عندما تلتقي الإمامة بالنبوة تاريخاً وحركةً: الامتداد الرسالي في مدى الزمن

عندما تلتقي الإمامة بالنبوة تاريخاً وحركةً:  الامتداد الرسالي في مدى الزمن

عندما تلتقي الإمامة بالنبوة تاريخاً وحركةً:  الامتداد الرسالي في مدى الزمن


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

انفتاح على خط الإسلام

في السابع عشر من شهر ربيع الأول كانت ولادة المصطفى رسول الله محمد(ص)، على أشهر الروايات، وكانت ولادة الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع). ونحن أمام هاتين المناسبتين ننفتح على خط الإسلام في الدعوة التي انطلق بها رسول الله(ص)، الذي أرسله الله تعالى شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بالقرآن الذي أراد له أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأن يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام.

وكانت الإمامة بعد النبوة منهجاً من أجل إكمال الدعوة المراقبة على المفاهيم التي أصّلها رسول الله (ص)، وتحديد الأحكام الشرعية التي أكدها الله تعالى في كتابه وركّزها رسول الله(ص) في سنّته، فالإمامة تمثل هذا الامتداد الرسالي الذي ينطلق به الأئمة(ع) من حيث انطلق رسول الله من دون زيادة ولا نقصان، كما جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) في الرواية المروية عنه: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين عن علي عن رسول الله(ص) عن جبرائيل عن الله سبحانه وتعالى"، فكما أن النبي(ص) لم يزد حرفاً ولم ينقص حرفاً عمّا أوحى به الله تعالى إليه، كذلك هم أئمة أهل البيت(ع)، من عليّ(ع) الذي قال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، يُفتح لي من كل باب ألف باب"، إلى الإمام الحجة(عج)، لم يزيدوا أو ينقصوا حرفاً عما جاء به رسول الله(ص)، ولكنهم أوضحوا كلام الله ورسوله، وأصّلوه، وفتحوا كل الآفاق على كل الإسلام في كل ما استجدّ في الحياة الإسلامية من قضايا ومشاكل وأحداث.

التشيّع: إسلام مؤصّل

ولذلك، فإن التشيّع الذي نلتزم به ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، بل إنه يمثل خط أهل البيت(ع) في وعيهم للإسلام وتبيانهم له وتأصيلهم لمفاهيمه، والتشيّع ليس مذهباً كبقية المذاهب، بل هو إسلام مؤصّل في ما جاء عن أئمة أهل البيت(ع). نعم، من جاء بعد أهل البيت(ع) اجتهدوا في كلام الله تعالى ورسوله(ص) وما جاء عن أئمة أهل البيت(ع)، فنحن لا نرى أن الأئمة من أهل البيت(ع) مجتهدون كبقية المجتهدين من أئمة المذاهب، لأن المجتهد يخطئ ويصيب، وأهل البيت(ع) معصومون بعصمة الله تعالى لهم.

والإمام الصادق(ع) هو جعفر بن محمد الباقر، وأمه هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وقد جاء في كلام الإمام الصادق(ع): "ولدني أبو بكر مرتين"، باعتبار أن جدّه هو محمد بن أبي بكر والذي كان من أصحاب الإمام عليّ(ع). وقد أعطى الإمام الصادق (ع) من العلوم في شتى مواقعها ما لم يعطه أيّ إمام من قبله ومن بعده، ما عدا الإمام علي(ع)، مع أن التفاصيل في كلام الإمام الصادق(ع) أكثر، والسبب في ذلك أن إمامة الإمام الصادق(ع) امتدت لأكثر من ثلاثين سنة، وكان في مرحلة أمكن له فيها أن يمارس حريته في نشر علوم أهل البيت(ع)، لأن الأمويين الذين كانوا يضطهدون الأئمة من أهل البيت(ع) كانوا مشغولين بالصراع لحماية ملكهم الذي ثار عليه بنو العباس، وبنو العباس كانوا مشغولين عن الأئمة(ع) من خلال انشغالهم بتأسيس ملكهم الجديد.

الصادق(ع) يُغني الثقافة الإسلامية

ولذلك فإن الإمام الصادق(ع) استطاع أن يغني الثقافة الإسلامية في مرحلته إغناء كبيراً جداً، ونحن نعرف أن مجلسه كان يرتاده كبار فقهاء المسلمين ومنهم "أبو حنيفة"، صاحب المذهب الحنفي الذي قيل له: من أعلم الناس؟ قال: جعفر بن محمد، فسئل: لماذا؟ قال ـ ما مضمونه ـ: لأن المنصور دعاني وقال لي: إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فحضّر له مسائل معقّدة من مسائلك وألقها عليه، فلعله لا يستطيع أن يجيب عليها فينزل قدره عند الناس، فحضّرت له أربعين مسألة، وعندما التقيته عند المنصور ألقيتها عليه، فكان يقول: إنكم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، حتى أتى على الأربعين مسألة. ثم قال: ألستم تقولون إن أفقه الناس أعرف الناس بأقوال الناس.. وهذا ما يدلنا على أن الإمام الصادق(ع) كان مطلعاً عل كل الآراء الموجودة في الواقع الإسلامي، ما يدل على رحابة علمه وسعته، لأن الإنسان الأكثر علماً وثقافة هو الأكثر إحاطة بالعلوم والآراء التي تتحرك فيها الأمة في اجتهاداتها.

وكان "مالك بن أنس" إمام المذهب المالكي يجلس إلى الإمام الصادق(ع)، وكان يقول إنه أفضل الناس، وكان "أبو حنيفة" يقول: لولا السنتان ـ اللتان تلمّذ بهما على الإمام الصادق(ع) ـ لهلك النعمان. وهكذا لو قرأنا الشهادات التي صدرت عن سائر الكتّاب والمؤرخين والمفسّرين والعلماء في مدى التاريخ، لرأينا أن الإمام الصادق(ع) يتمتع بقداسة وثقة علمية عند الذين يلتزمون إمامته وعند الذين لا يلتزمونها. وكانت مدرسته منفتحة على كل الاتجاهات الإسلامية، فكان يستقبل الناس الذين يتفقون معه في رأيه والذين يختلفون معه، حتى أن مدرسته كانت تنفتح على الملاحدة والزنادقة، ومما يروى، أنه كان يستقبل في البيت الحرام المتفلسفين ممن لا يؤمنون بدين، والناس مشغولون بالطواف والصلاة، والإمام الصادق(ع) مشغولٌ بمناظرة هؤلاء ومناقشتهم ليهديهم إلى الصراط المستقيم، لأنه كان الإمام المحاور الذي يحاور كل الناس، وكان يرى أنه لا مقدّسات في الحوار، فكان يستمع إلى الذين ينكرون وجود الله والذين يسجّلون ملاحظات على العبادات كالطواف بالبيت وما إلى ذلك، وكان لا يطرد أحداً لكفره ولا يبعد أحداً لزندقته، بل كان يرى أن من واجب الإمام وكل ذي علم أن يجلس مع الناس كلهم بصدر رحب، وأسلوب طيب، ليدفع بالتي هي أحسن، وليجادل بالتي هي أحسن، كما أراد الله تعالى للدعاة إلى دينه أن يأخذوا بهذه الأخلاق الحوارية الثقافية.

معالجة الصادق(ع) لمشاكل المجتمع

وكان الإمام الصادق(ع) يواجه كل الأحداث التي تحدث في المجتمع، سواء كانت أحداثاً ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، ليعالجها، وكان يتحدث مع الناس كلهم، مع الصغير والكبير، كان يحدّث الناس عن العقائد بطريقة فلسفية، وعن الأخلاق بطريقة أخلاقية، وكان يجيب الصغير والكبير، وقد روى الشيخ المفيد (رحمه الله) في "الإرشاد"، أن أباه الإمام الباقر(ع) عندما حانت منه الوفاة، قال له: "أوصيك بأصحابي خيراً، فماذا تفعل معهم؟ قلت له: جعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً"، يعني سوف أثقف أصحابك ـ وهم شيعة آل محمد ـ ثقافة يستغنون بها عن سؤال أي إنسان. وكان الإمام الصادق(ع) لا يحجب نفسه عن الناس، بحيث كان الناس يهاجرون إليه من كل الآفاق، حتى قال عنه بعض الرواة: "أتيته بمنى والناس حوله كأنه معلّم صبيان". وكان لا يتعقّد من سؤال، لأنه كان يريد أن يعلّم الناس في الصغير والكبير، إذا سأله الناس أجابهم، وإذا لم يسألوه ابتدأهم بالكلام.

وهذا ما يجب على العلماء أن يأخذوا به، أن لا يحجبوا أنفسهم عن الناس، وأن لا يحرجهم سؤال ولا يتعقدوا من أي سؤال يسأل، وهناك الكثير من علامات الاستفهام التي يحملها الكثير من الناس، ولا سيّما جيل الشباب، وقد ورد عن رسول الله(ص): "إذا ظهرت البدع فعلى العالِم أن يظهر علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة الله".

الصادق.. إمام الحرية

ونحن سوف نقرأ بعض النصوص الواردة عن الإمام الصادق(ع) في القضايا العامة، حتى نستطيع أن نستنير ببعض نور علمه. فمن بين الكلمات التي وردت عن الإمام الصادق(ع) هذا الربط عنده بين الصبر والحرية، فإن الإمام الصادق(ع) يعتبر أن مسألة أن تكون حراً ليست أن يعطيك أحد حريتك، بل إن الحرية تنبع من حرية عقلك وصلابة إرادتك، فأنت تكون حراً إذا ملكت عقلك وإرادتك وقرارك، بحيث لا يضغط عليك أحد لتتبنى موقفاً لا تؤمن بشرعيته، وعليك إذا كنت الحر أن تتحمّل ضريبة هذه الحرية، فلا تسقط أمام الضغوط ولا تنهار، يقول(ع): " إن الحرّ حر على جميع أحواله_حتى لو كان في الزنزانة ولا يستطيع أن يتحرك من مكانه ، ولكن كانت إرادته حرّة ، بحيث يملك أن يقول "لا" عندما يقتنع بالـ "لا"، ويملك أن يقول "نعم" عندما يقتنع بها ـ إن نابته نائبة صبر لها ـ لا يسقط ولا يهتز أو يتراجع ـ وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسر وقُهر واستبدل باليسر عسراً ـ ويضرب الإمام(ع) مثلاً للأحرار الذين يصبرون والذي يؤدي بهم صبرهم إلى النتائج الطيبة، يقول(ع): ـ كما كان يوسف الصدّيق، لم يضرر حريته أن استُعبد وقُهر وأُسر، ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن منّ الله عليه، فجعل الجبار العاتي له عبداً، بعد أن كان له مالكاً، فأرسله الله رسولاً ورحم به أمة، وكذلك الصبر يعقب خيراً، فاصبروا ـ اصبروا على كل التحديات والظروف، اصبروا على كل قناعاتكم وإيمانكم والتزاماتكم مهما ضغط الضاغطون، ومهما قهر القاهرون ـ ووطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا".

ومن خلال هذا الحديث نقول إن الإمام الصادق(ع) كان إمام الحرية الذي يؤكد أن الحرية لا تأتي من الخارج، ولكنها تنبع من الداخل، وهذا المبدأ هو المبدأ الذي أخذ به هذا العصر الذي انطلق به فلاسفته بعد مئات السنين، ليكتشفوا ما قاله الإمام الصادق(ع) مستوحياً ذلك من كتاب الله وسنّة نبيه.

استشراف المستقبل

وكان(ع) يحدّث الناس من حوله بما كان رسول الله يحدّث به عن مستقبل الزمان، وأظنه يصوّر عصرنا هذا، قال: "قال رسول الله (ص): سيأتي على الناس زمان لا يُنال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر ـ كيف يصعد الملوك إلى عروشهم، والرؤساء إلى مراكزهم، والمتنفذون إلى مواقعهم، يقتلون ويتجبرون ليملكوا الناس ويأخذوا مواقعهم ـ ولا الغنى إلا بالغصب والبخل ـ الظاهرة الموجودة في مسألة الغنى هي أن الإنسان يستغل الظروف المحيطة به ليأكل المال الحرام، سواء كان الغني فرداً أو جماعة أو دولة، كما أن الكثيرين من الناس يبخلون بحقوق الله تعالى وبالتزاماتهم الاجتماعية على الناس ، لأنهم يخافون من الفقر إذا أعطوا ما أوجبه الله عليهم من الحقوق ـ ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى ـ بعض الناس يطلبون الشعبية والامتداد من خلال اتباع أهواء الناس ـ فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى ـ إذا كان الغنى يفرض عليه أن يتنازل عن دينه وإيمانه ـ وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز، أتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً".

التحذير من تتبّع عورات المسلمين

وهناك نقطة يركّز عليها النبي(ص) مما ينقله الإمام الصادق(ع)، وهذه النقطة هي هذا الوضع الاجتماعي الذي نعيش فيه التعقيدات والعصبيات الحزبية والمرجعية والعائلية والمذهبية، بحيث يحاول الإنسان من فريق معيّن أن يذمّ الفريق الآخر من خلال تتبع عوراته، فيحاربه بما يعرفه من عيوبه ونقاط ضعفه، وهذا ما نعيشه، لا سيما في مجتمع المؤمنين. يقول(ع): "قال رسول الله(ص): يا معشر من أسلم بلسانه ـ ينطق بالشهادتين بلسانه فقط ـ ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته". ويعالج الإمام الصادق(ع) هذه المسألة في حديث آخر، يقول: "أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يؤاخي الرجل وهو يحفظ عليه زلاته ليعيّره بها يوماً ما". وهو ما عالجه الإمام الباقر(ع) في حديثه حيث قال: "أقرب ما يكون الرجل إلى الكفر أن يؤاخي الرجل الرجل على الدين ليحصي عليه زلاته ليعنّفه بها يوماً ما"،

هذا بعض حديث الإمام الصادق(ع)، وعلينا إذا أردنا أن نكون شيعة أهل البيت(ع) أن نكون شيعتهم في عملهم وسيرتهم ووصاياهم ومواعظهم، وقد ورد عن الإمام الباقر(ع): "أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول إني أحب عليّاً وأتولاه ثم لا يكون فعالاً، فرسول الله خير من علي!ّ، أفحسب الرجل أن يقول إني أحب رسول الله ثم لا يعمل بسنّته، من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدواً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع". هذا خط أهل البيت(ع)، خط فكر وعمل وتقوى، يشمل الفرد والمجتمع، وهذا ما يجب علينا أن نسير عليه لنكون معهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وكونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإن الله تعالى أراد لنا أن نكون في مواجهة الظالمين، و أن نقف من أجل تعطيل كل خططهم، سواء كان الظالم فرداً أو جماعة أو دولة أو محوراً دولياً، لأنّ الله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ووضع الميزان ليقوم الناس بالقسط، فمن قام بالظلم فإنه يقوم بما ينافي إرادة الله في رسالاته. وعلى الأمة كلها أن تعمل في سبيل مواجهة الظالمين بكل ما لديها من وسائل المواجهة، سواء كانت مواجهة بكلمة أو بعمل.

ونحن ـ كمسلمين في العالم ـ نستعيد النبي (ص) في ذكرى ولادته، وهو الذي صنع منّا بإذن الله ووحيه ورسالته أمةً، وأراد لها أن تتوحّد وتعتصم بحبل الله، وأراد لنا أن نكون الأقوياء ولا نتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فلا تستعبدوا أنفسكم لأحد سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ولا تذلوا أنفسكم لأحد، لا سيما أننا نعيش المشاكل من أكثر من موقع من مواقع المستكبرين، فتعالوا لنتعرّف على صورة العالم الإسلامي الآن؟

المقاومة وحدها في المواجهة

لا تزال فلسطين محتلة صهيونياً، احتلالاً متحركاً بالدبابات التي تجتاح القرى والمدن تارة، واغتيالاً للمجاهدين تارةً أخرى، واعتقالاً ثالثة، في الوقت الذي ينال فيه المحتل البركة الأمريكية التي تتحدث عن الحل بطريقة نفاقية، وترسل مبعوثيها الأمنيين من جهة أخرى لتنظيم الأمن الفلسطيني، على طريقة التبعية للأمن الأمريكي والإسرائيلي، وإعادة تركيب الإدارة الفلسطينية ـ تحت شعار الإصلاح ـ بما يخدم السياسة الأمريكية والإسرائيلية، لتتحوّل فلسطين الفلسطينية إلى كيان تابع للدولة الصهيونية وموقع للنفوذ الأمريكي..

أما أوروبا وروسيا والأمم المتحدة، فقد سلّمت قيادتها لوزير الخارجية الأمريكي الذي لا يزال يتحدث ـ مع رئيسه ـ عمّا يسمّيه العنف الإرهابي الفلسطيني، من دون أن يذكر العنف الصهيوني، وهو الاحتلال وعدوانه الوحشي الذي هو الأساس للمشكلة كلها في واقع الشعب الفلسطيني.

أما العرب، فلا يزالون يتحدثون عن مبادرتهم التي لا تملك أية آلية واقعية، في الوقت الذي ينتظرون فيه الوحي الأمريكي، ويجمّدون حركة الانتفاضة في فلسطين والحركة الشعبية في عواصمهم.. والجميع ينتظر عملية التجميد.. والشعب الفلسطيني المقاوم وحده الذي يدفع بحركة الاستشهاد، ليفتح أكثر من ثغرة في جدار "السور الواقي"، ويوسّع المأزق الأمني للعدو..

كشمير: التدقيق بخلفيات الأزمة

أما كشمير ؛ هذا البلد الإسلامي الذي لا يزال منذ أكثر من نصف قرن يجاهد من أجل الحصول على حقه في تقرير المصير، ليحصل على استقلاله وليتحرر من الاحتلال الهندي.. كشمير هذه قد تنكّرت لها الأمم المتحدة، وبدأت أمريكا تتحدث عن المجاهدين بأنهم إرهابيون لأنها تطمع في تقوية علاقاتها مع الهند..

وبدأ الضغط على باكستان من أجل الامتناع عن دعم المجاهدين فيها.. ونحن نعرف أن هناك أكثر من خطة دولية لأكثر من لعبة تستهدف إضعاف البلدين، بإثارة حالة من التوتر التي تؤدي بهما إلى حافة الحرب، بما يمكن لها أن تتطوّر إلى حرب نووية، لئلا يستطيعا الأخذ بأسباب القوة التي تنافس الدول الغنية في الغرب.

إننا نراقب هذا الجزء من العالم الذي يعاني فيه المسلمون، ومعهم المستضعفون الفقراء من غيرهم، من اللعبة الاستكبارية الدولية التي تعمل من أجل السيطرة السياسية والاقتصادية والأمنية على مقدّراتها وثرواتها ومواقعها الاستراتيجية، وتستهدف المسلمين بالدرجة الأولى، باعتبارهم يمثّلون ـ حسب الاتهام الأمريكي ـ الخزان البشري لما يسمونه الإرهاب. ولذلك، فإننا نريد لهم التدقيق بالخلفيات الكامنة في الأوضاع المتوترة، حذراً من النتائج الخطيرة التي تواجههم في المستقبل.

الوقوف أمام مخطّطات المؤتمر العالمي

ومن جهة أخرى، فإننا نراقب المؤتمر العالمي الذي جمع دول الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا وروسيا، ليحدد العدو ّ الجديد الذي تستهدفه وهو الإرهاب، من دون تحديد لمفهومه، ما نخشى معه أن يكون المفهوم الأمريكي لهذا العنوان هو الذي يخطط له هذا المؤتمر، فتتحوّل حركات التحرر من الاحتلال إلى حركات إرهابية، كما هو المنطق الأمريكي في تصنيف المعارضين لسياستها في دائرة الإرهاب، واعتبار الحركات الإسلامية السائرة في خط التغيير على أساس التحرر من النفوذ الاستكباري ـ ولا سيما الأمريكي ـ حركات إرهابية..

إن هذا التطوّر الذي ينذر بالكثير من الأخطار التي قد تنال دول العالم الثالث، ولا سيما العالم الإسلامي، بحاجة إلى اليقظة والحذر، لأنه قد يخلق الكثير من المشاكل على مستوى العلاقات الدولية والأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية.. وهذا ما يفرض على القيادات الإسلامية أن يجمّدوا الكثير من الخلافات المذهبية والطائفية والقومية بين المسلمين، كوسيلة من وسائل تأكيد الوحدة الإسلامية، للوقوف أمام هذا التحالف العالمي الذي يعمل على السيطرة على الواقع الإسلامي كله.. إننا ضد الإرهاب الذي يدمّر حياة الإنسان، بما في ذلك إرهاب الدولة والمحاور الدولية الاستكبارية، ولكننا مع المقاومة ضد الاحتلال والسيطرة الاستكبارية على مقدّرات الشعوب.

لبنان: مراقبة التطورات

أما في لبنان، فإن علينا مراقبة التطورات المحتملة في المنطقة، من أجل الاستعداد الواعي لنتائجها على مستوى الوطن كله.. ولا بد من متابعة حالة الأوضاع الاقتصادية التي تنذر بالكثير من الكوارث على صعيد الدولة والشعب، حذراً من المفاجآت المستقبل ية مما يُدبَّر في الخفاء لهذا البلد الذي لا يُراد له الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، من أجل تنفيذ الكثير من المخططات الخارجية من خلال الأجهزة المخابراتية على أكثر من صعيد، والتي تريد الاستفادة من الفسيفساء اللبنانية لأكثر من مشروع إقليمي أو محلي، بما يخدم مصالح الآخرين الذين لا يريدون الخير للبلد والمنطقة.

عندما تلتقي الإمامة بالنبوة تاريخاً وحركةً:  الامتداد الرسالي في مدى الزمن


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :

انفتاح على خط الإسلام

في السابع عشر من شهر ربيع الأول كانت ولادة المصطفى رسول الله محمد(ص)، على أشهر الروايات، وكانت ولادة الإمام جعفر بن محمد الصادق(ع). ونحن أمام هاتين المناسبتين ننفتح على خط الإسلام في الدعوة التي انطلق بها رسول الله(ص)، الذي أرسله الله تعالى شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، بالقرآن الذي أراد له أن يُخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأن يهدي به من اتبع رضوانه سبل السلام.

وكانت الإمامة بعد النبوة منهجاً من أجل إكمال الدعوة المراقبة على المفاهيم التي أصّلها رسول الله (ص)، وتحديد الأحكام الشرعية التي أكدها الله تعالى في كتابه وركّزها رسول الله(ص) في سنّته، فالإمامة تمثل هذا الامتداد الرسالي الذي ينطلق به الأئمة(ع) من حيث انطلق رسول الله من دون زيادة ولا نقصان، كما جاء عن الإمام جعفر الصادق(ع) في الرواية المروية عنه: "حديثي حديث أبي، وحديث أبي حديث جدي، وحديث جدي حديث الحسين عن علي عن رسول الله(ص) عن جبرائيل عن الله سبحانه وتعالى"، فكما أن النبي(ص) لم يزد حرفاً ولم ينقص حرفاً عمّا أوحى به الله تعالى إليه، كذلك هم أئمة أهل البيت(ع)، من عليّ(ع) الذي قال: "علّمني رسول الله ألف باب من العلم، يُفتح لي من كل باب ألف باب"، إلى الإمام الحجة(عج)، لم يزيدوا أو ينقصوا حرفاً عما جاء به رسول الله(ص)، ولكنهم أوضحوا كلام الله ورسوله، وأصّلوه، وفتحوا كل الآفاق على كل الإسلام في كل ما استجدّ في الحياة الإسلامية من قضايا ومشاكل وأحداث.

التشيّع: إسلام مؤصّل

ولذلك، فإن التشيّع الذي نلتزم به ليس شيئاً زائداً عن الإسلام، بل إنه يمثل خط أهل البيت(ع) في وعيهم للإسلام وتبيانهم له وتأصيلهم لمفاهيمه، والتشيّع ليس مذهباً كبقية المذاهب، بل هو إسلام مؤصّل في ما جاء عن أئمة أهل البيت(ع). نعم، من جاء بعد أهل البيت(ع) اجتهدوا في كلام الله تعالى ورسوله(ص) وما جاء عن أئمة أهل البيت(ع)، فنحن لا نرى أن الأئمة من أهل البيت(ع) مجتهدون كبقية المجتهدين من أئمة المذاهب، لأن المجتهد يخطئ ويصيب، وأهل البيت(ع) معصومون بعصمة الله تعالى لهم.

والإمام الصادق(ع) هو جعفر بن محمد الباقر، وأمه هي أم فروة بنت القاسم بن محمد بن أبي بكر، وقد جاء في كلام الإمام الصادق(ع): "ولدني أبو بكر مرتين"، باعتبار أن جدّه هو محمد بن أبي بكر والذي كان من أصحاب الإمام عليّ(ع). وقد أعطى الإمام الصادق (ع) من العلوم في شتى مواقعها ما لم يعطه أيّ إمام من قبله ومن بعده، ما عدا الإمام علي(ع)، مع أن التفاصيل في كلام الإمام الصادق(ع) أكثر، والسبب في ذلك أن إمامة الإمام الصادق(ع) امتدت لأكثر من ثلاثين سنة، وكان في مرحلة أمكن له فيها أن يمارس حريته في نشر علوم أهل البيت(ع)، لأن الأمويين الذين كانوا يضطهدون الأئمة من أهل البيت(ع) كانوا مشغولين بالصراع لحماية ملكهم الذي ثار عليه بنو العباس، وبنو العباس كانوا مشغولين عن الأئمة(ع) من خلال انشغالهم بتأسيس ملكهم الجديد.

الصادق(ع) يُغني الثقافة الإسلامية

ولذلك فإن الإمام الصادق(ع) استطاع أن يغني الثقافة الإسلامية في مرحلته إغناء كبيراً جداً، ونحن نعرف أن مجلسه كان يرتاده كبار فقهاء المسلمين ومنهم "أبو حنيفة"، صاحب المذهب الحنفي الذي قيل له: من أعلم الناس؟ قال: جعفر بن محمد، فسئل: لماذا؟ قال ـ ما مضمونه ـ: لأن المنصور دعاني وقال لي: إن الناس قد افتتنوا بجعفر بن محمد فحضّر له مسائل معقّدة من مسائلك وألقها عليه، فلعله لا يستطيع أن يجيب عليها فينزل قدره عند الناس، فحضّرت له أربعين مسألة، وعندما التقيته عند المنصور ألقيتها عليه، فكان يقول: إنكم تقولون كذا، وأهل المدينة يقولون كذا، ونحن نقول كذا، حتى أتى على الأربعين مسألة. ثم قال: ألستم تقولون إن أفقه الناس أعرف الناس بأقوال الناس.. وهذا ما يدلنا على أن الإمام الصادق(ع) كان مطلعاً عل كل الآراء الموجودة في الواقع الإسلامي، ما يدل على رحابة علمه وسعته، لأن الإنسان الأكثر علماً وثقافة هو الأكثر إحاطة بالعلوم والآراء التي تتحرك فيها الأمة في اجتهاداتها.

وكان "مالك بن أنس" إمام المذهب المالكي يجلس إلى الإمام الصادق(ع)، وكان يقول إنه أفضل الناس، وكان "أبو حنيفة" يقول: لولا السنتان ـ اللتان تلمّذ بهما على الإمام الصادق(ع) ـ لهلك النعمان. وهكذا لو قرأنا الشهادات التي صدرت عن سائر الكتّاب والمؤرخين والمفسّرين والعلماء في مدى التاريخ، لرأينا أن الإمام الصادق(ع) يتمتع بقداسة وثقة علمية عند الذين يلتزمون إمامته وعند الذين لا يلتزمونها. وكانت مدرسته منفتحة على كل الاتجاهات الإسلامية، فكان يستقبل الناس الذين يتفقون معه في رأيه والذين يختلفون معه، حتى أن مدرسته كانت تنفتح على الملاحدة والزنادقة، ومما يروى، أنه كان يستقبل في البيت الحرام المتفلسفين ممن لا يؤمنون بدين، والناس مشغولون بالطواف والصلاة، والإمام الصادق(ع) مشغولٌ بمناظرة هؤلاء ومناقشتهم ليهديهم إلى الصراط المستقيم، لأنه كان الإمام المحاور الذي يحاور كل الناس، وكان يرى أنه لا مقدّسات في الحوار، فكان يستمع إلى الذين ينكرون وجود الله والذين يسجّلون ملاحظات على العبادات كالطواف بالبيت وما إلى ذلك، وكان لا يطرد أحداً لكفره ولا يبعد أحداً لزندقته، بل كان يرى أن من واجب الإمام وكل ذي علم أن يجلس مع الناس كلهم بصدر رحب، وأسلوب طيب، ليدفع بالتي هي أحسن، وليجادل بالتي هي أحسن، كما أراد الله تعالى للدعاة إلى دينه أن يأخذوا بهذه الأخلاق الحوارية الثقافية.

معالجة الصادق(ع) لمشاكل المجتمع

وكان الإمام الصادق(ع) يواجه كل الأحداث التي تحدث في المجتمع، سواء كانت أحداثاً ثقافية أو سياسية أو اجتماعية، ليعالجها، وكان يتحدث مع الناس كلهم، مع الصغير والكبير، كان يحدّث الناس عن العقائد بطريقة فلسفية، وعن الأخلاق بطريقة أخلاقية، وكان يجيب الصغير والكبير، وقد روى الشيخ المفيد (رحمه الله) في "الإرشاد"، أن أباه الإمام الباقر(ع) عندما حانت منه الوفاة، قال له: "أوصيك بأصحابي خيراً، فماذا تفعل معهم؟ قلت له: جعلت فداك، والله لأدعنهم والرجل منهم يكون في المصر فلا يسأل أحداً"، يعني سوف أثقف أصحابك ـ وهم شيعة آل محمد ـ ثقافة يستغنون بها عن سؤال أي إنسان. وكان الإمام الصادق(ع) لا يحجب نفسه عن الناس، بحيث كان الناس يهاجرون إليه من كل الآفاق، حتى قال عنه بعض الرواة: "أتيته بمنى والناس حوله كأنه معلّم صبيان". وكان لا يتعقّد من سؤال، لأنه كان يريد أن يعلّم الناس في الصغير والكبير، إذا سأله الناس أجابهم، وإذا لم يسألوه ابتدأهم بالكلام.

وهذا ما يجب على العلماء أن يأخذوا به، أن لا يحجبوا أنفسهم عن الناس، وأن لا يحرجهم سؤال ولا يتعقدوا من أي سؤال يسأل، وهناك الكثير من علامات الاستفهام التي يحملها الكثير من الناس، ولا سيّما جيل الشباب، وقد ورد عن رسول الله(ص): "إذا ظهرت البدع فعلى العالِم أن يظهر علمه ومن لم يفعل فعليه لعنة الله".

الصادق.. إمام الحرية

ونحن سوف نقرأ بعض النصوص الواردة عن الإمام الصادق(ع) في القضايا العامة، حتى نستطيع أن نستنير ببعض نور علمه. فمن بين الكلمات التي وردت عن الإمام الصادق(ع) هذا الربط عنده بين الصبر والحرية، فإن الإمام الصادق(ع) يعتبر أن مسألة أن تكون حراً ليست أن يعطيك أحد حريتك، بل إن الحرية تنبع من حرية عقلك وصلابة إرادتك، فأنت تكون حراً إذا ملكت عقلك وإرادتك وقرارك، بحيث لا يضغط عليك أحد لتتبنى موقفاً لا تؤمن بشرعيته، وعليك إذا كنت الحر أن تتحمّل ضريبة هذه الحرية، فلا تسقط أمام الضغوط ولا تنهار، يقول(ع): " إن الحرّ حر على جميع أحواله_حتى لو كان في الزنزانة ولا يستطيع أن يتحرك من مكانه ، ولكن كانت إرادته حرّة ، بحيث يملك أن يقول "لا" عندما يقتنع بالـ "لا"، ويملك أن يقول "نعم" عندما يقتنع بها ـ إن نابته نائبة صبر لها ـ لا يسقط ولا يهتز أو يتراجع ـ وإن تداكّت عليه المصائب لم تكسره وإن أُسر وقُهر واستبدل باليسر عسراً ـ ويضرب الإمام(ع) مثلاً للأحرار الذين يصبرون والذي يؤدي بهم صبرهم إلى النتائج الطيبة، يقول(ع): ـ كما كان يوسف الصدّيق، لم يضرر حريته أن استُعبد وقُهر وأُسر، ولم تضرره ظلمة الجبّ ووحشته وما ناله أن منّ الله عليه، فجعل الجبار العاتي له عبداً، بعد أن كان له مالكاً، فأرسله الله رسولاً ورحم به أمة، وكذلك الصبر يعقب خيراً، فاصبروا ـ اصبروا على كل التحديات والظروف، اصبروا على كل قناعاتكم وإيمانكم والتزاماتكم مهما ضغط الضاغطون، ومهما قهر القاهرون ـ ووطّنوا أنفسكم على الصبر تؤجروا".

ومن خلال هذا الحديث نقول إن الإمام الصادق(ع) كان إمام الحرية الذي يؤكد أن الحرية لا تأتي من الخارج، ولكنها تنبع من الداخل، وهذا المبدأ هو المبدأ الذي أخذ به هذا العصر الذي انطلق به فلاسفته بعد مئات السنين، ليكتشفوا ما قاله الإمام الصادق(ع) مستوحياً ذلك من كتاب الله وسنّة نبيه.

استشراف المستقبل

وكان(ع) يحدّث الناس من حوله بما كان رسول الله يحدّث به عن مستقبل الزمان، وأظنه يصوّر عصرنا هذا، قال: "قال رسول الله (ص): سيأتي على الناس زمان لا يُنال الملك فيه إلا بالقتل والتجبر ـ كيف يصعد الملوك إلى عروشهم، والرؤساء إلى مراكزهم، والمتنفذون إلى مواقعهم، يقتلون ويتجبرون ليملكوا الناس ويأخذوا مواقعهم ـ ولا الغنى إلا بالغصب والبخل ـ الظاهرة الموجودة في مسألة الغنى هي أن الإنسان يستغل الظروف المحيطة به ليأكل المال الحرام، سواء كان الغني فرداً أو جماعة أو دولة، كما أن الكثيرين من الناس يبخلون بحقوق الله تعالى وبالتزاماتهم الاجتماعية على الناس ، لأنهم يخافون من الفقر إذا أعطوا ما أوجبه الله عليهم من الحقوق ـ ولا المحبة إلا باستخراج الدين واتباع الهوى ـ بعض الناس يطلبون الشعبية والامتداد من خلال اتباع أهواء الناس ـ فمن أدرك ذلك الزمان فصبر على الفقر وهو يقدر على الغنى ـ إذا كان الغنى يفرض عليه أن يتنازل عن دينه وإيمانه ـ وصبر على البغضة وهو يقدر على المحبة، وصبر على الذل وهو يقدر على العز، أتاه الله ثواب خمسين صدّيقاً".

التحذير من تتبّع عورات المسلمين

وهناك نقطة يركّز عليها النبي(ص) مما ينقله الإمام الصادق(ع)، وهذه النقطة هي هذا الوضع الاجتماعي الذي نعيش فيه التعقيدات والعصبيات الحزبية والمرجعية والعائلية والمذهبية، بحيث يحاول الإنسان من فريق معيّن أن يذمّ الفريق الآخر من خلال تتبع عوراته، فيحاربه بما يعرفه من عيوبه ونقاط ضعفه، وهذا ما نعيشه، لا سيما في مجتمع المؤمنين. يقول(ع): "قال رسول الله(ص): يا معشر من أسلم بلسانه ـ ينطق بالشهادتين بلسانه فقط ـ ولم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تذمّوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عوراتهم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في بيته". ويعالج الإمام الصادق(ع) هذه المسألة في حديث آخر، يقول: "أبعد ما يكون العبد من الله أن يكون الرجل يؤاخي الرجل وهو يحفظ عليه زلاته ليعيّره بها يوماً ما". وهو ما عالجه الإمام الباقر(ع) في حديثه حيث قال: "أقرب ما يكون الرجل إلى الكفر أن يؤاخي الرجل الرجل على الدين ليحصي عليه زلاته ليعنّفه بها يوماً ما"،

هذا بعض حديث الإمام الصادق(ع)، وعلينا إذا أردنا أن نكون شيعة أهل البيت(ع) أن نكون شيعتهم في عملهم وسيرتهم ووصاياهم ومواعظهم، وقد ورد عن الإمام الباقر(ع): "أيكفي من ينتحل التشيّع أن يقول إني أحب عليّاً وأتولاه ثم لا يكون فعالاً، فرسول الله خير من علي!ّ، أفحسب الرجل أن يقول إني أحب رسول الله ثم لا يعمل بسنّته، من كان وليّاً لله فهو لنا وليّ، ومن كان عدواً لله فهو لنا عدوّ، والله ما تنال ولايتنا إلا بالورع". هذا خط أهل البيت(ع)، خط فكر وعمل وتقوى، يشمل الفرد والمجتمع، وهذا ما يجب علينا أن نسير عليه لنكون معهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر.

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله.. اتقوا الله وكونوا للظالم خصماً وللمظلوم عوناً، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة، وإن الله تعالى أراد لنا أن نكون في مواجهة الظالمين، و أن نقف من أجل تعطيل كل خططهم، سواء كان الظالم فرداً أو جماعة أو دولة أو محوراً دولياً، لأنّ الله تعالى أرسل رسله وأنزل كتبه ووضع الميزان ليقوم الناس بالقسط، فمن قام بالظلم فإنه يقوم بما ينافي إرادة الله في رسالاته. وعلى الأمة كلها أن تعمل في سبيل مواجهة الظالمين بكل ما لديها من وسائل المواجهة، سواء كانت مواجهة بكلمة أو بعمل.

ونحن ـ كمسلمين في العالم ـ نستعيد النبي (ص) في ذكرى ولادته، وهو الذي صنع منّا بإذن الله ووحيه ورسالته أمةً، وأراد لها أن تتوحّد وتعتصم بحبل الله، وأراد لنا أن نكون الأقوياء ولا نتخذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فلا تستعبدوا أنفسكم لأحد سياسياً واقتصادياً وأمنياً، ولا تذلوا أنفسكم لأحد، لا سيما أننا نعيش المشاكل من أكثر من موقع من مواقع المستكبرين، فتعالوا لنتعرّف على صورة العالم الإسلامي الآن؟

المقاومة وحدها في المواجهة

لا تزال فلسطين محتلة صهيونياً، احتلالاً متحركاً بالدبابات التي تجتاح القرى والمدن تارة، واغتيالاً للمجاهدين تارةً أخرى، واعتقالاً ثالثة، في الوقت الذي ينال فيه المحتل البركة الأمريكية التي تتحدث عن الحل بطريقة نفاقية، وترسل مبعوثيها الأمنيين من جهة أخرى لتنظيم الأمن الفلسطيني، على طريقة التبعية للأمن الأمريكي والإسرائيلي، وإعادة تركيب الإدارة الفلسطينية ـ تحت شعار الإصلاح ـ بما يخدم السياسة الأمريكية والإسرائيلية، لتتحوّل فلسطين الفلسطينية إلى كيان تابع للدولة الصهيونية وموقع للنفوذ الأمريكي..

أما أوروبا وروسيا والأمم المتحدة، فقد سلّمت قيادتها لوزير الخارجية الأمريكي الذي لا يزال يتحدث ـ مع رئيسه ـ عمّا يسمّيه العنف الإرهابي الفلسطيني، من دون أن يذكر العنف الصهيوني، وهو الاحتلال وعدوانه الوحشي الذي هو الأساس للمشكلة كلها في واقع الشعب الفلسطيني.

أما العرب، فلا يزالون يتحدثون عن مبادرتهم التي لا تملك أية آلية واقعية، في الوقت الذي ينتظرون فيه الوحي الأمريكي، ويجمّدون حركة الانتفاضة في فلسطين والحركة الشعبية في عواصمهم.. والجميع ينتظر عملية التجميد.. والشعب الفلسطيني المقاوم وحده الذي يدفع بحركة الاستشهاد، ليفتح أكثر من ثغرة في جدار "السور الواقي"، ويوسّع المأزق الأمني للعدو..

كشمير: التدقيق بخلفيات الأزمة

أما كشمير ؛ هذا البلد الإسلامي الذي لا يزال منذ أكثر من نصف قرن يجاهد من أجل الحصول على حقه في تقرير المصير، ليحصل على استقلاله وليتحرر من الاحتلال الهندي.. كشمير هذه قد تنكّرت لها الأمم المتحدة، وبدأت أمريكا تتحدث عن المجاهدين بأنهم إرهابيون لأنها تطمع في تقوية علاقاتها مع الهند..

وبدأ الضغط على باكستان من أجل الامتناع عن دعم المجاهدين فيها.. ونحن نعرف أن هناك أكثر من خطة دولية لأكثر من لعبة تستهدف إضعاف البلدين، بإثارة حالة من التوتر التي تؤدي بهما إلى حافة الحرب، بما يمكن لها أن تتطوّر إلى حرب نووية، لئلا يستطيعا الأخذ بأسباب القوة التي تنافس الدول الغنية في الغرب.

إننا نراقب هذا الجزء من العالم الذي يعاني فيه المسلمون، ومعهم المستضعفون الفقراء من غيرهم، من اللعبة الاستكبارية الدولية التي تعمل من أجل السيطرة السياسية والاقتصادية والأمنية على مقدّراتها وثرواتها ومواقعها الاستراتيجية، وتستهدف المسلمين بالدرجة الأولى، باعتبارهم يمثّلون ـ حسب الاتهام الأمريكي ـ الخزان البشري لما يسمونه الإرهاب. ولذلك، فإننا نريد لهم التدقيق بالخلفيات الكامنة في الأوضاع المتوترة، حذراً من النتائج الخطيرة التي تواجههم في المستقبل.

الوقوف أمام مخطّطات المؤتمر العالمي

ومن جهة أخرى، فإننا نراقب المؤتمر العالمي الذي جمع دول الحلف الأطلسي بقيادة أمريكا وروسيا، ليحدد العدو ّ الجديد الذي تستهدفه وهو الإرهاب، من دون تحديد لمفهومه، ما نخشى معه أن يكون المفهوم الأمريكي لهذا العنوان هو الذي يخطط له هذا المؤتمر، فتتحوّل حركات التحرر من الاحتلال إلى حركات إرهابية، كما هو المنطق الأمريكي في تصنيف المعارضين لسياستها في دائرة الإرهاب، واعتبار الحركات الإسلامية السائرة في خط التغيير على أساس التحرر من النفوذ الاستكباري ـ ولا سيما الأمريكي ـ حركات إرهابية..

إن هذا التطوّر الذي ينذر بالكثير من الأخطار التي قد تنال دول العالم الثالث، ولا سيما العالم الإسلامي، بحاجة إلى اليقظة والحذر، لأنه قد يخلق الكثير من المشاكل على مستوى العلاقات الدولية والأوضاع الاقتصادية والأمنية والسياسية.. وهذا ما يفرض على القيادات الإسلامية أن يجمّدوا الكثير من الخلافات المذهبية والطائفية والقومية بين المسلمين، كوسيلة من وسائل تأكيد الوحدة الإسلامية، للوقوف أمام هذا التحالف العالمي الذي يعمل على السيطرة على الواقع الإسلامي كله.. إننا ضد الإرهاب الذي يدمّر حياة الإنسان، بما في ذلك إرهاب الدولة والمحاور الدولية الاستكبارية، ولكننا مع المقاومة ضد الاحتلال والسيطرة الاستكبارية على مقدّرات الشعوب.

لبنان: مراقبة التطورات

أما في لبنان، فإن علينا مراقبة التطورات المحتملة في المنطقة، من أجل الاستعداد الواعي لنتائجها على مستوى الوطن كله.. ولا بد من متابعة حالة الأوضاع الاقتصادية التي تنذر بالكثير من الكوارث على صعيد الدولة والشعب، حذراً من المفاجآت المستقبل ية مما يُدبَّر في الخفاء لهذا البلد الذي لا يُراد له الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، من أجل تنفيذ الكثير من المخططات الخارجية من خلال الأجهزة المخابراتية على أكثر من صعيد، والتي تريد الاستفادة من الفسيفساء اللبنانية لأكثر من مشروع إقليمي أو محلي، بما يخدم مصالح الآخرين الذين لا يريدون الخير للبلد والمنطقة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية