إنَّ الإمامة في المفهوم الحيّ لمضمونها الثَّقافي الإسلامي، تعني أنَّها امتداد النّبوَّة من غير نبوَّة، لأنَّ النّبوَّة في المرحلة الَّتي عاشتها، لم تستطع أن تمتدَّ إلَّا في منطقة معيَّنة، ولم تستطع أن تعمِّق مفاهيم الرِّسالة في الجيل الَّذي عاش معها، لأنَّ المشركين وحلفاءهم من اليهود، كانوا يضعون الحواجز أمام الرِّسالة، كما نقول في هذه الأيَّام، يضعون العصيَّ في الدَّواليب، وأشغلوا النَّبيَّ بالحروب، {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}[التَّوبة: 48].
ولذلك، كانت الإمامة ضرورة، ولم تكن مجرَّد حاجة تنظيميَّة إداريَّة من أجل إدارة شؤون المسلمين، بل كانت ضرورة رساليَّة. ولذلك، كان لا بدَّ أن يكون الإمام الَّذي يمثِّل الامتداد لحركة النّبوَّة، إنساناً يحمل كلَّ الرِّسالة في عقله، حتَّى كأنَّ عقله عقل رسول الله، ويحمل كلَّ الرسالة في علمه، عندما يختزن كلَّ علم رسول الله، ويحمل الإخلاص لله ولرسوله في قلبه، ويحمل التَّجربة الحيَّة الفاعلة المنطلقة من معايشته للتَّجربة الإسلاميَّة منذ انطلقت، ومن خلال وعيه للواقع بكلِّ أبعاده الحاضرة والمستقبلة، حتَّى يستطيع أن يحمل الرِّسالة كلَّها، بعقلها، وعلمها، وحيويَّتها، وروحانيَّتها، وتجربتها، وامتداداتها في المستقبل.
أهميَّةُ إمامةِ عليّ (ع)
لم تكن المسألة أن يكون الإمام بعد رسول الله (ص) عنصراً إداريّاً يعرف كيف يدير أمور المسلمين، بل كان لا بدَّ أن يكون طاقة رساليَّة تحتضن الإسلام كلَّه، حتَّى كأنَّ النَّاس يرون فيه رسول الله عقلاً وروحاً، وإن لم يروه جسداً، ولم يكن في المسلمين - مع كلِّ الاحترام للمسلمين الآخرين - غير عليّ (ع)، لا من جهة قرابته لرسول الله، فالقرابة لا تعطي قيمةً فوق القيمة، وأقرباءُ رسول الله كثيرون، والعبَّاس بن عبد المطَّلب عمُّ رسول الله، أقربُ إلى رسول الله من عليّ، وأبناءُ عمّ رسول الله (ص) كثيرون، ولكنَّ المسألة أنَّ عليّاً كان نفسَ رسول الله {وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ}[آل عمران: 61]، وكان يختزن الرّسالة كلَّها، لأنَّ رسول الله (ص) احتضنه منذ أن كان في عمر السنتين، فكان رسول الله أمَّه وأباه: "كانَ يمضغُ الشَّيءَ ثمَّ يُلْقِمْنيه... ولقد كنْتُ أتبعُهُ اتّباع الفصيلِ أثرَ أمِّه، يرفعُ لي في كلِّ يومٍ منْ أخلاقِهِ علماً، ويأمرُني بالاقتداءِ به".
لذلك، أعطاه رسول الله (ص) في تربيته كلَّ عقله، وكان معه بعد الرِّسالة ليله ونهاره، وكان معه في تحدِّيات الرِّسالة في حربها وسلمها، وكان معه عندما ينزل القرآن عليه، حتَّى كان يرى الوحيَ ويسمعه، وقال له، كما يحدِّث هو عن نفسه، كما ورد في "نهج البلاغة": "إنَّكَ تسْمَعُ ما أَسْمَعُ، وترى ما أرى، إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بنبيٍّ". وكما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي، مخترع علم العروض، وصاحب أوَّل قاموس عربيّ، عندنا قيل له: لم قدَّمت عليّاً؟ فقال: "احتياجُ الكلِّ إليه، واستغناؤُهُ عن الكلِّ، دليلٌ عَلَى أنَّهُ إمامُ الكلِّ". لم يسأل (ع) أحداً، وسأله كلُّ النَّاس، لأنَّه كان لا يملك فراغاً في المعرفة ليطلبَ من النَّاس أن يملأوه، وكان المجتمع يعيشُ الفراغَ الكثيرَ، ولذلك كان المجتمعُ ينطلقُ إليه ليسألَه.
وهكذا امتدَّت الإمامة، لا لتكون شخصاً، ولكن لتكون عقلاً وعلماً وروحانيّةً ورسالةً تضيء، وبقي عليٌّ يضيء، حتَّى إنَّنا لا نعرف الموت في عليّ، إنَّنا نشعر بأنَّه الحاضر؛ الحاضر في كلِّ ثقافتنا، والحاضر في كلِّ التحدّيات الَّتي تمرُّ بنا، والحاضر في كلِّ الرّوحانيَّات الَّتي نبتهل بها إلى الله من خلالِ ما كانَ يدعو به إلى الله، والحاضرُ في كلِّ حركتنا الإداريَّة عندما نريدُ أن ننظِّمَ المجتمع، والحاضرُ في إعطاءِ الفكرةِ الَّتي نشعرُ بأنَّها تحدِّثنا عن قضايانا الآنَ بعدَ مرورِ هذه القرون، لأنَّ عليّاً كان لا يحدِّث جيله فقط، ولكنَّه كان يحدِّث الأجيال كلّها.
ولذلك، فإنَّ تاريخ عليّ (ع) هو التَّاريخ الَّذي يمتدّ مع الأجيال ولا يموت بموت عليّ، بل إنَّنا نشعر بأنَّنا نحسّ بحياة عليّ في غيابه أكثر مما كان يحسّه الَّذين عاشوا مع عليّ في حضوره، لأنَّنا نعيش فكره وروحانيَّته.
* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 20/03/2002م.
إنَّ الإمامة في المفهوم الحيّ لمضمونها الثَّقافي الإسلامي، تعني أنَّها امتداد النّبوَّة من غير نبوَّة، لأنَّ النّبوَّة في المرحلة الَّتي عاشتها، لم تستطع أن تمتدَّ إلَّا في منطقة معيَّنة، ولم تستطع أن تعمِّق مفاهيم الرِّسالة في الجيل الَّذي عاش معها، لأنَّ المشركين وحلفاءهم من اليهود، كانوا يضعون الحواجز أمام الرِّسالة، كما نقول في هذه الأيَّام، يضعون العصيَّ في الدَّواليب، وأشغلوا النَّبيَّ بالحروب، {حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ}[التَّوبة: 48].
ولذلك، كانت الإمامة ضرورة، ولم تكن مجرَّد حاجة تنظيميَّة إداريَّة من أجل إدارة شؤون المسلمين، بل كانت ضرورة رساليَّة. ولذلك، كان لا بدَّ أن يكون الإمام الَّذي يمثِّل الامتداد لحركة النّبوَّة، إنساناً يحمل كلَّ الرِّسالة في عقله، حتَّى كأنَّ عقله عقل رسول الله، ويحمل كلَّ الرسالة في علمه، عندما يختزن كلَّ علم رسول الله، ويحمل الإخلاص لله ولرسوله في قلبه، ويحمل التَّجربة الحيَّة الفاعلة المنطلقة من معايشته للتَّجربة الإسلاميَّة منذ انطلقت، ومن خلال وعيه للواقع بكلِّ أبعاده الحاضرة والمستقبلة، حتَّى يستطيع أن يحمل الرِّسالة كلَّها، بعقلها، وعلمها، وحيويَّتها، وروحانيَّتها، وتجربتها، وامتداداتها في المستقبل.
أهميَّةُ إمامةِ عليّ (ع)
لم تكن المسألة أن يكون الإمام بعد رسول الله (ص) عنصراً إداريّاً يعرف كيف يدير أمور المسلمين، بل كان لا بدَّ أن يكون طاقة رساليَّة تحتضن الإسلام كلَّه، حتَّى كأنَّ النَّاس يرون فيه رسول الله عقلاً وروحاً، وإن لم يروه جسداً، ولم يكن في المسلمين - مع كلِّ الاحترام للمسلمين الآخرين - غير عليّ (ع)، لا من جهة قرابته لرسول الله، فالقرابة لا تعطي قيمةً فوق القيمة، وأقرباءُ رسول الله كثيرون، والعبَّاس بن عبد المطَّلب عمُّ رسول الله، أقربُ إلى رسول الله من عليّ، وأبناءُ عمّ رسول الله (ص) كثيرون، ولكنَّ المسألة أنَّ عليّاً كان نفسَ رسول الله {وَأَنفُسَنَا وَأَنفُسَكُمْ}[آل عمران: 61]، وكان يختزن الرّسالة كلَّها، لأنَّ رسول الله (ص) احتضنه منذ أن كان في عمر السنتين، فكان رسول الله أمَّه وأباه: "كانَ يمضغُ الشَّيءَ ثمَّ يُلْقِمْنيه... ولقد كنْتُ أتبعُهُ اتّباع الفصيلِ أثرَ أمِّه، يرفعُ لي في كلِّ يومٍ منْ أخلاقِهِ علماً، ويأمرُني بالاقتداءِ به".
لذلك، أعطاه رسول الله (ص) في تربيته كلَّ عقله، وكان معه بعد الرِّسالة ليله ونهاره، وكان معه في تحدِّيات الرِّسالة في حربها وسلمها، وكان معه عندما ينزل القرآن عليه، حتَّى كان يرى الوحيَ ويسمعه، وقال له، كما يحدِّث هو عن نفسه، كما ورد في "نهج البلاغة": "إنَّكَ تسْمَعُ ما أَسْمَعُ، وترى ما أرى، إلَّا أنَّكَ لَسْتَ بنبيٍّ". وكما قال الخليل بن أحمد الفراهيدي، مخترع علم العروض، وصاحب أوَّل قاموس عربيّ، عندنا قيل له: لم قدَّمت عليّاً؟ فقال: "احتياجُ الكلِّ إليه، واستغناؤُهُ عن الكلِّ، دليلٌ عَلَى أنَّهُ إمامُ الكلِّ". لم يسأل (ع) أحداً، وسأله كلُّ النَّاس، لأنَّه كان لا يملك فراغاً في المعرفة ليطلبَ من النَّاس أن يملأوه، وكان المجتمع يعيشُ الفراغَ الكثيرَ، ولذلك كان المجتمعُ ينطلقُ إليه ليسألَه.
وهكذا امتدَّت الإمامة، لا لتكون شخصاً، ولكن لتكون عقلاً وعلماً وروحانيّةً ورسالةً تضيء، وبقي عليٌّ يضيء، حتَّى إنَّنا لا نعرف الموت في عليّ، إنَّنا نشعر بأنَّه الحاضر؛ الحاضر في كلِّ ثقافتنا، والحاضر في كلِّ التحدّيات الَّتي تمرُّ بنا، والحاضر في كلِّ الرّوحانيَّات الَّتي نبتهل بها إلى الله من خلالِ ما كانَ يدعو به إلى الله، والحاضرُ في كلِّ حركتنا الإداريَّة عندما نريدُ أن ننظِّمَ المجتمع، والحاضرُ في إعطاءِ الفكرةِ الَّتي نشعرُ بأنَّها تحدِّثنا عن قضايانا الآنَ بعدَ مرورِ هذه القرون، لأنَّ عليّاً كان لا يحدِّث جيله فقط، ولكنَّه كان يحدِّث الأجيال كلّها.
ولذلك، فإنَّ تاريخ عليّ (ع) هو التَّاريخ الَّذي يمتدّ مع الأجيال ولا يموت بموت عليّ، بل إنَّنا نشعر بأنَّنا نحسّ بحياة عليّ في غيابه أكثر مما كان يحسّه الَّذين عاشوا مع عليّ في حضوره، لأنَّنا نعيش فكره وروحانيَّته.
* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 20/03/2002م.