ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
المصطفون الأخيار
قال الله تعالى في كتابه المجيد: {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار، إنّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار وإنهم عندنا لمن المصطفين الأخيار* واذكر إسماعيل واليسع وذا الكفل وكلٌ من الأخيار}.
في هذه الآيات الكريمة، نلاحظ أنّ الله تعالى مدح هؤلاء الأنبياء بأنهم من الأخيار، من خيار الناس، ما يوحي بأن هذه الصفة هي من الصفات المهمة التي ترتفع إلى المستوى الذي يصف فيه الله تعالى بها أنبياءه، وذلك يعني أن على الناس أن يقتدوا بهم في ذلك، فيحاول كل واحد منهم أن ينمّي نفسه ويفجّر طاقاته، وأن يربّي كل ملكاته، من أجل أن يكون الإنسان الخيّر، لأن هذه الصفة هي صفة تجعل الإنسان كبيراً في الدنيا، كما تجعله قريباً إلى الله تعالى في الآخرة.
خيـر الرجال
وقد وردت الأحاديث عن النبي (ص) وأهل بيته (عليهم السلام) في تحديد بعض الصفات التي يمكن للإنسان أن يكون من خلالها خير الناس. في حديث النبي(ص): "إن من خير رجالكم ـ وعندما يُتحدث عن الرجال فإن الحديث يشمل النساء أيضاً ـ التقي ـ الذي يتقي الله، فلا يجده الله حيث نهاه ولا يفقده حيث أمره، فيكون المطيع لله في ما أمره به وفي ما نهاه عنه ـ النقي ـ الذي يعيش نقاء الروح والقلب، بحيث لا يحمل في روحه أيّ خبث، ولا في قلبه أيّ سوء أو حقد لأي إنسان في الحياة ـ السمح الكفين ـ الذي يكون سمحاً كريماً جواداً معطاءً، بحيث يعطي مما رزقه الله تعالى لمن يحتاج إلى عطائه، {ولا يكلّف الله نفساً إلا وسعها} ـ النقي الطرفين ـ أن يكون نقياً في أعضائه، فلا يصدر منه أيّ عمل من أعمال الشر، سواء كان شراً في نفسه أو في الناس ـ البرّ بوالديه ـ الذي يعيش الإحسان لوالديه، لأن الله أراد له أن يُحسن إليهما وان يشكر له ولهما، لأن الله سرّ وجوده في أصل الخلق، والوالدين هما سرّ وجوده في حركة الخلق، {واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل ربِّ ارحمهما كما ربياني صغيراً} ـ ولا يُلجئ عياله إلى غيره"، أن يقوم بمسؤوليته تجاه أولاده كاملة غير منقوصة، فلا يحوجّهم أن يسألوا غيره، ولا يحوج زوجته أن تسأل أهلها لتسد حاجتها منهم، بل يتحمّل مسؤوليتهم كاملة غير منقوصة.
وفي كلمة للإمام عليّ (ع) لما سئل عن خيار الناس عند الله عزّ وجلّ، الذين منحهم الله تعالى هذا القرب عنده، قال: "أخوفهم لله ـ الإنسان الذي يخاف الله، بحيث يحذر من غضبه وسخطه في كل كلمة يقولها، وفي كل عمل يعمله ـ وأعملهم بالتقوى ـ وهو خط الطاعة لله في كل شيء ـ وأزهدهم في الدنيا"، بمعنى أن الدنيا لا تملكه ولا تسقطه أطماعها ليتنازل عن مبادئه. وقد ذكرنا أكثر من مرة، أن الزهد في الدنيا ليس معناه أن يمتنع الإنسان عن طيباتها إذا كانت من حلال، بل إن الزهد في الدنيا هو أن يتجنب حرامها، ولا يفضّل الدنيا على تكاليفه ومبادئه.
التكافل بين الناس
وعن رسول الله (ص) لما قال له رجل: أحبّ أن أكون خير الناس، فما هو العمل الذي يجعلني في مستوى هذه الصفة، قال (ص): "خير الناس من ينفع الناس"، أن تكون الإنسان الذي إذا عاش مع الناس اتسعت حياتهم في حياته، بحيث يكثر علم الناس من خلال علمه، وتقضى حاجات الناس من خلال جهده، ويعطي الناس ما يسهّل لهم شؤون حياتهم، لا سيما للفئات المحرومة من الفقراء والمساكين والأيتام والمعاقين وما إلى ذلك. وقد ورد في الحديث عن الإمام الرضا (ع) عندما سئل: من أحسن الناس معاشاً؟ قال (ع): "من حَسُن معاش غيره في معاشه"، قيل: ومن أسوأ الناس معاشاً؟ قال (ع): "من لم يعش غيره في معاشه"، بمعنى أن لا يكون الإنسان ذاتياً لا يفكر إلا بنفسه، بل يفكر أن الله أعطاه ما أعطاه من علم وقوة ومال وجاه ليكون ذلك أمانة الله عنده، يستفيد منها في إدارة شؤون حياته، ثم يبذلها لكل الناس الذين يحتاجون تلك الطاقات، وقد رفع الله تعالى مستوى مسألة نفع الناس، فجعل الفرق بين الحق والباطل أن الحق هو الذي ينفع الناس والباطل هو الذي لا ينفعهم بل يضرهم، وذلك قوله تعالى عندما ضرب المثل بين الحق والباطل: {فأما الزبد فيذهب جفاءً وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض}. وعندما أطلق الله تعالى لسان عيسى بن مريم (ع) عندما أشارت أمه إلى القوم أن يكلّموه عندما اتهموها في شرفها قال: {إني عبد الله آتاني الكتاب وجعلني نبيّاً* وجعلني مباركاً أينما كنت}، وقد فسّر أهل البيت (ع) كلمة المبارك بأنه النفّاع للناس، ينفعهم في كل ما يملك من طاقاته.
ولذلك، فإن على الإنسان أن لا يكون انانياً فيما يملك من طاقات، بحيث يحرم الناس من علمه وماله ووجاهته وقوته، لأن هذه كلها هي عطاء الله له ليعطيها للناس، وبهذا جاءت الآية القرآنية الكريمة: {وآتوهم من مال الله الذي آتاكم}، {وأنفقوا مما جعلكم مستخلّفين فيه}، هكذا يمكن أن يستقر المجتمع ويتوازن بحيث يشعر كل فرد من أفراده أن للناس عليه حقاً في كل ما يحتاجونه من طاقاته، كما أن له حقاً على الناس في ما يحتاجه من طاقاتهم، فالحياة الاجتماعية تمثل نوعاً من العقد الاجتماعي بين الناس أن يتكافلوا فيما بينهم ويتفاعلوا في كل قضاياهم وحاجاتهم.
وفي رواية أخرى عن رسول الله (ص): "خير الناس من انتفع به الناس"، وهذا ما عبّر عنه الإمام عليّ (ع): "خير الناس من نفع الناس"، وهذه المسألة لا بدّ لنا أن نربي أنفسنا وأولادنا عليها، ولا بد أن تتحرك في برامج التربية المدنية والاجتماعية، حتى ينشأ لدينا مجتمع يتحسس مسؤوليته في أن يفجّر طاقاته في من حوله وما حوله.
وفي بعض الأحاديث عن الإمام الصادق (ع) يقول: "خياركم سمحاؤكم ـ الناس الكرماء ـ وشراركم بخلاؤكم"، الذين يبخلون بما أعطاهم الله تعالى من مال أو علم أو ما أشبه ذلك، وقد جاء في القرآن الكريم: {ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه}. وعن الإمام الصادق (ع): "إن خير العباد من يجتمع فيه خمس خصال: إذا أحسن استبشر ـ إذا أحسن للناس في أيّ موقع من مواقع الإحسان فإنه يستبشر ويسرّ، لأنه يشعر أنه قد أدّى واجبه وحرّك حياته في سبيل الخير ـ وإذا أساء استغفر ـ إذا صدر منه ذنب استغفر الله حتى يمحو الذنب من نفسه وحياته ـ وإذا أُعطي شكر ـ يشكر العطية من الآخرين لأن "من لم يشكر المخلوق لم يشكر الخالق" ـ وإذا إبتُلي صبر ـ لم يسقطه البلاء عند الجزع والتنازل عن مبادئه ـ وإذا ظُلم غفر"، إذا كان في الغفران للظالم مصلحة، أما إذا لم يكن هناك مصلحة فالله تعالى يقول: {والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون}.
التزوّد لرحلة الآخرة
وعن الإمام عليّ (ع): "خير الناس من زهدت نفسه ـ من لم يكن الإنسان الذي يفتح حياته على الطمع في ما ليس له ولا يستحقه ـ وقلّت رغبته ـ لا يقدم على الرغبة غير المسؤولة ـ وماتت شهوته ـ بمعنى أنه نظّم شهوته ولم يجعلها ثائرة بحيث تقود إلى الحرام ـ وخلص إيمانه، وصدق إيقانه"، وهو اليقين بالله.. وعنه(ع): "خيركم من عرف سرعة رحلته فتزوّد لها"، من يعرف أن رحلته إلى الله رحلة سريعة، لأن "من كان مطيته الليل والنهار، فإنه يُسار به وإن كان واقفاً"، فعلى الإنسان أن يتزوّد لهذه الرحلة، وخير الزاد التقوى. وعنه (ع): "خيركم من ذكّركم الله رؤيته"، الإنسان الورع الروحاني الذي إذا رأيتموه في ورعه وتقواه فإنكم تذكرون الله عندما تنظرون إليه.
وسئل رسول الله (ص): "يا رسول الله، أيّ الجلساء خير؟ قال (ص): "من ذكّركم بالله رؤيته، وزادكم في علمه منطقه"، من إذا تحدث إليكم فإن حديثه يزيد في علمكم وثقافتكم. وعنه (ص): "خيركم من دعاكم إلى فعل الخير"، من يوجهكم ويعظكم ويرشدكم ويدعوكم إلى أن تفعلوا الخير، هو ذلك الإنسان الذي ينشر السلام والوحدة في المجتمع، ويرفض العصبية في علاقات المجتمع بعضه ببعض، الإنسان الذي يدعوكم إلى المحبة لا إلى الحقد، وإلى الاجتماع لا إلى التفرّق.
وتتوالى الكلمات النورانية من رسول الله (ص) والأئمة من أهل البيت(ع)، في أن يكون الإنسان معنياً بنفسه، مراقباً لها، لأن الناس يُحشرون يوم القيامة على حسب ما كانوا فيه في الدنيا، فعلينا أن لا تشغلنا دنيانا عن تربية أنفسنا وتزكيتها، وأن يكون كل واحد منّا شخصاً فاعلاً للخير، متجاوباً مع كل أوضاع الناس من حوله، وقد سمعنا عن رسول الله(ص) أن المسلم هو من يهتم بأمور المسلمين، و"من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، وأن المؤمن هو "من ائتمنه الناس على أموالهم وأعراضهم".
{والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}، "حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا وزنوها قبل أن توزنوا"، "اليوم عمل ولا حساب وغداً حساب ولا عمل"، {يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحاً فملاقيه}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله، واجهوا مسؤولياتكم أمام كل الناس الذين تتحمّلون مسؤوليتهم بشكل خاص أو بشكل عام، فإن رسول الله (ص) قال: "كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته"، وعلينا أن نشعر أن المجتمع يمثّل كياناً يتوزّع الأفراد مسؤوليتهم فيه، فلكل دوره وموقعه، وعلينا أن نخلص لدورنا وموقعنا لنتقنه ونتحرك فيه بكل قوة.. لا سيما في حالات التحدي الكبير الذي ينطلق فيه المستكبرون من جهة، والكافرون المعادون للمسلمين من جهة أخرى والظالمون والكبار والصغار من جهة ثالثة، من أجل إسقاط أمن الناس وسياستهم واجتماعهم وأخلاقياتهم، لننطلق كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، من أجل حماية المسلمين والمستضعفين بكل ما نملك من قوة، ولا يجوز لأيّ إنسان أن يقف على الحياد لأنه لا يجوز الحياد يين الظالم والمظلوم، وبين الحق والباطل.
ونحن لا نزال نعيش الأزمات السياسية والأمنية والاقتصادية في العالم كله، لأن المستكبرين قد تحالفوا في كل أوضاعهم ضد المستضعفين ـ ولا سيما المسلمين منهم ـ وهذا ما يجعلنا نشعر بضرورة تجميد كل خلافاتنا وعصبياتنا وحساسياتنا، أن نعمل على أن يكون الحب لا البغض هو طابع أمتنا ومجتمعنا، لأن العدو بالرغم من كل خلافاته وعصبياته وتنوّع مصالحه، قد وقف وقفة رجل واحد ضد كل الذين يطالبون بالتحرر من المستكبرين، فتعالوا لنرى ماذا هناك:
فلسطين.. الجرح النازف
ما تزال فلسطين هي الجرح النازف الذي تتفجّر الدماء منه، والذي تتحرك كل المؤامرات الدولية لتمنع أن يكون لفلسطين استقلالها وأصالتها وحريتها.
ما هي المشكلة في فلسطين؟ إن العرب والأوروبيين والروس والأمم المتحدة يتفقون على أن الاحتلال هو المشكلة، وأن الانسحاب الكامل من أراضي الـ67 هو الحلّ، مع قيام دولة فلسطينية تضمن الأمن.. ونداء الانتفاضة بجميع فصائلها يلتقي مع هذا المشروع، بالرغم من أن الإسلاميين لا يوافقون على تقسيم فلسطين إلا من خلال الظروف الصعبة التي يفرضها الأمر الواقع في هذه المرحلة..
فماذا حدث؟ لقد طرح "بوش" أن المشكلة هي في طبيعة السلطة الوطنية ورئيسها ورموزها وأجهزتها وفسادها ورضاها عمّا أسماه الإرهاب، ولذلك فالحل ـ عنده ـ هو تغيير السلطة وإجراء إصلاحات أمنية وإدارية بشكل نموذجي لتتحوّل إلى دولة.. وترك لإسرائيل شارون أن تأخذ الحرية في احتلال جديد للضفة بكل مدنها ومخيماتها وقراها، ومحاصرة كل أوضاعها، وإرباك حياتها اليومية، وتدمير بيوتها، وجرف مزارعها، وقتل المدنيين من النساء والأطفال والشيوخ والشباب بشكل عشوائي، من دون أن ينطلق أيّ استنكار أو أسف أمريكي أو أوروبي أو روسي أو من الأمم المتحدة، أو حتى عربي، حتى أن الشارع العربي أخذ دوره في الصمت عن التظاهر أو الاحتجاج، لأن أمريكا قالت كلمتها وعلى الجميع أن يرتّبوا أوضاعهم في السياق الأمريكي..
وهكذا، تناست أكثر من دولة عربية مبادرتها، ولم تتحدث أطراف الجبهة الرباعية التي تقودها أمريكا إلا عن تطبيق إصلاحات فلسطينية شاملة وجذرية مما يقود إلى دولة فلسطينية.. ولم يأتِ البيان على ذكر كلمة واحدة عن الاحتلال، ولم يتحدث عن أنه هو سرّ المشكلة التي أدّت إلى فقدان الفلسطينيين حقهم في تقرير المصير، ولم يشر إلى الممارسات الإسرائيلية التي تستحق اللوم أو الاستهجان، بل أكد على وجوب إصلاح الفلسطينيين أنفسهم، تماماً كما لو كانوا وحدهم في هذا العالم الذين يعانون من خلل في إدارة السلطة، لأن المشكلة عند أمريكا القائدة للجبهة الرباعية، هي أن الخلل الفلسطيني يضرّ بالخطة الإسرائيلية على صعيد السياسة والأمن، وهي الجريمة الكبرى لدى الإدارة الأمريكية..
والسؤال الذي يطرح نفسه: ماذا يمكن لوزراء خارجية الدول العربية الثلاث أن يتحدثوا مع الرئيس الأمريكي أو وزير خارجيته؟ سوف يتلقون التعليمات بأن يبعثوا مدراء مخابراتهم لترتيب الوضع الأمني الفلسطيني تحت قيادة مدير المخابرات المركزية الأمريكية، لإيجاد جهاز أمني يضرب رجال الانتفاضة تحت الشعار الأمريكي "الحرب ضد الإرهاب"، من دون أن يكون هناك أيّ جديّة أمريكية في تحقيق الانسحاب على أساس المبادرة العربية، لأن أمريكا ـ ومعها إسرائيل ـ لم تحترم هذه المبادرة، ولم تجد فيها إلا أنها تمثل إعلان الاعتراف بإسرائيل من كل الدول العربية، فهي مجرد حافز للمفاوضات وليست مشروعاً للتنفيذ.. وهكذا استطاعت أمريكا أن تفرض خطاب الرئيس "بوش" بكل ضبابيته بما يتصل بدولة فلسطين، وبكل وضوحه بما يرتبط بالمشروع الإسرائيلي، على كل الوسط الدولي والعربي، من أجل أن يرتّبوا أوضاعهم في سياق عناوينه.
وحده الشعب الفلسطيني المجاهد في انتفاضته المباركة هو الذي واصل مشروعه في اختراق الأمن الإسرائيلي، من خلال العملية النوعية في المستوطنة المحصّنة، والتفجير الاستشهادي في العمق في تل أبيب.. وحده الشعب الفلسطيني أسقط خطاب "بوش" ومشروع "شارون" وميوعة الاتصالات العربية التي زحفت إلى أمريكا، من دون أن تحظى بـ"شرف" الانضمام إلى الجبهة الرباعية في اجتماع العمل، لأن المطلوب ـ أمريكياً ـ هو أن تبقى هذه الدول تحت ضغط الإدارة الأمريكية، باعتبار أن دورها هو تلقّي التعليمات لا تأكيد المواقف..
وهكذا، سمعنا الاستنكارات الأمريكية والأوروبية والعربية ـ بما فيها السلطة الفلسطينية ـ ضد العمليات الجهادية، أما العمليات الوحشية الإسرائيلية، فإنها ـ في نظر أمريكا وحلفائها وعملائها ـ عمليات الدفاع عن النفس ضد الذين يهددون أمنها، كما لو لم يكن الاحتلال تهديداً أمنياً وسياسياً واقتصادياً للشعب الفلسطيني كله!!
حرب أمريكية على العالم
إن علينا أن نحدّق في الخطة الأمريكية في إعلان الحرب على العالم باسم الحرب ضد الإرهاب، الذي لم تحدد أمريكا ملامحه ولا مواقعه، بالإضافة إلى شعار الحرب ضد أسلحة الدمار الشامل التي لا يمتلك أحد في المنطقة العربية والإسلامية ما تملكه إسرائيل منها، من دون أن تسمح أمريكا لأي جهة، بما فيها الأمم المتحدة، من الحديث ـ مجرد الحديث ـ عن ذلك..
إن الخطة الأمريكية هي السعي لـ"أمركة" العالم العربي والإسلامي، للاستيلاء على ثرواته وأسواقه واستثماراته، حتى أنها عندما تهدد العراق فإنها تخطط للاستيلاء عليه، ولتدمير شعبه قبل تدمير نظامه، كما فعلت أثناء حرب الكويت.. ولذلك، فإننا ندعو المعارضة العراقية إلى التفكير بعمق في المشروع الأمريكي المطروح في الإعلام، لأن بعض ما تفكر فيه أمريكا هو إضعاف العراق ليكون مجرد هامش من هوامش إسرائيل في المنطقة، لأن الجميع يخافون من القوة المستقبلية للشعب العراقي في تأكيد أصالته العربية والإسلامية.
حلّ المشكلات المستعجلة
أما في لبنان الذي يتحدث فيه الكثيرون عن ملامح خطة اقتصادية لمعالجة العجز، وتحديد سقف الإنفاق، وعن بداية الإعداد لمواجهة الانهيار الاقتصادي، فإننا نريد للدولة أن تعمل لحل المشاكل المستعجلة الراهنة، كمقدمة لمعالجة المشكلة الكبرى..
إننا نريد للمسؤولين أن يبدأوا بمعالجة المآزق الراهنة معالجة سريعة، من مشكلة أصحاب "الفانات" العاملة على المازوت، إلى مشكلة المعلّمين الثانويين، إلى مشكلة عمّال شركة "أوجيرو" وغيرهم.. لأن المسألة هي أن يُعطى هؤلاء حقوقهم، ولأن عجز الدولة عن معالجة هذه القضايا سوف يشكّل عائقاً يمنعها من النجاح في الأمور الأخرى، وقديماً قيل: إن النجاح في القضايا الكبرى يتوقف على النجاح في تجديد الأمور الصغيرة..
إننا لا نريد للبنان أن يتحرك كورشة اقتصادية وسياسية لإنجاح التحضيرات القائمة لـ"باريس2"، من دون الأخذ بعين الاعتبار للتعقيدات الاجتماعية والمعيشية التي لا تحتمل أيّ تأجيل.. ونريد للمسؤولين أن ينطلقوا من قاعدة سياسية واقتصادية توافقية تأخذ مصلحة البلد وفئاته المسحوقة بعين الاعتبار، بعيداً عن الألغام السياسية والاقتصادية..
وعلى الجميع أن يكونوا الخفير لمنع أية اهتزازات أمنية، لأن أيّ اهتزاز أمني وأيّ اعتداء على أمن البلد لا يمكن أن يصب إلا في خدمة العدو الذي يعمل لإحداث مشاكل لتوظيفها في سعيه الدائم لتصدير مشاكله إلى الداخل اللبناني، ليؤكد للعالم بأن حركة العنف الداخلي هي التي تغذّي ما يدّعيه من الإرهاب. ولذلك، فلا بدّ من العمل بكل قوة لحفظ السلم الداخلي، والاستعداد لمواجهة الأخطار الإسرائيلية، وما يخطط له العدو في هذه المرحلة والمراحل اللاحقة. |