ولادة الرسالة
في هذا اليوم، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، كانت ولادة النبي محمد(ص) حسب الرواية المشهورة عند أكثر المسلمين، ومنهم أحد علمائنا وهو الشيخ الكليني صاحب كتاب الكافي الذي يذهب إلى هذا الرأي، ولكن المشهور بين علماء المسلمين الشيعة أنه في اليوم السابع عشر من شهر ربيع الأول.
وسواء كانت مناسبة المولد في الثاني عشر أو السابع عشر من شهر ربيع الأول، فإننا نريد أن نعيش لحظات مع رسول الله(ص) في هذه الذكرى التي لم يتحدث القرآن الكريم عنها، لأنه لا يتحدث عن ولادة الأنبياء، بل يتحدث عن رسالتهم، لأن النبي يولد نبياً بالرسالة التي تولد أمته من خلالها، وقد تحدّث الله تعالى فقط عن ولادة نبيَّين من خلال الظروف المميّزة التي أحاطت بولادتهما، وذلك في ولادة موسى(ع) الذي أنقذه الله من فرعون بطريقة شبه إعجازية، لأن فرعون كان يذبح أبناء بني إسرائيل، وفي ولادة عيسى(ع) التي كانت آية من آيات الله تعالى في ولادته من دون أب.
وقد أعدّ الله تعالى نبيه (ص) إعداداً عظيماً قبل أن يبعثه بالرسالة، ونحن نعرف أن النبي (ص) مات أبوه وهو حمل، وماتت أمه وهو رضيع، واستُرضع لدى حليمة السعدية في بني سعد، ورُبي بإشراف جده عبد المطلب، ثم كان الله تعالى يتعهده بتربيته الروحية بما أودع في شخصيته من المعاني الروحية والأخلاقية، بحيث كان(ص) في مدى أربعين سنة، قبل أن يبعثه الله رسولاً، مثال العصمة في كل شخصيته، فلم يسجّل عليه أحد من الناس الذين كانوا يعيشون معه أية كذبة في قول، وأيّ خطأ في فعل، وأيّ انحراف في رأي، وقد كان مع فقره محل احترام المجتمع كله، هذا في الوقت الذي كان مجتمع قريش ومكة مجتمع الأغنياء والمترفين والمستكبرين، والذين كانوا لا يحترمون الفقير، خصوصاً إذا كان يتيماً، ولكنه فرض احترامه عليهم بشخصيته المميزة.
صياغة علي(ع) على صورة الرسول(ص)
ويحدّثنا عليّ(ع)، وهو الذي رافق رسول الله وتربى تحت رعايته منذ أن كان طفلاً، حيث يقول(ع): "وكّل الله به عظيماً من ملائكته، وكان يلقي إليه في كل يوم خلقاً من أخلاقه"، بحيث إن الله تعالى تعهَّده بالرعاية المباشرة كما تعهده بالإلهام الروحي الذي صاغ شخصيته. ومن الملحوظ أيضاً أن رسول الله(ص) عندما اختار علياً(ع) من بين أولاد عمه أبي طالب ليربيه، كان يخطط بإلهام من الله لمستقبل كبير، وهو أنه كان يريد أن يعدّ شخصاً إعداداً عظيماً دقيقاً، بحيث يحمل روحية رسول الله(ص) وأخلاقه وفكره، حتى يكون الشخص الذي يحمل المسؤولية من بعده، وعندما نلاحظ هذه العلاقة بين عليّ(ع) ورسول الله(ص) قبل البعثة وبعدها، وهذه التربية الدقيقة التي ربى بها رسول الله علياً، يُعرف أن النبي(ص) ـ من الأساس ـ كان يريد أن يصوغ علياً صياغة على صورته، ولهذا كنا ولا نزال نقول إن اختيار عليّ(ع) للولاية بعد رسو ل الله(ص) كان اختياراً ينطلق من أنه ليس هناك في المسلمين من تتمثل كل شخصية رسول الله في شخصيته إلا عليّ(ع)، ولهذا كانت ولاية عليّ(ع) منطلقة من طبيعة عناصر شخصية الإمام عليّ(ع) التي كانت من خلال صياغة رسول الله لها، ولذا كان عليّ(ع) يقول: "وكنت أتبعه اتباع الفصيل إثر أمه".
المشكلة الإنسانية بين استضعاف واستكبار
وعاش رسول الله (ص) فقيراً مستضعفاً، ولذلك نجد أن النبي(ص) أعطى للمستضعفين كل احترام وتقدير، حتى أنه بعد أن بُعث بالرسالة كانت قريش تطلب منه أن يطرد الفقراء من حوله، لأنه لا يناسبهم الجلوس مع هؤلاء المستضعفين، وكان الله تعالى يقول له: {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}. ولهذا، رأينا أن النبي (ص) من خلال ما أوحى الله إليه، عالج مسألة الانحراف الإنساني في مسألة المستضعفين والمستكبرين، فاعتبر أن مشكلة الإنسانية في كل تاريخها هي مشكلة استضعاف واستكبار؛ استضعاف الأغنياء للفقراء، واستضعاف أصحاب القوة للضعفاء، واستضعاف الوجهاء للناس الذين لا يملكون مستوى اجتماعياً معيناً.
ولهذا عالج القرآن الكريم هذه المسألة، بأن وجّه المستضعفين إلى أن لا يسقطوا أمام استكبار المستكبرين، وبيّن لهم أن المستكبرين لن يحتفظوا لهم بإنسانيتهم، بل إنهم سوف يستغلونهم ثم يتبرأون منهم عندما يقفون بين يدي الله تعالى، وأراد للمستضعفين أن لا يستريحوا لضعفهم، بل اعتبر قبول المستضعفين لضعفهم ـ مع قدرتهم على أن يخرجوا من هذا الاستضعاف ـ جريمة في حقهم، وذلك هو قوله تعالى: {الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيراً}.
رسالته(ص) التوحيد
وهكذا، كان عنوان رسالة رسول الله(ص) التي أراد للناس أن يأخذوا بها من خلال ما أوحى به الله تعالى إليه، هو عنوان التوحيد؛ أن يوحدوا الله في كل حياتهم، بحيث لا بدّ للإنسان في كل أموره، في حياته الخاصة، ومع عائلته، ومع الناس من حوله، أن يراعي الله وحده، بحيث لا يكون في ذهنه ووجدانه إلا الله، وقد اختصر الله تعالى الدين كله بكلمة: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا}، {ربنا الله} هي البوصلة التي تستقيم عليها، بحيث تراقب الله في كل ما تريد أن تفعله أو تقوله أو تتخذه من مواقف، أو تنشئه من علاقات.
شريعة جامعة شاملة
ثم، بيّن الله تعالى أن الرسالة التي جاء بها النبي(ص) تختصرها عدة عناوين، وهذا ما عبّر عنه القرآن الكريم: {ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ـ يراقبون الله في كل شيء ويخافونه ويحسبون حسابه في كل شيء ـ ويؤتون الزكاة ـ ويعيشون العطاء لمن احتاج إليهم في ما يملكونه من أموال وطاقات، ومما فرض الله عليهم من فرائض في أموالهم ـ والذين هم بآياتنا يؤمنون ـ يؤمنون بما أنزل الله من كتاب ـ الذين يتبعون الرسول النبي الأمي ـ وربما يُراد من كلمة الأمي المنتسب إلى "أم القرى" أو العرب، لأن اليهود كانوا يطلقون كلمة الأمي على كل شخص غير يهودي، وربما باعتبار أن الأمية، وهي عدم معرفة القراءة والكتابة، هي الظاهرة الموجودة في الواقع العربي ـ الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل ـ عندما يدقق اليهود والنصارى في التوراة والإنجيل فسوف يجدون صفات هذا النبي ـ يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ـ فهو النبي الداعية الذي يراقب سلوك الناس، ويغيّر حياتهم من الخط المنحرف إلى الخط المستقيم ـ ويحلّ لهم الطيبات ـ من خصائص هذه الشريعة أن كل ما أحلّه الله فهو من الطيبات ـ ويحرّم عليهم الخبائث ـ وهو كل ما يسيء إلى مصلحة النفس ويؤدي إلى فسادها ـ ويضع عنهم إصرهم ـ والإصر هو عبارة عن الثقل، فيخفف عنهم ـ والأغلال التي كانت عليهم ـ يعني التكاليف الشاقة التي كانت مفروضة عليهم في الرسالات السابقة ـ فالذين آمنوا به وعزّروه ـ أيدوه ـ ونصروه واتبعوا النور الذي أُنزل معه ـ وهو القرآن الكريم ـ أولئك هم المفلحون، قل ـ يا محمد ـ يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحيي ويميت، فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون}.
وإذا أردنا أن ندرس الشريعة من جميع جهاتها، فإننا نجد أن الشريعة تتمثل بالأخلاق، وهذا ما قاله النبي(ص): "إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق"، فكل حكم في الشريعة، سواء كان حكماً تحريمياً أو إلزامياً أو ترخيصياً، فإنه يمثل منهجاً من مناهج الأخلاق، سواء كانت أخلاقاً إيجابية أو سلبية. وقد كان النبي القمة في الأخلاق، حيث قال الله تعالى عنه: {وإنك لعلى خلق عظيم}.
وقد حدّثنا الله تعالى عن مجتمع النبي(ص)، وكيف كان مع صحابته الذين أخلصوا له ونصروه: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفّار ـ كانت الظاهرة السلوكية في المجتمع الإسلامي الأول، أن النبي والمسلمين معه كانوا إذا دخلوا معركة من معارك الجهاد فإنهم كانوا الأشداء في المعركة، وإن كانوا المنفتحين في الدعوة، لأن عالم الحرب يحتاج إلى موقف جريء يدفع الإنسان إلى القوة والانتصار ـ رحماء بينهم ـ كان المجتمع المسلم هو المجتمع الذي يرحم أفراده بعضهم بعضاً، بحيث إن الرحمة كانت هي العنوان الذي يشمل الحياة الإسلامية ـ تراهم ركعاً سجداً ـ كانوا الخاشعين لله والخاضعين له والعابدين له ـ يبتغون فضلاً من الله ورضواناً، سيماهم في وجوههم من أثر السجود ـ كانوا الساجدين الذين بلغوا من كثرة سجودهم أن جباههم تأثّرت بالتراب الذي يسجدون عليه ـ ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه ـ وهو ما تفرخه الشتلة في بداية نموها ـ فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزرّاع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً}.
هذا الجو العام لحركة الرسالة، ومن خلال قول الله تعالى: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة}، نعرف أن النبي كانت عنده مهمة تبليغ الرسالة، ثم تعليمهم الرسالة والتربية والتزكية والتطهير لنفوسهم، كان دوره دور المعلّم الذي يعلّمهم الكتاب ويفسّر لهم آياته، ليتثقفوا بالقرآن، وليعرفوا كيف يحركونه في خط الممارسة وفي خط الواقع.
مسؤوليتنا صنع الجيل الجديد
ونحن نتذكر مولد الرسول(ص)، ما هي مهمتنا الآن؟ لقد مضى الرسول إلى رحاب ربه، وتتابعت الأجيال من بعده التي تحمل رسالته. نحن في هذا الموقع لا يكفي في مسألة انفتاحنا على اسم الرسول وذكراه أن نعيش الأجواء الاحتفالية، بل أن نتطلع إلى مسؤوليتنا عن الإسلام، مسؤوليتنا عن الإسلام العقيدة، وكيف نعمّق العقيدة الإسلامية في نفوس أجيالنا، بحيث نتلو عليهم آيات الله ونزكيهم ونعلّمهم الكتاب والحكمة، حتى نستطيع أن نصنع الجيل الإسلامي الجديد، لأن كل إنسان هو رسول في بيته وفي أسرته، {يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها النار والحجارة}، وأي تقصير في هذا الدور هو تقصير في المسؤولية، لأن الإسلام ليس مسؤولية علماء الدين فقط، بل هو مسؤولية كل مسلم ومسلمة..
الحفاظ على الوحدة الإسلامية
وعلينا أن نحفظ الواقع الإسلامي، وفي مقدمته الوحدة الإسلامية، بحيث نعمل جميعاً على أساس توحيد كلمة المسلمين، لأن الأعداء من الكافرين والمستكبرين يستغلون الاختلافات العدوانية التي يعادي فيها المسلمون بعضهم بعضاً، فيكفّرون بعضهم بعضاً، وهذا هو ما نعيشه الآن، والذي يتدخل فيه الجهل من جهة، والتخلّف من جهة أخرى، وخطط أعداء الله من المستكبرين بواسطة الأجهزة المخابراتية. فنحن نلاحظ أن هناك أصواتاً تصدر من بعض مشايخ السنّة بتكفير الشيعة واعتبارهم من المشركين، كما تصدر أصواتٌ من بعض الشيعة بتكفير السنّة، وتصل المسألة إلى داخل المذاهب ليكفّروا ويضللوا بعضهم البعض، إلى أن وصلت المسألة إلى أن بعض المسلمين يعتبرون أن غير المسلم أفضل من المسلم من غير مذهبه. وهذا هو الواقع الذي أضعف المسلمين.
وقد أعطانا الله الخط العريض في طريقة التعاطي مع الاختلافات بين المسلمين، فقال تعالى: {فإن تنازعتم في شيء فردّوه إلى الله والرسول}. وقد قلت لكم مراراً: إن معنى الوحدة الإسلامية لا تعني أن يتنازل الشيعي عن شيعيته، أو يتنازل السنّي عن سنيته، بل أن نلتقي على ما اتفقنا عليه ونتحاور في ما اختلفنا فيه، وهذه الاختلافات نجدها في داخل المذهب الواحد. وإذا كان الأساس في الاختلاف هو مسألة الولاية، فتعالوا نلاحظ كيف تعاطى عليّ(ع) مع هذه المسألة ـ وهو صاحب الحق ـ وإنني أقول إن رائد الوحدة الإسلامية هو عليّ (ع) الذي قال: "لأسلمن ما سلمت أمور المسلمين ولم يكن بها جور إلا عليّ خاصة"، لأن الإمام عليّ(ع) كان يعتبر نفسه المسؤول عن وحدة الإسلام وحمايته، وإذا كنا نوالي علياً(ع)، فإن الموالاة لعلي هي بالالتزام بخط أهل البيت(ع) وحفظ الإسلام، لا سيما في هذه الظروف الصعبة التي برز فيها الكفر كله إلى الإسلام كله.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم، واعملوا على نظم أمركم والوقوف أمام التحديات الكبرى التي تواجهكم، من احتلال أرض المسلمين من قبل الاستكبار العالمي الذي يحاول أن يفرض سيطرته على الواقع الإسلامي كله تحت عناوين مزيّفة، إن علينا أن نواجه المسألة على الطريقة التي قالها الله تعالى: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، لأن هناك معركة على مستوى العالم كله بين المستكبرين والمستضعفين، ولذلك لا يجوز لأي مسلم أن يقف موقف الحياد في هذه المعركة، بل لا بدّ أن يكون مع المجاهدين، وعلينا أن نكون أمة واحدة في هذا الموقف، لأن المسألة تتحدى كل الواقع الذي نعيشه، فماذا هناك:
التحرر من ذهنية الهزيمة
في ذكرى الانتصار والتحرير، تستعيد الأمة حركية النصر في خط الشهادة، وإرادة المقاومة في مواجهة الاحتلال، من خلال الإيمان بالقضية التحريرية التي انطلقت من تحرير الإنسان من ذهنية الهزيمة، ومن سيطرة نقاط الضعف وإعلام الخوف، لينطلق الإنسان قوياً، صامداً، رسالياً، لا يخاف إلا الله، ولا يتحرك إلا من خلال خطة موضوعية مدروسة بكل عمق، منفتحة على التضحية، عاشقة للشهادة من دون انفعال أو ارتجال..
وهكذا، التقت الذكرى بالواقع الجهادي الجديد في حركية الانتفاضة الفلسطينية المجاهدة، في انتصاراتها الميدانية على العدو، من خلال إدخاله في المأزق الأمني الصعب الذي لم يستطع التخلّص منه، بالرغم من وحشية الجريمة في عملية "السور الواقي"، الذي أثبت فشله في منع المجاهدين من النفاذ إلى داخل الكيان، وقيامهم بأكثر من عملية استشهادية نجح بعضها وفشلت أخرى، ولكنهما تلتقيان في القدرة على الاختراق، وعلى الصدمة القوية لروح العدو المعنوية، ما يؤكد بأن الانتفاضة مستمرة بالرغم من الضغوط المحلية والإقليمية والدولية، لأن الذي لا يخاف الموت لا يمكن أن يهزمه الذين يخافونه، لأنه صاحب رسالة شاملة في مدى قضية الحرية للإنسان في مواجهة الذين يعملون لتدمير إنسانية الإنسان، بالعمل على استعباده بذهنية الطاغية المستكبر..
عقم المفاوضات
وإننا إذ نخشى على الانتفاضة من ألاعيب السياسة المحلية، ومن ضغوط القوى الإقليمية والدولية التي تعمل على إيـقافها، لأن ذلك هو الشرط الذي فرضه العدو ـ ومعه أمريكا ـ للمفاوضات، نؤكد أن التجربة التاريخية مع العدو الذي تدعمه أمريكا بالمطلق، أثبتت أن المفاوضات لن تنتج شيئاً، ولن تمنح الفلسطينيين إلا المزيد من الضياع في متاهاتها، لأنهم لن يملكوا أية ورقة يلعبونها إذا ما سقطت ورقة الانتفاضة..
وإذا كان العرب يتحدثون عن مبادرتهم، فإنهم يعلمون أنها لا تملك أية ظروف واقعية، وأية آلية منتجة لنجاحها، لأن أمريكا اعتبرتها حافزاً لا خطة، ولأن إسرائيل أرادتها مدخلاً للتطبيع من دون تحقيق أية نتيجة، لأنها رأت فيها خطراً على الكيان كله.
ولذلك، فإن بقاء الانتفاضة حرّة قوية في الساحة، والتدقيق في الظروف الطارئة في الداخل والخارج، والأخطار التي تهدد الشعب الفلسطيني لتقحمه في منازعات داخلية وملهاة سياسية، سوف يعطي الانتفاضة فرصة للضغط القوي على سياسة المصادرة، بالرغم من الجراح التي يمكن أن تصيبها مما اعتاد عليه الفلسطينيون المجاهدون في جهادهم المستمر من أجل التحرير.
منطق أمريكي مقلوب
وفي جانب آخر، نلتقي بالتقرير السنوي الأمريكي الذي وزع اتهاماته على سوريا وإيران، باعتبارهما "يحاولان اللعب على الحبل من خلال دعم حزب الله وحركة "حماس" وتنظيمات أخرى"، على حدّ ما جاء في التقرير، واتهام لبنان بأنه لم يتعاون لتجميد أرصدة حزب الله، لأنه لا يزال يعتبر أعمال المقاومة ضد إسرائيل شرعية.. ثم يقرر وزير خارجية أمريكا أن الشرق الأوسط "تحوّل إلى بؤرة للإرهاب، وأن الرد على الإرهاب ينبغي أن يكون عالمياً وشاملاً وذا أبعاد مختلفة، ويتّسم بالصمود"، على حدّ قوله..
إن مشكلة أمريكا أنها تتصوّر أن لها الحق في تدمير كل الشعوب التي تعارض الكيان الصهيوني، وترى أن سياستها الاستكبارية أن تدعمه بكل الوسائل، حتى أنها استخدمت شعار الحرب ضد الإرهاب لإعلان الحرب على الانتفاضة وأبطالها، واعتبرتها حركة إرهابية يقودها "إرهابيون"، من دون أن تسمح لأحد أن يتحدث عن إرهاب الاحتلال، وعن حركة الحرية في المجاهدين من أجل التحرير، لأن أمريكا ترى أن الإنسان اليهودي هو الذي يملك الحق في الاحتلال والاستيطان، ومنع الشعب الفلسطيني من العودة إلى أرضه وإلى قدسه، ومنعه حقه في تقرير المصير، وتعتبر دفاعه عن ذلك إرهاباً، بينما ترى في الوحشية الإسرائيلية الهمجية ضد الأطفال والنساء والشيوخ وكل المدنيين من الفلسطينيين دفاعاً عن النفس، حتى أنها تمنع مجلس الأمن من إدانة تلك الجرائم، أو التحقيق في حدوثها، لأن شعار حقوق الإنسان الذي تحركه في حربها ضد دول العالم الثالث لا يشمل الشعوب المستضعفة، وتختص باليهود؟!
الإرهاب الإسرائيلي مشكلة الشرق الأوسط
إننا نعتقد أن الإرهاب الإسرائيلي المتحالف مع الإرهاب الأمريكي هو مشكلة الشرق الأوسط، وليست سوريا وإيران ولبنان، وندعو العالم إلى التحرر من السيطرة الأمريكية، ومن التعنت الإسرائيلي، لأن الاستكبار الأمريكي يخطط للسيطرة على كل الثروات البترولية في العالم بمختلف الأساليب، وليس شعار الحرب ضد الإرهاب إلا الوسيلة السياسية والأمنية والاقتصادية لتحقيق أطماعه في المنطقة، لتطويق أوروبا واليابان من أجل خنق اقتصادهما بطريقة وبأخرى.
حماية الاستقرار اللبناني
أما في لبنان الذي أخذ نصيبه من لعبة الموت الدولية، التي تم تفويض إسرائيل تنفيذها بأكثر من طريقة، فإننا لا نزال نتصوّر بأن العدو يحاول النفاذ إلى الداخل اللبناني من خلال شبكاته التجسسية..
إننا لا نخاف على البلد من فتنة طائفية أو مذهبية، أو من مشاكل أمنية تعيده إلى ما يشبه دوّامة الحرب، بالرغم من بعض الاهتزازات والمجادلات الكلامية، ولكننا نريد للبنانيين جميعاً أن يأخذوا بأسباب الحذر لحماية الاستقرار السياسي والأمني، وأن يعتبروا أن المرحلة تفرض الارتفاع إلى ما يشبه حالة الطوارئ في مواجهة كل الاحتمالات، ليتحركوا لحراسة البلد من كل العابثين به..
كما نريد للبنانيين جميعاً أن ينفتحوا على معالجة المشكلة الاقتصادية، التي قد يحاول البعض استخدام القضايا الاقتصادية في دوّامة اللعبة السياسية، كقضية الخليوي التي نخشى أن تكون قد دخلت في بازار الحرب السياسية الداخلية على صعيد السلطة أو خارجها.
في ذكرى التحرير والانتصار، لا بد لنا من الانتصار على أنفسنا، لنكون أحراراً في مواقفنا السياسية، لتأكيد حرية الوطن والمواطن في انفتاح الحاضر على المستقبل.