ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً* وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً}، {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}، {قل يا أيّها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السماوات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأميّ الذي يؤمن بالله وكلماته واتّبعوه لعلّكم تهتدون}.
محمد رحمةٌ للعالمين
نلتقي في هذه الأيام بذكرى ولادة النبي الأعظم (ص)، الذي أرسله الله رحمةً للعالمين، ليرحم عقولهم حتى تنفتح على الحق في كل جوانب الحياة، في العقيدة والشريعة والحركة والمنهج، وليرحم قلوبهم، فلا تنبض إلاّ بالمحبة للناس جميعاً، ويرحم حياتهم، فلا تسير إلاّ في اتجاه العدل بين الناس جميعاً، إنه الرحمة في عقله، وعقله هو العقل الأكبر في الناس، وفي قلبه، فقد كان (ص) حريصاً على المؤمنين، رؤوفاً ورحيماً بهم، وفي حياته، فقد كان المتواضع مع الفقراء والمساكين، يعيش معهم ومع المستضعفين منهم كأنه واحد منهم، فلا يتكبّر ولا يتجبّر، لأنه كان كبيراً بالله، ومن كان كبيراً بالله فعليه أن يكون المتواضع مع الناس، فالإنسان كلما عاش عظمة الله في نفسه، وكلما كبر في تقواه ومحبته لربه، أدرك معنى إنسانيته، وعرف مقدار فقره إلى الله، وأن الناس سواء بين يدي الله، حيث «لا فضل لعربي على أعجمي إلا بالتقوى»، و{إن أكرمكم عند الله أتقاكم}.
الله مؤدب رسوله
عاش رسول الله (ص) يتيماً، مات أبوه وهو في بطن أمه، وماتت أمه وهو رضيع، واستُرضع في حيّ من أحياء العرب، كما كان يفعل الناس من قريش، وعاش (ص) بعين الله، «فقد وكّل الله به ـ كما يقول عليّ (ع) ـ عظيماً من أعظم ملائكته، يلقي إليه في كل يوم علماً وخلقاً»، حيث تأدّب بآداب الله، وقد جاء في حديثه: «أدّبني ربي فأحسن تأديبي».
الرسول (ص) وحي يوحى
لم يكن (ص) قارئاً ولا كاتباً: {وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطّه بيمينك إذاً لارتاب المبطلون}، لو كان يقرأ أو يكتب لقالوا إن ما جاء به من القرآن والشريعة هو أمر تعلّمه مما قرأه من كتب الأولين أو مما سمعه من الناس، ولكنه جاءهم وهو الأمي بأعظم مما جاء به العلماء والبلغاء والمشرّعون والحكماء، حتى يعرف الناس من ذلك أنه نبي، وأن وحي الله هو الذي علّمه، وهو الذي أنزل عليه القرآن. وهذا ما كان النبي (ص) يحدّث به الناس، عندما قدّم نفسه إليهم وهو يقول: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ـ لم آتِ محمّلاً بخزائن الله لتتبعوني بما أملك من ثروات ـ ولا أعلم الغيب ـ ولا أملك أن أحدثكم عن المستقبل ـ ولا أقول لكم إني مَلَك ـ وإنما أنا بشر ـ إن أتّبع إلاّ ما يوحى إليّ}، فأنا في كل رسالتي ومعلوماتي أتلقى ذلك من ربي: {قل ما كنت بدعاً من الرسل وما أدري ما يُفعل بي ولا بكم إن أتَّبع إلا ما يوحى إلي}، {ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسّني السوء}، قدّم نفسه للأمة بكل بساطة وعفوية وثقة، لأنه الإنسان الإلهي الذي صاغه الله تعالى، فجعل العصمة في عقله وقلبه وفي كل حياته، وجعله لا ينطق إلا بالحق: {وما ينطق عن الهوى* إن هو إلا وحي يوحى}، فقد صاغ الله تعالى أخلاقه من أخلاقه، وقد ورد في الحديث: «تخلّقوا بأخلاق الله»، وقال الله عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
النبي هو القرآن حركةً وتجسيداً
وكان النبي (ص) يحمل القرآن ويبلّغه بلسانه، وبكل كيانه، كان قرآناً يتحرك، فإذا أردتم أن تقرأوا القرآن وتشاهدوه، فاقرأوه في حياة النبي (ص) وسيرته، فقد كان قرآناً يتجسّد، فما من آية من آيات القرآن إلا وقد تمثّلها رسول الله في عقله، وحملها في قلبه، وعاشها في سيرته. ولذلك فإن الله كما أراد لنا أن نستمع لرسوله، أرادنا أن نقتدي به: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيراً}، فقد كان القدوة في كل أفعاله ومواقفه، ولذلك فإن العلماء يقولون إن السنّة ـ سنّة النبي (ص) ـ هي قول النبي وفعله وتقريره، ففعله وقولـه وإقراره على ما يراه أمامه وما يقبله أو لا يعترض عليه شريعة.
رضى الله مؤنس
وهو الذي كان يحدّق بالله، ولم يكن يحدق بالمستكبرين والمترفين والأغنياء، وهو الذي قال لربه عندما اضطهده قومه وضربوه بالحجارة: «إن لم يكن بك غضبٌ عليَّ فلا أبالي»، فما دمت معي يا ربّ فلا مشكلة عندي، إن المسألة هي رضاك ولا شيء إلا رضاك، فليغضب العالم كله فلا قيمة لذلك عندي، لأنني أعيش رضاك فيؤنسني ويطرد عني الوحشة والغربة والحزن والألم. وقالها لصاحبه في ليلة الهجرة: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}، لأن الإنسان عندما يحسّ بأن الله معه، فإنه يعيش الفرح في قلب الحزن، واللذة في قلب الألم. وهذا ما علّمه رسول الله (ص) لأصحابه، أن يشعروا في حالات الشدة بأنهم كبار وأنهم الأشداء يتبعون رضوان الله، وهذا ما حدّثنا به الله تعالى عن صحابته الأصفياء: {الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل* فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم* إنما ذلكم الشيطان يخوّف أولياءه فلا تخافوهم وخافونِ إن كنتم مؤمنين}.
في ذكرى مولد النبي (ص)، لا بد لنا أن نتذكّر أن النبي (ص) عانى ما عاناه،وأوذي بما أوذي به من أجل رسالة الإسلام، وقد نقل عنه أنه قال: «ما أوذي نبي مثلما أوذيت»، لقد تحمّل الأذى في كل حياته، وتحمّل الكلام السيئ والشتائم والسباب والحصار والاضطهاد، وبقي صامداً ليحمل الرسالة إلى الأجيال من بعده، لتتجذّر الرسالة في الصفوة الطيبة من أهل بيته وأصحابه، لتكون منهاجاً متحركاً ينقله كل جيل إلى الأجيال الأخرى، وهذا ما عبّر الله عنه عندما صاح بعض الناس في "أُحد": لقد مات محمد، ونزلت الآية: {وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفئن مات أو قُتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}.
الاعتصام بحبل الله
لقد انتقلت الرسالة من جيل إلى جيل، وقد عاشت تلك الأجيال كلها مع رسالة الإسلام، واختلف المسلمون فيما بينهم، في تفسير القرآن تارةً، وتفسير الشريعة أخرى، وفي نقل الحديث عن رسول الله (ص) ثالثة، وحدثت الكثير من حالات الانحراف والغلو مما فرضه التخلّف، وكان الله تعالى يرصد واقع المسلمين بأنهم سوف يختلفون، فطلب منهم أن يتحاكموا إلى الله والرسول في ما يختلفون فيه من فكر، كما في قوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول...}، ولكن حالات التخلّف والأوضاع القلقة التي أحاطت بالمسلمين جعلتهم فرقاً وأحزاباً ولم يستمعوا إلى قوله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا...}.
لقد عاش المسلمون الاختلافات، فأصبحوا مذاهب وفرقاً متعددة، ورأينا كيف تصاعدت وتيرة هذه الخلافات وتردى واقع المسلمين وأضحى يكفر بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً، والله أرادهم أن يردّوا الأمر إلى إليه وإلى الرسول، وأن يدعوا إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة، ولكن المسلمين انطلقوا مع أهوائهم وشهواتهم وتعقيداتهم النفسية، ومما كان يدسه الآخرون من أفكار مسمومة وفتن، فتحوّل الأمر إلى أن يكفّر بعضهم بعضاً ويقتله، ويصدر هذا ممن يعتبرون أنفسهم في مواقع الفتيا والمرجعية والوعظ والإرشاد، وانتشرت مسألة التكفير، حيث نجد الآن أن هناك فريقاً من المسلمين يستحلّ قتل المسلمين والمستضعفين من الأبرياء تحت عناوين ما أنزل الله بها من سلطان، وهذا ما نلاحظه من خلال التفجيرات التي تحدث في البلاد الإسلامية، وقد طال هذا المنحى حتى أبناء المذهب الواحد، فالمسلمون السنّة يكفّرون بعضهم بعضاً، وهكذا المسلمون الشيعة، ففي مجالات بعض علمائهم يضللون بعضهم بعضاً، من دون أن يدخلوا مع الآخر في حوار وتفاهم، بل يتّبعون من يوسوس لهم هنا وهناك ممن يحيط بهم ممن لا تقوى لهم، وهكذا فقدنا الروح والمحبة والرحمة الإسلامية، ولهذا أصبحت الثقافة عندنا ـ سواء في الواقع الديني أو السياسي أو الاجتماعي ـ ثقافة الحقد والعداوة والبغضاء، حيث إننا لم نعد نتحدث كيف ندعو إلى الإسلام ونحافظ عليه وكيف نواجه التحديات الكبرى التي تطبق علينا، بل أصبحنا نفكر كيف يعادي بعضنا بعضاً، وأصبحنا نتحزّب باسم الإسلام ونقتل بعضنا بعضاً باسم الإسلام، فأي إسلام هو هذا الإسلام؟
لقد كان رسول الله (ص) رسول المحبة والخير، وكان حريصاً على المؤمنين، هذا هو رسول الله فأين نحن منه، هذا هو خلق رسول الله فأين هم الذين يعتبرون أنفسهم ممثلين له: {لقد جاءكم رسولٌ من أنفسكم عزيز عليه ما عنتّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم}.
في ذكرى رسول الله، علينا أن نرجع إليه ونخشع بين يديه، ونتعلّم منه كيف كان قريباً من الله، وكيف كان حريصاً على المؤمنين: {محمد رسول الله والذين معه ـ وهم أصحابه ـ أشداء على الكفار رحماء بينهم}، فكيف نحن الآن: رحماء على الكفار، أشداء بيننا، يقتل بعضنا بعضاً، ويلعن بعضنا بعضاً، ويكفّر بعضنا بعضاً، أما على الكفار، فنحن نتحدث عن كيف يمكن أن نكون مع أمريكا صالحين طيبين، نتحدث بالديمقراطية والحرية، وهم يسفكون دماءنا؟!
لنعش وحدة الأمة
القضية ـ وأعتذر من هذا الكلام ـ تحتاج إلى شرف، نحن لا نعيش شرف الإسلام وعزته، أصبحنا نتحرك كما كان اليهود يتحركون في زمن النبي (ص)، لماذا انكسر اليهود في ذاك الزمن؟ لأن {بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميعاً وقلوبهم شتى}، ولماذا انتصرنا؟ لأن المسلمين كانوا {أشداء على الكفار رحماء بينهم}، وانقلبت الصورة؛ فهل نسترجع تلك الصورة؟ علينا أن نعيش وحدة الأمة، ليس الوقت أن يكفّر السنّة الشيعة الآن، أو العكس، أو أن نثير العصبيات المذهبية والقومية والعائلية والحزبية الآن، إننا نسلم إذا سلم رأس الإسلام وإذا سلمت أمة الإسلام، لن تكون كبيراً إذا كنت عند المستكبرين، لأنهم يرونك صغيراً عندما تعطي لهم إعطاء الذليل، يحتقرونك حتى إذا كنت تتحرك في خدمتهم، ويحترمونك حتى إذا كنت تقاتلهم، لأنهم يعتبرون أنك تعيش إنسانيتك.
إن العالم قد شنّ الحرب علينا، فكيف نواجهه؟ عندما برز عليّ (ع) في يوم الأحزاب ـ ونحن ندّعي أننا من شيعته ـ قال النبي (ص): «برز الإيمان كله إلى الشرك كله»، واليوم برز الشرك كله إلى الإيمان كله، فهل يبرز الإيمان كله إلى الشرك كله؟ عندما تحيون ذكرى كربلاء تذكّروا أن الحسين (ع) قال: «لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل، ولا أقرّ إقرار العبيد»، يزيد في زمن الحسين (ع) أصبح في مرحلتنا اليوم أمريكا، وجيش بني أمية هو جيش المستكبرين، فكّروا هل أنتم ضد يزيد العصر ومع حسين العصر؟ حددوا مواقفكم الآن قبل أن يأتي الوقت الذي لا يستطيع أحد أن يحدد فيه مواقفه.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا الموقف صفاً واحداً، فإن الله يقول: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاًَ كأنهم بنيان مرصوص}، وحاولوا أن تتحمّلوا مسؤولياتكم وأن تخرجوا من عقلية الفرد إلى عقلية الأمة، لتواجهوا المرحلة بكل المسؤولية، لأننا نخوض الحرب في أكثر من بلد، فنحن نواجه حرباً شرسة مجنونة في فلسطين والعراق وفي أكثر من موقع، وقد تناقلت إلينا الأخبار أن هناك أكثر من مئة مسلم قتلوا وهم في مساجدهم في تايلند، لذلك علينا أن نواجه الموقف بمسؤولية، لأن القوم يريدون إسقاط الإسلام في دينه وأمته وكل مقدّراته، فتعالوا لنرى ماذا هناك مما يحيط بنا، لنتخذ المواقف:
أمريكا تشرعن الاحتلال في فلسطين
تحتفل إسرائيل بالسنة السادسة والخمسين للعدوان اليهودي على الشعب الفلسطيني، وطرده من أرضه، وذبح أطفاله ونسائه وشيوخه، لتأسيس الدولة اليهودية في المنطقة وتغيير كل أوضاعها، بمساعدة بريطانيا أولاً، وأمريكا في امتداد الزمن، بالدرجة التي التزمت فيها بالأمن المطلق لإسرائيل على حساب أمن العرب كلّهم، سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، واعترفت بإرهاب الدولة ضد الفلسطينيين، لتأخذ الحرية المطلقة في القيام بالمجازر الوحشية، والاغتيالات السياسية، والتدمير المنظَّم للبنية التحتية، والحصار الغذائي والمائي والدوائي، والعقوبات الجماعية للشعب الفلسطيني بزعمها أنه شعب "إرهابي لا بد من إبادته"..
إن أمريكا التي أطلقت شعار الحرية في دستورها، أصبحت تشرّع الاحتلال اليهودي لفلسطين، والاحتلال الأمريكي للعراق، وتبرر للمحتل قصف المدنيين وقتل الأطفال والنساء عشوائياً بدم بارد، وهذا ما يتمثّل في حاضر الإدارة الأمريكية التي تتحدث ـ بدون حياء وبكل وقاحة ـ عن حقوق الإنسان وعن الحريات، وتتباكى على الشعب اليهودي، وتتحدث عن إنقاذ الشعب العراقي من الإرهاب، ولكن بطريقة تحريك إرهاب الدولة في ممارسات جيشها في أكثر من مدينة في العراق..
إن وعد "بوش" الذي يلتقي بوعد "بلفور"، يرى أن الاحتلال يصنع حقائق واقعية لا بد أن يعترف بها الشعب المحتلة أرضه، كما جاء في رسالته إلى حليفه الإرهابي "شارون"، في منع الفلسطينيين من العودة إلى أرضهم، وتشريع مصادرتها من قِبَل المستوطنين، لاستكمال حلقات الاحتلال الاستيطاني لفلسطين.. ثم يحاول وزير خارجيته أن يخدع العرب بالقول إن المسألة "خاضعة للحل النهائي في المفاوضات"، من دون أن يكشف لهم أن أمريكا الضاغطة على المفاوضات سوف تكون إلى جانب إسرائيل التي تملك كل الأوراق، لتمنع الفلسطينيين والعرب من تقديم برنامجهم في الدولة الفلسطينية على أساس عودة اللاجئين، وتحرير الأراضي المحتلة في سنة 67، ومعها القدس...
بالوحدة تبقى فلسطين قضية حية
إن ذكرى احتلال اليهود لفلسطين لا بد من أن تنفتح على خطة تتوحَّد فيها كل فصائل الشعب الفلسطيني على أساس المقاومة العسكرية والسياسية، في دراسة كل الظروف الموضوعية المحيطة بالقضية، وتسعى لتشكيل حركة عربية ـ إسلامية ـ فلسطينية على مستوى كل قوى التحرر في العالم، للتأكيد والإصرار على إبقاء القضية حيّة قوية في خط العدالة..
والسؤال الموجَّه إلى العرب: أين هو الصوت العربي السياسي الضاغط للاحتجاج على الإدارة الأمريكية في تغطيتها المتواصلة لمجازر اليهود في فلسطين؟ وأين هو المال العربي لمساعدة الشعب الفلسطيني، ولا سيما بعد أن اعترفت الأمم المتحدة بأن أوضاعه أصبحت لا تطاق، وأن ميزانية وكالة الغوث انخفضت إلى الثلث تقريباً؟ هل هو الخوف من أمريكا أن تتهم الدول العربية بمساعدة ما تسمّيه الإرهاب، لأن الشعب الفلسطيني تحوّل عند أمريكا إلى شعب "إرهابي"؟؟
إنه سؤال يبقى بلا جواب، لأنهم لا يملكون الشجاعة في إعلانه.. وإننا نؤكد في هذه المرحلة موقفنا الشرعي الموجَّه إلى الشعوب العربية والإسلامية، بمقاطعة المنتجات الأمريكية ـ مع الإمكان ـ والمنتجات الإسرائيلية بشكل مطلق، حتى لا يبقى الموقف في نطاق الشعار الكلامي.
العراق وفلسطين: المقاومة حركة مشروعة
أما العراق، فإن الطائرات الأمريكية المتطوّرة والدبابات والصواريخ، تقصف المدنيين الذين يحاصرهم الجيش الأمريكي في أكثر من مدينة، وليواجه الأمريكيون بذلك شعباً يرفض احتلالهم ويقاومه بمختلف الوسائل، ما جعلهم يتخبّطون في إدارة الأمور.. فهم من جهة يتعاونون مع الأمم المتحدة ولكنهم لا يمنحونها الصلاحيات الفاعلة، ومن جهة ثانية يتحدثون عن إعطاء السيادة للعراقيين، ولكنهم يحتفظون بالقوة الأمنية والعسكرية لجيوشهم في المدن وخارجها، وبالسيطرة الاقتصادية على كل ثروات العراق واستثماراته لشركاتهم، ويرفضون قيام الحكومة السيادية بأيّ قانون لا يوافقون عليه!! إنها سيادة مغلّفة بالاحتلال لخداع الشعب العراقي..
إن أمريكا تتحدث عن الحرب ضد الإرهاب، ولكنها لم تتحدث عن أسبابه ولا عن طبيعته، ولا عن وسائل محاربته، ولا عن الفرق بينه وبين المقاومة، لأنها لا تريد الاعتراف بأن احتلالها للعراق واحتلال اليهود لفلسطين هو مظهر من مظاهر إرهاب الدولة الذي تمثّل المقاومة له حركةً مشروعةً تحت عنوان الدفاع عن الحرية.. إن أمريكا ـ كإسرائيل ـ تتحرك بأسلوب الحل لمشكلتها بالقوة لا بالسياسة، ولذلك فإنها سوف تبقى غارقةً في الرمال العراقية المتحركة، كما هي إسرائيل غارقة في الرمال الفلسطينية، لأن القوة لا تُسقط شعباً، بل سوف تُسقط المحتل في نهاية المطاف..
ثم إن الشعوب العربية والإسلامية تكره السياسة الأمريكية بكل مفاعيلها، لأنها سياسة ضد قضايا الحرية في بلادها.. وإذا كانت أمريكا تضمن صداقة رؤساء الأنظمة العربية والإسلامية أو محبتهم، فإن عليها أن تعرف أنهم لا يمثّلون شعوبهم، بالإضافة إلى أنها لم تساعدهم في الحصول على بعض ماء الوجه في أوضاعهم وسياستهم، لأنها لا تحترم عملاءها.
لبنان: الالتزام بالمواطنية
أما لبنان، فإننا نخشى أن يدخل هذا الاستحقاق الحالي في مرحلة العصبيات العائلية، بعد أن تجاوزتها الأوضاع الحزبية، فنرى أن الواقع قد يتمظهر بتمثيل العائلة بعيداً عن الكفاءات الأخلاقية والعلمية، لننتقل من عصبية إلى عصبية ما قد يثير أكثر من ذاكرة تاريخية للأحقاد والعداوات..
إننا ندعو اللبنانيين في جميع الاستحقاقات المتصلة بمستقبل وطنهم وأمتهم، أن يلتزموا المواطنية التي تكفل للشعب نموّه وحريته ووحدته، وتحقق له الوسائل التي تبلغ به الدرجة العليا في المصالحة الوطنية، على قاعدة الرحمة والمحبة والتطلّع إلى فجر جديد في إنسان جديد. |