وسنّة نبيّه، حتى إن الإمام الباقر(ع) كان يعلّم أصحابه أنه إذا حدّثهم بحديث في حكم أو منهج، فإن عليهم أن يسألوه عن أساس ما حدّثهم به من كتاب الله، وكان يُنقل عن الإمام الرضا(ع) الشيء نفسه، وهو الذي كان كل حديثه انتزاعاً من القرآن، فقد كان ينتزع من القرآن الفكرة والمفهوم والحكم الشرعي ليقدّمه للناس، وقد قال الشاعر:

ووالِ أناساً قولهم وحديثهم     روى جدنا عن جبرائيل عن الباري

الإمام الصادق(ع) رائد الوحدة الإسلامية:

عندما نلتقي بالإمام الصادق (ع)، فإننا نلتقي بالإمام الذي أعطى علم الرسالة مما امتاز به الأئمة من أهل البيت (ع) أكثر من كل آبائه وأبنائه ـ ما عدا الإمام عليّ (ع) ـ لأنه كان يحدّث الناس في كل وقت ومكان، ويروى أنه عندما كان يذهب إلى الحج، كان الناس يجتمعون حوله في "منى"، حتى يقول الراوي: "لقد رأيته والناس مجتمعون حوله كأنه معلّم صبيان". وكان الإمام الصادق (ع) رائد الوحدة الإسلامية، فقد كان يستقبل أئمة المذاهب ليعلّمهم ويناقشهم، ويذكر التاريخ أن "أبا حنيفة النعمان"، إمام المذهب الحنفي، كان من تلاميذه في مدى سنتين، وكان يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان"، وعندما سئل أبو حنيفة: من أعلم الناس في عصرك؟ قال: أعلم الناس هو الأعلم بكل ما يحمله الناس من فكر ورأي، وهو جعفر الصادق. وكان يجلس إليه "مالك بن أنس" ليروي عنه ويحدّثه.

كان الإمام الصادق (ع) يستقبل كل الناس، دون تمييز بين من ينتمي إلى مذهبه أو إلى مذهب آخر، وكان منفتحاً على الجميع، لأنه (ع) كان ينفتح بالإسلام على كلِّ الناس، ويريد أن يدخل الإسلام كما يراه في كل عقل وقلب، كان يستقبل الذين يخالفونه بالرأي، وكان يشير إلى أصحابه أن يناقشوهم أمامه، ولذلك كان رائد الحوار بين المسلمين، ولقد أوصى أصحابه أن لا يسيء أحدهم إلى الآخر الذي يخالفه في المذهب أو الرأي أو أن يسبّ مقدساته، وقد نهاهم عن ذلك في قوله: "ما أيسر ما رضي الناس منكم، كفّوا ألسنتكم عنهم"، لا تشتموا أو تلعنوا، هب أنكم تختلفون معهم في الرأي، ولكن الاختلاف في الرأي يدفع إلى الحوار والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، حتى تحوّل عدوّك إلى صديق، لأن مهمة المسلم هي أن يجعل العالم أصدقاء لإسلامه ولقضاياه، وقد قال الإمام عليّ(ع):"أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم".

ولهذا، كان الإمام الصادق (ع) يوصي أصحابه أن ينفتحوا على الواقع الإسلامي كله من أجل أن يؤاخوا المسلمين ويصادقوهم حتى لو اختلفوا معهم في المذهب، وفي تلك المرحلة لم يكن هناك انفصال بين مدارس الشيعة ومدارس السنّة، ولم يكن هناك مساجد للشيعة ومساجد للسنّة، ولكن التطورات السلبية التي عاشها المسلمون هي التي خلقت هذه الوحشة والبعد بين المسلمين، حتى تطوّر الأمر إلى أن يكفّر المسلمون ويضللوا بعضهم بعضاً، والأعداء من الكافرين والمستكبرين يقهقهون ويضحكون لأنهم يشغلوننا ببعضنا بعضاً حتى لا ننشغل بهم وبكل مؤامراتهم.

لقد أصبحنا مثل اليهود في أول الدعوة، نحن نعرف أن اليهود يدينون بدين موسى(ع)، هذا معناه أنهم موحّدون وإن اختلفنا معهم في بعض جوانب التوحيد، ولكن الحقد ضد الإسلام وأهله دفعهم لأن يجعلوا المشركين أهدى من المسلمين، وذلك عندما سألهم المشركون عن ذلك: "هل نحن أهدى أم محمد والذين معه أهدى؟" فماذا كان الجواب: "هؤلاء ـ ويشيرون إلى المستكبرين ـ أهدى من الذين آمنوا سبيلاً"، ألم نصل إلى هذه المرحلة؟ ألم نفضّل أصحاب الأديان الأخرى على المسلمين، قد نلتقي ببعض السنّة الذين يقولون لك إن هؤلاء ممن يدينون بغير الإسلام أهدى من الشيعة، وقد تأتي إلى بعض الشيعة ويقولون لك إن هؤلاء ممن يدينون بغير الإسلام أهدى من السنّة!! هذا أمر ينطلق من التخلّف والحقد الأسود الذي يحمله بعض المسلمين ضد بعضهم البعض.

من وصايا الصادق(ع):

تعالوا ـ ونحن ندين بدين الإمام جعفر الصادق (ع) والصفوة الطيبة من آبائه وأبنائه ـ لنراه كيف كان يوجّه أصحابه في علاقتهم بالمسلمين الآخرين الذين يختلفون معهم في المذهب، لكي ندرس هل نحن على وصيته أم لا. عن أحد أصحابه، وهو "معاوية بن وهب"، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا ـ وقومهم من السنّة ـ وبيننا وبين من يخالطنا؟ قال (ع): "تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم"، بحيث تعيشون معهم كمجتمع واحد. وعن أسامة بن زيد الشحّام قال: قال لي أبو عبد الله(ع): "اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ أن تجتهدوا في طاعة الله ونصرته والدعوة إليه ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص)، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول الله (ص) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسّن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر، والله لحدّثني أبي أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة عليّ (ع) فيكون زينها، أدّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: مَن مثل فلان، إنه أدّانا للأمانة وأصدقنا للحديث".

وفي حديث آخر عن "معاوية بن وهب" قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال(ع): "تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم، فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الأمانة إليهم"، وعن "حبيب الخثعمي" قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "عليكم بالورع والاجتهاد، واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى، واحضروا مع قومكم مساجدهم، وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره". وفي حديث عنه (ع): "عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة وحضور الجنائز، إنه لا بد لكم من الناس، إن أحداً لا يستغني عن الناس حياته".

وعن "خيثمة" عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال: "أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله والعمل الصالح، وأن يعود صحيحهم مريضهم، وليعد غنيّهم على فقيرهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، وأن يتفاوضوا علم الدين، فإن ذلك حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا ـ وإحياء أمر أهل البيت(ع) لا يكون بضرب الرؤوس بالسيوف والظهور بالسلاسل، بل إن إحياء أمرهم (ع) هو بإظهار علومهم ومحاسن أخلاقهم وكلامهم ـ وأعلمهم يا خيثمة، أنّه لا يغني عنهم من الله شيئاً إلا العمل الصالح، فإن ولايتنا لا تنال إلا بالورع، وإن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره". وعن "كُثير بن علقمة" قال: قلت لأبي عبد الله (ع): أوصني، قال (ع): "أوصيك بتقوى الله، والورع والعبادة وطول السجود وأداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص)، صلوا عشائركم وعودوا مرضاكم واشهدوا جنائزكم، وكونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، حببونا إلى الناس ولا تبغّضونا إليهم، جرّوا إلينا كل مودة وادفعوا عنّا كل شر".

هؤلاء هم أهل البيت (ع)، ولا بد لنا أن نعمل على أساس أن نكون زيناً لهم وللإسلام في كل أعمالنا وأقوالنا، ففي ذكرى مولدي النبي (ص) والإمام الصادق(ع)، نريد أن ننطلق لنكون في خط الوحدة الإسلامية لمواجهة التحديات التي لا تبحث عن السنّة أو الشيعة، بل تريد رأس الإسلام، وليس معنى الوحدة الإسلامية أن يصبح السنّي شيعياً والشيعي سنيّاً، بل أن نلتقي في ما نتفق عليه ونتحاور في ما نختلف فيه، {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا الموقف الصعب الذي يتحدى المسلمين في عقائدهم وثقافتهم واقتصادهم وسياستهم وأمنهم، واجهوا ذلك كله بالوحدة والاعتصام بحبل الله جميعاً صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، لأن القوم يريدون أن يذلّونا في أنفسنا وفي كل قضايانا وأوضاعنا، وقد قال الإمام الصادق (ع) وهو يفسّر هذه الآية: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، قال(ع): "إن الله فوّض إلى المؤمن جميع أموره، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً".

في هذه المرحلة، لا بد أن يكون الموقف صلباً، كل بحسب إمكانياته وقدراته، وعلينا أن نكون الواعين لذلك كله، فتعالوا لنعرف ما استجدّ في الأيام الماضية من أحداث:

سقوط دولي أمام الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية:

إسرائيل مشغولة بإسقاط "الليكود" لخطة شارون، في نطاق مسرحية "شارونية" أوحت بالعزم على الانسحاب من بعض غزة، لتحصل من الرئيس "بوش" على وعد بإلغاء العودة الفلسطينية للأرض، وبتشريع الأمر الواقع في المستوطنات وما يتبعها من إسقاط قرارات الأمم المتحدة.. ويبقى "بوش" على تأييده للخطة بالرغم من سقوطها، لأنه لا يملك أية خطة بديلة، في انتظار أن يقدّم "شارون" خطة أخرى يحرّك فيها سياسته..

أما اللجنة الرباعية بقيادة أمريكا، فإنها باعت العرب كلاماً قدّمت فيه بعض المواعظ الإصلاحية للفلسطينيين، ودعتهم إلى اقتناص "الفرصة النادرة" في السعي إلى إحلال السلام في الشرق الأوسط في خطة "شارون" الذي أعلن موت خارطة الطريق، التي لا تزال اللجنة الرباعية الدولية ـ ومعها العالم العربي الرسمي ـ تتداولها إعلامياً وسياسياً دون جدوى، وتعزف ألحانها وراء الجوقة الأمريكية التي تتحرك في السياسة الخارجية للمنطقة تحت ضغوط السياسة الداخلية للانتخابات الرئاسية..

وهكذا، سقطت اللجنة الرباعية الدولية تحت أقدام الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية، في مصادرة الحقوق الفلسطينية في نطاق النفاق السياسي الذي أثبت العجز الأوروبي والروسي وعجز الأمم المتحدة أمام القيادة الأمريكية في إسقاطها لحقوق الإنسان العربي ـ الفلسطيني تحت عنوان "الحرب ضد الإرهاب"، الذي يشرّع إبادة الشعب الفلسطيني بمختلف الأسلحة الأمريكية المتطوّرة التي تحصد المدنيين، وتهدم كل البنية التحتية.. لم نسمع من كل هؤلاء كلمة تطالب إسرائيل بالانسحاب الكامل من الأرض المحتلة من دون قيد أو شرط، كما هي شرعة حقوق الإنسان، لأن الحرية عندهم لا معنى لها بقدر ما يتصل الأمر بالعرب والمسلمين..

تنديد دبلوماسي أمريكي بالسياسة الأمريكية:

ولا تزال أمريكا تعطي العرب وعوداً وأحلاماً معسولة مما قد تقدّمه لبعض زوّارها من العرب أخيراً، ولكنها تعطي إسرائيل مواقف حاسمة وضمانات دولية ومساعدات مالية وعسكرية وتعهّداً بالأمن المطلق، في مقابل ضغط مطلق على الشعب الفلسطيني والعرب جميعاً، في الوقت الذي يصرّ فيه وزير خارجيتها باللعب على الألفاظ للإيحاء للعرب بأن إدارته تسلك طريقاً متوازناً، لأنه يعرف أن رؤساء العالم العربي يسقطون تحت تأثير سحر الكلمات..

ولكننا نرى أن الصرخة ضد الإدارة الأمريكية تنطلق من داخل ستين شخصية دبلوماسية أمريكية نددت بسياستها في المنطقة، بما في ذلك دعم الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات السياسية الفلسطينية، وهو ما وصفته هذه الشخصيات بالخروج على القانون الدولي، وأنه ليس حتى في صالح "دولة إسرائيل" ـ كما يقولون ـ ما أفقد أمريكا مصداقيتها ومكانتها وأصدقاءها أمام العالم..

ومن المضحك المبكي أننا لم نسمع صوتاً عربياً صريحاً مماثلاً للصوت الأمريكي الدبلوماسي، ولكن الرئيس بوش لا يقرأ التقارير المقدّمة له، ولا يسمع الأصوات الناقدة والناصحة، لأنه يعيش في زنزانة ذاته وإدارته التي انتفخت بغرور القوة الهائلة، من دون أن يشعر أنها بدأت تهتز أمام ضربات الشعوب المقاومة للغرور الأمريكي..

أمريكا: تجدُّد في وسائل التعذيب

ونقف أمام العراق الذي سقط من أبنائه أكثر من خمسة آلاف مدني من الأطفال والنساء والشيوخ، بين قتيل وجريح في شهر نيسان بالذات، بينما يعيش المعتقلون من أفراده في السجون الأمريكية تحت تأثير أساليب التعذيب والاغتصاب، بموافقة المخابرات العسكرية الأمريكية وعلم المسؤولين الكبار فيها، وربما فيهم مسؤولو وزارة الدفاع.. وهناك آلاف الصور وأشرطة الفيديو التي لم تنشر حتى الآن، ما يعطي صورة أوضح عن حجم الديمقراطية النموذجي الذي يريد الرئيس الأمريكي أن يعممه على المنطقة العربية والإسلامية من خلال العراق..

إن العراقيين يشاهدون أمامهم في تجربتهم الجديدة أمريكا "الصدامية" التي تجدد وسائل وأساليب التعذيب حتى الموت في السجون، وتفتح لهم أكثر من مقبرة جماعية، بعد أن شاهد العالم العربي والإسلامي أمريكا "الإسرائيلية".. ومن الطريف أن الرئيس الأمريكي يقف ليخاطب العرب من فضائية عربية ليستنكر ذلك ويعدهم بأن الفاعلين سوف يعاقبون، ولكنه لا يعتذر، لأن الاعتذار يفرض عليه تحمّل مسؤولية ذلك بإقالة وزير دفاعه، الطفل المدلل عنده..

والسؤال: هل هناك مجال للثقة بأمريكا في طروحاتها الإنسانية؟ وهل هناك ما تخاف منه الأنظمة العربية من هجمة أمريكا عليها في نشر الحرية والديمقراطية؟ إننا أمام هذه المواقف نريد من شعوبنا ـ ولا سيما الشعب العراقي والفلسطيني ـ أن يعرفوا ما معنى أمريكا، ليرددوا قول الشاعر:

المستجير بعمرو عند كربته     كالمستجير من الرمضاء بالنار

لبنان: الارتفاع إلى مستوى التحديات

أما في لبنان، فقد بدأ العدوان الإسرائيلي على أرضه بعد أن كان يتحرك في أجوائه، مستغلاً بعض الأوضاع السياسية في داخل كيانه، وحالة الاهتزاز السياسي في المنطقة، وبعض الإرباكات في الواقع اللبناني الداخلي بفعل الجدل الدائر في الساحة من خلال الاستحقاقات الحاضرة التي يستغرق فيها الناس في عصبياتهم المتنوّعة..

إننا نحذّر من خلفيات ذلك كله، ليرتفع الجميع إلى مستوى المرحلة في التحديق بالتحديات الكبرى بعين تراقب الداخل في قضاياه الحيوية سياسياً واقتصادياً وإنمائياً، وعين تراقب الخارج في القضايا المصيرية في حركة الأوضاع القلقة، ولا سيما في خط التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي للسيطرة على مقدّراتنا، في استغلال للغياب السياسي الذي يرصد الخطط المتحركة في اتجاه إسقاط مواقفنا العامة.

في ذكرى مولِدَي النبي(ص) والإمام الصادق(ع):
السير على منهج النبوّة والإمامة في الدعوة إلى الحوار والوحدة الإسلامية


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

ارتباط وثيق بين النبوّة والإمامة:

في هذا اليوم، السابع عشر من شهر ربيع الأول، نلتقي بذكرى مولد رسول الله(ص)، على ما هو المشهور لدى علماء المسلمين الشيعة، كما نلتقي بذكرى ولادة الإمام جعفر الصادق(ع). ونحن في ذكرى المولدين، نرى أن هناك جسراً يربط بين انطلاقة النبوّة وبين حركة الإمامة، فالنبوّة انطلقت في رسول الله(ص) وحياً من الله تعالى الذي اصطفاه نبياً ورسولاً ومرشداً وبشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، والإمامة هي الامتداد الحركي للنبوّة، حيث يختزن الإمام كل الإسلام في عقله وقلبه، ويحرّكه في كل نشاطاته على جميع المستويات، وكما كان رسول الله (ص) للناس كافة وللمسلمين كافة، فقد كان الأئمة من أهل البيت (ع)، وفي مقدمتهم الإمام الصادق (ع)، للناس كافة وللمسلمين كافة.

وقد أكد الإمام الصادق (ع) في أكثر من حديث يروى عنه، أنه يلتزم ـ كآبائه وأبنائه ـ كتاب الله في كل ما قاله وحدّث به وفعله، ولذلك عندما كثر الوضّاعون الكذّابون الذي كانوا ينسبون إليه الأحاديث كذباً وزوراً، ويضعونها على لسانه، قال (ع): "ما خالف كتاب الله فهو زخرف"، ولذلك نجد أنّ رسول الله(ص) قد قرن الأئمة من أهل البيت(ع) بالقرآن، حينما قال للأمة: "إني تارك فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، فإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض". وهكذا، فإن كل كلام يُنسب إلى الأئمة من أهل البيت (ع) مما يخالف نص القرآن في ظاهره، أو يخالف روح القرآن في مضمونه ومعناه، فإنه مكذوب عليهم، وعلينا أن لا نأخذ به.

ويؤكد هذا أنّ الإمام الصادق(ع) في كل ما قاله وحدّث به لم يقله من نفسه، وإن كانت نفسه تجسّد الرسالة. كان حديثه(ع) حديث رسول الله (ص)، لأن الأئمة (ع) ليسوا مشرّعين، فالله تعالى قد أكمل دينه: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً}، فليس هناك بعد رسول الله (ص) أيّة شريعة وأي حكم، فقد قال الإمام الصادق (ع): "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث عليّ، وحديث عليّ حديث رسول الله عن جبرائيل عن الله"، فكل ما جاء من أئمة أهل البيت(ع) فهو حديث حدّثوا به عن رسول الله (ص)، وقد كانوا الصادقين الذين يعتقد كل الناس بصدقهم، فلا يسألونهم عندما يروون حديثاً عن رسول الله (ص) عن الواسطة بينهم وبينه، لأنهم أخذوها من عين صافية ليس فيها أي عكر.

وهكذا، فإن الإمامة بكل معناها لم تبتعد عن كتاب الله تعالى وسنّة نبيّه (ص)، بل عملت على توجيه الناس بكتاب الله وسنّة نبيّه، حتى إن الإمام الباقر(ع) كان يعلّم أصحابه أنه إذا حدّثهم بحديث في حكم أو منهج، فإن عليهم أن يسألوه عن أساس ما حدّثهم به من كتاب الله، وكان يُنقل عن الإمام الرضا(ع) الشيء نفسه، وهو الذي كان كل حديثه انتزاعاً من القرآن، فقد كان ينتزع من القرآن الفكرة والمفهوم والحكم الشرعي ليقدّمه للناس، وقد قال الشاعر:

ووالِ أناساً قولهم وحديثهم     روى جدنا عن جبرائيل عن الباري

الإمام الصادق(ع) رائد الوحدة الإسلامية:

عندما نلتقي بالإمام الصادق (ع)، فإننا نلتقي بالإمام الذي أعطى علم الرسالة مما امتاز به الأئمة من أهل البيت (ع) أكثر من كل آبائه وأبنائه ـ ما عدا الإمام عليّ (ع) ـ لأنه كان يحدّث الناس في كل وقت ومكان، ويروى أنه عندما كان يذهب إلى الحج، كان الناس يجتمعون حوله في "منى"، حتى يقول الراوي: "لقد رأيته والناس مجتمعون حوله كأنه معلّم صبيان". وكان الإمام الصادق (ع) رائد الوحدة الإسلامية، فقد كان يستقبل أئمة المذاهب ليعلّمهم ويناقشهم، ويذكر التاريخ أن "أبا حنيفة النعمان"، إمام المذهب الحنفي، كان من تلاميذه في مدى سنتين، وكان يقول: "لولا السنتان لهلك النعمان"، وعندما سئل أبو حنيفة: من أعلم الناس في عصرك؟ قال: أعلم الناس هو الأعلم بكل ما يحمله الناس من فكر ورأي، وهو جعفر الصادق. وكان يجلس إليه "مالك بن أنس" ليروي عنه ويحدّثه.

كان الإمام الصادق (ع) يستقبل كل الناس، دون تمييز بين من ينتمي إلى مذهبه أو إلى مذهب آخر، وكان منفتحاً على الجميع، لأنه (ع) كان ينفتح بالإسلام على كلِّ الناس، ويريد أن يدخل الإسلام كما يراه في كل عقل وقلب، كان يستقبل الذين يخالفونه بالرأي، وكان يشير إلى أصحابه أن يناقشوهم أمامه، ولذلك كان رائد الحوار بين المسلمين، ولقد أوصى أصحابه أن لا يسيء أحدهم إلى الآخر الذي يخالفه في المذهب أو الرأي أو أن يسبّ مقدساته، وقد نهاهم عن ذلك في قوله: "ما أيسر ما رضي الناس منكم، كفّوا ألسنتكم عنهم"، لا تشتموا أو تلعنوا، هب أنكم تختلفون معهم في الرأي، ولكن الاختلاف في الرأي يدفع إلى الحوار والجدال بالتي هي أحسن، كما قال الله تعالى: {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن}، حتى تحوّل عدوّك إلى صديق، لأن مهمة المسلم هي أن يجعل العالم أصدقاء لإسلامه ولقضاياه، وقد قال الإمام عليّ(ع):"أعجز الناس من عجز عن اكتساب الأخوان، وأعجز منه من ضيّع من ظفر به منهم".

ولهذا، كان الإمام الصادق (ع) يوصي أصحابه أن ينفتحوا على الواقع الإسلامي كله من أجل أن يؤاخوا المسلمين ويصادقوهم حتى لو اختلفوا معهم في المذهب، وفي تلك المرحلة لم يكن هناك انفصال بين مدارس الشيعة ومدارس السنّة، ولم يكن هناك مساجد للشيعة ومساجد للسنّة، ولكن التطورات السلبية التي عاشها المسلمون هي التي خلقت هذه الوحشة والبعد بين المسلمين، حتى تطوّر الأمر إلى أن يكفّر المسلمون ويضللوا بعضهم بعضاً، والأعداء من الكافرين والمستكبرين يقهقهون ويضحكون لأنهم يشغلوننا ببعضنا بعضاً حتى لا ننشغل بهم وبكل مؤامراتهم.

لقد أصبحنا مثل اليهود في أول الدعوة، نحن نعرف أن اليهود يدينون بدين موسى(ع)، هذا معناه أنهم موحّدون وإن اختلفنا معهم في بعض جوانب التوحيد، ولكن الحقد ضد الإسلام وأهله دفعهم لأن يجعلوا المشركين أهدى من المسلمين، وذلك عندما سألهم المشركون عن ذلك: "هل نحن أهدى أم محمد والذين معه أهدى؟" فماذا كان الجواب: "هؤلاء ـ ويشيرون إلى المستكبرين ـ أهدى من الذين آمنوا سبيلاً"، ألم نصل إلى هذه المرحلة؟ ألم نفضّل أصحاب الأديان الأخرى على المسلمين، قد نلتقي ببعض السنّة الذين يقولون لك إن هؤلاء ممن يدينون بغير الإسلام أهدى من الشيعة، وقد تأتي إلى بعض الشيعة ويقولون لك إن هؤلاء ممن يدينون بغير الإسلام أهدى من السنّة!! هذا أمر ينطلق من التخلّف والحقد الأسود الذي يحمله بعض المسلمين ضد بعضهم البعض.

من وصايا الصادق(ع):

تعالوا ـ ونحن ندين بدين الإمام جعفر الصادق (ع) والصفوة الطيبة من آبائه وأبنائه ـ لنراه كيف كان يوجّه أصحابه في علاقتهم بالمسلمين الآخرين الذين يختلفون معهم في المذهب، لكي ندرس هل نحن على وصيته أم لا. عن أحد أصحابه، وهو "معاوية بن وهب"، قال: قلت لأبي عبد الله (ع): كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا ـ وقومهم من السنّة ـ وبيننا وبين من يخالطنا؟ قال (ع): "تؤدون الأمانة إليهم، وتقيمون الشهادة لهم وعليهم، وتعودون مرضاهم، وتشهدون جنائزهم"، بحيث تعيشون معهم كمجتمع واحد. وعن أسامة بن زيد الشحّام قال: قال لي أبو عبد الله(ع): "اقرأ على من ترى أنه يطيعني منهم ويأخذ بقولي السلام، وأوصيكم بتقوى الله عزّ وجلّ، والورع في دينكم، والاجتهاد لله ـ أن تجتهدوا في طاعة الله ونصرته والدعوة إليه ـ وصدق الحديث، وأداء الأمانة، وطول السجود، وحُسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص)، أدّوا الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً أو فاجراً، فإن رسول الله (ص) كان يأمر بأداء الخيط والمخيط، صلوا عشائرهم، واشهدوا جنائزهم، وعودوا مرضاهم، وأدّوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق الحديث وأدّى الأمانة وحسّن خلقه مع الناس، قيل: هذا جعفري، فيسرني ذلك ويدخل عليّ منه السرور، وقيل: هذا أدب جعفر، وإذا كان على غير ذلك دخل عليّ بلاؤه وعاره وقيل: هذا أدب جعفر، والله لحدّثني أبي أن الرجل كان يكون في القبيلة من شيعة عليّ (ع) فيكون زينها، أدّاهم للأمانة، وأقضاهم للحقوق، وأصدقهم للحديث، إليه وصاياهم وودائعهم، تسأل العشيرة عنه فتقول: مَن مثل فلان، إنه أدّانا للأمانة وأصدقنا للحديث".

وفي حديث آخر عن "معاوية بن وهب" قال: قلت له: كيف ينبغي لنا أن نصنع فيما بيننا وبين قومنا، وبين خلطائنا من الناس ممن ليسوا على أمرنا؟ قال(ع): "تنظرون إلى أئمتكم الذين تقتدون بهم، فتصنعون ما يصنعون، فوالله إنهم ليعودون مرضاهم، ويشهدون جنائزهم، ويقيمون الشهادة لهم وعليهم، ويؤدون الأمانة إليهم"، وعن "حبيب الخثعمي" قال: سمعت أبا عبد الله (ع) يقول: "عليكم بالورع والاجتهاد، واشهدوا الجنائز وعودوا المرضى، واحضروا مع قومكم مساجدهم، وأحبوا للناس ما تحبون لأنفسكم، أما يستحي الرجل منكم أن يعرف جاره حقه ولا يعرف حق جاره". وفي حديث عنه (ع): "عليكم بالصلاة في المساجد، وحسن الجوار للناس، وإقامة الشهادة وحضور الجنائز، إنه لا بد لكم من الناس، إن أحداً لا يستغني عن الناس حياته".

وعن "خيثمة" عن أبي عبد الله الصادق (ع) أنه قال: "أبلغ موالينا السلام، وأوصهم بتقوى الله والعمل الصالح، وأن يعود صحيحهم مريضهم، وليعد غنيّهم على فقيرهم، وأن يشهد حيّهم جنازة ميّتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، وأن يتفاوضوا علم الدين، فإن ذلك حياة لأمرنا، رحم الله عبداً أحيا أمرنا ـ وإحياء أمر أهل البيت(ع) لا يكون بضرب الرؤوس بالسيوف والظهور بالسلاسل، بل إن إحياء أمرهم (ع) هو بإظهار علومهم ومحاسن أخلاقهم وكلامهم ـ وأعلمهم يا خيثمة، أنّه لا يغني عنهم من الله شيئاً إلا العمل الصالح، فإن ولايتنا لا تنال إلا بالورع، وإن أشد الناس عذاباً يوم القيامة من وصف عدلاً ثم خالفه إلى غيره". وعن "كُثير بن علقمة" قال: قلت لأبي عبد الله (ع): أوصني، قال (ع): "أوصيك بتقوى الله، والورع والعبادة وطول السجود وأداء الأمانة وصدق الحديث وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (ص)، صلوا عشائركم وعودوا مرضاكم واشهدوا جنائزكم، وكونوا لنا زيناً ولا تكونوا علينا شيناً، حببونا إلى الناس ولا تبغّضونا إليهم، جرّوا إلينا كل مودة وادفعوا عنّا كل شر".

هؤلاء هم أهل البيت (ع)، ولا بد لنا أن نعمل على أساس أن نكون زيناً لهم وللإسلام في كل أعمالنا وأقوالنا، ففي ذكرى مولدي النبي (ص) والإمام الصادق(ع)، نريد أن ننطلق لنكون في خط الوحدة الإسلامية لمواجهة التحديات التي لا تبحث عن السنّة أو الشيعة، بل تريد رأس الإسلام، وليس معنى الوحدة الإسلامية أن يصبح السنّي شيعياً والشيعي سنيّاً، بل أن نلتقي في ما نتفق عليه ونتحاور في ما نختلف فيه، {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}. 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا الموقف الصعب الذي يتحدى المسلمين في عقائدهم وثقافتهم واقتصادهم وسياستهم وأمنهم، واجهوا ذلك كله بالوحدة والاعتصام بحبل الله جميعاً صفاً واحداً كالبنيان المرصوص، لأن القوم يريدون أن يذلّونا في أنفسنا وفي كل قضايانا وأوضاعنا، وقد قال الإمام الصادق (ع) وهو يفسّر هذه الآية: {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين}، قال(ع): "إن الله فوّض إلى المؤمن جميع أموره، ولم يفوّض إليه أن يكون ذليلاً".

في هذه المرحلة، لا بد أن يكون الموقف صلباً، كل بحسب إمكانياته وقدراته، وعلينا أن نكون الواعين لذلك كله، فتعالوا لنعرف ما استجدّ في الأيام الماضية من أحداث:

سقوط دولي أمام الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية:

إسرائيل مشغولة بإسقاط "الليكود" لخطة شارون، في نطاق مسرحية "شارونية" أوحت بالعزم على الانسحاب من بعض غزة، لتحصل من الرئيس "بوش" على وعد بإلغاء العودة الفلسطينية للأرض، وبتشريع الأمر الواقع في المستوطنات وما يتبعها من إسقاط قرارات الأمم المتحدة.. ويبقى "بوش" على تأييده للخطة بالرغم من سقوطها، لأنه لا يملك أية خطة بديلة، في انتظار أن يقدّم "شارون" خطة أخرى يحرّك فيها سياسته..

أما اللجنة الرباعية بقيادة أمريكا، فإنها باعت العرب كلاماً قدّمت فيه بعض المواعظ الإصلاحية للفلسطينيين، ودعتهم إلى اقتناص "الفرصة النادرة" في السعي إلى إحلال السلام في الشرق الأوسط في خطة "شارون" الذي أعلن موت خارطة الطريق، التي لا تزال اللجنة الرباعية الدولية ـ ومعها العالم العربي الرسمي ـ تتداولها إعلامياً وسياسياً دون جدوى، وتعزف ألحانها وراء الجوقة الأمريكية التي تتحرك في السياسة الخارجية للمنطقة تحت ضغوط السياسة الداخلية للانتخابات الرئاسية..

وهكذا، سقطت اللجنة الرباعية الدولية تحت أقدام الخطة الأمريكية ـ الإسرائيلية، في مصادرة الحقوق الفلسطينية في نطاق النفاق السياسي الذي أثبت العجز الأوروبي والروسي وعجز الأمم المتحدة أمام القيادة الأمريكية في إسقاطها لحقوق الإنسان العربي ـ الفلسطيني تحت عنوان "الحرب ضد الإرهاب"، الذي يشرّع إبادة الشعب الفلسطيني بمختلف الأسلحة الأمريكية المتطوّرة التي تحصد المدنيين، وتهدم كل البنية التحتية.. لم نسمع من كل هؤلاء كلمة تطالب إسرائيل بالانسحاب الكامل من الأرض المحتلة من دون قيد أو شرط، كما هي شرعة حقوق الإنسان، لأن الحرية عندهم لا معنى لها بقدر ما يتصل الأمر بالعرب والمسلمين..

تنديد دبلوماسي أمريكي بالسياسة الأمريكية:

ولا تزال أمريكا تعطي العرب وعوداً وأحلاماً معسولة مما قد تقدّمه لبعض زوّارها من العرب أخيراً، ولكنها تعطي إسرائيل مواقف حاسمة وضمانات دولية ومساعدات مالية وعسكرية وتعهّداً بالأمن المطلق، في مقابل ضغط مطلق على الشعب الفلسطيني والعرب جميعاً، في الوقت الذي يصرّ فيه وزير خارجيتها باللعب على الألفاظ للإيحاء للعرب بأن إدارته تسلك طريقاً متوازناً، لأنه يعرف أن رؤساء العالم العربي يسقطون تحت تأثير سحر الكلمات..

ولكننا نرى أن الصرخة ضد الإدارة الأمريكية تنطلق من داخل ستين شخصية دبلوماسية أمريكية نددت بسياستها في المنطقة، بما في ذلك دعم الاغتيالات الإسرائيلية للقيادات السياسية الفلسطينية، وهو ما وصفته هذه الشخصيات بالخروج على القانون الدولي، وأنه ليس حتى في صالح "دولة إسرائيل" ـ كما يقولون ـ ما أفقد أمريكا مصداقيتها ومكانتها وأصدقاءها أمام العالم..

ومن المضحك المبكي أننا لم نسمع صوتاً عربياً صريحاً مماثلاً للصوت الأمريكي الدبلوماسي، ولكن الرئيس بوش لا يقرأ التقارير المقدّمة له، ولا يسمع الأصوات الناقدة والناصحة، لأنه يعيش في زنزانة ذاته وإدارته التي انتفخت بغرور القوة الهائلة، من دون أن يشعر أنها بدأت تهتز أمام ضربات الشعوب المقاومة للغرور الأمريكي..

أمريكا: تجدُّد في وسائل التعذيب

ونقف أمام العراق الذي سقط من أبنائه أكثر من خمسة آلاف مدني من الأطفال والنساء والشيوخ، بين قتيل وجريح في شهر نيسان بالذات، بينما يعيش المعتقلون من أفراده في السجون الأمريكية تحت تأثير أساليب التعذيب والاغتصاب، بموافقة المخابرات العسكرية الأمريكية وعلم المسؤولين الكبار فيها، وربما فيهم مسؤولو وزارة الدفاع.. وهناك آلاف الصور وأشرطة الفيديو التي لم تنشر حتى الآن، ما يعطي صورة أوضح عن حجم الديمقراطية النموذجي الذي يريد الرئيس الأمريكي أن يعممه على المنطقة العربية والإسلامية من خلال العراق..

إن العراقيين يشاهدون أمامهم في تجربتهم الجديدة أمريكا "الصدامية" التي تجدد وسائل وأساليب التعذيب حتى الموت في السجون، وتفتح لهم أكثر من مقبرة جماعية، بعد أن شاهد العالم العربي والإسلامي أمريكا "الإسرائيلية".. ومن الطريف أن الرئيس الأمريكي يقف ليخاطب العرب من فضائية عربية ليستنكر ذلك ويعدهم بأن الفاعلين سوف يعاقبون، ولكنه لا يعتذر، لأن الاعتذار يفرض عليه تحمّل مسؤولية ذلك بإقالة وزير دفاعه، الطفل المدلل عنده..

والسؤال: هل هناك مجال للثقة بأمريكا في طروحاتها الإنسانية؟ وهل هناك ما تخاف منه الأنظمة العربية من هجمة أمريكا عليها في نشر الحرية والديمقراطية؟ إننا أمام هذه المواقف نريد من شعوبنا ـ ولا سيما الشعب العراقي والفلسطيني ـ أن يعرفوا ما معنى أمريكا، ليرددوا قول الشاعر:

المستجير بعمرو عند كربته     كالمستجير من الرمضاء بالنار

لبنان: الارتفاع إلى مستوى التحديات

أما في لبنان، فقد بدأ العدوان الإسرائيلي على أرضه بعد أن كان يتحرك في أجوائه، مستغلاً بعض الأوضاع السياسية في داخل كيانه، وحالة الاهتزاز السياسي في المنطقة، وبعض الإرباكات في الواقع اللبناني الداخلي بفعل الجدل الدائر في الساحة من خلال الاستحقاقات الحاضرة التي يستغرق فيها الناس في عصبياتهم المتنوّعة..

إننا نحذّر من خلفيات ذلك كله، ليرتفع الجميع إلى مستوى المرحلة في التحديق بالتحديات الكبرى بعين تراقب الداخل في قضاياه الحيوية سياسياً واقتصادياً وإنمائياً، وعين تراقب الخارج في القضايا المصيرية في حركة الأوضاع القلقة، ولا سيما في خط التحالف الأمريكي ـ الإسرائيلي للسيطرة على مقدّراتنا، في استغلال للغياب السياسي الذي يرصد الخطط المتحركة في اتجاه إسقاط مواقفنا العامة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية