الشّاعر إنسان قد ينطلق في تجربته الشعريّة من طبيعته الإنسانيّة بكلّ نقاط ضعفها وقوَّتها، وقد يتحرّك من خلال الأبعاد النفسيّة التي تمثّل مشاعره وأحاسيسه وأخيلته وكلّ خلفياته الروحية والذاتية، وذلك عندما يتحرّك الشعر في كثير من الحالات ليفرض نفسه عليه..
إننا نلاحظ أن الكلمة قد تفرض نفسها على الشّاعر، لا من خلال أنّ الوزن قد يجتذب هذه الكلمة، ولكن لأنّ الشاعر عندما يعيش الجوَّ الشعري الضبابي السّاحر المثقل بالإيحاءات، فقد تقفز الكلمات من ذهنه ليرى فيها عالماً من الإيحاءات ومن الأفكار، بحيث يشعر بأنّ الكلمة قادته إلى الفكرة بدلاً من أن تقوده الفكرة إلى الكلمة.
ولذلك، فإنّ الشاعر لا يستطيع أن يتحرَّر من التأثيرات النفسية اللاشعورية للعناصر الذاتية، كما أنّه لا يستطيع أن يتحرَّر من تأثير الكلمة فيه، ولكن الشاعر عندما يعيش في حركته الشعرية معنى الحياة والإنسان، ومعنى الله في الحياة والإنسان، ومعنى الرسالة في المضمون الحركي في الحياة، فلا بدّ من أن يقتحم عليه ذلك تجربته، ليتكامل مع المؤثرات النفسية، وليخفّف من أبعادها الذاتية لتقترب من الأبعاد الرسالية، بحيث تكون المسألة قضية تكامل بين البعد الذاتي والبعد الرساليّ.
ربما كانت بعض تجاربي الشعرية منطلقةً من حالات نفسية وجدانية، ولكنّها كانت كذلك في الوقت الذي لم أكن منفتحاً على الحركة الرساليّة في الخطّ الإسلامي بهذا الحجم الكبير، لكنني ألاحظ أنني عندما انفتحت على الجوّ الإسلامي الحركي، وعشت مسؤوليته في حياتي المنفتحة على حياة الآخرين، شعرت بأنّني لا أستطيع أن أكتب شعراً إلا وللإسلام فيه قضيّة، وإلا وذاتي فيها انفتاح على الله، بكلّ أبعاد الإحساس الذي يعيشه الإنسان المسلم المؤمن مع الله تعالى.
لذلك، إنني أتصوَّر أنّ هذه المسألة يمكن تعميمها على كلّ موقع اجتماعي زمانياً ومكانياً، باعتبار أنّ هذا المزيج من الذاتية والرسالية، يعطي التجربة الإنسانية بعدها الحقيقيّ، فلا تكون المسألة الشعرية مجرّد حالة في الفكرة، بل تكون حركة في الإنسان الذي يختزن الفكرة ويعطيها شيئاً من حركة الشعور في داخله، لتكون الفكرة حيّةً بالمعنى الإنساني للحياة، كما هي حيّة بالمعنى الرسالي للمضمون، وهذا ما يحتاجه المجتمع في كلّ زمان ومكان، أن لا تتجمّد الفكرة في وعيه وفي حياته، وأن لا تحاصره الذات في تطلعاته وقضاياه، بل تكون فكرة تتجسّد في الذات، وذاتاً تحتضن الفكرة.
*من كتاب "خطاب الإسلاميّين والمستقبل".