ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
الصبر يمثل خط التوازن
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين}، ويقول سبحانه: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، ويقول تعالى: {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشِّر الصابرين* الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون* أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}.
لم يركّز القرآن الكريم والسنّة النبوية الشريفة من خلال ما ورد عن النبي (ص)، وما حدّث به أهل البيت (ع) عنه، على قيمة كقيمة الصبر، لأن الصبر هو سرّ قوة حركة الحياة في حركة الإنسان، فلو أردنا أن ندرس الإنسان منذ بدايته في رحلة الوجود، فإن الله تعالى يقول: {لقد خلقنا الإنسان في كبد}، فالإنسان يعاني في نموّه في بطن أمه الكثير، وهكذا عندما يخرج إلى الوجود، فإنه يعاني وأمه الكثير، وهكذا في شأن رعايته بحيث يتحمل أبوه الكثير في ذلك، فالإنسان بحسب طبيعة حركته في الوجود ينطلق من موقع صبر قد يكون غريزياً وقد يكون إرادياً، لأنه لا يستطيع أن يواجه كل مسؤوليات وجوده وتفاصيله إلا بالصبر.
والصبر يمثل في معنى القيمة الإنسانية خط التوازن، لأن الإنسان عندما يواجه خوفاً فإن الخوف قد يسقطه، وعندما يبتلى بجوع فإن الجوع قد يصادر حياته، وعندما يبتلى بنقص من الأموال في خسارة هنا وهناك، أو نقص في الأنفس في من يفقده من أحبابه وإخوانه وأهله، ونقص من الثمرات التي تمثل الحاجات الحيوية للمجتمع في أوضاعه الغذائية والعملية، فإن الإنسان بحسب طبيعته في ضغط حاجاته قد يسقط، لأنه يشعر بالحرمان مما يحبّه أو يريده. ولذلك، فإن الصبر يأتي هنا من أجل أن يعطي الإنسان قوة التحمّل والتماسك، ليواجه هذه السلبيات في حياته بإيجابية الإرادة والصمود والصلابة. وإذا استطاع الإنسان أن يتماسك ويصمد، فإنه يستطيع أن يفكّر ويخطِّط ويدرس المشكلة ويعرف حجمها ويفكر في حلولها ومدى ما يحتاجه الحل هنا وهناك من زمن معين ووسائل معينة. ولهذا نجد أن الإنسان الذي يفقد صبره لا يستطيع أن يفكر، وقد يعيش الجزع والسقوط تحت تأثير المصيبة، فيكون ردّ فعله عندما تصيبه أن يقول: "لست قادراً على التفكير".
الصبر على الحق
والصبر ربما يحتاجه الإنسان ـ وكثيراً ما يحتاجه ـ في الصبر على الحق، عندما يكلّفه الموقف في الحق، سواء كان عقيدياً أو شرعياً أو اجتماعياً أو سياسياً، الكثير من الجهد والتحديات، لأن الذين يلتزمون الباطل سوف يواجهون الذين يلتزمون الحق بكل عنف الحقد الذي يحمله الباطل ضد الحق. ولعل أفضل تعبير عن النتائج السلبية للذي يقف مع الحق هو ما قاله عليّ (ع): "ما ترك لي الحق من صديق"، لأنّ مشكلته (ع) أنّه كان يرى أن الحق رسالته، وأنه لا يملك أن يعطي الباطل أي هدنة أو مجاملة، حتى وهو يعيش مع أجواء الباطل، لا من خلال رضاه عن الباطل، بل لأن هناك حقاً يفرض عليه هذا الأسلوب في هذه المرحلة، وهو ما قاله: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين"، فهو (ع) سلّم لكثير من الأوضاع السلبية التي كان يرى أنها باطل، ولكن عندما دار الأمر بين موقف العنف وبين مصلحة المسلمين، كانت مصلحة المسلمين هي الحقّ الأهمّ الذي ينطلق ليجمّد الحق الذي هو أقل أهمية.
لذلك، فإن الكثيرين من الناس من سائر المستويات، قد يضعف عن موقف الحق، لأنه قد يخسر امتيازاً مالياً يمنحه إياه أهل الباطل، أو موقعاً رسمياً أو شعبية اجتماعية، فيتنازل عن الحق، وعندما تحدِّثه عن ذلك يقول لك: "إني خاضع للضغط وأريد أن أعيش"، ولذلك يستعمل الكثيرون ممن يلتزمون الباطل الإرهاب الفكري ضد الذين يلتزمون الحق لإسقاط الموقف عند هؤلاء. وهكذا قد يقيم الإنسان على باطل نتيجة تأثره ببيئته التي تحمل كثيراً من أفكار الباطل وعصبياته، وعندما يقابل بالحجة على الحق والبرهان عليه، فإنه يضعف عن أن يترك ما ورثه أو ما تأثّر به، لأنه إذا وقف مع الحق وكان المجتمع على الباطل فإنه سوف يخسر مجتمعه..
ولذلك نجد أن كثيراً من أفكار الغلوّ والعصبية والتخلّف والخرافة تتحرك في الكثير من الناس، لأنهم يضعفون عن أن يتركوا ما أخذوه من الباطل، باعتبار ـ كما يقول البعض ـ "حشر مع الناس عيد"، وقد قال لي بعض الناس الكبار في بعض ما كنت أثيره مما أعتقد أنه الحق، قال لي: "نحن معك، أنت على حق ولكن لماذا تتكلم بهذا، لك أعداء وسوف يستغلون ذلك"، ولكنني كنت أقول: إن الحق ليس ذاتياً ولكنه رسالة، ولا يجوز لصاحب الرسالة أن يتنازل عن الحق وأن لا يقول كلمة الحق لأن هناك من يشتمه أو يتهمه وما إلى ذلك.
ولذلك، فإن الصبر هنا، أن تتماسك من أجل أن تعتبر أن الله هو الحق، وأن الناس من حولك قد يأخذون بالباطل وقد يأخذون بالحق، فلذلك لا بد أن تحرك عقلك بطريقة موضوعية بعيداً عما إذا كان الناس يرتاحون أو لا يرتاحون لذلك، ونحن نعرف أن الأنبياء كانوا يواجهون المقولة التي تقول: {إنّا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، ولعل هذا مما يأخذ به الكثير من مجتمعاتنا، لأن أصحاب الأفكار المضيئة المشرقة القوية يرجمهم المجتمع بشكل عام، وربما ينتظر حتى يغيبوا عن الحياة، فيجد المجتمع الجديد شيئاً من الحق هنا وهناك في أكثر من جانب، وهذه هي رسالة الأنبياء.
فالصبر هو أن تصبر على الحق، وهذه هي وصية الإمام الحسين (ع). يروي الإمام الباقر (ع) يقول: "لما حضرت أبي عليّ بن الحسين (ع) الوفاة أوصاني وقال: يا بني، أوصيك بما أوصاني به أبي عندما حضرته الوفاة، فإنه قال لي: يا بني، اصبر على الحق وإن كان مرّاً". ونفهم من هذا الحديث، أن آخر وصية للإمام الحسين (ع) هذه الوصية، أن يصبر الإنسان على الحق حتى لو تحمّل كل مراراته في أيّ جانب من الجوانب؛ في العقيدة والشريعة والسياسة والاجتماع، في الحرب والسلم، وإلا لو أخذنا بالمجاملة وفكر كل إنسان بالعناصر الشخصية له، فكيف يمكن أن يتحرك الحق، والحق أمانة الله عندنا، وعلينا أن ننطلق فيه.
من الصبر: دراسة مواقع القوة
وفي هذا المجال نعرّج على نقطة مهمة، وهي أن المستكبرين في العالم، ومعهم الكافرون المعقّدون من الإسلام، يعملون على خلق الظروف التي تحاصر الواقع الإسلامي سياسياً واقتصادياً وثقافياً وأمنياً، ثم يقولون لهم: الطريق من هنا، ويغلقون بوجههم كل الطرق من خلال التعقيدات السياسية والاجتماعية والأمنية، واستغلال ضعف المسؤولين في هذه المنطقة أو تلك، ويقولون: "الزنزانة وراءكم والحل الاستكباري أمامكم"، ويقتنع الناس بذلك لأنهم لا يصبرون ويسألونك عن البديل، ويقولون لك: "إن العين لا تقاوم المخرز".
علينا أن نبحث عن البديل، لأن المسألة أن الاستكبار هو الذي جعل نفسه البديل المعيّن، وعلينا أن لا نستسلم لذلك، والمشكلة في العالم الثالث أنه لا يدرس عناصر القوة فيه، بل يخضع للإعلام والخطط التي تجعله يسقط في إحصائيات نقاط الضعف.
لهذا، نحتاج إلى الصبر حتى نستطيع أن نواجه كل الحصار الذي يحيط بنا، وإلى التخطيط لحلّ المشكلات التي تعترضنا، ولنتفهّم كل الخطوط التي ترسم لنا، وكل الأوضاع التي تريد أن تسقط المستقبل في حياتنا.
الصبر على الطاعة والمعصية
ولذلك، أكّد القرآن الكريم في عدة جوانب بأن عليك أن تضغط على جراحك وأعصابك: {أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمّا يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مسّتهم البأساء والضرّاء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب}. ويحدِّث الله تعالى المسلمين عن الذين يواجهون العداوة والبغضاء من الآخرين، سواء على مستوى الإعلام والسياسة والضغوط الاقتصادية: {لتبلون في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا ـ فلا تعيشوا الانفعال والسقوط أمام كل تلك الضغوط التي تحاول أن تتحدى حالتكم النفسية ـ وتتقوا ـ والتقوى هي دراسة الأمور بالطريقة التي تحقق الأهداف الكبرى للمسلمين ـ فإن ذلك من عزم الأمور}، لأن الصّبر ليس ضعفاً بل قوة.
ويقول الله تعالى لنبيّه (ص): {واتبع ما يوحى إليك واصبر حتى يحكم الله وهو خير الحاكمين}. ونحن نعرف أن المؤمنين الذين يدخلون الجنة إنما يدخلونها بالصبر؛ الصبر على الطاعة وعن المعصية والصبر على البلاء. كيف نفهم ذلك؟ من خلال الاستقبال الاحتفالي الذي يقوم به الملائكة في الجنة للمؤمنين: {جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب* سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار}، وقد ورد عن عليّ (ع): "وعليكم بالصبر، فإن الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فكما لا خير في جسد لا رأس معه، لا خير في إيمان لا صبر معه".
الصبر سر حركة الإنسان
الصبر هو سرّ حركة الإنسان في الوجود كله، في كل مسؤوليته ومواقفه وانتمائه وحركة فكره نحو الحق، لذلك عندما نقرأ: {إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب}، فمن يمكن له أن يتصور مدى الأجر الذي وعده الله به، والله أصدق من وعد. لذلك لا بدّ أن نربّي أنفسنا وأجيالنا على الصبر، لأننا نواجه تحديات ثقافية وسياسية وأمنية واجتماعية تحاول أن تهزّ الأرض من تحت أقدامنا، والله تعالى يحدّثنا عن الرابحين المفلحين: {والعصر* إن الإنسان لفي خسر* إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر}.
وهكذا رأينا عندما انطلقت واقعة "خيبر" كيف رجع البعض يجبّن أصحابه وأصحابه يجبّنونه، ولكن عندما انطلق بها الصابر في الحق والموقف وفي رضوان الله، عندما انطلق بها عليّ (ع) الذي كان يتحرك على أساس القوة الإلهية الربانية، كان الفتح الكبير، ونحن بحاجة إلى صبر عليّ وحقه، وبحاجة إلى الروح العالية التي تنطلق مع الله في كلِّ القضايا والأمور، نحن بحاجة إلى عليّ ولو بنسبة العشرة بالمئة، ولذلك لا بدّ أن نبقى مع عليّ (ع)، تلميذ رسول الله (ص) وتلميذ القرآن.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في كلِّ مسؤولياتكم التي حمّلكم الله إياها في كل شؤون الحياة المتعلّقة بأوضاعكم الفردية والاجتماعية وأوضاع الأمة كلها، لنكن في خط التقوى النفسية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية، لأن لكلِّ موقع من مواقع الحياة تقواه الذي يمثل السير في خط رضى الله تعالى، وقد ورد عن عليّ (ع): "الصبر صبران: صبر عند المصيبة وهو حسن جميل، وأحسن منه الصبر عند ما حرّم الله عليك ـ لتتركه ـ والذكر ذكران: ذكر عند المصيبة حسن جميل وأفضل من ذلك ذكر الله عند ما حرم عليك فيكون ذلك حاجزاً".
إن علينا أن نأخذ بأسباب التقوى، لأن الله جعل الجنة للمتقين، ولا سيما التقوى التي تتصل بمصير المسلمين، فلا يجوز لنا أن نقف على الحياد بين المسلمين والمستكبرين، وبين الظالم والمظلوم، بل علينا أن نكون مع الحق والعدل في مواجهة الباطل والظلم، ذلك هو خط التقوى..
ونحن نواجه في هذه المرحلة الكثير من التحديات التي يفرضها علينا الاستكبار العالمي ـ ولا سيما الأمريكي ـ من خلال ما يخطِّط له من محاصرة العالم الإسلامي، ومن خلال العملاء الذين وظّفهم ملوكاً ورؤساء وقيادات ليحرسوا السجن الكبير الذي يضعون فيه شعوبهم. إن علينا أن نواجه ما نعيشه من خلال فهمنا للأمور، فماذا هناك:
اللعبة الأمريكية ـ الإسرائيلية لا تزال تخطط لتمييع القضية الفلسطينية، وتلميع صورة إسرائيل، في أكثر من تأكيد على المبادرات الإسرائيلية في إطلاق بعض المعتقلين، أو تفكيك بعض المستوطنات غير المأهولة، مع القيام باعتقالات جديدة وبناء مستوطنات إضافية، وإعلان "شارون" أن مسألة الاستيطان تُناقش في المفاوضات النهائية!!
استمرار محاولات تمييع القضية الفلسطينية
وأما في الجانب الفلسطيني، فإن الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية تكيلان المدح لرئيس حكومة السلطة الفلسطينية، وقيامه ببعض الأعمال غير الكافية ـ على حدّ تعبيرهما ـ في حماية الأمن الصهيوني، وإلقاء اللوم على رئيس السلطة "عرفات" وعلى الفصائل الفلسطينية المجاهدة، لتعقيد مهمة "أبي مازن"، ما يفرض عليه التمرّد على "عرفات"، وتفكيك البنى التحتية للفصائل المجاهدة ونزع سلاحها، تحقيقاً للاستراتيجية الأمريكية ـ الإسرائيلية في إثارة حرب أهلية داخل الشعب الفلسطيني، والتي قد يتدخّل فيها الجيش الصهيوني لنصرة حكومة السلطة..
وهكذا، فإننا لا نثق بأن المسؤول الفلسطيني سوف يحصل من الرئيس الأمريكي على مطالبه الحيوية وقضاياه المصيرية، لأنه سوف يكون بانتظار "شارون" الذي هو بحاجة إليه لما يملك من عناصر التأثير في إدارته وفي اللوبي اليهودي وفي الكونغرس الأمريكي، ولأن الانتخابات الأمريكية ـ ولا سيما الرئاسية التي يطمح فيها "بوش" إلى التجديد في الدورة القادمة ـ يملك اليهود التأثير فيها على أكثر من صعيد..
شارون: حلم السيطرة على فلسطين
إن "شارون" يذهب إلى أمريكا وفي حقيبته أكثر الأوراق السياسية لتحقيق مشروعه التاريخي في السيطرة على فلسطين كلها، وللحصول على قرض المليارات العشرة من أمريكا لتقوية الاقتصاد الصهيوني الذي أنهكته الانتفاضة. ولذلك، فإن "شارون" سوف يأكل كل الوعود التي قد يحصل عليها "أبو مازن" من الرئيس الأمريكي، إلا بعض الأمور الخادعة التي لا تغني شيئاً، لأن رئيس حكومة السلطة الفلسطينية لا يملك أيّ ورقة سوى وعد الرئيس الأمريكي الغامض الذي يخضع لأكثر من تفصيل أو تفسير..
إننا نتصوّر أن هذه الزيارة إلى أمريكا لن تحقق للفلسطينيين أيّ مكسب على مستوى حلّ مشاكلهم الاقتصادية والسياسية والأمنية، لأن أمريكا لن تضغط على إسرائيل في أيّ موقع من مواقع "خارطة الطريق"، بل سيكون الضغط على الفلسطينيين في ترديد مقولة الحرب على ما تسمّيه أمريكا الإرهاب ونزع سلاحه..
إنّ على الفصائل المجاهدة التي بلغت سن الرشد السياسي، بالإضافة إلى الرشد الجهادي، أن تلاحق التطوّرات السياسية الكبيرة والمتغيّرات الأمنية على مستوى فلسطين والمنطقة، وأن يبدأوا التخطيط الدقيق الواعي للمرحلة القادمة التي قد تكون من أكثر المراحل صعوبةً على استراتيجية التحرير، الأمر الذي يفرض المزيد من التشاور والتكامل والتعاون والوحدة الشعبية، والسيطرة على كل الثغرات الأمنية التي قد ينفذ منها العدوّ إلى الساحة..
ونقول للمسؤولين العرب: كونوا ولو لساعة واحدة مع الشعب الفلسطيني، للقيام بالضغوط الداعمة لمسيرته الاستقلالية، ولا تبقوا مع الأمريكيين والإسرائيليين في ممارسة الضغط على هذا الشعب وفي اتباع أسلوب اللامبالاة تجاهه، لأن ذلك هو معنى الشخصية العربية التي لا ندري هل بقيت في وجدانكم كما هي في وجدان شعوبكم؟!
الشعب العراقي ومسؤولية التحرير
ويبقى للعراق دوره في الخروج من المأزق الاحتلالي، وفي الأخذ بأسباب القوة، وفي تطوير قدراته الكبيرة، وفي تأكيد وحدته الوطنية، وفي تأسيس الدولة العادلة التي تنشر العدل والسلام والحرية للشعب كله.. ولكن السؤال: هل يملك القائمون على التجربة الجديدة ذلك ما دام المحتل هو الذي يملك القرار الأخير، وهو الذي يحدد زمان بقائه وانسحابه أو نشر قواعده العسكرية في أنحاء العراق، أو في ترتيب الدستور والانتخابات؟ ربما يقول البعض إن المحتل قد وعد بأن يترك الحرية لهم في تقرير ما يريدون، مع بعض الإشراف السياسي والأمني، ولكن ما هي الضمانة لذلك، وما هي القوة التي يملكونها في مواجهة ذلك، أو تلك التي يريدون استعمالها ضده؟؟
إن أمريكا ـ ومعها بريطانيا ـ تغازلان الأمم المتحدة لتأخذ دورها في العراق، ولكن لا ليكون هو الدور الرئيس، بل دور المساعد للمحتل لإخراجه من المأزق، وهذا ما لاحظناه في الجلسة الأخيرة لمجلس الأمن الذي لم يمنح الشرعية للحكم الانتقالي، والذي مهّد السبيل للاستعانة بعدة جيوش من حلفاء أمريكا لحفظ الأمن الأمريكي من الضربات الموجعة الموجَّهة إلى جنوده، على الرغم من دعوة أمين عام الأمم المتحدة لتحديد زمن للانسحاب من العراق..
ويبقى السؤال: متى يتحمّل الشعب العراقي مسؤوليته في قضية التحرير، وهل يبقى البعض يردد: "ما هو البديل"، أو قد تحدث الفوضى بعد الانسحاب، أو قد يأتي النظام البائد من جديد؟ وربما يجيب الواعون: إن الأمم المتحدة في تنوعاتها السياسية الدولية وفي قيادتها هي البديل، لأنها ليست قوة احتلال، وإن كان المحتلون يضغطون على بعض قراراتها..
إننا مقتنعون بأن الشعب العراقي إذا تُركت له الحرية، فهو قادر ـ من خلال طاقاته الهائلة ـ أن يبني دولة، وأن يحقق أمناً، وأن يصنع الأعاجيب، لأنه شعب يملك امتداد الحضارات، فلا يعوزه بناء الحضارة من جديد.. وبهذه المناسبة، نريد التأكيد على أهلنا في العراق أن يواجهوا بوعي وقوة وتخطيط وروح إسلامية الخطط الخبيثة لإيجاد فتنة بين المسلمين من السنّة والشيعة، في إثارة التهاويل وترديد السلبيات والقيام باحتلال موقع مذهبي هنا وهناك لإيجاد حالة من العصبية.. إننا نقول لهم: تذكّروا قول الله تعالى: {واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرّقوا}، وقوله تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}.
ضرائب جديدة تثقل كاهل المواطن
أما في لبنان، فإن الفوضى لا تزال تحكم الأوضاع الرسمية، في إصدار القرارات المثيرة للجدل، والمتحركة في نطاق التعقيدات الاقتصادية.. ففي الوقت الذي عاش فيه المواطنون مشاكل تقنين الكهرباء التي تضغط على أوضاعهم الاقتصادية والحياتية، فإذا بهم يُفاجأون بالضرائب الجديدة التي تطبق على مداخيل الفقراء البائسة، الذين لم تعمل الدولة على إيجاد فرص عمل لهم تنقذهم من وحش البطالة، ولم تبادر إلى حلّ مشكلة العجز في شركة الكهرباء من خلال إيجاد الوسائل الضاغطة لجمع التعرفة الرسمية ومنع السرقات، بالإضافة إلى دفع مؤسسات الدولة ما عليها للشركة..
إننا ندعو إلى المحاسبة الدقيقة للقائمين على شؤون الحكومة، ليقدّموا تقريراً شاملاً صريحاً عن الأسباب التي رفعت مستوى الديون في الدولة ومؤسساتها، فذلك هو الذي يمكّن الشعب من أن يتعرّف على المخلصين للبلد من الذين يستغلونه للاتجار به في أكثر من موقع. |