ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين، ومما جاء في خطبته الأولى:
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إن عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً في كتاب الله يوم خلق السموات والأرض منها أربعة حرم}، ويقول تعالى: {إنما يريد الله ليّذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيراً}.
أشهر السلام
هذا الشهر ـ شهر رجب الحرام ـ هو من الأشهر الحرم، وهي ذي القعدة وذي الحجة ومحرّم ورجب، وهي الأشهر التي حُرّم فيها القتال، ويمكن أن نسمّيها أشهر السلام التي أراد الله تعالى فيها للناس أن يعيشوا في الواحة الزمنية روح السلام فيما بينهم، حتى لو كان لأحد منهم ثأر على أحد، أو كانت هناك حروب بين فريق وفريق، إن عليهم أن يلقوا السلاح في هذه الأشهر ليفكّروا في النتائج الطيبة للسلام بين الناس، والنتائج السلبية للحرب، إلا أن تكون الحرب دفاعاً عن النفس عندما يهجم فريق من الناس على المسلمين، على أساس عدواني، كما يحدث الآن في فلسطين، وكما تخطط له أمريكا، فإن للمسلمين الحق في أن يخوضوا الحرب في هذا الشهر وفي غيره من أجل الدفاع عن النفس.
وعلينا عندما نعيش هذا الشهر الذي حرّم الله تعالى فيه القتال، أن نستوحي منه كيف نعيش السلام فيما بيننا في مجتمعاتنا الإسلامية، بأن ننزع الحقد من قلوبنا ضد المؤمنين، ونعمل على أساس استبدال العداوة بالصداقة، واستبدال المقاطعة باللقاء، لأن الله تعالى يريد للمسلمين أن يكونوا أمة واحدة وموقفاً واحداً، لا سيما عندما تواجههم التحديات من كل جانب، وهذا هو سرّ معنى الإسلام في وجداننا وإيماننا.
ذكريات الأئمة(ع).. الاستقامة والالتزام
ثم، إن هذا الشهر تتنوّع فيه ذكريات الأئمة من أهل البيت (ع)، ففي بداية هذا الشهر كانت ولادة الإمامين محمد الباقر وعلي الهادي (عليهما السلام)، وفي اليوم الثالث منه كانت ذكرى وفاة الإمام علي الهادي (ع). ونحن في التزامنا الإيماني بخط الإمامة نرتبط بأئمتنا (ع) ارتباط الرسالة، لأنهم أئمة الإسلام الذين حملوا رسالته، وأوذوا في سبيل الله وجاهدوا وتحمّلوا الكثير من التحديات على أكثر من مستوى، حباً لله ورسوله وجهاداً في سبيله، وإذا كانوا لم يملكوا الفرصة التي يستطيعون من خلالها أن يقودوا الأمة قيادة سياسية إلى جانب القيادة الرسالية، فإنهم عاشوا إمامتهم في توعية الأمة والنصح لها، وفي مواجهة كل المشاكل التي تعيش بين أفرادها، وكل التحديات الفكرية التي كانت تواجه الإسلام وأهله... كانوا مع الأمة في كل قضاياها ومشاكلها، وكانت كلماتهم كلمات نور تضيء العقل وتفتح القلب وتقوّم الانحراف وتفتح الطريق للإنسان أمام رضى الله وسعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
وقد كان لكل إمام دور بحسب المرحلة التي عاشها، وبحسب الظروف التي أحاطت به، من حيث سعة الساحة لحركته في الإمامة الثقافية أو ضيقها، وقد وصلنا من ذلك الكثير. ونحن في أي ذكرى من هذه الذكريات، لا بدّ لنا أن نستعيد بعض كلماتهم المضيئة، لنستفيد منها في بعض ما نحن فيه، حتى يكون وعينا للإسلام أكثر، وحركتنا من أجل الاستقامة على الخط الذي أراد الله لنا أن نأخذ به أكثر.
قيمة التكافل الاجتماعي
من بعض كلمات الإمام الباقر(ع)، الكلمة التي يعالج فيها مسألة المقارنة بين العبادة المستحبة، وبين الكفالة الاجتماعية للمحرومين، لأنه ربما يدور الأمر أمام الإنسان بين أن يقوم بعمل اجتماعي يُصلح به بين اثنين أو فريقين، وبين أن يصلي صلاة مستحبة أو يصوم صوماً مستحباً، فماذا يقدّم؟ هل ينشغل بمسؤوليته العبادية في صومه وصلاته عن مسؤوليته الاجتماعية في إصلاح ذات البين؟ وربما يقف الإنسان بين عبادة مستحبة يبذل في ممارستها مالاً، وبين مساعدة عائلة فقيرة محرومة، ما هو الأفضل في بذل المال؛ هل يبذله من أجل إتمام فريضة الحج أو العمرة أو الزيارة، أو يصرفه للعائلة المحرومة التي تحتاج إلى ما يسدّ جوعها ويكسو عورتها ويحفظ ماء وجهها عن الناس؟
أما في الحالة الأولى، فقد سمعنا في وصية الإمام عليّ (ع) في وصيته الأخيرة لولديه الإمامين الحسنين (ع) ولكل من بلغه كتابه، يقول (ع): "أوصيكم بتقوى الله ونظم أمركم وصلاح ذات بينكم، فإني سمعت جدكما رسول الله (ص) يقول: صلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام" ـ في غير الفرائض طبعاً ـ فإذا دار الأمر بين أن تصلي صلاة الليل وبين أن تسهر لتصلح بين اثنين، فإنك تؤجر على قيامك بصلاح ذات البين أكثر مما تؤجر على تقديمك للصوم المستحب أو الصلاة المستحبة. أما في الجانب الثاني، فنستمع إلى الإمام الباقر (ع) يقول: "لئن أعول أهل بيت من المسلمين، أسدّ جوعتهم وأكسو عورتهم وأكفّ وجوههم عن الناس، أحبّ إليّ من أن أحج حجة وحجة وحجة ومثلها (حتى بلغ عشرة) ومثلها ومثلها (حتى بلغ السبعين)".
ومن خلال هذا الحديث، نعرف قيمة المسألة الاجتماعية في مسؤولية الإنسان المسلم من خلال مواجهة حالة الحرمان لدى المسلمين ممن لا يملكون العيش الكريم، ولكن الفكرة الموجودة عند الكثيرين منا، أن الحجة المستحبة مثلاً أهم من أن يعول أهل بيت من فقراء المسلمين، وقد يكون حجه من أجل أن يزداد روحانية أو أن يقوم بخدمة الحجاج، ولكن ثواب إعانة الفقراء أكثر من ثواب الحج المستحب. وهذه الفكرة لا بدّ أن نضعها في أذهاننا لكي نعرف قيمة التكافل الاجتماعي.
القول الحسن وأداء الأمانة
ويتحدث الإمام الباقر (ع) عن بعض الجوانب التي تتصل بطريقة معاشرة الناس، فهناك من يملك مزاجاً متوتراً لا يحبّ فيه الناس، فيسبّ ويشتم لأي شيء يعكر مزاجه، وهناك من يحاول أن يلحف ويلح في سؤاله وحاجته بشكل يزعج به الواقع، فيقول (ع): "قولوا للناس أحسن ما تحبون أن يُقال لكم ـ ماذا تنتظر من الناس الذين تعيش معهم في بيت أو سوق أو أيّ مجتمع، ماذا تنتظر أن يواجهوك في الكلمات التي يقدّمونها إليك والأسلوب الذي يستعملونه معك، فقل للناس ما تحب أن يقولوه لك، فلا تسبّ ولا تشتم، ولا تهدر كرامات الناس، ولا تلحف في السؤال ـ فإن الله تعالى يبغض اللعّان، السبّاب، الطعّان على المؤمنين، السائل الملح، ويحبّ الحليم ـ الذي لا يعنف ولا يتوتر ويقابل الناس بكل قلب مفتوح وعقل مفتوح وكلمة مفتوحة ـ العفيف المتعفف".
ثم يقول الإمام الباقر (ع): "عليكم بالورع والاجتهاد في طاعة الله، وصدق الحديث، وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم عليها برّاً كان أو فاجراً ـ ويبيّن الإمام (ع) عظمة الأمانة ـ فلو أن قاتل عليّ ائتمنني على أمانة لأديتها له".
هذا هو الخط الاجتماعي الذي يؤكد المسألة الاجتماعية للإنسان عندما يعيش مع مجتمعه، وكيف يكون المجتمع آمناً معه، وكيف يكون صادقاً في كل كلماته ومواقفه ومواقعه.
معنـى الإيمـان
أما الإمام الهادي(ع)، فيروي عن عليّ (ع) في تحديد الإيمان، فما هو الفرق بين الإسلام وبين الإيمان، لأن الإسلام في معناه القانوني كلمة، ولكن الإيمان بمعناه العميق موقف عقل وموقف قلب وموقف عمل، قد يقال لك إنك مسلم إذا شهدت الشهادتين والتزمت باليوم الآخر وببعض ما ثبت من الدين ضرورة، ولكن إنما يقال لك مؤمن إذا كان إيمانك يعيش في داخل كل ذاتك في حياتك. يقول (ع): "عن عليّ (ع) قال: قال لي رسول الله (ص): يا عليّ، اكتب. فقلت: ما أكتب؟ قال: اكتب: الإيمان ما وقر في القلوب ـ ما عاش عقيدة في منطقة الوعي الداخلي، وهي منطقة العقل والقلب والشعور، بحيث يتعمّق في وجدانك الفكري والشعوري ـ وصدّقته الأعمال ـ ليست المسألة فقط أن يعيش الإيمان في وجدانك، بل لا بدّ أن يتحرك الإيمان في عملك بحيث يكون مصدّقاً لعقيدتك ـ والإسلام ما جرى على اللسان ـ ولذلك كان النبي (ص) يقبل من أي إنسان ينطق الشهادتين رغبةً أو رهبةً أو إيماناً، وقد ورد في الآية الكريمة: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولمّا يدخل الإيمان في قلوبكم} ـ وحلّت به المناكحة".
ومن كلمات الإمام الهادي (ع): "من أطاع الخالق لم يبالِ بسخط المخلوقين"، فالإنسان الذي يرتبط بالله ويأتمر بأمره وينتهي بنهيه، ويكون رضى الله عنده هو كلّ شيء، فإنه إذا أخذ برضى الله فلا يهمه سخط الناس، لأنه لا قيمة لأي مخلوق أمام الخالق، وهذا ما عبّر عنه النبي (ص) عندما اندفع الناس من أهل الطائف يرمونه بالحجارة ويسبونه ويشتمونه ليخرجوه من بلدهم خوفاً على شبابهم من أن يتأثروا به، كانت بعض كلماته في مناجاته لربه: "إن لم يكن بك غضب عليَّ فلا أبالي"، وقد عبّر أحد الشعراء عن هذه الروحية بقوله:
فليتك تحلو والحياة مريرة وليتك ترضى والأنام غضاب
وليت الذي بيني وبينك عامر وبيني وبين العالمين خراب
ويكمل الإمام الهادي (ع) كلمته: "ومن أسخط الخالق فليوقن أن يحلّ به سخط المخلوقين"، بعض الناس قد يرتكب محرماً أو ينحرف عن إيمانه حتى يأمن ممن له مكانة اجتماعية أو سياسية أو رسمية، أو عنده حالة شهوانية معه، فإذا أسخط ربه فإن الناس يحتقرونه لأنهم يعرفون أنه باعهم دينه.
قيمة الدنيا وقيمة الآخرة
ثم يبيّن الإمام الهادي (ع) الفرق بين قيمة الدنيا وقيمة الآخرة، فيقول (ع): "الناس في الدنيا بالأموال ـ من يملك المال فإن الناس تعظّمه ـ وفي الآخرة بالأعمال". وفي موعظة له (ع): "اذكر مصرعك بين يدي أهلك، ولا طبيب يمنعك، ولا حبيب ينفعك"، أهلك والأطباء لن يمنعوا عنك الموت، فاذكر كيف ترتب حساباتك بين يدي الله قبل أن تقدم عليه. وكل واحد سوف يصل إلى هذه اللحظة، فمن منا يفكّر في تلك اللحظة، وكيف يستعد لها، وما هو العمل الذي يقدّمه بين يدي الله؟
{يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدّمت لغد واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون* ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم أولئك هم الفاسقون* لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون}، ويقول عليّ(ع): "أفبمثل هذه الأعمال تريدون أن تجاوروا الله في دار قدسه ـ تكذب وتزني وتغتاب وتأكل أموال الناس بالباطل، وتفتن بين الناس وتترك الصلاة والصوم ـ هيهات لا يُخدع الله عن جنته". فنسأل الله تعالى أن يعيننا على أنفسنا بما يعين به الصالحين على أنفسهم، إنه أرحم الراحمين.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم في هذه المرحلة التي هي المرحلة الأكثر خطورةً وصعوبةً وإلحاحاً في المواجهة التي نخوضها ضد الاستكبار العالمي الذي يريد أن يحاصر الأمة كلها، ويريد أن يستولي على كل مقدّراتها على أساس كبريائه وأطماعه وما يخطط له لإسقاط كل المستضعفين في الأرض لحساب مصالح المستكبرين، وليس هناك أيّ وقت لأن نتحرك في الخلافات الهامشية الحزبية والعائلية والسياسية المحلية، لأن المستكبرين يتحالفون ويتجمّعون، إنهم يتفقون على إسقاطنا ومصادرة ثرواتنا وإسقاط كل كراماتنا، فلماذا لا نستنفر كل طاقاتنا لنكون كما أرادنا الله تعالى صفاً كالبنيان المرصوص؟
إنّ هذه المرحلة لا تزال تهزّ العالم، ولم يمر حدث في تاريخنا الحديث وربما القديم وقف العالم كله أمامه في موقف تفكير وخوف ومواجهة كمثل هذه المرحلة التي نعيشها والحدث الذي وقع قبل سنة، فكيف نواجه هذا الحدث، وكيف نبتعد عن أخطاره؟ لا بدّ أن يكون لنا الوعي السياسي، لأن القوم يستعدون ويخططون، فعلينا أن نستعد ونخطط، فماذا هناك:
وقفة مع ذكرى 11أيلول
في 11 أيلول كانت الذكرى الأولى للحدث الضخم الذي تحدّى الدولة العظمى الأقوى في العالم ـ سياسياً واقتصادياً وعسكرياً ـ في مفاصلها الحيوية، ولأول مرة في تاريخها.. وتجمّع قادة الدول للتضامن مع الولايات المتحدة في حزنها على الضحايا، وفي حربها على ما يسمّونه الإرهاب، كما قال الأمين العام للأمم المتحدة، الذي تابع بالقول: "ستكون هناك مناسبات أخرى لاستطلاع أسباب الهجمات، ففي ذلك اليوم سقط آلاف الضحايا من النساء والرجال من أكثر من 90 دولة، وهم يمثّلون معاً أمماً متحدة من المواطنين العالميين"..
وإننا ـ أمام هذه الذكرى ـ نسجّل عدة ملاحظات:
ـ أولاً: إن أغلب الشخصيات الإسلامية ـ وفي مقدمتهم العلماء المسلمون ـ استنكروا هذا الحدث، واعتبروه عملاً غير مبرر إسلامياً، حتى لو كان إسلاميون هم الذين قاموا به من موقع نيّة لا يعوزها الإخلاص، لأن الوسيلة التي استُخدمت لتحقيق الهدف الاحتجاجي لا تتناسب مع الأصول الشرعية..
وفي ضوء ذلك، فإن هذا العمل لا يمثّل الإسلام في مفاهيمه الإنسانية، وفي أسلوبه في معارضة السياسات الأخرى، كما لا يمثّل المسلمين كأمة في العالم.. ولكن ردّة الفعل في الغرب ـ على مستوى الظاهرة العامة ـ تحرّكت ضد الإسلام كدين، وضد العرب والمسلمين كأمة، ما يدلل على الذهنية العنصرية الانفعالية لدى العالم الغربي التي حمّلت العالم الإسلامي في كل مواقعه مسؤولية ذلك.
ـ ثانياً: إن الإدارة الأمريكية ـ بشخص رئيسها ـ لم تسمح بمناقشة الخلفيات والأسباب السياسية والأمنية والاقتصادية بما تختزنه من حالات القهر والإذلال، ومصادرة الواقع الإنساني للشعوب العربية والإسلامية من قِبَل الاستكبار العالمي وفي مقدمته أمريكا، ما يجعل بعض أفرادها يقومون بهذه الأساليب تحت تأثير العنف المضادّ الذي يحرّكه العنف الوحشي الذي تثيره السياسة الأمريكية ضد هذه الشعوب.. وكانت المعادلة لدى الرئيس الأمريكي في ندائه للعالم كله: "إما أن تكونوا معنا وإما أن تكونوا مع الإرهاب"، ولا خيار لأحد في تحديد مفهوم الإرهاب أو دراسة أسبابه، لأن "الإمبراطورية الأمريكية الجديدة" لا تتحمّل المناقشة من أحد، فهي التي تقود العالم ولا يُسمح لأحد أن يقود خطواتها في أيّ حال!!
ـ ثالثاً: إنّ الرئيس الأمريكي يتحدث عن الحضارة والحرية والسلام وحقوق الإنسان، في حديثه عن الحرب ضدّ ما يسمّيه الإرهاب، قائلاً: "إننا نقاتل كما قاتل الأمريكيون على الدوام، ليس فقط من أجلنا بالذات، وإنما من أجل أصدقائنا".. والسؤال: من هم أصدقاء أمريكا في المنطقة؟ إنهم يتمثّلون في صديق واحد وهو إسرائيل التي دخلت معها أمريكا في حربها ضد الشعب الفلسطيني باسم "الحرب على الإرهاب"، الذي اعتبروه متمثّلاً في الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت من أجل التحرير، ما جعل من هذه الحرب الأمريكية ـ الإسرائيلية الحرب الثانية بعد حرب أفغانستان..
أما أصدقاء أمريكا من العرب والمسلمين، فإنهم لا يمثّلون موقعاً متقدّماً في الخطة الأمريكية، بل إنهم يقفون في المواقع الخلفية وراء إسرائيل، لتكون قيمتهم بمقدار ما يقدّمون لأمريكا من تنازلات في القواعد العسكرية على أرضهم لقتال الدول العربية والإسلامية "المارقة" أو الواقعة ضمن "محور الشر" ـ بحسب التعبير الأمريكي ـ وفي الضغط على الفلسطينيين بما يضمن المصلحة الصهيونية..
وهذا ما لاحظناه في التهويل السياسي والإعلامي والعسكري الموجَّه للمنطقة، حتى لبعض أصدقاء أمريكا الذين تقدّم لهم بعض الكلمات الدبلوماسية العاطفية، في الوقت الذي ترسل فيه إليهم أكثر من رسالة تهديدية لتغيير سياستهم أو أوضاعهم، وللضغط على شعوبهم باسم محاربة الإرهاب، ولعل الرسائل السياسية الأمريكية الموجَّهة أخيراً ضد مصر والسعودية ـ اللتين هما أقوى أصدقائها ـ أبلغ دليل على ذلك.
ـ رابعاً: لقد كنا نتمنى أن تأخذ أمريكا درساً عملياً في أن طريقتها في استعراض عضلاتها ضد الشعوب لن تمنحها امتداداً في الوجدان العام، بل إنها سوف تصنع من جديد أكثر من إرهاب يتحرك كمثل حركة الأشباح.. وإن تغيير سياستها لمصلحة الشعوب المقهورة من قِبَل حكامها الذين وظّفتهم أمريكا لحراسة مصالحها في المنطقة، وصادرت مصالحهم لحسابها، هو الذي يجعلها الدولة الأقوى في العالم سياسياً وإنسانياً، ولكن القوى الداخلية المسيطرة على سياسة الإدارة الأمريكية هي التي تدفع بأمريكا نحو ارتكاب هذه الخطوات المميتة على صعيد المستقبل.
ـ خامساً: إن مسؤوليتنا في العالم العربي والإسلامي هي كيف ننظر إلى العالم نظرة جديدة مستمدة من التطورات الكبرى التي ساهمت في خلق أكثر من مشكلة ثقافية وسياسية وأمنية لنا، على صعيد الشعوب قبل الحكومات، من خلال الحملة الإعلامية الموجَّهة ضدّنا من أكثر من جهة..
لذلك، لا بدّ من التخطيط لاستنفار كل امتداداتنا العربية والإسلامية في العالم، لاستخدامها في توعية الشعوب الأخرى حول الإسلام في مفاهيمه وشرائعه، وحول قضايانا العادلة في مسألة التحرير والعدالة وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير.. وإننا ندعو العرب والمسلمين للقيام بتعبئة شاملة من أجل العمل على مواجهة الحملة الظالمة ضد الإسلام والمسلمين، وبالتخطيط لنحوّل العالم إلى أصدقاء لنا بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن، لأن الحرب لم تعد مجرد حرب عسكرية وسياسية، بل هي حرب إعلامية على مستوى العالم كله.
ـ سادساً: إن علينا أن نتابع تطورات الخطة الأمريكية في الحرب ضد العراق، والتي قد تقلب المنطقة رأساً على عقب في تداعياتها السياسية والأمنية والاقتصادية، وأن نبقى مع الشعب العراقي الذي لا يزال يعاني في الداخل والخارج أقسى ما يعانيه شعب في العالم.
فلسطين: مقاومة الاحتلال في سلم الأولويات
وتبقى القضية الفلسطينية الهمَّ الكبير، لأن المرحلة لا تزال مرحلة الضوء الأخضر الأمريكي لإسرائيل في تدمير الشعب الفلسطيني من أجل تحقيق النصر الصهيوني عليه، بحسب الخطة "الشارونية".. وعلى هذا الشعب أن يتابع مسيرته الجهادية في انتفاضته الشجاعة البطلة، وعلى السلطة الفلسطينية أن تدرس خطورة التحديات في شراسة المرحلة، من أجل رعاية الوحدة الفلسطينية، في حوار عقلاني موضوعي هادىء يضع المقاومة للاحتلال في سلّم الأولويات الضرورية.. ويبقى للشعوب العربية والإسلامية دورها في الوقوف مع هذا الشعب المجاهد المظلوم.
لبنان: خطة اقتصادية سياسية للمواجهة
أما في لبنان، فإن التهديدات الإسرائيلية لا تزال تتحرك في دائرة التهويل الوقائي، لخلق حالة من التوتر الأمني الذي يُراد من خلاله القيام بحملة دبلوماسية دولية للضغط على لبنان.. وقد لاحظنا التهديد الأخير في مسألة مشروع جرّ مياه "الوزاني" من قِبَل لبنان، الذي لم يأخذ حصته من الماء بحسب القانون الدولي..
ومن الطريف أن أمريكا تطالب لبنان وإسرائيل بضبط النفس في أزمة المياه، ولم تتجرأ أن تطلب من إسرائيل الانضباط في عدم العدوان على لبنان في التصرف بحقه الشرعي في إرواء شعبه من مياهه.. ولكنها أمريكا التي تساوي بين المجرم والضحية؟!
ولذلك، فإننا نعتقد بأن التهديدات الإسرائيلية للبنان هي جزء من عملية متكاملة تتوزّع فيها الإدارة الأمريكية وكيان العدو الأدوار، في محاولة لإخضاع المنطقة حتى قبل أن تبدأ أمريكا بحربها الثانية بعد الجولة الأولى في أفغانستان.
وإننا في الوقت الذي تطل فيه الأحداث على هذه المرحلة الخطيرة، نستغرب أن يبقى السجال اللبناني يدور في التفاصيل الصغيرة بعيداً عن القضية الكبرى، وأن نتصرف وكأننا في منطقة هادئة تماماً وليس أمامنا إلا أن نشاغب على بعضنا البعض، تارة باسم العنوان السياسي وأخرى باسم العنوان الاقتصادي، وثالثة باسم العنوان الإعلامي.. مع ملاحظة مهمة، وهي أن الشدّ والجذب في الدائرة اللبنانية الواحدة، على المستوى الطائفي أو الدوائر المختلفة، على المستوى الحزبي والسياسي، يجعل الموقف يتحرك في متاهات تُدخل البلد في دروب الضياع..
إن أحوج ما يحتاج إليه لبنان في هذه المرحلة هو أن يعدّ نفسه لتلافي رياح التهديد والوعيد وآثارها المتوقعة، وكذلك أن يبدأ برسم خطة اقتصادية ـ سياسية للمواجهة، ولن يكون ذلك إلا على أساس وحدة اللبنانيين التي تنطلق من إحساسهم جميعاً بالخطر المشترك الذي يُحدق ببلدهم انطلاقاً من البوابة الجنوبية، تماماً كما هي الأخطار والعواصف القادمة من العالم إلى المنطقة بأسرها..
أيها اللبنانيون: شمّروا عن سواعدكم لمواجهة الأزمة الاقتصادية والتهديدات الإسرائيلية، ثم بعد ذلك يمكن أن تتفرّغوا للجدال والنقاش في التفاصيل التي كانت ولا تزال سراً من الأسرار التي تعصف بالبلد في أشد ساعات المحنة، من دون أن يعمل الحريصون على طردها لحساب القضايا الكبرى.. فأي لبنان هو هذا اللبنان، وأي وطن نريد؟ |