ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
القمة في الحكمة والعلم والأدب
يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: {إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}، من أهل هذا البيت، الإمام محمد بن علي الجواد الذي تصادف ذكرى وفاته في هذه الأيام من ذي القعدة، وهو من أصغر الأئمة(ع) في العمر الزمني، إلا أنه مع صغر سنه الذي يلتقي مع صغر سنّ يحيى(ع)، كان يمثل ما يشبه المعجزة البشرية، {وآتيناه الحكم صبياً}، فقد كان ذلك في المجتمع الذي يحكمه بنو العباس الذين اضطهدوا الأئمة(ع) بمختلف أنواع الاضطهاد، حيث كانوا يخافون على ملكهم منهم، لأن الأئمة(ع) كانوا يملكون الثقة الكبرى لدى المسلمين من مختلف المذاهب والاتجاهات، سواء كانوا ممن يقولون بإمامتهم، أو ممن لا يقولون بها.
لكن هذا الإمام تميّز بالعلم الواسع الغزير الذي تفوّق به على كثير من علماء عصره، حتى إنّ الخليفة العباسي آنذاك، المأمون، الذي كان من الخلفاء المثقفين؛ كان يقدّره ويعظّمه تعظيماً كبيراً، كما ينقل الشيخ المفيد رحمه الله في كتاب الإرشاد، قال: كان المأمون قد شغف بأبي جعفر ـ وهذه كنية الإمام الجواد ـ لما رأى من فضله مع صغر سنه، وبلوغه في العلم والحكمة والأدب وكمال العقل ما لم يساوه فيه أحد من مشايخ أهل الزمان، من علمائه، وزوّجه ابنته أمّ الفضل متوفراً على إكرامه وتعظيمه وإجلال قدره.
وبلغ من تعظيم هذا الخليفة للإمام الجواد بعد أن زوجه ابنته، أن اجتمع كل أفراد عائلته من العباسيين، وخافوا أن يجدد المأمون ما بدأه من تولية العهد لأبيه الإمام الرضا(ع)، ما يجعل الخلافة تنتقل من بني العباس إلى بني علي(ع)، وعاتبوه على ذلك، ولكن المأمون قال لهم، لقد عرفت من فضل هذا الشاب ومن علمه ما جعلني أعظّمه، فقالوا له: فهلا تركته وهو صغير السن يتعلم ويتثقف ويتأدب ليبلغ ما بلغ قبل أن تعطيه هذه الكرامة وهذا الشأن الكبير، ولكنه قال لهم: إن هذا من أهل بيتٍ علّمهم الله سبحانه وتعالى وألهمهم.
واتّفق القوم بعد ذلك على أن ينصب له المأمون مجلساً ويدعو فيه كبير القضاة، يحيى بن أكثم، ليسأل الإمام الجواد(ع)، الأسئلة التي ربما يريدون من خلالها أن يظهر عجزه... وهكذا كان، وجيء بالإمام الجواد(ع) وبدأ كبير القضاة يسأله، ولكنّ الإمام الرضا(ع) فرّع مسألته إلى عدة مسائل، حتى أعجز هذا القاضي الكبير عن الجواب وتحيّر، ثم طلب منه المأمون أن يفصّل ما سأله إيّاه قاضي القضاة، ففصّله الإمام(ع)، وسلّم الجميع بعلمه وفضله وتفوقه على علماء زمانه، بالرغم من صغر سنه.
وهكذا رأينا أن المجتمع من حوله كان يقبل عليه ويسأله عن كلِّ ما أهمّه، وكان الإمام(ع) يبيّن لهم ذلك، حتى سلّم الجميع بفضله في هذا المجال.
الولاية لله في السرّ والعلانية
ونحن في هذا الموقف، نحاول أن نختار بعض كلمات الإمام(ع)، سواء في الموعظة أو في الجانب الاجتماعي السلوكي، من خلال بعض كلماته التي قالها وهو ينصح بعض أصحابه: "لا تكن ولياً لله في العلانية وعدوّاً له في السرّ". فالإمام(ع) أراد من خلال هذه الكلمات، أن يعالج حالة أولئك الذين يظهرون أمام الناس بمظهر الأتقياء المؤمنين، سواء في عباداتهم أو في كلماتهم أو في علاقاتهم، لكنهم في الوقت نفسه عندما يعيشون السرية في حياتهم، فقد تجدهم أعداء لله، كأولئك الذين يظلمون أسرهم، ويظلمون الناس الذين هم تحت سلطتهم، أو كأولئك الذين يفتنون ويكذبون في السر، بحيث يظهرون للناس بمظهر الأتقياء، ولكنهم في السرّ يعيشون عيشة الأشقياء، الذين لا يتركون ذنباً إلا أذنبوه، ولا يتركون أحداً إلا ظلموه.
وفي كلام آخر يتحدث فيه الإمام(ع) عن الناس الذين يستمعون إلى بعض الخطباء أو بعض الوعّاظ وينجذبون إليهم ويأخذون ما يتحدثون به من دون تفكير، بحيث إنهم يسلّمونهم عقولهم من دون أن يفكروا في طبيعة هذا الخطيب أو ذاك، في علمه، في ثقافته، في استقامته، يقول(ع): "من أصغى إلى ناطق فقد عبده"، فهو يعني أن الإصغاء والتسليم لمن يتكلم هو نوع من أنواع العبادة، لأن العبادة تمثل غاية الخضوع ـ فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله ـ فإذا كان كلامه هو كلام الله فإنه قد عبد الله في إصغائه إليه ـ وإن كان ينطق عن إبليس فقد عبد إبليس"، لأنه خضع له بكليّته وانجذب لكلماته.
خصـال المؤمن
وهكذا يتحدث الإمام عن الصفات الأساسية للمؤمن، بقوله: "المؤمن يحتاج إلى توفيق من الله ـ أن يوفقه الله للحق وللخير وللالتزام الديني، وأن يفتح قلبه على ذلك كله ـ وواعظ من نفسه ـ بمعنى أنه لا يحتاج إلى واعظ من الخارج، بل يحاسب نفسه ويعظها بالتأمل والتدبر والتفكير، حتى تعرف نفسه من خلال تأملاته ومجاهداته، ما ينبغي لها أن تفعله، وما ينبغي لها أن تتركه ـ وقبول ممن ينصحه"، أن يستمع النصيحة من الناصحين الذين يملكون الخبرة والمعرفة والإخلاص، فيفتح عقله لهم، ليفكر في ما ينصحونه به، ويتقبّل ذلك عندما يرى الخير في هذه النصيحة، لأن الإنسان المؤمن لا بد له من تجديد نفسه بما يصلحها، وأن يغيرها فيما إذا كانت تسير في اتجاه ليس من مصلحتها، ولهذا يقول تعالى: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}.
وأيضاً، مما قاله لرجل استوصاه، قال له: "أوَتقبل؟ قال: نعم، قال: "توسّد الصبر ـ كن الإنسان الصابر على ما يواجهك من النوائب والمصائب والتحديات، ونحن نعرف أن الصبر لا يعني الاستسلام من دون تفكير، ولكن الصبر هو أن لا يسقط الإنسان أمام المشكلة، بل أن يتحمل كل مفاعيلها المؤلمة، لأن هناك من الناس من يجزعون عند المصائب ويسقطون أمام المشاكل، لأنهم لا يتحملون آلام المصيبة، ولا يتحملون النتائج السلبية للمشكلة، لذلك فهم لا يتماسكون، بل يسقطون أمامها.
أما الإنسان الصابر، فهو الإنسان الذي يحكّم عقله، ليدرس المشكلة وليدرس المصيبة، وليخطّط كيف يواجهها، وكيف يحتويها، وكيف يتجاوزها بالإرادة الصلبة، فهذا ما يمكن أن يحقق له النجاح في الدنيا والآخرة.
ـ واعتنق الفقر ـ إذا جاءك الفقر فلا تسقط نفسك أمامه، بأن تبذل نفسك لمن يذلّك، ولا تتنازل عن مبادئك وعزتك وكرامتك وحريتك نتيجة المغريات التي يقدمها الآخرون في حالة فقرك، بل حاول أن تعتنق الفقر، وتعمل حتى تتجاوزه ـ وارفض الشهوات ـ لأن الشهوات تنطلق من عمق الغرائز، وعلى الإنسان أن يجعل عقله أقوى من غريزته وأقوى من شهوته، لأن الله لم يمنع الإنسان من شهوة، ولكنه أراد له أن لا تطغى شهوته على عقله، وأن لا يسقط مصيره أمام أهوائه. {أرأيت من اتّخذ إلهه هواه} ـ واعلم أنك لا تخلو من عين الله ـ فالله يراقبك في كل كلماتك، وفي كل أعمالك، في خلوتك، في حياتك مع الناس، في بيتك، كيف تتعامل معهم، وكيف تقوم بمسؤولياتك تجاههم، ويراقبك في عملك كيف تتقنه، وكيف تخلص له، ويراقبك في مواقفك، كيف تتخذها؛ هل تتخذها من خلال اقتناعك وإيمانك، أم تتخذها من خلال شهواتك ومطامعك؟ والله يراقبك حتى في حركة فكرك وفي ما تنطلق به نواياك ويراقبك في عواطفك؛ هل تتحرك مع الحق أم مع الباطل. وهكذا يراقبك الله في كلماتك، فقد قال تعالى: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم}، فهو يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، واعلم أنك لن تخلو من عين الله، فانظر كيف تكون.
وهكذا ينطلق الإمام(ع) ليتحدث عن الإنسان في الحياة، كيف يتحرك بالمعروف؛ المعروف في الكلام والعمل، وفي الموقف. يقال "إن للجنة باباً يقال له باب المعروف، لا يدخله إلا أهل المعروف".
وقد قال لأِحد أصحابه عندما سأله عن مسألة القسم، بأنّ الله يقسم في القرآن بالليل {والليل إذا يغشى} ويقسم بالنهار {والنهار إذا تجلّى}، وهكذا يقسم بالنجم {والنجم إذا هوى}، فقال(ع): "إن لله أن يقسم من خلقه بما يشاء، وليس لخلقه أن يقسموا إلا به"، فالإمام يوجه الناس إلى أن القسم يمثل الإحساس بالعظمة لمن تقسم به، وعلى الإنسان أن لا يقسم إلا بالله، ليشعر بمعنى التوحيد لله، لأنه إذا أراد أن يؤكد شيئاً فعليه أن لا ينظر إلاّ إلى الله، لأن الأمور هي بيد الله سبحانه وتعالى لا بيد غيره، ولأن الرقابة العليا هي رقابة الله على الإنسان، لا رقابة غيره.
المؤمن لا يخون
وورد في الحديث عنه(ع) في الجانب الاجتماعي والسياسي: "إن المؤمن لا يخون"، وقد وردت هذه الكلمة جواباً عن سؤال شخص، قال له إني رجل أريد أن ألازم مكة والمدينة وعليّ دين، قال له(ع): "ارجع إلى مؤدّي دينك وانظر أن تلقى الله وليس عليك دين فإن المؤمن لا يخون". فالمؤمن عليه أن يفي بكل التزاماته، والدين هو عهد التزام، فإذا كنت تهمل دينك وتنكره تحت أي تأثير من التأثيرات، فإنك بذلك تكون خائناً للأمانة، لأن الدين أمانة، حيث لا فرق بين أن تستدين المال من شخص وتتصرف به، وبين أن تضعه في الخزانة وتحفظه له من ناحية الأمانة، حيث أعطاك هذا الإنسان ثقته، وهو يريد أن يساعدك، فاعتبرك أميناً على ماله لترجع إليه هذا المال في الوقت المناسب.
والله تعالى يقول: {يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا أماناتكم وأنتم تعلمون}، وقد ورد أنه "لا دين لمن لا أمانة له". لذلك يحاول الإمام(ع) في هذه الكلمة أن يوضح فكرة، وهي أن المؤمن لا يخون. وعليه، أحب أن أنبه إلى مسألة موجودة في بلاد الاغتراب وغيرها، وهي أن يستقرض شخص مالاً، حيث تسمح له القوانين بالاستقراض، وهذا حال الكثيرين، فبعد أن يستقرض المال يأتي إلى بلاده وهو يتصور أنه لا يتوجب عليه أن يعيد هذه الأموال، وخاصّة أن البعض يحصِّن موقفه ببعض الفتاوى، بحجة أن هؤلاء ليسوا مسلمين، وبالتالي فإن الاستيلاء على أموالهم مباح، ولذلك نقول إن هذا مخالف للشرع ولتعاليم الإسلام، والله تعالى يقول: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}. وهذا ما ينطبق على الذين يعلنون إفلاسهم وهم في الحقيقة عكس ذلك، {ليأكلون أموال الناس بالباطل}.
وهناك أنواع أخرى من الخيانة، وهي خيانة الوظيفة، حيث يؤتمن الموظف من قبل صاحب العمل، ثم يستغلّ هذا الموظف موقعه ليحابي فلاناً أو فلاناً، ويرتب الأمور على خلاف الوظيفة، فهذا خائن لوظيفته، لا سيما إذا كانت وظيفة عامة تتعلق بقضايا الناس وأحوالهم وما إلى ذلك.
وفي كلمة للإمام الجواد(ع) يقول فيها: "كفى بالمرء خيانة أن يكون أميناً للخونة"، بمعنى أن يساعد الخونة ويدعمهم، ويغطي خيانتهم، وينفذ مخططاتهم، لأن الله لا يريد للإنسان أن يكون خائناً بشكل مباشر أو غير مباشر، لأن الذي يساعد الخونة ويدعمهم ويؤيدهم، يتحمّل الجزء الكبير من خيانتهم، سواء كانوا خونة في الدين أو في السياسة أو في الاجتماع أو ما إلى ذلك، لأنه لو لم نساعدهم نحن لما وصلوا إلى هذه المراحل من القوة.
وهذا ما ينطبق أيضاً على الطغاة والخونة، ممن تعطي لهم الثقة، فيتم انتخابهم في مختلف المواقع، فأنت عندما تعطيهم صوتك، فإنك تصبح شريكاً لهم في الجريمة.
وعلى هذا الأساس، يجب أن نجري حساباً في كل صوت نعطيه أو في كل كلمة نقولها، لأنّ هذا الصوت ليس مجرد صوت نضعه في صندوق اللعبة السياسية أو الاجتماعية، بل هو صوت نضعه في جوهر المسؤولية، والله سوف يسألنا عنه بحسب النتائج السلبية أو الإيجابية {يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها} {وقفوهم إنهم مسؤولون}.
ولذلك، يجب أن يكون تأييدنا أو رفضنا له مبنياً على أساس رضا الله، {وكلهم آتيه يوم القيامة فرداً}، فإذا كان هذا التأييد مرتكزاً على الأمانة أمام الله وأمام الناس، فسنحاسب حساباً يسيراً، وإذا كان تأييدنا مخالفاً لما يريده الله ورسوله وما يتفق مع مصلحة الناس، فسوف نحاسب حساباً عسيراً. لذلك فانظر كيف تطلق كلمتك، وأين تضع صوتك، وكيف تعطي قوتك لأي شخص، لأن القضية هي أنك سوف تقف {يوم لا تملك نفس لنفس شيئا والأمر يومئذ لله} {يوم لا ينفع مالٌ ولا بنون* إلا من أتى الله بقلب سليم}.
هذه تعاليم أئمة أهل البيت(ع)، وهي تعاليم الإسلام الأصيل، تعاليم رسول الله(ص)، {وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله، اتقوا الله وكونوا الأمناء على أنفسكم وعلى عيالكم وعلى الناس من حولكم، لأن الله حمّلنا مسؤولية ذلك كله، فقال: {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة}، وأرادنا الله سبحانه وتعالى أن نواجه كل الذين يريدون إسقاط الأمة في كل قضاياها وفي كل مصالحها، وفي كل أمورها في كل مجالات الحياة هنا وهناك. راقبوا الواقع كله من خلال ما يتحرك به الخائنون في الداخل والخارج، من أجل الإساءة إلى الأمة كلها بهدف إسقاطها، وذلك من خلال تمكينهم المستكبرين من اضطهاد المستضعفين وظلمهم. ونحن لا نزال نواجه هذا العالم الذي يؤيد الخائنين ويدعم المستكبرين ويضطهد المستضعفين، فلننظر ماذا هناك:
لا مبررات للتهديدات الأمريكية
أيّ عالم هو هذا العالم الذي نعيش فيه، فالذين يملكون القوة العسكرية، كالدول الكبرى، ولا سيما أمريكا، يهددون المستضعفين في العالم الذين لا يملكون وسائل القوة، بما في ذلك ما يحتاجونه للدفاع عن أنفسهم، ويبررون حملاتهم هذه بإطلاق الأكاذيب التي لا يستطيعون إقناع أحد بها. فالإدارة الأمريكية تتهم سوريا وإيران وقبلهما العراق بامتلاك أسلحة الدمار الشامل أو بالتخطيط لامتلاكه من دون أيّة حجة، وكذلك بدعم الإرهاب الذي لا يسمحون لأية دولة أو أيّ فكر بتحديد مفهومه، أو بالحديث عن ضرورة مكافحة هذا الإرهاب الذي يتّخذونه غطاءً للحرب الاستباقية ضد كل دولة تختلف مصالحها عن مصالحهم. وهي تدعو إلى إصلاح الأنظمة في دول الشرق الأوسط من أجل نظام ديمقراطي، كما لو كان الرئيس الأمريكي رسولاً أرسله الله لإصلاح العالم _ كما أوحى بذلك في بعض كلماته _ بالقوة العسكرية أو بالضغط العسكري... كل ذلك في الوقت الذي أوحى لإسرائيل بأن عليها أن تحذو حذو الإدارة الأمريكية، فلا تطلب إذناً من أحد _ حتى من الأمم المتحدة _ في العدوان على بلدان المنطقة وعلى الفلسطينيين المدنيين والمدافعين عن استقلالهم، بالطريقة التي تراها مناسبةً في الدفاع عن نفسها ـ كما تزعم ـ.
لقد وضع الرئيس الأمريكي دولته في حالة حرب على العالم الذي يتوهم أنه يشكل خطراً على أمريكا، بزعم أنها معرّضة للعدوان الإرهابي، ولم يستطع أن يمنح بلده سلاماً. وهذا ما لاحظناه في القوانين المضادّة للحقوق المدنية للشعب الأمريكي، ولا سيما للمسلمين من مواطنيه، وفي التخويف الدائم من الخطر الموهوم.. وما زال هذا الرئيس الذي يتحدث دائماً عن حقوق الإنسان والديمقراطية وعن أسلحة الدمار الشامل، يمنح إسرائيل الحق في إسقاط هذه الحقوق للشعب الفلسطيني، ويحارب الديمقراطية في داخله لأنه لم يستسلم لإسرائيل.. ويبرر للدولة العبرية ملكيتها للأسلحة النووية والبيولوجية والكيميائية التي تمثل خطراً على المنطقة كلها، بحجة حاجتها لدفع الخطر عنها.. ويدعم كل عدوانها، بما في ذلك احتلالها للأراضي الفلسطينية والسورية واللبنانية، وقيامها ببناء الجدار العنصري الذي حوّل حياة الفلسطينيين المدنيين إلى سجن كبير وإلى جحيم لا يطاق...
وقد كان آخر المواقف، المباركة الأمريكية للعدوان الإسرائيلي على لبنان، في اختراقها ـ براً وبحراً وجوّاً ـ الخط الأزرق الذي وضعته الأمم المتحدة، واعتبار قصف المقاومة لبعض وسائل العدوان الاختراقي إرهاباً، تماماً كما لو كان اللبنانيون لا يملكون حقاً في الدفاع عن أنفسهم.. ويبقى للرئيس الأمريكي الحديث عن الأحلام التي يغرق بها العراق الجريح في السيادة والاستقلال والرخاء والديمقراطية، ببركة الإدارة الأمريكية التي يضمر أكثر أفرادها الحقد على العرب والمسلمين، ويعملون على السيطرة على منابع النفط في العالم وعلى الاستثمارات المتنوعة لمصلحة الشركات الأمريكية الاحتكارية وعلى الأسواق الاستهلاكية.. في الوقت الذي يصرّح بأن الجيش الأمريكي سوف يبقى طويلاً في العراق حتى يحقق أهدافه التي أعلن عنها وزير خارجيته في بداية الحرب، وهي تغيير المنطقة كلها أمنياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً على صورة المصالح الأمريكية، لتبقى مصالح الشعوب على الهامش.
أمريكا: إنتاج الحرب
وإذا كان الرئيس الأمريكي يتحدث عن مكافحة الحملات المعادية لأمريكا في المنطقة، بتقوية إذاعة صوت أمريكا، فإننا نقول إن الشعوب العربية والإسلامية لا تحكم على الأقوال، بل على الأفعال التي تتحدى السلام في المنطقة، بتشجيع الاحتلال، وإبقاء القضية الفلسطينية في دائرة الأمن الإسرائيلي لا في دائرة الحل السياسي، ما جعل السلام مؤجَّلاً إلى ما بعد تمكّن إسرائيل من فرض الوقائع على الأرض، وتطويع العرب لقبول ما يفيض عن حاجتها...
وأما المطلب الأميركي المعجل، فإنه ضمان أمن الاحتلال.. إننا نطلب من هذا الرئيس أن يكون صادقاً مع الشعوب المستضعفة ولو لمرة واحدة، ولكن المشكلة أن الكذب قد تحوّل إلى صناعة سياسية لدى المستكبرين لخداع المستضعفين.
إننا نريد للشعب الفلسطيني في فلسطين الانتباه إلى قواعد اللعبة وإلى المتاهات التي تواجه الواقع عندهم وإلى الدعوة الأمريكية الكاذبة.. والتخطيط للاستفادة من الرأي العام الدولي، والعمل على تحريك المسألة الإعلامية، لا سيما في أوروبا، ليعرف كل هؤلاء خطر إسرائيل _ ومن خلفها أمريكا _ على الحضارة الإنسانية والسلام العالمي. ونريد للشعب العراقي أن يدرس خلفيات الوعود والسياسات لا ظواهرها وأن ينفذ إلى العمق لا إلى السطح، وأن يحدّق في اللعبة الطائفية التي بدأ البعض من الداخل والخارج يثير الجدل حولها في حسابات الأكثرية والأقلية والوحدة والفدرالية.. وفي الخطة التي يراد من خلالها إجهاض الدعوة إلى الاستفتاء الشعبي حول الدستور والحكومة وتقرير المصير بالتهاويل الأمنية والحواجز العرقية والمذهبية.
لقد أصبح العراقيون يملكون حرية الكلام والتظاهر، ولكن السؤال: كيف يخططون ليملكوا حرية التغيير وسلامة الأمن والتخطيط للاستقلال الاقتصادي؟ إننا نخاف على هذا البلد الذي عانى كثيراً مدة طويلة من كل العفاريت التي تجمعت حوله من خلال العفريت الأكبر. فمتى يتحرر من كل هذه العفاريت ليعيش في أمن وسلام وحرية من داخله لا من الخارج؟!
لبنان: فوضى الحاجات الحيوية
أما لبنان، فإنه لا يزال يعيش الفوضى في حاجاته الحيوية وفي متاهاته السياسية، وفي خلافاته الشخصانية وفي الثراء غير المشروع، وفي البطالة الشبابية التي تجتذب المواطنين إلى الهجرة، وفي التهاويل المتنوعة والأحلام المعسولة الكاذبة.. ما قد يدفع به إلى الانهيار لولا هذا الواقع العجائبي الذي يمسكه بطريقة خفية.
إن على اللبنانيين أن يحدّقوا بالمنطقة من حولهم، في زلازلها السياسية والأمنية، وفي إرباكاتها الاقتصادية، مما قد يترك أكثر من تأثير سلبي على مجمل الواقع، الأمر الذي يفرض على الجميع أن يبحثوا ـ ولو لمرة واحدة ـ عن المواطنية التي يلتقي فيها الشعب كله على حماية الوطن سياسياً وأمنياً، بدلاً من الطائفية التي يقبع فيها كل فريق طائفي في زنزانته المظلمة، وأن يوحّدوا الله ولا يشركوا به شيئاً في عبادة الأصنام البشرية الشخصانية.. وأن يفكروا في المستقبل بجدية بعيداً عن معادلة أصل الدجاجة والبيضة، أو ذكورية الملائكة وأنوثيتهم.. فهل من سميع؟! |