كُن الإنسان الذي يحاول أن يدرس كل عناصر الضعف والقوة

كُن الإنسان الذي يحاول أن يدرس كل عناصر الضعف والقوة

لأن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم
كُن الإنسان الذي يحاول أن يدرس كل عناصر الضعف والقوة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

معرفة النفس قبل معرفة الآخر

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}. من الأهداف التربوية للإسلام أن يعرف الإنسان نفسه، أن تكون له ثقافة نفسه قبل أن تكون له ثقافة الآخرين من الناس، أنت عقل وقد خلق الله تعالى الإنسان عقلاً وجعل عقله حجة عليه، وأنت قلب وقد خلق الله للإنسان قلباً يختزن العاطفة، وجعل القلب هو الذي يربط بين الناس في الجانب الشعوري من شخصية الإنسان، وأنت حركة وإرادة من خلال ما تعبّر به عن كل قضاياك وحاجاتك وعلاقاتك بالكلمة والفعل.

لذلك، إن هذه العناصر، العقل والقلب والإرادة والحركة، هي التي تحرك فيك فكرك لتلتزمه، وتحرك فيك عاطفتك لتستقيم فيها، وتحرك فيك حياتك لتجعلها متوازنةً منفتحةً على الإنسان كله وعلى الخير كله من خلال انفتاحها على الله تعالى.

لذلك، فأنت لا تستطيع أن تضمن لعقلك سلامته، ولعاطفتك توازنها، ولأقوالك وأعمالك استقامتها، إلا إذا فهمت عقلك. أنت تملك عقلاً تفكر من خلاله بالكون، بالله تعالى، بالناس، بأوضاعك الاقتصادية والاجتماعية، بعلاقاتك السياسية، بمواقفك في كل الأمور، هل درست عقلك كيف تكوّن؟ لقد تكوّن عقلك من خلال البيئة في البيت، فأنت أخذت الكثير من خطوط العقل من أبيك وأمك، وأخذت من بيئتك، من الشارع الذي لعبت فيه، والمدرسة التي تعلّمت فيها، والمجتمع الذي عشت فيه، لقد أخذت من كل هؤلاء منهجك في التفكير، فقد تفرض عليك كل هذه العناصر أن تكون انفعالياً في نظرتك إلى الأمور، بحيث لا تدقق فيها، بل تأخذ الأمور على السطح ولا تنفذ فيها إلى العمق، أو أن تكون إنساناً موضوعياً تحسب حساب الأشياء على طريقة المعادلة بينها، بحيث تدرس كل الخيارات والاحتمالات على أساس ما فيها من عناصر السلب والإيجاب والخير والشر.

فحص العقل ودراسة المؤثرات

مَن منا جلس مع عقله ليفهم عقله، وليصحح ما فرض عليه من بعض العناصر الدخيلة عليه من قبل أناس لا يعقلون، لأن هناك في المجتمع ـ سواء المجتمعات القديمة أو الحديثة ـ من يقول للإنسان لا تفكّر، لا تسأل، لا تحاور، أغلق كل عقلك.. وهذا أمر على خلاف إرادة الله تعالى، لأن الله خلق العقل حراً، وتصوّر نفسك ـ بحسب تكوينك ـ تجلس بينك وبين نفسك، بحيث تستطيع أن تحرك عقلك في العالم، تفكر في السياسة والاجتماع والعقيدة، هل هناك شخص يستطيع أن يضع لك الحواجز ليمنعك من التفكير؟ فالعقل لا يمكن أن يخضع لأي زنزانة من أيّ طاغية، ولكن متى يسقط العقل في الزنزانة؟ عندما تمنعه من التفكير، لأن هناك من يقول لك لا تفكّر، والله تعالى يأمرك بالتفكير، وقد ورد في الحديث: "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة"، لأنك عندما تفكّر تعرف الله تعالى وتعرف نفسك والمجتمع من حولك.

في السابق كانت المجتمعات تدعو إلى تقليد الآباء والأجداد في كل اختياراتهم الثقافية، وقد حدثنا القرآن الكريم عن هؤلاء الذين وقفوا أمام الأنبياء يقولون لهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون}، ولذلك تجمّد التطور الفكري عند كثير من المجتمعات البدائية، لأن الناس كانوا يتحركون في ثقافة واحدة وخط واحد على مدى مئات السنين، والله تعالى أراد للإنسان أن يكون المتحرّك دائماً: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}. كن الإنسان الذي يحاول أن يدرس كل عناصر الضعف حتى يغيّرها، وكل عناصر القوة حتى يطوّرها، لأن الله جعل مصيرك بيدك، غيّر نفسك في ما تفكر فيه وفي حركة عاطفتك وفي علاقاتك وانتماءاتك تغيّر الواقع من حولك.

لذلك، لا بد لكل واحد منا أن يفحص عقله ليدرس ما هي المؤثرات التي دخلت إلى عقله من دون أن يختارها، تماماً كما يفحص الإنسان جسده، ألا نقوم في كل فترة من الزمن بفحص عام عند الطبيب لمعرفة ما إذا كان جسمنا قد تعرّض لبعض الجراثيم التي قد تسبب لنا مرضاً أو إرباكاً؟! كذلك عندما تفكّر في السياسة والاجتماع أو في بعض القضايا التي تتصل بجوانب العقيدة، فعليك أن تفحص نفسك عند نفسك إذا كنت تستطيع أن تكتشف الموضوع، أو عند من تعتمد على عقله وفكره لتفكر معه بصوت مسموع من خلال الحوار..

حتى في المسألة الدينية، على مستوى تفاصيل ما يلتزمه الناس في كثير من القضايا الدينية، نرى أنه قد تزحف إلى عقول الناس، بعض الأفكار من خلال خرافيين وجهلة ومتخلّفين، وممّن لا يملكون علماً، وإلا أنت تتصوّر نفسك في خط الاستقامة وإذا بك في خط الانحراف، والله تعالى يقول: {أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً}، ويقول البعض لك: إنّ الناس تقول كذا فلماذا تتكلم على خلاف الناس؟ فعليك أن تسأل هؤلاء الناس ما هو مستندهم ودليلهم وحجتهم، حتى عندما تريد أن تنتقد فعليك أن تملك المعلومات أو ثقافة ما تنتقد به مفكّراً أو عالِماً؟

عندما تواجه شيئاً جديداً فعليك أن تسأل عنه الذين يملكون العلم والفكر والاستقامة والتوازن في المسألة العقلية، لأن من أخطر الأمور في الحياة على الإنسان، ليس في أن يُصاب بماله أو بضعف في جسده، أو ببعض الأوضاع التي تحيط به، بل الخطر كل الخطر أن يصاب بخلل في طريقة تفكيره، لأن الإنسان يتحرك من خلال ما يفكر فيه. لذلك، فلنعمل على أن يكون لنا وقت نفرغ فيه لعقلنا لنقوم بفحصه في مؤثراته السلبية والإيجابية، لأن الأمة التي لا عقل لها ولا تفكر، هي أمة لا تستطيع أن تثبت أمام التحديات، وسوف تكون كمية مهملة بين الأمم، ونحن لا نريد أن نكون كذلك، والله تعالى يقول: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس}، ليس من جهة أننا عرب، بل لأننا نتحمّل مسؤولية الحياة والإنسان كله من حولنا.

حرية الفكر تنمّي المؤسسات

وهكذا في قضية العاطفة، فنحن ـ للأسف ـ نرث عواطفنا، فنحبّ من أحبّه آباؤنا أو أجدادنا ونبغض من أبغضوه، من دون أن نعرف على أيّ أساس أحببنا أو أبغضنا. أنت لم تختر حبك ولم تختر بغضك، وكذلك في ما عشناه من هذه الكهوف الحزبية والطائفية والعائلية، يُقال لك أحبِب فلاناً وأبغض فلاناً، من دون أن تعرف ما هي العناصر التي تحببك بفلان أو تبغّضك به؟! تحبّ بمرسوم وقرار وتبغض بمرسوم وقرار، والحب خفقات القلب ونبضاته، فمَن الذي يحدد لي نبضات قلبي أو يحجز عليّ كيف يخفق قلبي لفلان أو لا يخفق؟

إنتمِ إلى من شئت على شرط الاقتناع، ولكن انتماءك لا يحدد لك مشاعرك، والفرق بين الحزبية عندنا في الشرق والحزبية في الغرب، هو أن الإنسان في الغرب عندما يتحزّب فإن الحزب لا يقيّد محازبيه في مشاعرهم وحتى في مواقفهم، وأنتم تسمعون الجدل الدائر في بريطانيا مثلاً حول رئيس الوزراء وحكومته، مَن الذي يثير القضية؟ الذي يثيرها هو حزب العمّال الذي هو حزب رئيس الوزراء، وكذلك في أمريكا.. فأنت عندما تنتمي إلى حزب فإنك تنتمي إلى الخط الاستراتيجي له، أما في الشرق، فإنك إذا خالفت أيّ تفصيل من تفاصيل الحزب تعتبر منحرفاً عنه؟!

إن التجمّعات الحزبية والجمعيات والنقابات إنما تنمو عندما تعطي لها حرية أن تفكر وأن تعترض بطريقة موضوعية عقلانية، ومن حق كل محازب أو عضو جمعية أو نقابة، من حقه على الذين يقودون هذه المؤسسة أن يقدّموا له الحساب. مَن أعظم من النبي (ص)؟ الله تعالى اختاره واصطفاه وهو ليس مسؤولاً أمام الناس، ومع ذلك وقف في آخر حياته وقال: "أيها الناس، إنكم لا تمسكون عليّ بشيء، إني ما أحللت إلا ما أحلّ الله وما حرّمت إلا ما حرّم الله". لذلك، أن تحب أو تبغض نتيجة قرار ومرسوم وتعقيدات معينة، فهذا يعني العبودية، أن يستعبد الناس عقلك وقلبك.

محاسبة النفس ومساءلتها

وهناك جانب الحركة، لأن الإنسان يُحشر من خلال عمله، أن يراقب الله تعالى في عمله، والآية الكريمة تقول: {ولتنظر نفس ما قدّمت لغد}، لأن عملك هو رصيدك عند الله، والإمام عليّ (ع) يقول: "حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليها، والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى، وتأهّبوا قبل أن تبعثوا". ويقول (ع) للذين يشغلون أنفسهم بمحاسبة الآخرين: "حاسب نفسك لنفسك فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك". وعن الإمام زين العابدين (ع): "إبن آدم، إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك". وعن رسول الله (ص) ـ وهو أستاذ عليّ (ع) وأستاذ الأئمة (ع) وأستاذ الأمة كلها ـ أنه قال: "أكيَس الكيّسين ـ أعقل العقلاء ـ من حاسب نفسه، وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقى من أتبع نفسه هواه، وتمنى على الله الأماني"، والله تعالى خاطب هؤلاء: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً}.

ونختم الكلام بما ورد عن الإمام عليّ(ع)، وقد سئل عن كيفية محاسبة النفس، فقال: "إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفس، إن هذا اليوم مضى عليك ولا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه في ما أفنيته، فما الذي عملت فيه، أذكرت الله أم حمدتيه، أقضيت ـ يا نفس ـ حق أخ مؤمن، أنفّست عنه كربته، أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده، أحفظتيه بعد الموت في مخلّفيه، أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، أأعنت مسلماً، ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عزّ وجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصيةً أو تقصيراً استغفر الله عزّ وجلّ وعزم على ترك معاودته".

إننا نحشر إلى الله تعالى بما نمتلك من طاقاتنا من خير أو شر، وعلينا أن نصل إلى الله وكل ما في داخلنا وخارجنا خير، حتى يرضى الله عنّا ويرفعنا في الدرجات العلى.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا كل ما يحيط بكم وبالأمة كلها من تحديات كبرى تتصل بالحاضر والمستقبل في كل قضايانا الحيوية والمصيرية، اتقوا الله في ذلك وتحمّلوا مسؤوليته، كلٌ بحسب طاقته، واعملوا على أساس أن تعقلوا كل موقف تقفونه وكل حركة تتحركونها وكل كلمة تطلقونها، لأن العالم يتحرك بعقل يخطط للشر، وعلينا أن نتحرك بعقل يخطط للخير ويدفع الشر، وأن ننطلق إلى العالم لنكتشف مواقع الخير لنتكامل معها.

ونحن نعيش منذ مدة طويلة في تحديات كبرى من قبل المستكبرين الذين يتحدثون أنهم يعملون على محاربة الإرهاب، ولكنهم هم الإرهابيون في كل ما يملكونه من أسلحة دمار شامل، وما يكذبون فيه ليعلنوا الحرب هنا وهناك.. فتعالوا لنعرف ماذا هناك، لنحدد موقفنا منه:

الحل بالانسحاب الإسرائيلي

لا يزال الرئيس الأمريكي "بوش" يتحدث ـ بمناسبة وبغير مناسبة ـ عن تفكيك البنية التنظيمية للفصائل الفلسطينية من قيادات الانتفاضة، وفي مقدمتها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ونزع سلاحها، تماماً كما لو كان الناطق الدولي الأمريكي بلسان "شارون".. وقد كانت آخر أحاديثه مع الاتحاد الأوروبي الذي دعاه إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ضد "حماس" وقطع مصادر التمويل عنها، مؤكِّداً على ضرورة أن تحذو أوروبا حذو الولايات المتحدة الأمريكية وتتخذ إجراءات حاسمة ضدها ـ على حدّ قولـه ـ في لغة تشبه التهديد ضد التمايز الأوروبي عن الأمريكي في تفاصيل المسألة الفلسطينية..

والسؤال الذي يفرض نفسه على الرئيس الأمريكي الذي يتحدث دائماً عن التحرير: لماذا يضع العربة أمام الحصان ولا يضع الحصان أمام العربة؟ ولماذا لا يركّز على الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية الذي هو الأساس لحركة الانتفاضة التي أعلنت منذ البداية أنها كانت نتيجة للاحتلال، فإذا زال الاحتلال زالت الحاجة إليها، وأن وسائلها الاستشهادية كانت ردّ فعل للعمليات اليومية الوحشية في تدمير كل ما هو فلسطيني من البشر والحجر والشجر، بما في ذلك قتل الأطفال والنساء والشيوخ وغيرهم من المدنيين؟ لماذا لا يختصر المسافة الطويلة من حركة أنهار الدماء التي سالت في فلسطين بالضغط على إسرائيل للانسحاب، لتنتهي المشكلة بذلك؟؟

محاولات تدمير مواقع الممانعة والقوة

ربما كان السبب في ذلك أن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ لا تريد أن يبقى هناك أيّ موقع للقوة أو للممانعة والاعتراض على إسرائيل، حتى ضد جرائمها الوحشية، في الخطة التي تعمل فيها على إسقاط الروح العربية والإسلامية في كل المنطقة، بتدمير القوة من خلال أكثر من حرب أو فتنة أو حصار دولي، أو تهمة بالتخطيط لصنع أسلحة الدمار الشامل، كما يحدث مع إيران وما يُخطط لسوريا، في الوقت الذي نعرف فيه أن أمريكا ـ ومعها أكثر من دولة من حلفائها، ولا سيما إسرائيل ـ تمتلك أقوى ترسانة نووية وكيميائية وبيولوجية، مما تهدد بين وقت وآخر باستعمالها في بعض الحروب، كما حدث في الخطاب الأمريكي في بداية الحرب على العراق؟!

ومن الطريف أن مستشارة الأمن القومي للرئيس الأمريكي تحدثت عن أن "أمن العالم مرتبط بأمن إسرائيل، وعلى العالم أن يستنفر كل إمكاناته لحماية هذا الأمن" ضد كل ما هو عربي وإسلامي.. والسؤال للرئيس "بوش": لماذا لا يتذكّر الاحتلال البريطاني لأمريكا ومقاومة الأمريكيين له، أو الاحتلال النازي لفرنسا ومقاومة الفرنسيين له، أو الاحتلال السوفياتي لأفغانستان ومقاومة الأفغانيين له، هل يعتبر المقاومة إرهاباً؟؟ وكيف يفسّر الرئيس "بوش" قنبلتي "هيروشيما" و"ناكازاكي" اللتين حصدتا ما يقارب الربع مليون مدني من اليابانيين؟؟

الشعب الفلسطيني: إصرار على الحقوق

لقد عبّر الرئيس "بوش" عن رفضه الهدنة التي تتحرك فيها السلطة الفلسطينية في اتفاق مرتقب مع فصائل المقاومة، لأن "شارون" يرفض ذلك.. ولهذا، فإننا نشك أن يكون الرئيس الأمريكي جادّاً في الحل العادل للمسألة الفلسطينية، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو الأمن الإسرائيلي المطلق سياسياً واقتصادياً وأمنياً وجغرافياً، على حساب أمن الشعب الفلسطيني واللبناني والسوري، والعربي بشكل عام..

إننا نثق بالشعب الفلسطيني ـ بكل رموزه الجهادية ـ أنه سوف يبقى مصرّاً على حقوقه الشرعية، وانتفاضته الجهادية، ووحدته الوطنية، من دون تقديم تنازلات استراتيجية، بحيث تكون المسألة مسألة الحركية في التكتيك لحماية استراتيجية التحرير.. وعلى العالم العربي والإسلامي المراقبة الدقيقة لكل ألوان اللعبة الأمريكية الدولية لتصفية القضية الفلسطينية، التي هي الأم لكل قضايا المنطقة، للوقوف مع تحديات المرحلة بكل قوة وتخطيط.

الاحتلال في العراق: سياسة فرق تسُد

أما في العراق، فلا يزال الشعب العراقي يعيش المعاناة في أوضاعه الأمنية والسياسية والاقتصادية، من خلال الخطة التي يتحرك فيها الاحتلال في الرمال العراقية المتحرّكة، وردود الفعل المتنوّعة في مواجهة المحتل، من خلال الإذلال الذي يتعرّض له في الإساءة إلى مقدّساته الاجتماعية التاريخية، في احترام العرض والمنزل وحق الدفاع عن النفس..

إن المحتل لا يثق بالقاعدة الشعبية السياسية والفعاليات القيادية المتنوّعة في العراق، ولذلك فإنه لم يبادر إلى إعطاء الحرية للشعب لتقرير مصيره وإدارة أموره، وهو الشعب الذي يملك أفضل الطاقات، من أجل تحمّل مسؤولياته الوطنية العامة..

إن المرحلة بحاجة إلى متابعة دقيقة لحركة الاحتلال وللأوضاع الداخلية التي يُراد لها أن تزيد الأمور تعقيداً، وللفتن التي يمكن أن يخطط لها المحتل على طريقة "فرّق تسد".. إن التحديق بالحاضر في مشاكله لا يمنع من التخطيط للمستقبل، لأن القضية هي: ماذا بعد الاحتلال، وماذا عن الأخطبوط المتحرّك في صراع المصالح الدولية، ما يفرض تجميد كل خلاف أمام الشعار الاستراتيجي: لا صوت إلا صوت المعركة.

لبنان: دولة للوطن أم مزرعة للأشخاص!!

أما في لبنان، فهناك مسألة ترتبط بمستقبل كل هذا الجيل، وهي مسألة تفشّي تناول المخدرات في المجتمع اللبناني بشكل كثيف يهدد بنية المجتمع بطريقة وبأخرى، لا سيما لدى طلاب المدارس والجامعات، من دون فرق بين العوائل الفقيرة والميسورة..

إن على المجتمع كله ـ وفي مقدمته الدولة بكل مؤسساتها ـ الاستنفار بما يشبه حالة الطوارئ لمعالجة هذه المشكلة، من أجل إعادة تأهيل الإنسان بما يخدم قضية الأمة كلها.. ولا بد من الانتباه إلى أن الإحصاءات تتحدث عن وجود كثير من تجّار المخدرات ومروّجيها في السجون، الأمر الذي يفرض علينا المزيد من الجهد للمراقبة الدقيقة لذلك.

وهناك قضية أخرى، وهي المشكلة الصناعية المنطلقة من عمق المسألة الاقتصادية، وقد بدأت بعض المصانع ـ ولا سيما في الضاحية الجنوبية ـ تقفل أبوابها، وتشرّد العاملين فيها، بفعل الحصار الضرائبي من جهة رسوم الكهرباء وغيرها، والمنافسة للصناعة الوطنية من خلال المنتوجات الأجنبية التي لا تخضع في دخولها إلى البلد لأيّ قيود اقتصادية، لأن التسيّب السياسي هو الذي يحكم ذلك.. وما نقولـه في القطاع الصناعي نقوله في القطاع الزراعي، الذي يمثّل الحل الوحيد لتنمية المناطق المحرومة..

إن السؤال الذي يتحرك للدولة: هل هناك خطة لتطوير الصناعة والزراعة وحلّ مشكلة الفقراء والعمّال والمناطق المحرومة، بما يؤدي إلى النموّ الاقتصادي في البلد، أم أن المسألة ترتبط بالمصالح السياسية والخلافات الطائفية؟؟ إن البلد لا ينمو أو يتطوّر بالقروض الخارجية التي تستهلك فوائدها كل إنتاجه، ما لم يخطط المسؤولون لإيجاد سياسة اقتصادية شاملة متحرّكة، من أجل التوازن في الإنتاج، والدقة في سياسة التصدير والاستيراد، وحماية الموقع المستقبلي المميّز للبلد كله..

والسؤال الذي يطلقه الناس بكل مرارة: هل هناك دولة للوطن، أم مزرعة للأشخاص والطوائف باسم لبنان؟

لأن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم
كُن الإنسان الذي يحاول أن يدرس كل عناصر الضعف والقوة


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:

معرفة النفس قبل معرفة الآخر

يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون}. من الأهداف التربوية للإسلام أن يعرف الإنسان نفسه، أن تكون له ثقافة نفسه قبل أن تكون له ثقافة الآخرين من الناس، أنت عقل وقد خلق الله تعالى الإنسان عقلاً وجعل عقله حجة عليه، وأنت قلب وقد خلق الله للإنسان قلباً يختزن العاطفة، وجعل القلب هو الذي يربط بين الناس في الجانب الشعوري من شخصية الإنسان، وأنت حركة وإرادة من خلال ما تعبّر به عن كل قضاياك وحاجاتك وعلاقاتك بالكلمة والفعل.

لذلك، إن هذه العناصر، العقل والقلب والإرادة والحركة، هي التي تحرك فيك فكرك لتلتزمه، وتحرك فيك عاطفتك لتستقيم فيها، وتحرك فيك حياتك لتجعلها متوازنةً منفتحةً على الإنسان كله وعلى الخير كله من خلال انفتاحها على الله تعالى.

لذلك، فأنت لا تستطيع أن تضمن لعقلك سلامته، ولعاطفتك توازنها، ولأقوالك وأعمالك استقامتها، إلا إذا فهمت عقلك. أنت تملك عقلاً تفكر من خلاله بالكون، بالله تعالى، بالناس، بأوضاعك الاقتصادية والاجتماعية، بعلاقاتك السياسية، بمواقفك في كل الأمور، هل درست عقلك كيف تكوّن؟ لقد تكوّن عقلك من خلال البيئة في البيت، فأنت أخذت الكثير من خطوط العقل من أبيك وأمك، وأخذت من بيئتك، من الشارع الذي لعبت فيه، والمدرسة التي تعلّمت فيها، والمجتمع الذي عشت فيه، لقد أخذت من كل هؤلاء منهجك في التفكير، فقد تفرض عليك كل هذه العناصر أن تكون انفعالياً في نظرتك إلى الأمور، بحيث لا تدقق فيها، بل تأخذ الأمور على السطح ولا تنفذ فيها إلى العمق، أو أن تكون إنساناً موضوعياً تحسب حساب الأشياء على طريقة المعادلة بينها، بحيث تدرس كل الخيارات والاحتمالات على أساس ما فيها من عناصر السلب والإيجاب والخير والشر.

فحص العقل ودراسة المؤثرات

مَن منا جلس مع عقله ليفهم عقله، وليصحح ما فرض عليه من بعض العناصر الدخيلة عليه من قبل أناس لا يعقلون، لأن هناك في المجتمع ـ سواء المجتمعات القديمة أو الحديثة ـ من يقول للإنسان لا تفكّر، لا تسأل، لا تحاور، أغلق كل عقلك.. وهذا أمر على خلاف إرادة الله تعالى، لأن الله خلق العقل حراً، وتصوّر نفسك ـ بحسب تكوينك ـ تجلس بينك وبين نفسك، بحيث تستطيع أن تحرك عقلك في العالم، تفكر في السياسة والاجتماع والعقيدة، هل هناك شخص يستطيع أن يضع لك الحواجز ليمنعك من التفكير؟ فالعقل لا يمكن أن يخضع لأي زنزانة من أيّ طاغية، ولكن متى يسقط العقل في الزنزانة؟ عندما تمنعه من التفكير، لأن هناك من يقول لك لا تفكّر، والله تعالى يأمرك بالتفكير، وقد ورد في الحديث: "تفكّر ساعة خير من عبادة سنة"، لأنك عندما تفكّر تعرف الله تعالى وتعرف نفسك والمجتمع من حولك.

في السابق كانت المجتمعات تدعو إلى تقليد الآباء والأجداد في كل اختياراتهم الثقافية، وقد حدثنا القرآن الكريم عن هؤلاء الذين وقفوا أمام الأنبياء يقولون لهم: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم لمقتدون}، ولذلك تجمّد التطور الفكري عند كثير من المجتمعات البدائية، لأن الناس كانوا يتحركون في ثقافة واحدة وخط واحد على مدى مئات السنين، والله تعالى أراد للإنسان أن يكون المتحرّك دائماً: {إن الله لا يغيّر ما بقوم حتى يغيّروا ما بأنفسهم}. كن الإنسان الذي يحاول أن يدرس كل عناصر الضعف حتى يغيّرها، وكل عناصر القوة حتى يطوّرها، لأن الله جعل مصيرك بيدك، غيّر نفسك في ما تفكر فيه وفي حركة عاطفتك وفي علاقاتك وانتماءاتك تغيّر الواقع من حولك.

لذلك، لا بد لكل واحد منا أن يفحص عقله ليدرس ما هي المؤثرات التي دخلت إلى عقله من دون أن يختارها، تماماً كما يفحص الإنسان جسده، ألا نقوم في كل فترة من الزمن بفحص عام عند الطبيب لمعرفة ما إذا كان جسمنا قد تعرّض لبعض الجراثيم التي قد تسبب لنا مرضاً أو إرباكاً؟! كذلك عندما تفكّر في السياسة والاجتماع أو في بعض القضايا التي تتصل بجوانب العقيدة، فعليك أن تفحص نفسك عند نفسك إذا كنت تستطيع أن تكتشف الموضوع، أو عند من تعتمد على عقله وفكره لتفكر معه بصوت مسموع من خلال الحوار..

حتى في المسألة الدينية، على مستوى تفاصيل ما يلتزمه الناس في كثير من القضايا الدينية، نرى أنه قد تزحف إلى عقول الناس، بعض الأفكار من خلال خرافيين وجهلة ومتخلّفين، وممّن لا يملكون علماً، وإلا أنت تتصوّر نفسك في خط الاستقامة وإذا بك في خط الانحراف، والله تعالى يقول: {أفمن زُيّن له سوء عمله فرآه حسناً}، ويقول البعض لك: إنّ الناس تقول كذا فلماذا تتكلم على خلاف الناس؟ فعليك أن تسأل هؤلاء الناس ما هو مستندهم ودليلهم وحجتهم، حتى عندما تريد أن تنتقد فعليك أن تملك المعلومات أو ثقافة ما تنتقد به مفكّراً أو عالِماً؟

عندما تواجه شيئاً جديداً فعليك أن تسأل عنه الذين يملكون العلم والفكر والاستقامة والتوازن في المسألة العقلية، لأن من أخطر الأمور في الحياة على الإنسان، ليس في أن يُصاب بماله أو بضعف في جسده، أو ببعض الأوضاع التي تحيط به، بل الخطر كل الخطر أن يصاب بخلل في طريقة تفكيره، لأن الإنسان يتحرك من خلال ما يفكر فيه. لذلك، فلنعمل على أن يكون لنا وقت نفرغ فيه لعقلنا لنقوم بفحصه في مؤثراته السلبية والإيجابية، لأن الأمة التي لا عقل لها ولا تفكر، هي أمة لا تستطيع أن تثبت أمام التحديات، وسوف تكون كمية مهملة بين الأمم، ونحن لا نريد أن نكون كذلك، والله تعالى يقول: {كنتم خير أمة أُخرجت للناس}، ليس من جهة أننا عرب، بل لأننا نتحمّل مسؤولية الحياة والإنسان كله من حولنا.

حرية الفكر تنمّي المؤسسات

وهكذا في قضية العاطفة، فنحن ـ للأسف ـ نرث عواطفنا، فنحبّ من أحبّه آباؤنا أو أجدادنا ونبغض من أبغضوه، من دون أن نعرف على أيّ أساس أحببنا أو أبغضنا. أنت لم تختر حبك ولم تختر بغضك، وكذلك في ما عشناه من هذه الكهوف الحزبية والطائفية والعائلية، يُقال لك أحبِب فلاناً وأبغض فلاناً، من دون أن تعرف ما هي العناصر التي تحببك بفلان أو تبغّضك به؟! تحبّ بمرسوم وقرار وتبغض بمرسوم وقرار، والحب خفقات القلب ونبضاته، فمَن الذي يحدد لي نبضات قلبي أو يحجز عليّ كيف يخفق قلبي لفلان أو لا يخفق؟

إنتمِ إلى من شئت على شرط الاقتناع، ولكن انتماءك لا يحدد لك مشاعرك، والفرق بين الحزبية عندنا في الشرق والحزبية في الغرب، هو أن الإنسان في الغرب عندما يتحزّب فإن الحزب لا يقيّد محازبيه في مشاعرهم وحتى في مواقفهم، وأنتم تسمعون الجدل الدائر في بريطانيا مثلاً حول رئيس الوزراء وحكومته، مَن الذي يثير القضية؟ الذي يثيرها هو حزب العمّال الذي هو حزب رئيس الوزراء، وكذلك في أمريكا.. فأنت عندما تنتمي إلى حزب فإنك تنتمي إلى الخط الاستراتيجي له، أما في الشرق، فإنك إذا خالفت أيّ تفصيل من تفاصيل الحزب تعتبر منحرفاً عنه؟!

إن التجمّعات الحزبية والجمعيات والنقابات إنما تنمو عندما تعطي لها حرية أن تفكر وأن تعترض بطريقة موضوعية عقلانية، ومن حق كل محازب أو عضو جمعية أو نقابة، من حقه على الذين يقودون هذه المؤسسة أن يقدّموا له الحساب. مَن أعظم من النبي (ص)؟ الله تعالى اختاره واصطفاه وهو ليس مسؤولاً أمام الناس، ومع ذلك وقف في آخر حياته وقال: "أيها الناس، إنكم لا تمسكون عليّ بشيء، إني ما أحللت إلا ما أحلّ الله وما حرّمت إلا ما حرّم الله". لذلك، أن تحب أو تبغض نتيجة قرار ومرسوم وتعقيدات معينة، فهذا يعني العبودية، أن يستعبد الناس عقلك وقلبك.

محاسبة النفس ومساءلتها

وهناك جانب الحركة، لأن الإنسان يُحشر من خلال عمله، أن يراقب الله تعالى في عمله، والآية الكريمة تقول: {ولتنظر نفس ما قدّمت لغد}، لأن عملك هو رصيدك عند الله، والإمام عليّ (ع) يقول: "حاسبوا أنفسكم بأعمالها، وطالبوها بأداء المفروض عليها، والأخذ من فنائها لبقائها، وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى، وتأهّبوا قبل أن تبعثوا". ويقول (ع) للذين يشغلون أنفسهم بمحاسبة الآخرين: "حاسب نفسك لنفسك فإن غيرها من الأنفس لها حسيب غيرك". وعن الإمام زين العابدين (ع): "إبن آدم، إنك لا تزال بخير ما كان لك واعظ من نفسك، وما كانت المحاسبة من همّك". وعن رسول الله (ص) ـ وهو أستاذ عليّ (ع) وأستاذ الأئمة (ع) وأستاذ الأمة كلها ـ أنه قال: "أكيَس الكيّسين ـ أعقل العقلاء ـ من حاسب نفسه، وعمل لما بعد الموت، وأحمق الحمقى من أتبع نفسه هواه، وتمنى على الله الأماني"، والله تعالى خاطب هؤلاء: {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءاً يجز به ولا يجد له من دون الله وليّاً ولا نصيراً}.

ونختم الكلام بما ورد عن الإمام عليّ(ع)، وقد سئل عن كيفية محاسبة النفس، فقال: "إذا أصبح ثم أمسى رجع إلى نفسه وقال: يا نفس، إن هذا اليوم مضى عليك ولا يعود إليك أبداً، والله سائلك عنه في ما أفنيته، فما الذي عملت فيه، أذكرت الله أم حمدتيه، أقضيت ـ يا نفس ـ حق أخ مؤمن، أنفّست عنه كربته، أحفظتيه بظهر الغيب في أهله وولده، أحفظتيه بعد الموت في مخلّفيه، أكففت عن غيبة أخ مؤمن بفضل جاهك، أأعنت مسلماً، ما الذي صنعت فيه؟ فيذكر ما كان منه، فإن ذكر أنه جرى منه خير حمد الله عزّ وجلّ وكبّره على توفيقه، وإن ذكر معصيةً أو تقصيراً استغفر الله عزّ وجلّ وعزم على ترك معاودته".

إننا نحشر إلى الله تعالى بما نمتلك من طاقاتنا من خير أو شر، وعلينا أن نصل إلى الله وكل ما في داخلنا وخارجنا خير، حتى يرضى الله عنّا ويرفعنا في الدرجات العلى.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا كل ما يحيط بكم وبالأمة كلها من تحديات كبرى تتصل بالحاضر والمستقبل في كل قضايانا الحيوية والمصيرية، اتقوا الله في ذلك وتحمّلوا مسؤوليته، كلٌ بحسب طاقته، واعملوا على أساس أن تعقلوا كل موقف تقفونه وكل حركة تتحركونها وكل كلمة تطلقونها، لأن العالم يتحرك بعقل يخطط للشر، وعلينا أن نتحرك بعقل يخطط للخير ويدفع الشر، وأن ننطلق إلى العالم لنكتشف مواقع الخير لنتكامل معها.

ونحن نعيش منذ مدة طويلة في تحديات كبرى من قبل المستكبرين الذين يتحدثون أنهم يعملون على محاربة الإرهاب، ولكنهم هم الإرهابيون في كل ما يملكونه من أسلحة دمار شامل، وما يكذبون فيه ليعلنوا الحرب هنا وهناك.. فتعالوا لنعرف ماذا هناك، لنحدد موقفنا منه:

الحل بالانسحاب الإسرائيلي

لا يزال الرئيس الأمريكي "بوش" يتحدث ـ بمناسبة وبغير مناسبة ـ عن تفكيك البنية التنظيمية للفصائل الفلسطينية من قيادات الانتفاضة، وفي مقدمتها حركتا "حماس" و"الجهاد الإسلامي"، ونزع سلاحها، تماماً كما لو كان الناطق الدولي الأمريكي بلسان "شارون".. وقد كانت آخر أحاديثه مع الاتحاد الأوروبي الذي دعاه إلى اتخاذ إجراءات حاسمة ضد "حماس" وقطع مصادر التمويل عنها، مؤكِّداً على ضرورة أن تحذو أوروبا حذو الولايات المتحدة الأمريكية وتتخذ إجراءات حاسمة ضدها ـ على حدّ قولـه ـ في لغة تشبه التهديد ضد التمايز الأوروبي عن الأمريكي في تفاصيل المسألة الفلسطينية..

والسؤال الذي يفرض نفسه على الرئيس الأمريكي الذي يتحدث دائماً عن التحرير: لماذا يضع العربة أمام الحصان ولا يضع الحصان أمام العربة؟ ولماذا لا يركّز على الاحتلال الصهيوني للأراضي الفلسطينية الذي هو الأساس لحركة الانتفاضة التي أعلنت منذ البداية أنها كانت نتيجة للاحتلال، فإذا زال الاحتلال زالت الحاجة إليها، وأن وسائلها الاستشهادية كانت ردّ فعل للعمليات اليومية الوحشية في تدمير كل ما هو فلسطيني من البشر والحجر والشجر، بما في ذلك قتل الأطفال والنساء والشيوخ وغيرهم من المدنيين؟ لماذا لا يختصر المسافة الطويلة من حركة أنهار الدماء التي سالت في فلسطين بالضغط على إسرائيل للانسحاب، لتنتهي المشكلة بذلك؟؟

محاولات تدمير مواقع الممانعة والقوة

ربما كان السبب في ذلك أن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ لا تريد أن يبقى هناك أيّ موقع للقوة أو للممانعة والاعتراض على إسرائيل، حتى ضد جرائمها الوحشية، في الخطة التي تعمل فيها على إسقاط الروح العربية والإسلامية في كل المنطقة، بتدمير القوة من خلال أكثر من حرب أو فتنة أو حصار دولي، أو تهمة بالتخطيط لصنع أسلحة الدمار الشامل، كما يحدث مع إيران وما يُخطط لسوريا، في الوقت الذي نعرف فيه أن أمريكا ـ ومعها أكثر من دولة من حلفائها، ولا سيما إسرائيل ـ تمتلك أقوى ترسانة نووية وكيميائية وبيولوجية، مما تهدد بين وقت وآخر باستعمالها في بعض الحروب، كما حدث في الخطاب الأمريكي في بداية الحرب على العراق؟!

ومن الطريف أن مستشارة الأمن القومي للرئيس الأمريكي تحدثت عن أن "أمن العالم مرتبط بأمن إسرائيل، وعلى العالم أن يستنفر كل إمكاناته لحماية هذا الأمن" ضد كل ما هو عربي وإسلامي.. والسؤال للرئيس "بوش": لماذا لا يتذكّر الاحتلال البريطاني لأمريكا ومقاومة الأمريكيين له، أو الاحتلال النازي لفرنسا ومقاومة الفرنسيين له، أو الاحتلال السوفياتي لأفغانستان ومقاومة الأفغانيين له، هل يعتبر المقاومة إرهاباً؟؟ وكيف يفسّر الرئيس "بوش" قنبلتي "هيروشيما" و"ناكازاكي" اللتين حصدتا ما يقارب الربع مليون مدني من اليابانيين؟؟

الشعب الفلسطيني: إصرار على الحقوق

لقد عبّر الرئيس "بوش" عن رفضه الهدنة التي تتحرك فيها السلطة الفلسطينية في اتفاق مرتقب مع فصائل المقاومة، لأن "شارون" يرفض ذلك.. ولهذا، فإننا نشك أن يكون الرئيس الأمريكي جادّاً في الحل العادل للمسألة الفلسطينية، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو الأمن الإسرائيلي المطلق سياسياً واقتصادياً وأمنياً وجغرافياً، على حساب أمن الشعب الفلسطيني واللبناني والسوري، والعربي بشكل عام..

إننا نثق بالشعب الفلسطيني ـ بكل رموزه الجهادية ـ أنه سوف يبقى مصرّاً على حقوقه الشرعية، وانتفاضته الجهادية، ووحدته الوطنية، من دون تقديم تنازلات استراتيجية، بحيث تكون المسألة مسألة الحركية في التكتيك لحماية استراتيجية التحرير.. وعلى العالم العربي والإسلامي المراقبة الدقيقة لكل ألوان اللعبة الأمريكية الدولية لتصفية القضية الفلسطينية، التي هي الأم لكل قضايا المنطقة، للوقوف مع تحديات المرحلة بكل قوة وتخطيط.

الاحتلال في العراق: سياسة فرق تسُد

أما في العراق، فلا يزال الشعب العراقي يعيش المعاناة في أوضاعه الأمنية والسياسية والاقتصادية، من خلال الخطة التي يتحرك فيها الاحتلال في الرمال العراقية المتحرّكة، وردود الفعل المتنوّعة في مواجهة المحتل، من خلال الإذلال الذي يتعرّض له في الإساءة إلى مقدّساته الاجتماعية التاريخية، في احترام العرض والمنزل وحق الدفاع عن النفس..

إن المحتل لا يثق بالقاعدة الشعبية السياسية والفعاليات القيادية المتنوّعة في العراق، ولذلك فإنه لم يبادر إلى إعطاء الحرية للشعب لتقرير مصيره وإدارة أموره، وهو الشعب الذي يملك أفضل الطاقات، من أجل تحمّل مسؤولياته الوطنية العامة..

إن المرحلة بحاجة إلى متابعة دقيقة لحركة الاحتلال وللأوضاع الداخلية التي يُراد لها أن تزيد الأمور تعقيداً، وللفتن التي يمكن أن يخطط لها المحتل على طريقة "فرّق تسد".. إن التحديق بالحاضر في مشاكله لا يمنع من التخطيط للمستقبل، لأن القضية هي: ماذا بعد الاحتلال، وماذا عن الأخطبوط المتحرّك في صراع المصالح الدولية، ما يفرض تجميد كل خلاف أمام الشعار الاستراتيجي: لا صوت إلا صوت المعركة.

لبنان: دولة للوطن أم مزرعة للأشخاص!!

أما في لبنان، فهناك مسألة ترتبط بمستقبل كل هذا الجيل، وهي مسألة تفشّي تناول المخدرات في المجتمع اللبناني بشكل كثيف يهدد بنية المجتمع بطريقة وبأخرى، لا سيما لدى طلاب المدارس والجامعات، من دون فرق بين العوائل الفقيرة والميسورة..

إن على المجتمع كله ـ وفي مقدمته الدولة بكل مؤسساتها ـ الاستنفار بما يشبه حالة الطوارئ لمعالجة هذه المشكلة، من أجل إعادة تأهيل الإنسان بما يخدم قضية الأمة كلها.. ولا بد من الانتباه إلى أن الإحصاءات تتحدث عن وجود كثير من تجّار المخدرات ومروّجيها في السجون، الأمر الذي يفرض علينا المزيد من الجهد للمراقبة الدقيقة لذلك.

وهناك قضية أخرى، وهي المشكلة الصناعية المنطلقة من عمق المسألة الاقتصادية، وقد بدأت بعض المصانع ـ ولا سيما في الضاحية الجنوبية ـ تقفل أبوابها، وتشرّد العاملين فيها، بفعل الحصار الضرائبي من جهة رسوم الكهرباء وغيرها، والمنافسة للصناعة الوطنية من خلال المنتوجات الأجنبية التي لا تخضع في دخولها إلى البلد لأيّ قيود اقتصادية، لأن التسيّب السياسي هو الذي يحكم ذلك.. وما نقولـه في القطاع الصناعي نقوله في القطاع الزراعي، الذي يمثّل الحل الوحيد لتنمية المناطق المحرومة..

إن السؤال الذي يتحرك للدولة: هل هناك خطة لتطوير الصناعة والزراعة وحلّ مشكلة الفقراء والعمّال والمناطق المحرومة، بما يؤدي إلى النموّ الاقتصادي في البلد، أم أن المسألة ترتبط بالمصالح السياسية والخلافات الطائفية؟؟ إن البلد لا ينمو أو يتطوّر بالقروض الخارجية التي تستهلك فوائدها كل إنتاجه، ما لم يخطط المسؤولون لإيجاد سياسة اقتصادية شاملة متحرّكة، من أجل التوازن في الإنتاج، والدقة في سياسة التصدير والاستيراد، وحماية الموقع المستقبلي المميّز للبلد كله..

والسؤال الذي يطلقه الناس بكل مرارة: هل هناك دولة للوطن، أم مزرعة للأشخاص والطوائف باسم لبنان؟

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية