ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
من أخلاق الإسلام في حركة التربية الإسلامية أن يحدق الإنسان دائماً بنفسه، بحيث تكون نفسه شغله الدائم، فيحاول أن يفهم نفسه، ويدرس ما هي أفكاره على مستوى العقيدة، هل أن فكره هو فكر الحق، وعلى أيّ أساس أسس هذا الحق في الفكر، أو أن فكره فكر الباطل من خلال ما ورثه أو من خلال ما اجتذبه مما حوله، فيكتشف عيوب فكره ليصلحها، ثم يدرس قلبه، لأن القلب هو مركز العاطفة، فالحب والبغض يتحركان في نبضات القلب الإيجابية أو السلبية، ونحن نحب كثيراً ونبغض كثيراً، وإنسانيتنا تنطلق في هذا الاتجاه. لذ لا بد لنا أن ندرس ما هي عيوبنا العاطفية وعلى أي أساس كان هذا الحب أو البغض، هل أنه يرتكز على أساس ينسجم مع الإيمان أم لا؟.. فإذا رأيت عيباً في عاطفتي، بأن رأيت حباً لا مكان له في معنى إيماني وإنسانيتي، أو رأيت بغضاً لا مكان له في معنى إنسانيتي وإيماني، فعليّ أن أحرر نفسي منه.
معرفة النفس:وعندما ينطلق الإنسان بالكلمات، فقد يكون هناك عيوب فيها وفي مفرداتها وأسلوبها، وهكذا بالنسبة إلى الأعمال، مما يتطلب أن تعرف عيوبك في كلماتك وشهواتك ولذاتك وطعامك وشرابك، وعيوبك في العلاقات مع الناس، هل تحترمهم أم أنك تهينهم، هل تعيش التكبر على الناس الذين تظن أنهم أقل منك شأناً أم أنك تعيش التواضع؟ إن على الإنسان أن يدرس نفسه، لأنه إذا عرف نفسه بكل عيوبها فإنه يستطيع أن يعالج هذه العيوب، لا سيما وأن العيوب الفكرية والعاطفية والكلامية والعملية أخطر من العيوب الجسدية، ولأنك في العيوب الجسدية قد تعيش مشكلة تخصك أنت، أما بالنسبة إلى العيوب الأخرى فإنها قد تحطّم مصيرك في الدنيا والآخرة. لذلك، فإن مسألة أن تدرس نفسك بالطريقة التي تشغلك عن كثير مما حولك هي مسألة أساسية في التربية الإسلامية، لأنك إذا فهمت نفسك فإنك تملكها وتعرف كيف تعيش مع الناس.
هناك كثير من الأشياء نأخذها من دون اختيار، وربما ورثناها من خلال بيئة البيت الذي نعيش فيه، مثلاً قد نرث بعض عواطف البغض أو الحب للآخرين من دون أن نعرف لماذا نحب فلاناً أو نبغض فلاناً، وهذا ما نعيشه في الحساسيات العائلية التي تُبعد العائلات عن بعضها البعض، وأغلبها يعود إلى مشكلة تاريخية بين عائلة وأخرى، والقرآن يقول: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، فنحن في تركيبتنا الذهنية والعاطفية نرث أحقاداً فردية واجتماعية ومذهبية وسياسية ولا يد لنا فيها، لكن الذين تقدمونا صنعوا هذا الحقد ودورنا أننا ورثناه..
والمشكلة أننا لا نختار عواطفنا، بل إنها تُفرض علينا، لذا لا بد أن نكتشف في أنفسنا كيف فُرض علينا هذا الإحساس السلبي أو الإيجابي تجاه الآخرين، وقد نرث بعض الأفكار التي نحملها وهي أفكار التخلّف على طريقة: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، وإذا أراد أحد أن يصحح هذه الأفكار فإنه يُتهم بالكفر والضلال، والله يقول: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} {أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}، فكما نفتش عن البضاعة الأفضل في السوق علينا أن نفتش في سوق الفكر والوعي عن البضاعة الفكرية الأفضل.
اشتغل بعيوبك عن عيوب الآخرين:
لذلك، ركزت التربية الإسلامية على أن تُشغل نفسك بعيوبها لتفهمها ولا تشغل نفسك بعيوب الآخرين إلا إذا أردت إصلاحهم، ولا بد أن نقف عند بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت (ع) المروية عن رسول الله (ص) لنعطي الفكرة. يروي الإمام الباقر(ع) هذا الحديث عن رسول الله (ص) فيقول: "قال رسول الله (ص): ثلاث خصال من كنّ فيه أو واحدة منهن كان في ظلّ عرش الله يوم لا ظل إلا ظله: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم - بأن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه - ورجل لم يقدّم رجلاً ولم يؤخر أخرى حتى يعلم أن ذلك لله رضى، ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه - فقبل أن تعيب أخاك بأيّ عيب عليك أن تعصم نفسك عنه وعن غيره من العيوب - فإنه لا ينفي منها عيباً إلا بدا له عيب، وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن الناس"..
وفي حديث عن الإمام الباقر (ع) قال: "سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول إن رسول الله (ص) مر بنا فوقف وسلّم ثم قال: ما لي أرى حبّ الدنيا قد غلب على كثير من الناس.. طوبى لمن شغله خوف الله عزّ وجلّ عن خوف الناس - فهناك كثير من الناس يخافون ممن يملك سلاحاً أو موقعاً متقدماً أو من المخابرات أو أنه يخاف من الطفل الصغير أن يمارس أمامه معصية ولا يخاف من الله تعالى ولا يستحي منه عزّ وجلّ، {يستخفون من الناس ما لا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول} - طوبى لمن منعه عيبه عن عيوب المؤمنين من إخوانه"، بحيث يشتغل بعيوبه عن عيوب الآخرين.
الرحمة بأهل الذنوب:
وفي الحديث عن الإمام الباقر (ع): "كفى بالمرء عيباً أن يتعرّف من عيوب الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه - أنت تعمى عن عيوبك ولكنك تفتح عينيك على عيوب الآخرين - أو يعيب الناس على أمر هو فيه لا يستطيع التحوّل عنه إلى غيره - بحيث يتهم الناس ببعض العيوب الموجودة فيه وهو ليس مستعداً أن يصلح نفسه - أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه". وعن أمير المؤمنين (ع) في "نهج البلاغة" قال: "وإنما ينبغي لأهل العصمة - هذا الشخص الذي يهذّب نفسه ويؤدبها، كيف ينبغي أن تكون نظرته إلى عيوب بعض الناس؛ هل يتعامل معها بروحية التدمير أو بروحية الرحمة التي تنفتح على التفكير بالهداية؟ - والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا - لاحظوا هذه الروح الإنسانية العالية، هذه الروح التي لا تعيش ذهنية التدمير للناس الذين يخطئون بل تعيش روحية الرحمة لهم، فتعالوا نرتفع إلى هذه الروح وهذا السموّ والصفاء وهذه القيم الرائعة التي استمدها عليّ (ع) من انفتاحه على الله تعالى - أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم"، بأن يشكر الله الذي عافاه مما ابتلى به غيره لأن المعصية بلاء، وليس معنى الرحمة أن تعذره بل أن تدرس الأجواء التي دفعته إلى المعصية لتبعده عنها..
ويتابع الإمام عليّ (ع): "فكيف بالعائب الذي عاب أخاه وعيّره ببلواه، أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه ما هو أعظم من الذنب الذي عاب به - فقد تعيب أخاك بالصغائر وأنت ترتكب الكبائر - وكيف يذمه بذنب ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه مما هو أعظم منه، وأيم الله، لو لم يكن عصاه في الكبير لقد عصاه في الصغير، ولجرأته على عيب الناس أكبر. يا عبد الله - وهو خطاب موجه لكل عبد لله - لا تعجل في عيب عبد بذنبه فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذّب عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم به من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته مما ابتلي به غيره".
أخلاق أهل الجنة:
هذه هي الخطوط الأخلاقية الروحية التي يريدنا الإسلام أن نتحرك فيها في الجانب الإيجابي، وأن نبتعد عنها في الجانب السلبي، لأن الله يريدنا أن نعيش جهاد النفس وتزكيتها وتنقيتها وتصفيتها، حتى نقف بين يديه بقلب سليم من كل ما يغضبه . ألا يريد كل واحد منا الجنة؟ فلا بدّ أن نتدرب على أخلاق أهل الجنة، نتدرب على المحبة والانفتاح على الناس بقلوب خالية من الحقد والبغضاء، والدنيا تذهب وتسير، وعلينا أن نتذكر أننا سنقف أمام الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون {إلا من أتى الله بقلب سليم}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في أنفسكم فإن الإنسان يُحشر يوم القيامة بأخلاقه، فمن كان في الخط المستقيم في أخلاقه فإنه ينطلق في رضوان الله ويدخل جنته، ومن كان في الخط المنحرف في أخلاقه فإنه يواجه سخط الله وعذابه، انطلقوا من أجل أن يكون لكل واحد منكم قاعدة أخلاقية في نفسه ترتكز على الإيمان بالله ومحبته تعالى، وإذا كنا نؤمن بالله فعلينا أن نؤمن بكل ما شرّع وما أمر به ونهى عنه، وإذا كنا نحب الله فعلينا أن نتبع رسول الله، وإذا كنا نحب الله فإن حياتنا تبقى تتحرك في مواقع رضاه، وبذلك نبتعد عن كل الطغاة والمستكبرين والظالمين، ونقف مع العادلين والمستضعفين والمظلومين في الحياة كلها.
وقد أدّبنا رسول الله (ص) بأدب الله، وهو أن نهتم بأمور المسلمين، وأن ننفتح عليهم ونحمل همهم، وأن نرحمهم في كل ظروفهم وأوضاعهم، وأن نتعاون معهم على البرّ والتقوى، وأن نتواصى بالحق حتى لا يضعف أحد أمام قوة الباطل، ونتواصى بالصبر حتى لا يجزع أحد من البلاء، وقد ابتلى الله أهل الحق بالكثير من المشاكل في حياتهم الداخلية والخارجية، وعلينا أن نواجه هذا البلاء بكل وعي وانفتاح وتخطيط للسير في الخط المستقيم، فماذا هناك؟
القضية الفلسطينية تسير نحو التصفية:
لا تزال قضية فلسطين في الدوّامة الأمريكية - الإسرائيلية في ظل تحرك النظام المصري لتذليل التعقيدات تحت مقولة اعتبار الشروط الإسرائيلية منطقية، وذلك بعد أن توقفت عملية التسوية لتنفيذ اتفاق "واي" بسبب الخلافات على عدد الفلسطينيين الذين يُراد إطلاقهم من قِبَل إسرائيل، ويبدو أنّ المطلوب هو ممارسة الضغوط على الفلسطينيين من أجل الخضوع لشروط إسرائيل، وهذا ما تقوم به وزيرة الخارجية الأمريكية، للتحضير للمفاوضات النهائية التي قد لا تنتهي إلى نتيجة حول القدس وعودة اللاجئين لأنهما من المحرّمات إسرائيلياً، مما يعني أن القضية الفلسطينية بدأت تسير نحو التصفية لحساب إسرائيل، من دون أن يحصل الفلسطينيون إلا على ما تريده إسرائيل.
تطويق المعارضة الإسلامية:
وتتحرك الخطة من أجل تطويق المعارضة الفلسطينية الإسلامية بالتعاون بين النظام الأردني وسلطةالحكم الذاتي بإشراف أمريكي إسرائيلي، حتى لا يبقى هناك صوت فلسطيني حرّ يعمل من أجل استعادة فلسطين إلى شعبها من الاحتلال.. إننا نريد للشعب الفلسطيني أن يكون واعياً لخطورة المرحلة الصعبة التي قد تغلق عنه أبواب المستقبل، وأن يقف مع السائرين في خط التحرير على أساس الوحدة والإرادة الحرة، فإن الغرق في متاهات التمزق السياسي سوف يغرق الجميع في الوحول الأمريكية - الإسرائيلية.
تصفية الحلم العربي:
ومن المؤسف أن القضية الفلسطينية في وا
د والعرب في واد آخر، كما لو لم تكن فلسطين شأناً عربياً حيوياً على مستوى الأمة، وسيصفق الجميع للاحتفال القادم بالانتصار الإسرائيلي الجديد تحت تأثير الضغوط الأمريكية على الفلسطينيين وبالتالي على العرب، وربما تزداد الضغوط على الإسلاميين في العالم العربي من أجل أن لا "يسيئوا" إلى الاحتفال بسقوط العرب وتصفية الحلم العربي..
الرد الجهادي كان مدروساً:
ونلتقي - في هذا الخط - بالاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وبالمجزرة الإسرائيلية التي يسببها القصف على مختلف القرى الآمنة في الجنوب والبقاع الغربي، والتي أدت إلى قتل المدنيين في "المنصوري" و"كفرا" و"لبايا"، وجرح العديد منهم، مما لم نجد له أيّ ردّ فعلي احتجاجي عربي أو أمريكي أو أوروبي، وقد لاحظنا أن قيام المقاومة الإسلامية بإطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستوطنات الصهيونية قد أثار بعض الخوف في بعض المحافل السياسية من ردّ الفعل الإسرائيلي، وحاولت بعض التحليلات السياسية الإيحاء بأن المقاومة قد تُستدرج إلى الخطة الإسرائيلية في هذا المجال، ولكن هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الردّ الجهادي في إطلاق الصواريخ كان مدروساً بكل دقة، بحيث إن العدوّ لم يقم بأيّ رد فعل مما يخافه البعض، لأنه يعرف من خلال هذه الرسالة بأن ذلك سوف تقابله المقاومة بما لا يستطيع تحمّله، في الوقت الذي لا يملك فيه من خلال الظرف السياسي الحالي أن يقوم بعمل كبير في مستوى الحرب، تحت تأثير الضغط الداخلي والخارجي..
إن المقاومة قد تحمّلت مسؤولية حماية المدنيين وتحرير الأرض، ولن تدخل في أية مغامرة غير محسوبة، لأنها تتحرك في خط التكليف الشرعي لا في خط الإعلام السياسي، فقد أراد العدو إغلاق ملف صواريخ الكاتيوشا ليأخذ حريته في قصف المدنيين للضغط على المقاومة وعلى لبنان، ولكن المقاومة فوّتت عليه ذلك.. وعلى اللبنانيين من جهة والعرب من جهة أخرى أن يعرفوا أن للمقاومة دورها الكبير في إجبار العدوّ على الانسحاب كخطوة ضاغطة في خط التحرير..
مصلحة الوطن أولاً:
إن المرحلة تحتاج إلى مناخ داخلي تغيب فيه الألاعيب السياسية التي تدخل في إطار الحرتقات الشخصانية أو المصالح السياسية الضيّقة بعيداً عما هي مصلحة الوطن أو الدولة.. إن أحوج ما يحتاجه لبنان في هذه المرحلة هو الاستقرار السياسي على أرضية الوحدة السياسية الداخلية، وعلى قاعدة رفد المقاومة والسعي لطرد الاحتلال، حتى يكون لبنان موقعاً لإسقاط الشروط الإسرائيلية في التسوية المذلة، لا أن يتحوّل إلى ساحة لتمرير هذه الشروط..
الاهتمام بالفئات المحرومة:
وعلينا أن لا ننسى القضايا الشعبية الملحّة المتمثلة في القضايا الاقتصادية الضاغطة على مستوى الأوضاع الصعبة التي يعيش فيها المواطنون، لا سيما الفئات المحرومة وخصوصاً الطبقة العاملة والموظفون الصغار، ونحن على أبواب الموسم الدراسي الذي قد لا يجد فيه الفقراء فرصة لإدخال أولادهم إلى المدارس تحت ضغط الفقر والحرمان.
ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، وقال في خطبته الأولى:
من أخلاق الإسلام في حركة التربية الإسلامية أن يحدق الإنسان دائماً بنفسه، بحيث تكون نفسه شغله الدائم، فيحاول أن يفهم نفسه، ويدرس ما هي أفكاره على مستوى العقيدة، هل أن فكره هو فكر الحق، وعلى أيّ أساس أسس هذا الحق في الفكر، أو أن فكره فكر الباطل من خلال ما ورثه أو من خلال ما اجتذبه مما حوله، فيكتشف عيوب فكره ليصلحها، ثم يدرس قلبه، لأن القلب هو مركز العاطفة، فالحب والبغض يتحركان في نبضات القلب الإيجابية أو السلبية، ونحن نحب كثيراً ونبغض كثيراً، وإنسانيتنا تنطلق في هذا الاتجاه. لذ لا بد لنا أن ندرس ما هي عيوبنا العاطفية وعلى أي أساس كان هذا الحب أو البغض، هل أنه يرتكز على أساس ينسجم مع الإيمان أم لا؟.. فإذا رأيت عيباً في عاطفتي، بأن رأيت حباً لا مكان له في معنى إيماني وإنسانيتي، أو رأيت بغضاً لا مكان له في معنى إنسانيتي وإيماني، فعليّ أن أحرر نفسي منه.
معرفة النفس:وعندما ينطلق الإنسان بالكلمات، فقد يكون هناك عيوب فيها وفي مفرداتها وأسلوبها، وهكذا بالنسبة إلى الأعمال، مما يتطلب أن تعرف عيوبك في كلماتك وشهواتك ولذاتك وطعامك وشرابك، وعيوبك في العلاقات مع الناس، هل تحترمهم أم أنك تهينهم، هل تعيش التكبر على الناس الذين تظن أنهم أقل منك شأناً أم أنك تعيش التواضع؟ إن على الإنسان أن يدرس نفسه، لأنه إذا عرف نفسه بكل عيوبها فإنه يستطيع أن يعالج هذه العيوب، لا سيما وأن العيوب الفكرية والعاطفية والكلامية والعملية أخطر من العيوب الجسدية، ولأنك في العيوب الجسدية قد تعيش مشكلة تخصك أنت، أما بالنسبة إلى العيوب الأخرى فإنها قد تحطّم مصيرك في الدنيا والآخرة. لذلك، فإن مسألة أن تدرس نفسك بالطريقة التي تشغلك عن كثير مما حولك هي مسألة أساسية في التربية الإسلامية، لأنك إذا فهمت نفسك فإنك تملكها وتعرف كيف تعيش مع الناس.
هناك كثير من الأشياء نأخذها من دون اختيار، وربما ورثناها من خلال بيئة البيت الذي نعيش فيه، مثلاً قد نرث بعض عواطف البغض أو الحب للآخرين من دون أن نعرف لماذا نحب فلاناً أو نبغض فلاناً، وهذا ما نعيشه في الحساسيات العائلية التي تُبعد العائلات عن بعضها البعض، وأغلبها يعود إلى مشكلة تاريخية بين عائلة وأخرى، والقرآن يقول: {ولا تزر وازرة وزر أخرى}، فنحن في تركيبتنا الذهنية والعاطفية نرث أحقاداً فردية واجتماعية ومذهبية وسياسية ولا يد لنا فيها، لكن الذين تقدمونا صنعوا هذا الحقد ودورنا أننا ورثناه..
والمشكلة أننا لا نختار عواطفنا، بل إنها تُفرض علينا، لذا لا بد أن نكتشف في أنفسنا كيف فُرض علينا هذا الإحساس السلبي أو الإيجابي تجاه الآخرين، وقد نرث بعض الأفكار التي نحملها وهي أفكار التخلّف على طريقة: {إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون}، وإذا أراد أحد أن يصحح هذه الأفكار فإنه يُتهم بالكفر والضلال، والله يقول: {أولو كان آباؤهم لا يعقلون شيئاً ولا يهتدون} {أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم}، فكما نفتش عن البضاعة الأفضل في السوق علينا أن نفتش في سوق الفكر والوعي عن البضاعة الفكرية الأفضل.
اشتغل بعيوبك عن عيوب الآخرين:
لذلك، ركزت التربية الإسلامية على أن تُشغل نفسك بعيوبها لتفهمها ولا تشغل نفسك بعيوب الآخرين إلا إذا أردت إصلاحهم، ولا بد أن نقف عند بعض الأحاديث عن أئمة أهل البيت (ع) المروية عن رسول الله (ص) لنعطي الفكرة. يروي الإمام الباقر(ع) هذا الحديث عن رسول الله (ص) فيقول: "قال رسول الله (ص): ثلاث خصال من كنّ فيه أو واحدة منهن كان في ظلّ عرش الله يوم لا ظل إلا ظله: رجل أعطى الناس من نفسه ما هو سائلهم - بأن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه - ورجل لم يقدّم رجلاً ولم يؤخر أخرى حتى يعلم أن ذلك لله رضى، ورجل لم يعب أخاه المسلم بعيب حتى ينفي ذلك العيب عن نفسه - فقبل أن تعيب أخاك بأيّ عيب عليك أن تعصم نفسك عنه وعن غيره من العيوب - فإنه لا ينفي منها عيباً إلا بدا له عيب، وكفى بالمرء شغلاً بنفسه عن الناس"..
وفي حديث عن الإمام الباقر (ع) قال: "سمعت جابر بن عبد الله الأنصاري يقول إن رسول الله (ص) مر بنا فوقف وسلّم ثم قال: ما لي أرى حبّ الدنيا قد غلب على كثير من الناس.. طوبى لمن شغله خوف الله عزّ وجلّ عن خوف الناس - فهناك كثير من الناس يخافون ممن يملك سلاحاً أو موقعاً متقدماً أو من المخابرات أو أنه يخاف من الطفل الصغير أن يمارس أمامه معصية ولا يخاف من الله تعالى ولا يستحي منه عزّ وجلّ، {يستخفون من الناس ما لا يستخفون من الله وهو معهم إذ يبيّتون ما لا يرضى من القول} - طوبى لمن منعه عيبه عن عيوب المؤمنين من إخوانه"، بحيث يشتغل بعيوبه عن عيوب الآخرين.
الرحمة بأهل الذنوب:
وفي الحديث عن الإمام الباقر (ع): "كفى بالمرء عيباً أن يتعرّف من عيوب الناس ما يعمى عليه من أمر نفسه - أنت تعمى عن عيوبك ولكنك تفتح عينيك على عيوب الآخرين - أو يعيب الناس على أمر هو فيه لا يستطيع التحوّل عنه إلى غيره - بحيث يتهم الناس ببعض العيوب الموجودة فيه وهو ليس مستعداً أن يصلح نفسه - أو يؤذي جليسه بما لا يعنيه". وعن أمير المؤمنين (ع) في "نهج البلاغة" قال: "وإنما ينبغي لأهل العصمة - هذا الشخص الذي يهذّب نفسه ويؤدبها، كيف ينبغي أن تكون نظرته إلى عيوب بعض الناس؛ هل يتعامل معها بروحية التدمير أو بروحية الرحمة التي تنفتح على التفكير بالهداية؟ - والمصنوع إليهم في السلامة أن يرحموا - لاحظوا هذه الروح الإنسانية العالية، هذه الروح التي لا تعيش ذهنية التدمير للناس الذين يخطئون بل تعيش روحية الرحمة لهم، فتعالوا نرتفع إلى هذه الروح وهذا السموّ والصفاء وهذه القيم الرائعة التي استمدها عليّ (ع) من انفتاحه على الله تعالى - أهل الذنوب والمعصية، ويكون الشكر هو الغالب عليهم والحاجز لهم عنهم"، بأن يشكر الله الذي عافاه مما ابتلى به غيره لأن المعصية بلاء، وليس معنى الرحمة أن تعذره بل أن تدرس الأجواء التي دفعته إلى المعصية لتبعده عنها..
ويتابع الإمام عليّ (ع): "فكيف بالعائب الذي عاب أخاه وعيّره ببلواه، أما ذكر موضع ستر الله عليه من ذنوبه ما هو أعظم من الذنب الذي عاب به - فقد تعيب أخاك بالصغائر وأنت ترتكب الكبائر - وكيف يذمه بذنب ركب مثله، فإن لم يكن ركب ذلك الذنب بعينه فقد عصى الله فيما سواه مما هو أعظم منه، وأيم الله، لو لم يكن عصاه في الكبير لقد عصاه في الصغير، ولجرأته على عيب الناس أكبر. يا عبد الله - وهو خطاب موجه لكل عبد لله - لا تعجل في عيب عبد بذنبه فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك معذّب عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم به من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلاً له على معافاته مما ابتلي به غيره".
أخلاق أهل الجنة:
هذه هي الخطوط الأخلاقية الروحية التي يريدنا الإسلام أن نتحرك فيها في الجانب الإيجابي، وأن نبتعد عنها في الجانب السلبي، لأن الله يريدنا أن نعيش جهاد النفس وتزكيتها وتنقيتها وتصفيتها، حتى نقف بين يديه بقلب سليم من كل ما يغضبه . ألا يريد كل واحد منا الجنة؟ فلا بدّ أن نتدرب على أخلاق أهل الجنة، نتدرب على المحبة والانفتاح على الناس بقلوب خالية من الحقد والبغضاء، والدنيا تذهب وتسير، وعلينا أن نتذكر أننا سنقف أمام الله تعالى في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون {إلا من أتى الله بقلب سليم}.
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله في أنفسكم فإن الإنسان يُحشر يوم القيامة بأخلاقه، فمن كان في الخط المستقيم في أخلاقه فإنه ينطلق في رضوان الله ويدخل جنته، ومن كان في الخط المنحرف في أخلاقه فإنه يواجه سخط الله وعذابه، انطلقوا من أجل أن يكون لكل واحد منكم قاعدة أخلاقية في نفسه ترتكز على الإيمان بالله ومحبته تعالى، وإذا كنا نؤمن بالله فعلينا أن نؤمن بكل ما شرّع وما أمر به ونهى عنه، وإذا كنا نحب الله فعلينا أن نتبع رسول الله، وإذا كنا نحب الله فإن حياتنا تبقى تتحرك في مواقع رضاه، وبذلك نبتعد عن كل الطغاة والمستكبرين والظالمين، ونقف مع العادلين والمستضعفين والمظلومين في الحياة كلها.
وقد أدّبنا رسول الله (ص) بأدب الله، وهو أن نهتم بأمور المسلمين، وأن ننفتح عليهم ونحمل همهم، وأن نرحمهم في كل ظروفهم وأوضاعهم، وأن نتعاون معهم على البرّ والتقوى، وأن نتواصى بالحق حتى لا يضعف أحد أمام قوة الباطل، ونتواصى بالصبر حتى لا يجزع أحد من البلاء، وقد ابتلى الله أهل الحق بالكثير من المشاكل في حياتهم الداخلية والخارجية، وعلينا أن نواجه هذا البلاء بكل وعي وانفتاح وتخطيط للسير في الخط المستقيم، فماذا هناك؟
القضية الفلسطينية تسير نحو التصفية:
لا تزال قضية فلسطين في الدوّامة الأمريكية - الإسرائيلية في ظل تحرك النظام المصري لتذليل التعقيدات تحت مقولة اعتبار الشروط الإسرائيلية منطقية، وذلك بعد أن توقفت عملية التسوية لتنفيذ اتفاق "واي" بسبب الخلافات على عدد الفلسطينيين الذين يُراد إطلاقهم من قِبَل إسرائيل، ويبدو أنّ المطلوب هو ممارسة الضغوط على الفلسطينيين من أجل الخضوع لشروط إسرائيل، وهذا ما تقوم به وزيرة الخارجية الأمريكية، للتحضير للمفاوضات النهائية التي قد لا تنتهي إلى نتيجة حول القدس وعودة اللاجئين لأنهما من المحرّمات إسرائيلياً، مما يعني أن القضية الفلسطينية بدأت تسير نحو التصفية لحساب إسرائيل، من دون أن يحصل الفلسطينيون إلا على ما تريده إسرائيل.
تطويق المعارضة الإسلامية:
وتتحرك الخطة من أجل تطويق المعارضة الفلسطينية الإسلامية بالتعاون بين النظام الأردني وسلطةالحكم الذاتي بإشراف أمريكي إسرائيلي، حتى لا يبقى هناك صوت فلسطيني حرّ يعمل من أجل استعادة فلسطين إلى شعبها من الاحتلال.. إننا نريد للشعب الفلسطيني أن يكون واعياً لخطورة المرحلة الصعبة التي قد تغلق عنه أبواب المستقبل، وأن يقف مع السائرين في خط التحرير على أساس الوحدة والإرادة الحرة، فإن الغرق في متاهات التمزق السياسي سوف يغرق الجميع في الوحول الأمريكية - الإسرائيلية.
تصفية الحلم العربي:
ومن المؤسف أن القضية الفلسطينية في وا
د والعرب في واد آخر، كما لو لم تكن فلسطين شأناً عربياً حيوياً على مستوى الأمة، وسيصفق الجميع للاحتفال القادم بالانتصار الإسرائيلي الجديد تحت تأثير الضغوط الأمريكية على الفلسطينيين وبالتالي على العرب، وربما تزداد الضغوط على الإسلاميين في العالم العربي من أجل أن لا "يسيئوا" إلى الاحتفال بسقوط العرب وتصفية الحلم العربي..
الرد الجهادي كان مدروساً:
ونلتقي - في هذا الخط - بالاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، وبالمجزرة الإسرائيلية التي يسببها القصف على مختلف القرى الآمنة في الجنوب والبقاع الغربي، والتي أدت إلى قتل المدنيين في "المنصوري" و"كفرا" و"لبايا"، وجرح العديد منهم، مما لم نجد له أيّ ردّ فعلي احتجاجي عربي أو أمريكي أو أوروبي، وقد لاحظنا أن قيام المقاومة الإسلامية بإطلاق صواريخ الكاتيوشا على المستوطنات الصهيونية قد أثار بعض الخوف في بعض المحافل السياسية من ردّ الفعل الإسرائيلي، وحاولت بعض التحليلات السياسية الإيحاء بأن المقاومة قد تُستدرج إلى الخطة الإسرائيلية في هذا المجال، ولكن هؤلاء لم يلتفتوا إلى أن الردّ الجهادي في إطلاق الصواريخ كان مدروساً بكل دقة، بحيث إن العدوّ لم يقم بأيّ رد فعل مما يخافه البعض، لأنه يعرف من خلال هذه الرسالة بأن ذلك سوف تقابله المقاومة بما لا يستطيع تحمّله، في الوقت الذي لا يملك فيه من خلال الظرف السياسي الحالي أن يقوم بعمل كبير في مستوى الحرب، تحت تأثير الضغط الداخلي والخارجي..
إن المقاومة قد تحمّلت مسؤولية حماية المدنيين وتحرير الأرض، ولن تدخل في أية مغامرة غير محسوبة، لأنها تتحرك في خط التكليف الشرعي لا في خط الإعلام السياسي، فقد أراد العدو إغلاق ملف صواريخ الكاتيوشا ليأخذ حريته في قصف المدنيين للضغط على المقاومة وعلى لبنان، ولكن المقاومة فوّتت عليه ذلك.. وعلى اللبنانيين من جهة والعرب من جهة أخرى أن يعرفوا أن للمقاومة دورها الكبير في إجبار العدوّ على الانسحاب كخطوة ضاغطة في خط التحرير..
مصلحة الوطن أولاً:
إن المرحلة تحتاج إلى مناخ داخلي تغيب فيه الألاعيب السياسية التي تدخل في إطار الحرتقات الشخصانية أو المصالح السياسية الضيّقة بعيداً عما هي مصلحة الوطن أو الدولة.. إن أحوج ما يحتاجه لبنان في هذه المرحلة هو الاستقرار السياسي على أرضية الوحدة السياسية الداخلية، وعلى قاعدة رفد المقاومة والسعي لطرد الاحتلال، حتى يكون لبنان موقعاً لإسقاط الشروط الإسرائيلية في التسوية المذلة، لا أن يتحوّل إلى ساحة لتمرير هذه الشروط..
الاهتمام بالفئات المحرومة:
وعلينا أن لا ننسى القضايا الشعبية الملحّة المتمثلة في القضايا الاقتصادية الضاغطة على مستوى الأوضاع الصعبة التي يعيش فيها المواطنون، لا سيما الفئات المحرومة وخصوصاً الطبقة العاملة والموظفون الصغار، ونحن على أبواب الموسم الدراسي الذي قد لا يجد فيه الفقراء فرصة لإدخال أولادهم إلى المدارس تحت ضغط الفقر والحرمان.