الخيانة دمار المجتمع

الخيانة دمار المجتمع
ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

 

الخيانة وآثارها

الخيانة دمار المجتمع
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:27]. ويقول الإمام الباقر(ع) في تفسير هذه الآية: "فخيانة الله والرّسول معصيتهما. وأمّا خيانة الأمانة، فكلّ إنسان مأمون على ما افترض الله عزّ وجلّ عليه". ويقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ{[الحجّ:38]، ويقول سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}[الأنفال:58].
والخيانة تمثّل في المنهج الأخلاقيّ الإسلاميّ العمل الذي يؤدّي إلى دمار المجتمع وضياعه، وما يوجب المشاكل الصّعبة بين النّاس، وما يُفقد النّاس الثّقة ببعضهم البعض، وقد يؤدّي إلى تدمير الأمَّة كلّها عندما يتولّى الخائنون قيادتها.

ولهذا فقد أكّد الله تعالى هذه القضيّة تأكيداً كبيراً، وبيَّن أنَّ الخائنين الذين خانوا الله والرّسول وخانوا النّاس من حولهم، سيواجهون غضب الله، لأنّه سبحانه يحبّ الذين يوفون بعقودهم ويؤدّون الأمانة إلى أهلها، ويتحمّلون مسؤوليّة ما أُوكل إليهم.

الخيانة خروجٌ من الإسلام
وقد ورد في حديث رسول الله(ص): "ليس منّا مَنْ خان مسلماً في أهله وماله". فالإنسان قد يكون مسلماً في النّطق بالشّهادتين وفي صلاته وحجّه وصومه، ولكنّه إذا كان خائناً للمسلمين في أنفسهم وأموالهم وأهلهم، فإنَّه يخرج من الإسلام خروجاً عمليّاً؛ لأنّ الإسلام ليس مجرّد كلمةٍ ولا مجرّد عبادة، ولكنَّه منهجٌ في الحياة العامّة والخاصّة؛ في علاقة الإنسان بالله بإخلاصه له، وفي علاقته برسول الله من خلال العمل بسنّته والاقتداء بسيرته، وفي تعامله مع النّاس بالخير والإخلاص في كلّ أموره العامّة والخاصّة.

وقد ورد عن الإمام عليّ(ع): "الخيانة غدر"،فالخائن هو الّذي يغدر بمن ائتمنه، فيوحي إليه بأنه يريد أن يحفظ له ماله أو نفسه أو أهله أو بلده، ولكنّه يغدر به عندما يخونه في ذلك كله.
وورد عنه(ع): "جانبوا الخيانة فإنها مجانَبةُ الإسلام"، فالإنسان الخائن هو الّذي يبتعد عن الإسلام ويجتنبه. وعنه(ع): "شرّ النّاس من لا يعتقد الأمانة ولا يجتنب الخيانة". وورد عنه(ع): "رأس النّفاق الخيانة". وعنه(ع): "رأس الكفر الخيانة". وعنه(ع): "الخيانة دليلٌ على قلّة الورع وعدم الدّيانة".

خيانة المال
والخيانة قد تتمثّل بخيانة المال، بحيث تنكر على الإنسان وديعته التي أودعها عندك إذا فقد الوثيقة التي سجّل بها وديعته، كما يفعل بعض النّاس الذين يتعاملون ببيع الشّقق، بحيث يبيع الشقّة لشخص ويأخذ منه مقداراً من المال، ثم إذا جاءه شخص يدفع له أكثر، فإنّه يبيعه الشقة عينها التي أصبحت ملكاً للشّخص الأوّل. وهذه العمليّة تمثّل خيانةً للأمانة وخيانةً للمال، كما أنّ الشّخص الذي يشتري هذه الشقّة المُباعة ـ مع علمه بذلك ـ هو شخص غاصب، والبيع، في هذه الحالة، باطل.

خيانة الإنسان
وهناك خيانةٌ أخرى، وهي خيانة الإنسانِ نفسِه؛ أن تخون الإنسان الّذي يثق بك، والّذي يسلّم أمره إليك، ثم تتعاون مع خصومه وأعدائه في الإضرار به أو في إهلاكه؛ فإنَّك بذلك تكون قد خنت ثقته بك وخنته في نفسه.

وهناك نوعٌ من أنواع الخيانة، وهي خيانة الناس في أهلهم، كالذين يتعدّون على أعراض النّاس ويقومون بالفاحشة مع أزواج الآخرين أو بناتهم أو أخواتهم، كما يفعل ذلك بعضُ الناس، مستغلين نقاط الضّعف لدى هؤلاء.

خيانة الأيتام
ومن أفظع الخيانات، أن تخون الأيتام الذين ترك لهم أبوهم مالهم تحت يدك، فتستغلّ طفولتهم، وتستعمل قدرتك لتأكل مالهم، وقد ورد في القرآن الكريم:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}[النّساء:10].

إفشاء السّرّ خيانة
وهناك نوعٌ آخر من الخيانة، وهي أن تفشي أسرار وطنك وأمّتك ومجتمعك للأعداء، ليستغلّوا معرفتهم بهذه الأسرار، ويعملوا على الإضرار بالأمّة أو بالوطن أو المجتمع. إنّ هذه من أعظم الخيانات، لأنها خيانةٌ للأمّة كلّها، وللوطن كلّه، وللمجتمع كلّه، وهذا مما يتحمّل مسؤوليّته الذين يشتغلون في أجهزة المخابرات، سواء المخابرات المحليّة أو الإقليميّة أو الدوليّة، فإنّ إفشاء الأسرار التي تجعل البريء مجرماً والمجرم بريئاً، يُعتبر من أفظع أنواع الخيانة.

الخيانة السياسيّة
ومن أشدّ أنواع الخيانة للأمّة أيضاً، أن ينطلق الكثيرون من هؤلاء الّذين يتزعّمون الأمّة، من خلال تزوير الانتخابات التي تشرف عليها المخابرات، فيستعملون قوانين الطّوارئ لهذا الغرض، ولا يملك النّاس الأحرار فيها الحرية في أن يعبّروا عن آرائهم ومواقفهم في ذلك كله. ونحن نعرف في العالم العربي والإسلاميّ، أنّ الكثيرين من رؤساء الجمهوريات في هذا البلد أو ذاك، يعملون على إعطاء صورةٍ للديمقراطيّة بطريقتها الشكليّة، ولكنّهم يمنعون الشّعب من أن ينتخب بحرية وأمانة، لأنّ الضّغوط التي تضغط على الشّعب من خلال أجهزة المخابرات، هي التي تزوّر الانتخابات، وترفع مثل هؤلاء الأشخاص ليكونوا رؤساء البلد، وهم في الواقع لا يملكون هذه الشّرعيّة الشعبيّة.

ومن الخيانة للأمّة، هؤلاء الذين يبيعون أصواتهم لهذا المرشّح أو ذاك، أو لهذا التيار أو ذاك، أو لهذا الحزب أو ذاك، نتيجة مالٍ قد يختلف حجمه بحسب اختلاف الأوضاع والمحاور. إنّ كلّ من يبيع صوته بالمال هو خائنٌ لأمّته ولوطنه، لأنّه يؤيّد بصوته الإنسان الذي لا يؤتمن على شؤون النّاس وقضاياهم وحرّياتهم. ونجد الخيانة متمثّلةً في كلّ المسؤولين، سواء كانوا في العالم العربي أو الإسلامي، الذين يبيعون مواقفهم للأجنبيّ، وهذا ما نلاحظه في مواقف الكثيرين من الملوك والأمراء والرؤساء في بعض بلدان العالم العربي والإسلامي، ممن يخضعون للمحور الأمريكي والسياسة الأمريكية، فإنهم لا يتحرّكون في قضايا شعوبهم والأمّة كلّها إلا من خلال ارتباطهم بالمصالح الاستراتيجيّة الأمريكيّة أو الأوروبيّة، أو يبيعون بلادهم لمن يحتلّها ظلماً وعدواناً، وهو ما نلاحظه لدى الكثيرين من المسؤولين العرب، والمسلمين الذين يعملون على أن يجعلوا لإسرائيل شرعيّةً قانونيّةً في احتلالها فلسطين.

ونحن نلاحظ، ولا سيّما في هذه المرحلة، كيف أنّ إسرائيل بالتّحالف الخفيّ مع أمريكا ـ وإن كانوا يُظهرون الاختلاف  ـ تحاول مصادرة الأراضي الفلسطينيّة من خلال توسيع المستوطنات، بحيث لا يتركون للفلسطينيّين إمكانيّة أن يعيشوا بكرامة وحرية. والقضية المطروحة الآن بين العرب وإسرائيل ومعها أمريكا، هي تجميد الاستيطان، وليست القضيّة إزالة المستوطنات التي يتمّ من خلالها اغتصاب الأرض الفلسطينيّة واغتصاب فلسطين كلّها! فليس لليهود أيّ حقّ شرعيّ في فلسطين. إنّ هؤلاء خونة لأمّتهم بفعل أسلوبهم وطريقتهم في تقديم التنازلات وسياساتهم التي يخضعون فيها للخطّ السياسيّ الأمريكيّ. إنّ هؤلاء يخونون أمّتهم في هذا المجال، وخصوصاً أنّ أمريكا تحاول أن توحي إليهم بأنّ الخطر هو من إيران وليس من اليهود في فلسطين.

إنّ الله تعالى يرفض الخيانة الفردية والاجتماعية والوطنية، وقد أرادنا الله أن لا ندافع عن الخونة، ومن هنا تأتي مسألة الإعلام والصحافة على تنوّعاتها. إنّ الله تعالى يحرّم علينا أن ندافع عنهم، يقول تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ـ مدافعاً ـ وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}[النّساء:105_107].
إنّ علينا أن لا نعمل على أساس الخيانة، وألا ندافع عن الخائنين، سواء كانوا من أهل السياسة أو من الذين يتلبّسون بالدّين، الذين يتاجرون بالدين ولا يخلصون له، أو الّذين يخرّبون الاقتصاد ويثيرون الفتن بين النّاس؛ إنّ كلّ هؤلاء خائنون، وعلينا أن لا ندافع عنهم.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:27].

الخطبة الثّانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم

فلسطين بين فكّي الاحتلال والتآمر العربيّ
في فلسطين، يبقى المشهد هو المشهد ذاته منذ احتلالها قبل أكثر من نصف قرن:

فمن جهة، يستمرّ عدوّ الأمّة في احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينيّة، ويتابع مسلسل التّهجير والحصار وتغيير الواقع السكّاني تغييراً جذريّاً، والانقلاب على الاتّفاقات والمواثيق، والإمعان في اللّعب على عامل الزّمن عبر المفاوضات التي لا تخرج من تنازلٍ حتّى تدخل في تنازلٍ أكبر منه.

ومن جهةٍ، هناك انعدام التّوازن العربي الرسميّ الذي يحاول الالتفاف على انتصارات الأمّة بالمزيد من المبادرات التّنازليّة، وينطلق الكثيرون فيه في السرّ بما يُحرَجون به أمام شعوبهم، فيعيشون مشكلة أن يُكشَفوا في لهاثهم وراء التّطبيع مع العدوّ، ولا يعيشون مشكلة أنّهم فقدوا التّوازن في مواجهتهم مع العدوّ الذي يمعن في إذلالهم عبر إعلانه جهاراً أنْ لا تجميد للاستيطان، بل تقليص له ولفترة محدودة، وأنّ القدس لا تدخل في كلّ حسابات المفاوضات أو ما إلى ذلك.

لقد كان لطعام الإفطار الخاصّ الذي تناوله رئيس حكومة العدوّ على مائدة رئيس إحدى الدّول العربيّة مفعوله الخاصّ، حيث تحدّث بصراحةٍ عن خضوع الأمريكيّين لمنطقه وليس العكس، لينتقل مع كيانه إلى المرحلة الثّانية من خطّته التي تزول معها فكرة الدّولة الفلسطينيّة من الوجود بالتهام الاستيطان لما تبقَّى من الضفّة الغربيّة، لتتحوّل إلى سجنٍ يبحث عن مقوّمات الحياة الاقتصاديّة، ليتحدّث بعدها صندوق النّقد الدوليّ عن نموٍّ في اقتصاد المسجونين الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، وليتباهى العدوّ بأنّ فكرة السّلام الاقتصاديّ للفلسطينيّين مقابل السّيطرة عليهم بالاستيطان وبالحرب الأمنيّة المفتوحة، هي الفكرة التي تفرض نفسها على الجميع، بمن في ذلك عرب الاعتدال الذين يتحضّرون للقيام بخطواتٍ تطبيعيّةٍ جديدةٍ تكون دليلاً إضافيّاً على حُسْن نواياهم تجاه جلاّدي شعوبهم وسُرّاق الأوطان؟!

يوم القدس العالميّ
إنَّنا في يوم القدس، وأمام هذا السُّقوط العربيّ المريع، ندعو الحركات الإسلاميَّة والوطنيَّة إلى التَّداعي لاتخاذ خطواتٍ عمليّة، لا لمواجهة التّطبيع فحسب، بل للبحث الجدّيّ في كيفيَّة إطلاق المقاومة داخل فلسطين المحتلّة من جديد، وإخراجها من دائرة الحصار السياسيّ والأمنيّ إلى الميدان الشّعبيّ وفضاء المواجهة، وليكون الموقف حاسماً لتغليب منطق المقاومة على منطق التّفاوض الشّكليّ الذي يجري الإعداد له للحصول على توقيعٍ فلسطينيّ نهائيّ بالتّنازل عن الأرض والقضيّة، وإمضاء صكّ البيع بالتنكّر لحقائق التّاريخ وحقوق الإنسان.

إنّ التّنازل عن فلسطين والقدس سيمثّل القاعدة التي تنطلق منها حركة شعبيّة عربيّة وإسلاميّة تعمل لتغيير الواقع بطريقةٍ وبأخرى. كما نذكّر المرجعيّات الدينية، أنّ السّكوت والصّمت أمام هذه المؤامرة الكبرى التي تتّسع دائرتها وتتوالى أخطارها في كلّ يوم، يمثّل خيانةً للموقع، وسقوطاً فظيعاً في الدنيا والآخرة، وقد قال عليّ(ع): "أعظم الخيانة خيانة الأمّة، وأفظع الغشّ غشّ الأئمّة".

حرمة التّطبيع مع العدوّ
إنَّنا في يوم القدس، وبموازاة الفتوى التي أطلقناها بتحريم التّطبيع بكلّ أشكاله وأحواله مع العدوّ الصّهيونيّ، وبحرمة التّفريط في أيّ شبر من فلسطين المحتلّة، نحرّم تحريماً شرعيّاً مطلقاً التنازل عن حقّ العودة تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، وأيّ اعتبارٍ من الاعتبارات، لأنّه الحقّ الإنسانيّ والتّاريخيّ والإسلاميّ والمسيحيّ والعربيّ الذي لا يمكن أن يسقط بتقادم الزمن، أو ببلوغ اللّعبة الدوليّة أقصى مجالاتها في المكر والخداع ودعم الاغتصاب.

مواجهة المخطّط الأمريكيّ ـ الإسرائيليّ
وفي المقابل، ومن خلال رفضنا التّوطين الذي يُراد له أن يتحوّل إلى حقيقةٍ دوليّةٍ، علينا أن نتحرّك كمرجعيّات دينيّة، وكشخصيّات حزبيّة وهيئات شعبيّة، للتصدّي للخطّة الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة التي بدأت تحصل على المزيد من التّأييد العربيّ لتهجير الفلسطينيّين وتوطينهم بعيداً عن أرضهم، في الوقت الذي نطالب الدّول المعنيّة، والهيئات الرّسميّة على وجه الخصوص، باحترام الحقوق المدنيّة للفلسطينيّين وعدم التّضييق عليهم، لأنَّنا نعرف تماماً أنّ الخطّة المرسومة من محاور دوليَّة استكباريَّة، عملت على محاصرة الفلسطينيّين، واضطهادهم حتى في البلدان العربيّة، لإبعادهم عن فلسطين، وتهجيرهم إلى أبعد مسافةٍ ممكنةٍ عن أرضهم، وعلى الجميع التصدّي لهذه الخطّة الظّالمة والحاقدة، في كلّ المجالات، وبكلّ الإمكانات المتاحة، لإعادة الحقّ إلى أصحابه الحقيقيّين، والى أهله الأصليّين.

مشروع التَّفتيت المتواصل
وليس بعيداً من فلسطين، نلاحظ أنَّ مشروع التّمزيق والتّفتيت يواصل حركته في أكثر من موقعٍ من مواقع الأمّة، وخصوصاً في اليمن الجريح الذي يتفرّج الجميع على مأساته وتمزّقاته، من دون أن يهبّ أحد لإخماد الفتنة الملتهبة نيرانها هناك في صعدة، كما أنّ حركة التّمزيق تفعل فعلها في الصّومال، وكذلك في السّودان والعراق، إضافةً إلى الهجمة الاستكباريّة المتواصلة من أمريكا والحلف الأطلسي في أفغانستان وباكستان.

إنّنا نشعر بأنّ الأمّة مستهدفة بالكامل في كلّ مواقعها، وأنّ الأعداء يتلمّسون العناوين المذهبيّة أو العرقيّة وغيرها لتحقيق مآربهم وأهدافهم السياسيّة الاستكباريّة. ولذلك، فإنّ الدّعوة لمواجهة هؤلاء ولطرد الاحتلال، لا بدّ من أن تتلازم مع العمل لتوحيد صفوف الأمّة، ونبذ كلّ مساعي التّفرقة على أساس مذهبيّ أو طائفيّ أو سياسيّ وما إلى ذلك.

لبنان: أزمة الدّاخل والخارج
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنّ الخارج عاد ليُمسك بخيوط اللّعبة الداخليّة، وليُدخل البلد في مسار الاصطفافات السياسيَّة مجدّداً، ولتبدأ بعض رموز المشكلة بحياكة طائفيّة ومذهبيّة للأزمة السياسيّة، بما يعيدنا إلى خطوط التوتّر السياسيّ المطلّة على التوتّر المذهبيّ الذي يُراد للبلد أن يسلك خطوطه الموازية للخطّة المرسومة على مستوى المنطقة كلّها.

إنَّنا نخشى أنََّ أصوات الانفعال الدّاخليَّة بالحدث السّياسيّ المتواصل، المتمثِّل بالأزمة الحكوميّة ومفاعيلها، ليست أصواتاً لبنانيّةً خالصةً، ونخشى أن تكون جولاتها السّجاليّة جزءاً من اللّعبة الدوليّة والإقليميّة التي لم تنتهِ فصولاً، والتي تتحرّك فيها الأوراق المحليّة لتنفيذ أو محاكاة بعض التطلّعات الخارجيَّة، مع ما يحمله ذلك من رهاناتٍ قد تطلّ على مرحلةٍ جديدةٍ من مراحل التّفتيت الداخليّ الذي لن يكون لمصلحة فريقٍ معيّن، ولن تنأى مشاكله ونتائجه السلبيّة عن الجميع.

إنّنا نقول للمتخاصمين بالعناوين المحليّة، الذين يحملون عبء النّصائح الدوليّة والإقليميّة، إذا لم يكن لكم شغلٌ إلا بمصالحكم وطموحاتكم الشّخصيّة ومواقعكم الحزبيّة والسياسيّة والمذهبيّة، فاتّقوا الله في النّاس الذين اكتووا بنيران أزماتكم السياسيّة، قبل أن تأكلكم نيران المصالح الدوليّة والإقليميّة، وتأكل معكم البقيّة الباقية من استقرارٍ داخليّ أردتموه موقّتاً وقلقاً، وحصدتم نتائجه بمزيدٍ من الاهتزاز وخيبات الأمل المتوالية.

ألقى سماحة آية الله العظمى، السيد محمد حسين فضل الله، خطبتي صلاة الجمعة، من على منبر مسجد الإمامين الحسنين(ع) في حارة حريك، بحضور عدد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية، وحشد من المؤمنين، ومما جاء في خطبته:

 

الخيانة وآثارها

الخيانة دمار المجتمع
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:27]. ويقول الإمام الباقر(ع) في تفسير هذه الآية: "فخيانة الله والرّسول معصيتهما. وأمّا خيانة الأمانة، فكلّ إنسان مأمون على ما افترض الله عزّ وجلّ عليه". ويقول الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ{[الحجّ:38]، ويقول سبحانه: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ}[الأنفال:58].
والخيانة تمثّل في المنهج الأخلاقيّ الإسلاميّ العمل الذي يؤدّي إلى دمار المجتمع وضياعه، وما يوجب المشاكل الصّعبة بين النّاس، وما يُفقد النّاس الثّقة ببعضهم البعض، وقد يؤدّي إلى تدمير الأمَّة كلّها عندما يتولّى الخائنون قيادتها.

ولهذا فقد أكّد الله تعالى هذه القضيّة تأكيداً كبيراً، وبيَّن أنَّ الخائنين الذين خانوا الله والرّسول وخانوا النّاس من حولهم، سيواجهون غضب الله، لأنّه سبحانه يحبّ الذين يوفون بعقودهم ويؤدّون الأمانة إلى أهلها، ويتحمّلون مسؤوليّة ما أُوكل إليهم.

الخيانة خروجٌ من الإسلام
وقد ورد في حديث رسول الله(ص): "ليس منّا مَنْ خان مسلماً في أهله وماله". فالإنسان قد يكون مسلماً في النّطق بالشّهادتين وفي صلاته وحجّه وصومه، ولكنّه إذا كان خائناً للمسلمين في أنفسهم وأموالهم وأهلهم، فإنَّه يخرج من الإسلام خروجاً عمليّاً؛ لأنّ الإسلام ليس مجرّد كلمةٍ ولا مجرّد عبادة، ولكنَّه منهجٌ في الحياة العامّة والخاصّة؛ في علاقة الإنسان بالله بإخلاصه له، وفي علاقته برسول الله من خلال العمل بسنّته والاقتداء بسيرته، وفي تعامله مع النّاس بالخير والإخلاص في كلّ أموره العامّة والخاصّة.

وقد ورد عن الإمام عليّ(ع): "الخيانة غدر"،فالخائن هو الّذي يغدر بمن ائتمنه، فيوحي إليه بأنه يريد أن يحفظ له ماله أو نفسه أو أهله أو بلده، ولكنّه يغدر به عندما يخونه في ذلك كله.
وورد عنه(ع): "جانبوا الخيانة فإنها مجانَبةُ الإسلام"، فالإنسان الخائن هو الّذي يبتعد عن الإسلام ويجتنبه. وعنه(ع): "شرّ النّاس من لا يعتقد الأمانة ولا يجتنب الخيانة". وورد عنه(ع): "رأس النّفاق الخيانة". وعنه(ع): "رأس الكفر الخيانة". وعنه(ع): "الخيانة دليلٌ على قلّة الورع وعدم الدّيانة".

خيانة المال
والخيانة قد تتمثّل بخيانة المال، بحيث تنكر على الإنسان وديعته التي أودعها عندك إذا فقد الوثيقة التي سجّل بها وديعته، كما يفعل بعض النّاس الذين يتعاملون ببيع الشّقق، بحيث يبيع الشقّة لشخص ويأخذ منه مقداراً من المال، ثم إذا جاءه شخص يدفع له أكثر، فإنّه يبيعه الشقة عينها التي أصبحت ملكاً للشّخص الأوّل. وهذه العمليّة تمثّل خيانةً للأمانة وخيانةً للمال، كما أنّ الشّخص الذي يشتري هذه الشقّة المُباعة ـ مع علمه بذلك ـ هو شخص غاصب، والبيع، في هذه الحالة، باطل.

خيانة الإنسان
وهناك خيانةٌ أخرى، وهي خيانة الإنسانِ نفسِه؛ أن تخون الإنسان الّذي يثق بك، والّذي يسلّم أمره إليك، ثم تتعاون مع خصومه وأعدائه في الإضرار به أو في إهلاكه؛ فإنَّك بذلك تكون قد خنت ثقته بك وخنته في نفسه.

وهناك نوعٌ من أنواع الخيانة، وهي خيانة الناس في أهلهم، كالذين يتعدّون على أعراض النّاس ويقومون بالفاحشة مع أزواج الآخرين أو بناتهم أو أخواتهم، كما يفعل ذلك بعضُ الناس، مستغلين نقاط الضّعف لدى هؤلاء.

خيانة الأيتام
ومن أفظع الخيانات، أن تخون الأيتام الذين ترك لهم أبوهم مالهم تحت يدك، فتستغلّ طفولتهم، وتستعمل قدرتك لتأكل مالهم، وقد ورد في القرآن الكريم:{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً}[النّساء:10].

إفشاء السّرّ خيانة
وهناك نوعٌ آخر من الخيانة، وهي أن تفشي أسرار وطنك وأمّتك ومجتمعك للأعداء، ليستغلّوا معرفتهم بهذه الأسرار، ويعملوا على الإضرار بالأمّة أو بالوطن أو المجتمع. إنّ هذه من أعظم الخيانات، لأنها خيانةٌ للأمّة كلّها، وللوطن كلّه، وللمجتمع كلّه، وهذا مما يتحمّل مسؤوليّته الذين يشتغلون في أجهزة المخابرات، سواء المخابرات المحليّة أو الإقليميّة أو الدوليّة، فإنّ إفشاء الأسرار التي تجعل البريء مجرماً والمجرم بريئاً، يُعتبر من أفظع أنواع الخيانة.

الخيانة السياسيّة
ومن أشدّ أنواع الخيانة للأمّة أيضاً، أن ينطلق الكثيرون من هؤلاء الّذين يتزعّمون الأمّة، من خلال تزوير الانتخابات التي تشرف عليها المخابرات، فيستعملون قوانين الطّوارئ لهذا الغرض، ولا يملك النّاس الأحرار فيها الحرية في أن يعبّروا عن آرائهم ومواقفهم في ذلك كله. ونحن نعرف في العالم العربي والإسلاميّ، أنّ الكثيرين من رؤساء الجمهوريات في هذا البلد أو ذاك، يعملون على إعطاء صورةٍ للديمقراطيّة بطريقتها الشكليّة، ولكنّهم يمنعون الشّعب من أن ينتخب بحرية وأمانة، لأنّ الضّغوط التي تضغط على الشّعب من خلال أجهزة المخابرات، هي التي تزوّر الانتخابات، وترفع مثل هؤلاء الأشخاص ليكونوا رؤساء البلد، وهم في الواقع لا يملكون هذه الشّرعيّة الشعبيّة.

ومن الخيانة للأمّة، هؤلاء الذين يبيعون أصواتهم لهذا المرشّح أو ذاك، أو لهذا التيار أو ذاك، أو لهذا الحزب أو ذاك، نتيجة مالٍ قد يختلف حجمه بحسب اختلاف الأوضاع والمحاور. إنّ كلّ من يبيع صوته بالمال هو خائنٌ لأمّته ولوطنه، لأنّه يؤيّد بصوته الإنسان الذي لا يؤتمن على شؤون النّاس وقضاياهم وحرّياتهم. ونجد الخيانة متمثّلةً في كلّ المسؤولين، سواء كانوا في العالم العربي أو الإسلامي، الذين يبيعون مواقفهم للأجنبيّ، وهذا ما نلاحظه في مواقف الكثيرين من الملوك والأمراء والرؤساء في بعض بلدان العالم العربي والإسلامي، ممن يخضعون للمحور الأمريكي والسياسة الأمريكية، فإنهم لا يتحرّكون في قضايا شعوبهم والأمّة كلّها إلا من خلال ارتباطهم بالمصالح الاستراتيجيّة الأمريكيّة أو الأوروبيّة، أو يبيعون بلادهم لمن يحتلّها ظلماً وعدواناً، وهو ما نلاحظه لدى الكثيرين من المسؤولين العرب، والمسلمين الذين يعملون على أن يجعلوا لإسرائيل شرعيّةً قانونيّةً في احتلالها فلسطين.

ونحن نلاحظ، ولا سيّما في هذه المرحلة، كيف أنّ إسرائيل بالتّحالف الخفيّ مع أمريكا ـ وإن كانوا يُظهرون الاختلاف  ـ تحاول مصادرة الأراضي الفلسطينيّة من خلال توسيع المستوطنات، بحيث لا يتركون للفلسطينيّين إمكانيّة أن يعيشوا بكرامة وحرية. والقضية المطروحة الآن بين العرب وإسرائيل ومعها أمريكا، هي تجميد الاستيطان، وليست القضيّة إزالة المستوطنات التي يتمّ من خلالها اغتصاب الأرض الفلسطينيّة واغتصاب فلسطين كلّها! فليس لليهود أيّ حقّ شرعيّ في فلسطين. إنّ هؤلاء خونة لأمّتهم بفعل أسلوبهم وطريقتهم في تقديم التنازلات وسياساتهم التي يخضعون فيها للخطّ السياسيّ الأمريكيّ. إنّ هؤلاء يخونون أمّتهم في هذا المجال، وخصوصاً أنّ أمريكا تحاول أن توحي إليهم بأنّ الخطر هو من إيران وليس من اليهود في فلسطين.

إنّ الله تعالى يرفض الخيانة الفردية والاجتماعية والوطنية، وقد أرادنا الله أن لا ندافع عن الخونة، ومن هنا تأتي مسألة الإعلام والصحافة على تنوّعاتها. إنّ الله تعالى يحرّم علينا أن ندافع عنهم، يقول تعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً ـ مدافعاً ـ وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً * وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً}[النّساء:105_107].
إنّ علينا أن لا نعمل على أساس الخيانة، وألا ندافع عن الخائنين، سواء كانوا من أهل السياسة أو من الذين يتلبّسون بالدّين، الذين يتاجرون بالدين ولا يخلصون له، أو الّذين يخرّبون الاقتصاد ويثيرون الفتن بين النّاس؛ إنّ كلّ هؤلاء خائنون، وعلينا أن لا ندافع عنهم.{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}[الأنفال:27].

الخطبة الثّانية
بسم الله الرّحمن الرّحيم

فلسطين بين فكّي الاحتلال والتآمر العربيّ
في فلسطين، يبقى المشهد هو المشهد ذاته منذ احتلالها قبل أكثر من نصف قرن:

فمن جهة، يستمرّ عدوّ الأمّة في احتلال المزيد من الأراضي الفلسطينيّة، ويتابع مسلسل التّهجير والحصار وتغيير الواقع السكّاني تغييراً جذريّاً، والانقلاب على الاتّفاقات والمواثيق، والإمعان في اللّعب على عامل الزّمن عبر المفاوضات التي لا تخرج من تنازلٍ حتّى تدخل في تنازلٍ أكبر منه.

ومن جهةٍ، هناك انعدام التّوازن العربي الرسميّ الذي يحاول الالتفاف على انتصارات الأمّة بالمزيد من المبادرات التّنازليّة، وينطلق الكثيرون فيه في السرّ بما يُحرَجون به أمام شعوبهم، فيعيشون مشكلة أن يُكشَفوا في لهاثهم وراء التّطبيع مع العدوّ، ولا يعيشون مشكلة أنّهم فقدوا التّوازن في مواجهتهم مع العدوّ الذي يمعن في إذلالهم عبر إعلانه جهاراً أنْ لا تجميد للاستيطان، بل تقليص له ولفترة محدودة، وأنّ القدس لا تدخل في كلّ حسابات المفاوضات أو ما إلى ذلك.

لقد كان لطعام الإفطار الخاصّ الذي تناوله رئيس حكومة العدوّ على مائدة رئيس إحدى الدّول العربيّة مفعوله الخاصّ، حيث تحدّث بصراحةٍ عن خضوع الأمريكيّين لمنطقه وليس العكس، لينتقل مع كيانه إلى المرحلة الثّانية من خطّته التي تزول معها فكرة الدّولة الفلسطينيّة من الوجود بالتهام الاستيطان لما تبقَّى من الضفّة الغربيّة، لتتحوّل إلى سجنٍ يبحث عن مقوّمات الحياة الاقتصاديّة، ليتحدّث بعدها صندوق النّقد الدوليّ عن نموٍّ في اقتصاد المسجونين الفلسطينيّين في الضفّة الغربيّة، وليتباهى العدوّ بأنّ فكرة السّلام الاقتصاديّ للفلسطينيّين مقابل السّيطرة عليهم بالاستيطان وبالحرب الأمنيّة المفتوحة، هي الفكرة التي تفرض نفسها على الجميع، بمن في ذلك عرب الاعتدال الذين يتحضّرون للقيام بخطواتٍ تطبيعيّةٍ جديدةٍ تكون دليلاً إضافيّاً على حُسْن نواياهم تجاه جلاّدي شعوبهم وسُرّاق الأوطان؟!

يوم القدس العالميّ
إنَّنا في يوم القدس، وأمام هذا السُّقوط العربيّ المريع، ندعو الحركات الإسلاميَّة والوطنيَّة إلى التَّداعي لاتخاذ خطواتٍ عمليّة، لا لمواجهة التّطبيع فحسب، بل للبحث الجدّيّ في كيفيَّة إطلاق المقاومة داخل فلسطين المحتلّة من جديد، وإخراجها من دائرة الحصار السياسيّ والأمنيّ إلى الميدان الشّعبيّ وفضاء المواجهة، وليكون الموقف حاسماً لتغليب منطق المقاومة على منطق التّفاوض الشّكليّ الذي يجري الإعداد له للحصول على توقيعٍ فلسطينيّ نهائيّ بالتّنازل عن الأرض والقضيّة، وإمضاء صكّ البيع بالتنكّر لحقائق التّاريخ وحقوق الإنسان.

إنّ التّنازل عن فلسطين والقدس سيمثّل القاعدة التي تنطلق منها حركة شعبيّة عربيّة وإسلاميّة تعمل لتغيير الواقع بطريقةٍ وبأخرى. كما نذكّر المرجعيّات الدينية، أنّ السّكوت والصّمت أمام هذه المؤامرة الكبرى التي تتّسع دائرتها وتتوالى أخطارها في كلّ يوم، يمثّل خيانةً للموقع، وسقوطاً فظيعاً في الدنيا والآخرة، وقد قال عليّ(ع): "أعظم الخيانة خيانة الأمّة، وأفظع الغشّ غشّ الأئمّة".

حرمة التّطبيع مع العدوّ
إنَّنا في يوم القدس، وبموازاة الفتوى التي أطلقناها بتحريم التّطبيع بكلّ أشكاله وأحواله مع العدوّ الصّهيونيّ، وبحرمة التّفريط في أيّ شبر من فلسطين المحتلّة، نحرّم تحريماً شرعيّاً مطلقاً التنازل عن حقّ العودة تحت أيّ ظرفٍ من الظروف، وأيّ اعتبارٍ من الاعتبارات، لأنّه الحقّ الإنسانيّ والتّاريخيّ والإسلاميّ والمسيحيّ والعربيّ الذي لا يمكن أن يسقط بتقادم الزمن، أو ببلوغ اللّعبة الدوليّة أقصى مجالاتها في المكر والخداع ودعم الاغتصاب.

مواجهة المخطّط الأمريكيّ ـ الإسرائيليّ
وفي المقابل، ومن خلال رفضنا التّوطين الذي يُراد له أن يتحوّل إلى حقيقةٍ دوليّةٍ، علينا أن نتحرّك كمرجعيّات دينيّة، وكشخصيّات حزبيّة وهيئات شعبيّة، للتصدّي للخطّة الأمريكيّة ـ الإسرائيليّة التي بدأت تحصل على المزيد من التّأييد العربيّ لتهجير الفلسطينيّين وتوطينهم بعيداً عن أرضهم، في الوقت الذي نطالب الدّول المعنيّة، والهيئات الرّسميّة على وجه الخصوص، باحترام الحقوق المدنيّة للفلسطينيّين وعدم التّضييق عليهم، لأنَّنا نعرف تماماً أنّ الخطّة المرسومة من محاور دوليَّة استكباريَّة، عملت على محاصرة الفلسطينيّين، واضطهادهم حتى في البلدان العربيّة، لإبعادهم عن فلسطين، وتهجيرهم إلى أبعد مسافةٍ ممكنةٍ عن أرضهم، وعلى الجميع التصدّي لهذه الخطّة الظّالمة والحاقدة، في كلّ المجالات، وبكلّ الإمكانات المتاحة، لإعادة الحقّ إلى أصحابه الحقيقيّين، والى أهله الأصليّين.

مشروع التَّفتيت المتواصل
وليس بعيداً من فلسطين، نلاحظ أنَّ مشروع التّمزيق والتّفتيت يواصل حركته في أكثر من موقعٍ من مواقع الأمّة، وخصوصاً في اليمن الجريح الذي يتفرّج الجميع على مأساته وتمزّقاته، من دون أن يهبّ أحد لإخماد الفتنة الملتهبة نيرانها هناك في صعدة، كما أنّ حركة التّمزيق تفعل فعلها في الصّومال، وكذلك في السّودان والعراق، إضافةً إلى الهجمة الاستكباريّة المتواصلة من أمريكا والحلف الأطلسي في أفغانستان وباكستان.

إنّنا نشعر بأنّ الأمّة مستهدفة بالكامل في كلّ مواقعها، وأنّ الأعداء يتلمّسون العناوين المذهبيّة أو العرقيّة وغيرها لتحقيق مآربهم وأهدافهم السياسيّة الاستكباريّة. ولذلك، فإنّ الدّعوة لمواجهة هؤلاء ولطرد الاحتلال، لا بدّ من أن تتلازم مع العمل لتوحيد صفوف الأمّة، ونبذ كلّ مساعي التّفرقة على أساس مذهبيّ أو طائفيّ أو سياسيّ وما إلى ذلك.

لبنان: أزمة الدّاخل والخارج
ونصل إلى لبنان، لنلاحظ أنّ الخارج عاد ليُمسك بخيوط اللّعبة الداخليّة، وليُدخل البلد في مسار الاصطفافات السياسيَّة مجدّداً، ولتبدأ بعض رموز المشكلة بحياكة طائفيّة ومذهبيّة للأزمة السياسيّة، بما يعيدنا إلى خطوط التوتّر السياسيّ المطلّة على التوتّر المذهبيّ الذي يُراد للبلد أن يسلك خطوطه الموازية للخطّة المرسومة على مستوى المنطقة كلّها.

إنَّنا نخشى أنََّ أصوات الانفعال الدّاخليَّة بالحدث السّياسيّ المتواصل، المتمثِّل بالأزمة الحكوميّة ومفاعيلها، ليست أصواتاً لبنانيّةً خالصةً، ونخشى أن تكون جولاتها السّجاليّة جزءاً من اللّعبة الدوليّة والإقليميّة التي لم تنتهِ فصولاً، والتي تتحرّك فيها الأوراق المحليّة لتنفيذ أو محاكاة بعض التطلّعات الخارجيَّة، مع ما يحمله ذلك من رهاناتٍ قد تطلّ على مرحلةٍ جديدةٍ من مراحل التّفتيت الداخليّ الذي لن يكون لمصلحة فريقٍ معيّن، ولن تنأى مشاكله ونتائجه السلبيّة عن الجميع.

إنّنا نقول للمتخاصمين بالعناوين المحليّة، الذين يحملون عبء النّصائح الدوليّة والإقليميّة، إذا لم يكن لكم شغلٌ إلا بمصالحكم وطموحاتكم الشّخصيّة ومواقعكم الحزبيّة والسياسيّة والمذهبيّة، فاتّقوا الله في النّاس الذين اكتووا بنيران أزماتكم السياسيّة، قبل أن تأكلكم نيران المصالح الدوليّة والإقليميّة، وتأكل معكم البقيّة الباقية من استقرارٍ داخليّ أردتموه موقّتاً وقلقاً، وحصدتم نتائجه بمزيدٍ من الاهتزاز وخيبات الأمل المتوالية.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية