معاني المفردات
{الْحجّ والْعُمْرة}: الحجُّ - لغةً - هو القصد، ويُقصد به - هنا - القصد إلى النُّسك المخصوص. أمّا العمرة فهي زيارة البيت الحرام على نحوٍ خاصٍّ.
{أُحْصِرْتُمْ}: الإحصار: المنع. يُقال للرّجل الّذي قد منعه الخوف أو المرض عن التّصرُّف: قد أُحْصِر، فهو مُحْصر. ويقال للرّجل الّذي حُبس: قد حُصر فهو محصورٌ.
{الْهدْيِ}: «في أصل الهدي قولان: أحدهما: إنّه من الهديّة. يُقال: أهديت الهديّة إهداءً، وأهديت الهدي إلى بيت الله إهداءً. فعلى هذا إنّما يكون هديًا لأجل التّقرُّب به إلى الله. والآخر: إنّه من هداه: إذا ساقه إلى الرّشاد. فسُمِّي هديًا لأنّه يُساق إلى الحرم الّذي هو موضع الرّشاد»(1).
{تحْلِقُوا}: الحلق: إزالة شعر الرّأس.
{أذىً}: الأذى: كلُّ ما تأذّيت به. وأصله: الضّرر بالشّيء.
{نُسُكٍ}: النُسك: جمع نسيكة وهي الذّبيحة. والنُسك: العبادة، ومنه: رجلٌ ناسك، أي: عابد.
{تمتّع}: التّمتُّع: أصله: الالتذاذ والاستمتاع. ومتعة الحجِّ هي أن يعتمر في أشهر الحجِّ ثمّ يحلّ، ويتمتّع بالإحلال بأن يفعل ما يفعله المحلُّ، ثمّ يحرم بالحجِّ من غير رجوعٍ إلى الميقات، فهو إحلالٌ بين إحرامين.
{رفث}: «الرّفث: أصله - في اللُّغة -: الإفحاش في النُّطق... وقيل: الرّفث بالفرج: الجماع، وباللِّسان: المواعدة للجماع»(2).
{فُسُوق}: الفسوق: الخروج على الطّاعة.
{جِدال}: الجدال في - اللُّغة -، والمجادلة، والمنازعة، والمشاجرة، والمخاصمة نظائر. وقيل: إنّ المراد به - هنا - قول: لا والله وبلى والله. وقيل: المراد اللِّجاج(3).
{الزّادِ}: الطّعام الّذي يُتّخذ للسّفر. وكلُّ من انتقل بخير من عملٍ أو كسبٍ فقد تزوّد.
{الْألْبابِ}: اللُّبُّ: العقل، سُمِّي بذلك لأنّه أفضل ما في الإنسان، وأفضل كلِّ شيءٍ لبُّه.
{جُناحٌ}: الجُناح: الحرج في الدِّين، وهو الميل عن الطّريق المستقيم.
{تبْتغُوا}: الابتغاء: الطّلب.
{أفضْتُمْ}: الإفاضة: مأخوذةٌ من فيض الإناء عن امتلائه، فمعنى {أفضْتُمْ}: دفعتم من عرفات إلى المزدلفة عن اجتماعٍ وكثرةٍ. ويقال: أفاض القوم في الحديث: إذا اندفعوا فيه وأكثروا التّصرُّف.
{عرفاتٍ}: اسمٌ للبقعة المعروفة بحدودها، ويوم عرفة يوم الوقوف بها.
{الْمشْعرِ}: المزدلفة، سمِّيت مشعرًا لأنّه معلمٌ للحجِّ، والصّلاة والمقام والمبيت به والدُّعاء عنده من أعمال الحجِّ، وهو على بُعد فرسخين ونصف تقريبًا من مكّة(4).
{واِسْتغْفِرُوا}: الاستغفار: طلب المغفرة. والمغفرة: التّغطية للذّنب. وهو كنايةٌ عن العفو عنه وزواله.
{مِنْ خلاقٍ}: الخلاق: النّصيب. وأصله: التّقدير، وهو - هنا - النّصيب من الخير على وجه الاستحقاق.
{وقِنا}: الوقاء: أصله: الحجز بين الشّيئين. والوقاء: الحاجز الّذي يُسلم به من الضّرر.
{نصِيبٌ}: النّصيب: الحظُّ، وحدُّه الجزء الّذي يختصُّ به البعض من خيرٍ أو شرٍّ.
{كسبُوا}: الكسب: الفعل الّذي يُجتلب به نفعٌ أو يُدفع به ضررٌ.
{سرِيعُ}: السّريع من العمل: القصير المدّة.
{معْدُوداتٍ}: تُستعمل كثيرًا في اللُّغة للشّيء القليل. وكلُّ عددٍ قلّ أو كثُر فهو معدودٌ، ولكن «معدودات» أدلُّ على القلّة؛ لأنّ كلّ قليلٍ يُجمع بالألف والتّاء.
{تُحْشرُون}: الحشر: جمع القوم من كلِّ ناحيةٍ إلى مكان. والمحشر: المكان الّذي يُحشرون فيه.
إتمام الحجِّ
في هذه الآيات يبدأ القرآن جولةً في بعض أحكام الحجِّ، وهو فريضةٌ فرضها الله على عباده منذ رسالة إبراهيم عليه السلام، وقد كان معروفًا بين أهل الجاهليّة، وأقرّه الإسلام وزاد فيه بعض المناسك.
{وأتِمُّوا الْحجّ والْعُمْرة لِلّهِ}. لا بُدّ للإنسان من إتمام الحجِّ والعمرة إذا بدأهما بالإحرام لهما، وذلك بالإتيان بكلِّ الواجبات الّتي تدخل في نطاق تكوين الفرض في الحالات الاختياريّة أو الاضطراريّة.
وإذا كانت الآية تؤكِّد على أن يكون هذا الإتمام لله، فمعنى ذلك أنّهما من العبادات الّتي لا بُدّ من أن يُقصد بها وجه الله، فيشعر الإنسان معها بالحاجة إلى القرب من الله من خلال ما يؤدِّيه من الأعمال الّتي تتضمّن في داخلها أقوالاً أو أفعالاً أو أفكارًا يتعبّد فيها الإنسان إلى ربِّه.
ولعلّ القيمة الكبرى للعبادات الإسلاميّة، أنّها لا تمثِّل مجرّد حالةٍ وجدانيّةٍ ذاتيّةٍ غارقةٍ في ضباب المحبّة وغيبوبة الخشوع، ليبقى الإنسان بعيدًا عن حركة الحياة عندما يقف بين يدي الله، بل هي تعبيرٌ عن الخطِّ الإسلاميِّ العمليِّ في علاقة العبد بربِّه؛ حيث يلتقي الجانب الرُّوحيُّ بالحياة في أوسع مجالاتها وأرحب آفاقها، ليتصوّر معها حياته الّتي تضجُّ فيها الحركة، فنجد في الصّلاة الكلمات الّتي تمثِّلها سورة الفاتحة بالإضافة إلى السُّورة الأخرى الّتي يختارها المصلِّي تبعًا لحاجته الرُّوحيّة والفكريّة، فنلتقي بالتّصوُّر الإسلاميِّ لله في صفاته المتّصلة بحركة الحياة في مخلوقاته، من التّربية والرِّعاية والرّحمة، وبطبيعة العلاقة الّتي تشدُّ الإنسان إلى الله، وبالتّوجُّه إليه في مجال الصِّراع الّذي تزدحم فيه التّيّارات الضّالّة والجاحدة في مقابل الخطِّ المستقيم. وهكذا تتحرّك الصّلاة في كيان الإنسان، فتتحرّك الأفكار والتّصوُّرات الإسلاميّة في وجدانه، ليستقيم له من خلالها الوعي الرُّوحيُّ والفكريُّ والعمليُّ في كلماتٍ وأفعالٍ يتحرّك فيها المضمون في روحٍ نابضةٍ بالحياة.
فإذا التقينا بالحجِّ، فإنّنا نلتقي بالعبادة الزّاخرة بأكثر من معنًى، فهي تلتقي بالصّلاة في أجواء الطّواف والسّعي، والوقوف بعرفات والمزدلفة، والمبيت بمنى، حيث يعيش الإنسان أعمق حالات التّأمُّل وأصفى مشاعره، وأرفع درجاته. أمّا الإحرام، فإنّه يمثِّل الالتقاء بالصّوم؛ حيث يفرض على الإنسان الالتزام الطّوعيّ الاختياريّ بكثيرٍ من الأشياء الّتي تتّصل بشهواته وعاداته وأخلاقه، فتمثِّل مرحلةً تدريبيّةً صعبةً يتعلّم فيها الصّبر والخشونة واحترام مشاعر الآخرين، واحترام كلِّ شيءٍ محترمٍ حوله حتّى الحيوان والنّبات، إلى جانب دقّة الملاحظة عندما يراقب كلّ حركةٍ من حركاته حتّى سقوط الشّعر وحكِّ البدن والنّظر في المرآة. أمّا رمي الجمار، فإنّه يمثِّل الرّمز العمليّ للصِّراع مع الشّيطان، في ما تمثِّله الجمرات من رمزٍ.
وهكذا يتحرّك الإنسان من عملٍ إلى عملٍ ليحقِّق لنفسه البناء الرُّوحيّ والفكريّ والعمليّ في أجواء العبادة الّتي يعيش في داخلها اللِّقاء بالله. وبذلك لا تشارك العبادة في عزل الإنسان عن الحياة، بل هي - على العكس من ذلك - تدفعه دفعًا إليها بكلِّ قوّةٍ، من موقع الرُّوحيّة الّتي تعطي المادّة معناها دون أن تُفقدها صفاتها المادِّيّة.
وقد لا يكتفي الإسلام في تحقيق معنى العبادة بما افترضه وشرّعه من أشكالها، بل يمتدُّ بها حتّى يجعل كلّ عملٍ محبوبٍ لله عبادةً إذا قام به الإنسان لوجه الله. وقد كثُرت الأحاديثُ الّتي ترى في طلب العلم، وفي العمل في سبيل العيال، وفي العفاف، وقضاء حاجة المؤمن وتفريج كربته، عبادةً يكسب الإنسان بها رضا الله كأيِّ عبادةٍ من العبادات المعروفة(5).
وفي ضوء ذلك كلِّه، نجد في كلمة {وأتِمُّوا الْحجّ والْعُمْرة} إيحاءً بالإتمام من النّاحية الرُّوحيّة الّتي يعيش الإنسان فيها أجواء الحجِّ، بالمستوى الّذي يرتفع فيه إلى الآفاق العالية الّتي تمثِّلها هذه الفريضة، ويتحرّك معها بأخلاقيّةٍ إسلاميّةٍ كاملةٍ، فلا يكتفي بالشّكل ويبتعد عن المضمون؛ لأنّه يمثِّل - في هذه الحالة - الإتمام الشّكليّ إلى جانب النّقص الواقعيِّ المضمونيِّ، ما يجعل العمل غير مقرِّبٍ لله وغير مقبولٍ عنده؛ لأنّ الله لا يقبل من الأعمال إلاّ ما أقبل الإنسان فيها بكلِّ كيانه وروحيّته.
الإحصار في الحجِّ
{فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ}. إذا حصل للحاجِّ أو المعتمر مانعٌ يمنعه من إتمام الحجِّ، فكيف يمكن أن يحلّ من إحرامه الّذي لا يحصل الإحلال منه إلاّ بالإتمام؟
إنّ الآية تفرض عليه - مع ملاحظة التّفسير في السُّنّة، من خلال التّحديد للمحِلِّ في قوله تعالى: {حتّى يبْلُغ الْهدْيُ محِلّهُ}- أن يرسل هديًا إلى مكّة إن كان معتمرًا، وإلى منى إن كان حاجًّا، ليُذبح هناك، فإذا بلغ محلّه، أمكنه أن يحلق رأسه، ويتحلّل من إحرامه. هذا إذا كان المانع هو المرض.
أمّا إذا كان المانع هو العدوُّ، فإنّ بإمكانه أن يذبح الهدي في مكانه، كما يروى أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فعل ذلك في الحديبيّة عندما منعه المشركون عن العمرة(6).
{فمنْ كان مِنْكُمْ مرِيضاً أوْ بِهِ أذىً مِنْ رأْسِهِ ففِدْيةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صدقةٍ أوْ نُسُكٍ}. هذا استثناءٌ من النّهي عن حلق الرّأس قبل بلوغ الهدي محلّه. فإذا كان الإنسان مريضًا يتضرّر فيه من إبقاء الشّعر على الرّأس، أو كان في رأسه بعض الحشرات الّتي تمثِّل أذًى في رأسه، فيجوز له أن يحلق، على أن يقوم بالصِّيام ثلاثة أيّام، أو إطعام ستّة مساكين، أو ذبح شاة، وهو ما عبّر عنه بالنُّسك، كما جاء ذلك في السُّنّة الشّريفة.
وقد روي عن أبي عبدالله عليه السلام أنّه قال: «مرّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على كعب بن عجرة الأنصاريِّ، والقمل يتناثر من رأسه، فقال: أتؤذيك هوامُّك؟ قال: نعم، قال: فأُنزلت هذه الآية: {فمنْ كان مِنْكُمْ مرِيضاً أوْ بِهِ أذىً مِنْ رأْسِهِ ففِدْيةٌ مِنْ صِيامٍ أوْ صدقةٍ أوْ نُسُكٍ}، فأمره رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فحلق رأسه، وجعل عليه الصِّيام ثلاثة أيّام، والصّدقة على ستّة مساكين لكلِّ مسكين مُدّان، والنُّسك شاة»(7).
حجُّ التّمتُّع
{فإِذا أمِنْتُمْ فمنْ تمتّع بِالْعُمْرةِ إِلى الْحجِّ فما اِسْتيْسر مِن الْهدْيِ}. في هذه الآية إشارةٌ إلى حجِّ التّمتُّع، الّذي يجمع الحجّ والعمرة في فريضةٍ واحدةٍ، ولكنّ الحاجّ يستمتع فيه بعد الإحلال من العمرة بما كان محرّمًا عليه إلى حين الإحرام بالحجِّ. وإنّما سُمِّي بالتّمتُّع بالنّظر إلى أنّ وحدة الفريضة في العملين تجعل الإنسان كما لو كان قد مارس التّمتُّع في أثناء الحجِّ. ويقابله حجُّ الإفراد والقِران اللّذان لا تدخل العمرة فيهما.
وقد أشارت الآية إلى خصوصيّة حجِّ التّمتُّع بوجوب ذبح الهدي فيه، بعيدًا عن حالة الإحصار المشار إليها في الفقرة السّابقة؛ لوجوبه في حالة الأمن، كما يشير إليه قوله تعالى: {فإِذا أمِنْتُمْ فمنْ تمتّع بِالْعُمْرةِ إِلى الْحجِّ فما اِسْتيْسر مِن الْهدْيِ}.
وقد فُسِّر «ما استيسر من الهدي» في الرِّوايات - كما عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام - بالشّاة(8). وعن الإمام عليِّ بن موسى الرِّضا عليه السلام أنّه قال: «إن قال: فلِم أُمروا بحجّةٍ واحدةٍ لا أكثر من ذلك؟ قيل: لأنّ الله تعالى وضع الفرائض على أدنى القوم قوّةً، كما قال الله عزّ وجلّ: {فما اِسْتيْسر مِن الْهدْيِ}، يعني شاةً؛ ليسع القويّ والضّعيف»(9).
وقد ذكروا في الفقه شروطًا معيّنةً للهدي، فأوجبوا فيه عمرًا محدّدًا، واشترطوا سلامته من العيوب، سواءً بالنِّسبة إلى نقصان عضوٍ من أعضاء الهدي، أو من جهة هزاله وضعفه. وبذلك لم يكتفوا بمطلق الذّبح، مع أنّ الآية المباركة أطلقت الحُكم بذبح «ما استيسر»، وهو يصدق على كلِّ ذلك.
وقد يُقال في توجيه ذلك إنّ الآية - بمعونة ما قدّمناه من الرِّوايات - تبيِّن جانب اليُسر من جهة النّوع في مقابل ما يعسر على المكلّفين عادةً، كالبدنة والبقرة، فيكون «ما استيسر» هو الشّاة الّتي هي أدنى أنواع الهدي، وهي المتيسِّر لعامّة المكلّفين.
ولكن ينبغي التّدقيق مليًّا في ذلك؛ لأنّ إطلاق قوله «ما استيسر»، وخصوصًا في مورد الإحصار، يدلُّ على أنّ المراد ما يتيسّر للحاجِّ بالنِّسبة إلى صفات الهدي نفسه. وأمّا ما ذُكر في الرِّوايات، فيُمكن أن يكون واردًا لبيان أنّه حيث يتيسّر السّليم، فيكون هو المحقِّق لهذا العنوان - أعني: «استيسر» - فلا يُلجأ إلى غيره. وعلى كلِّ حال، فتفصيل الكلام في المسألة مجاله الفقه، ويُكتفى في مقام التّفسير بما قدّمناه.
وعلى كلِّ حال فالهدي هو الفارق بين هذا النّوع من الحجِّ وبين النّوعين الآخرين؛ لعدم وجوب الذّبح فيهما كجزءٍ من الفريضة، وإن كان القِران يشتمل على سياق الهدي بإشعاره أو تقليده كفصلٍ من فصول الإحرام، لا كواجبٍ من واجبات الحجِّ.
وقد تعرّضت الآية إلى حالة العجز عن الهدي في حجِّ التّمتُّع، فأوجبت صيام عشرة أيّام، موزّعةٍ بين وقت الحجِّ ووقت الرُّجوع. {فمنْ لمْ يجِدْ فصِيامُ ثلاثةِ أيّامٍ فِي الْحجِّ وسبْعةٍ إِذا رجعْتُمْ تِلْك عشرةٌ كامِلةٌ}.
{ذلِك لِمنْ لمْ يكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي الْمسْجِدِ الْحرامِ}. هذا تحديدٌ للمكلّف الّذي يجب عليه حجُّ التّمتُّع، بالنّائي عن مكّة، وقد كنّى عنه بـ-: {ذلِك لِمنْ لمْ يكُنْ أهْلُهُ حاضِرِي الْمسْجِدِ الْحرامِ}. وقُدِّر بمن كان بينه وبين المسجد الحرام أكثر من اثني عشر ميلاً، وقُدِّر بغير ذلك أيضًا(10). ويقول صاحب (الميزان) في استيحاء ذلك: «وفيه إيماءٌ إلى حكمة التّشريع، وهو التّخفيف والتّسهيل؛ فإنّ المسافر من البلاد النّائية للحجِّ - وهو عملٌ لا يخلو من الكدِّ ومقاسة التّعب ووعثاء الطّريق - لا يخلو عن الحاجة إلى السّكن والرّاحة، والإنسان إنّما يسكن ويستريح عند أهله، وليس للنّائي أهلٌ عند المسجد الحرام، فبدّله الله سبحانه من التّمتّع بالعمرة إلى الحجِّ والإهلال بالحجِّ من المسجد الحرام، من غير أن يسير ثانيًا إلى الميقات»(11).
{واِتّقُوا اللّه واِعْلمُوا أنّ اللّه شدِيدُ الْعِقابِ}. يذكر صاحب (الميزان) في التّعليق على هذه الفقرة من الآية، أنّ «التّشديد البالغ في هذا التّذييل، مع أنّ صدر الكلام لم يشتمل على أزيد من تشريع حكمٍ في الحجِّ، ينبئ عن أنّ المخاطبين كان المترقّب من حالهم إنكار الحكم أو التّوقُّف في قبوله، وكذلك كان الأمر؛ فإنّ الحجّ خاصّةً من بين الأحكام المشرّعة في الدِّين كان موجودًا بينهم من عصر إبراهيم الخليل، معروفًا عندهم، معمولاً به فيهم، قد أنِستْهُ نفوسُهم وألِفتْهُ قلوبهم، وقد أمضاه الإسلام على ما كان تقريبًا إلى آخر عهد النّبيِّ، فلم يكن تغيير وضعه أمرًا هيِّنًا سهل القبول عندهم، ولذلك قابلوه بالإنكار. وكان ذلك غير واقعٍ في نفوس كثيرٍ منهم، على ما يظهر من الرِّوايات، ولذلك اضطرّ النّبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم إلى أن يخطبهم، فيبيِّن لهم أنّ الحكم لله يحكم ما يشاء، وأنّه حكمٌ عامٌّ لا يُستثنى فيه أحدٌ من نبيٍّ أو أُمّةٍ. فهذا هو الموجب للتّشديد الّذي في آخر الآية بالأمر بالتّقوى والتّحذير عن عقاب الله سبحانه»(12).
أمّا تعليقنا على ذلك فهو: أنّ الأمر بالتّقوى، انطلاقًا من العلم بأنّه -تعالى - شديد العقاب، أسلوبٌ قرآنيٌّ درج عليه القرآن في ما يريد الله أن يثيره أمام الإنسان من قضايا الحياة والتّشريع، ليقف الإنسان فيه عند حدود الله من موقع النّفس التّقيّة الّتي تراقب الله وتخاف عقابه. أمّا مناسبة ذلك هنا، فهو الحديث عن تفصيلات تشريع الحجِّ والعمرة من إتمامهما، والحديث عن الحكم في حالة الإحصار وفي حالة الأمن، وعن الحكم في حجِّ التّمتُّع في حالة التّمكُّن من الهدي والعجز عنه؛ فإنّ ذلك كلّه ممّا يوحي بالحاجة إلى الانضباط والالتزام والتّقوى في حدود هذه الأمور ومواردها الشّرعيّة، ويكفي ذلك مناسبةً.
نهْيُ عمر عن متعة الحجِّ
روى البيهقيُّ أنّ عمر بن الخطّاب لما ولي «خطب النّاس فقال: إنّ رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم هذا الرّسول، وإنّ القرآن هذا القرآن، وإنّهما كانتا متعتان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وأنا أنهى عنهما وأعاقب عليهما، إحداهما متعة النِّساء، ولا أقدر على رجلٍ تزوّج امرأةً إلى أجلٍ إلاّ غيّبته بالحجارة، والأخرى متعة الحجِّ. افصلوا حجّكم من عمرتكم؛ فإنّه أتمُّ لحجِّكم وأتمُّ لعمرتكم». وأضاف البيهقيُّ: «أخرجه مسلم في الصّحيح من وجهٍ آخر عن همّام»(13).
وفي هذا الحديث إقرارٌ من عمر بأنّ متعة الحجِّ كانت حلالاً في زمن رسولالله صلى الله عليه وآله وسلم، كما أنّه لم يتحدّث عن نسخٍ لها في زمن النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم ، وإنّما نسب النّهي إلى نفسه. وبذلك لا يكون لهذا النّهي صفةٌ تشريعيّةٌ، بل ولا من حيثُ كونه رواية واحدٍ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في ذلك.
وقد ذكر ابن أبي الحديد في (شرح النّهج) أنّ عمر قال: «إنّما أحلّ الله المتعة للنّاس على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والنِّساء يومئذٍ قليلة. ولذلك روي عنه في متعة الحجِّ أنّه قال: قد علمت أنّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فعلها وأصحابه، ولكن كرهت أن يظلُّوا بها معرِّسين تحت الأراك ثمّ يرجعوا بالحجِّ تقطر رؤوسهم»(14).
ثمّ إنّ جُملةً من الصّحابة قد خالفوه في ذلك، وفي مقدِّمتهم عليُّ بن أبي طالب عليه السلام، فقد روى البيهقيُّ أنّه عليه السلام قال لعمر: «أنهيت عن المتعة؟ قال: لا، ولكنِّي أردت كثرة زيارة البيت، قال: فقال عليٌّ رضى الله عنه: من أفرد الحجّ فحسنٌ، ومن تمتّع فقد أخذ بكتاب الله وسنّة نبيِّه صلى الله عليه وآله وسلم»(15).
وروى النّسائيُّ، عن شعبة بن الحكم، قال: سمعت عليّ بن الحسين يحدِّث عن مروان «أنّ عثمان نهى عن المتعة، وأن يجمع الرّجل بين الحجِّ والعمرة، فقال عليٌّ: لبّيك بحجّةٍ وعمرةٍ معًا، فقال عثمان: أتفعلهما وأنا أنهى عنهما، فقال عليٌّ: لم أكن لأدع سُنّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأحدٍ من النّاس»(16).
وقد نقل البيهقيُّ في روايةٍ عن ابن عمر توضيحًا لنهي عمر، بالإضافة إلى ما ذكرنا، تُشير إلى استناد أبيه في النّهي عن التّمتُّع إلى قوله تعالى: {وأتِمُّوا الْحجّ والْعُمْرة لِلّهِ}، وكأنّه أراد إتمام العمرة بفصلها عن الحجِّ؛ فقد روي عن سالم أنّه «سئل ابن عمر عن متعة الحجِّ فأمر بها، فقيل له: إنّك تخالف أباك، قال: إنّ أبي لم يقل الّذي تقولون، إنّما قال: أفردوا العمرة من الحجِّ، أي: أنّ العمرة لا تتمُّ في شهور الحجِّ إلاّ بهديٍ، وأراد أن يُزار البيتُ في غير شهور الحجِّ، فجعلتموها أنتم حرامًا وعاقبتم النّاس عليها، وقد أحلّها الله عزّ وجلّ وعمل بها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. قال: فإذا أكثروا عليه، قال: أفكتاب الله عزّ وجلّ أحقُّ أن يُتّبع أم عمر؟»(17).
مع العلم أنّ أمره تعالى بإتمام الحجِّ والعمرة لله، إنّما يتحدّث عن إتمامها بعد الإتيان بها، ومع كون العمرة عمرة تمتُّعٍ لا تكون ناقصةً بالإتيان بها على النّحو الّذي أمر به رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. هذا، مضافًا إلى أنّ الآية واردةٌ في تشريع حجِّ التّمتُّع، فكيف تكون ناظرةً إلى العمرة وفصلها عن الحجِّ؟
وثمّة اتِّجاهٌ آخر في تحريم المتعة، وهو ما يرويه مسلمٌ عن أبي ذرِّ أنّه قال: «كانت المتعة في الحجِّ لأصحاب محمّد صلى الله عليه وآله وسلم خاصّةً»(18).
إلاّ أنّ هذا مخالفٌ للآية الكريمة الّتي هي واضحة الدّلالة على التّشريع العامِّ للتّمتُّع، وليس فيها ما يُشير إلى اختصاصها بمن كان معه صلى الله عليه وآله وسلم. وقد نقل ابن قدامة أنّ أحمد بن حنبل قال حين ذُكر له حديث أبي ذرّ: «أفيقول بهذا أحدٌ؟ المتعة في كتاب الله، وقد أجمع المسلمون على جوازها. فإن قيل: فقد روى أبو داود بإسناده عن سعيد بن المسيّب أنّ رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أتى عمر، فشهد عنده أنّه سمع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ينهى عن العمرة قبل الحجِّ، قُلنا: هذا حاله في مخالفة الكتاب والسُّنّة والإجماع كحال حديث أبي ذرّ، بل هو أدنى حالاً؛ فإنّ في إسناده مقالاً»(19).
ويضيف صاحب (المغني) فيقول: «فإن قيل: فقد نهى عنها عمر وعثمان ومعاوية. قلنا: فقد أنكر عليهم علماء الصّحابة نهيهم عنها، وخالفوهم في فعلها، والحقُّ مع المنكرين عليهم دونهم؛ قد ذكرنا إنكار عليٍّ على عثمان، واعتراف عثمانٍ له، وقول عمران بن حصين منكرًا لنهي من نهى، وقول سعد عائبًا على معاوية نهيه عنها، وردّهم عليهم بحججٍ لم يكن لهم جوابٌ عنها. بل قد ذكر بعض من نهى عنها في كلامه ما يردُّ نهيه، فقال عمر: والله إنِّي لأنهاكم عنها، وإنّها لفي كتاب الله، وقد صنعها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. ولا خلاف في أنّ من خالف كتاب الله وسنّة رسوله ونهى عمّا فيهما حقيقٌ بأن لا يُقبل نهيه ولا يُحتجّ به. مع أنّه قد سأل سالمُ بن عبدالله ابن عمر: أنهى عمر عن المتعة؟ قال: لا والله ما نهى عنها عمر، ولكن قد نهى عثمان. وسئل ابن عمر عن متعة الحجِّ فأمر بها فقيل: إنّك تخالف أباك قال: إنّ عمر لم يقل الّذي يقولون. ولمّا نهى معاوية عن المتعة أمرت عائشة حشمها ومواليها أن يهلُّوا بها، فقال معاوية: من هؤلاء؟ فقيل حشم أو موالي عائشة، فأرسل إليها: ما حملك على ذلك؟ قالت: أحببت أن يُعلم أنّ الّذي قلت ليس كما قلت. وقيل لابن عبّاس إنّ فلانًا ينهى عن المتعة، قال: انظروا في كتاب الله، فإن وجدتموها فيه فقد كذب على الله وعلى رسوله، وإن لم تجدوها فقد صدق. فأيُّ الفريقين أحقُّ بالاتِّباع وأولى بالصّواب؟ الّذين معهم كتاب الله وسُنّة رسوله، أم الّذين خالفوهما؟ ثمّ قد ثبت عن النّبيِّ صلى الله عليه وآله وسلم، الّذي قوله حجّةٌ على الخلق أجمعين، فكيف يُعارض بقول غيره؟!»(20).
وقال النّوويُّ في (المجموع): «إنّ العمرة إنّما يُتمتّع بها إلى الحجِّ، والتّمتُّع لا يتمُّ إلاّ بالهدي أو الصِّيام إذا لم يجد هديًا، والعمرة في غير أشهر الحجِّ تتمُّ بلا هديٍ ولا صيام، فأراد عمر بترك التّمتُّع إتمام العمرة كما أمر الله تعالى بإتمامها، وأراد أيضًا أن تُكرّر زيارة الكعبة في كلِّ سنةٍ مرّتين، فكره التّمتُّع لئلاّ يقتصروا على زيارةٍ مرّةً، فتردّد الأئمّة في التّمتُّع، حتّى ظنّ النّاس أنّ الأئمّة يرون ذلك حرامًا. قال: ولعمري، لم ير الأئمّة ذلك حرامًا ولكنّهم اتّبعوا ما أمر به عمر رضى الله عنه إحسانًا للخير»(21).
ولعلّ في هذا المقدار كفايةً فيما يخصُّ الإشارة إلى الاتِّجاهات المتعارضة مع إطلاق الآية. وتفصيل الكلام في ذلك يُرجع فيه إلى محلِّه في الفقه.
لا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحجِّ
{الْحجُّ أشْهُرٌ معْلُوماتٌ}. الأشهر الّتي يجوز فيها الإحرام للحجِّ ثلاثة: شوال، وذو القعدة، وذو الحجّة إلى اليوم التّاسع منه. {فمنْ فرض فِيهِنّ الْحجّ}، أي: فإذا فرض الإنسان فيها على نفسه الحجّ بالإحرام، فيجب عليه أن يلتزم بمحرّمات الإحرام الّتي تقف في مقدِّمتها هذه الثّلاثة؛ لأهمِّيّتها في المجال التّربويِّ في حياة الإنسان، وقد فُسِّرت في السُّنّة الشّريفة(22).
{فلا رفث} الّذي كنِّي به عن الجماع، {ولا فُسُوق}الّذي فُسِّر بالكذب وبالسُّباب وبالمفاخرة(23). ولكن قد يستقرب الإنسان أن يكون المراد بالفسوق كلّ المعاصي المنهيِّ عنها، فتشمل البذاء، والكلام القبيح، وجميع الكبائر؛ لاقتضاء مفهوم الفسوق ذلك. وأمّا ما ورد في الرِّوايات، ممّا اقتُصر فيه على الكذب والسُّباب والمفاخرة، فهو من باب المصداق لا الحصر.
{ولا جِدال فِي الْحجِّ}، وفُسِّر الجدال بقول: لا والله وبلى والله. وخصوصيّة الجدال أنّه قد يثير في الإنسان نوازعه الذّاتيّة أمام الآخر، ما قد يلتقي بالتّكبُّر أو التّعصُّب أو الحقد على الآخر، ممّا لا يلتقي مع أجواء السّلام والانفتاح الّتي أرادها الله تعالى أن تتأكّد في الحجِّ. والّذي يقتضيه التّأمُّل في مفهوم الجدال مع ملاحظة مع ما ورد في الرِّوايات، أنّ الجدال المحرّم في حال الإحرام هو ما كان مشتملاً على الحلف بالله تعالى في مقام الإخبار عن ثبوت أمرٍ ونفيه، إذا كان ذلك في مقام المخاصمة.
ومن الجدال أيضًا، ما يكون الحلف فيه بغير الصِّيغتين المذكورتين، فيكفي مطلق اليمين به تعالى، سواءً كان بلفظ الجلالة أو بغيره، وسواءً كانت الصِّيغة مصدّرةً بـ «لا» و«بلى» أو بغير ذلك، وسواءً كانت باللُّغة العربيّة أو بغيرها من اللُّغات؛ فإنّ هذا ما يقتضيه إطلاق مفهوم الجدال، مع عدم فهم أيِّ خصوصيّةٍ للصِّيغتين المذكورتين بحدودهما اللّفظيّة.
ومن ذلك يتّضح أنّه ليس من مصاديق المفهوم الحلف بالله تعالى لغير الإخبار، كما في يمين المناشدة، كقول السّائل: أسألك بالله كذا، أو ما يقع تأكيدًا لما التزم به الإنسان من إيقاع أمرٍ أو تركه في المستقبل، ممّا يُصطلح عليه بيمين العقد، كقول القائل: واللهِ لأفعلنّ كذا.
{وما تفْعلُوا مِنْ خيْرٍ يعْلمْهُ اللّهُ}. ختمت هذه الآية بالتّذكير بأنّ الأعمال الخيِّرة الّتي يقوم بها الإنسان لا تغيب عن علم الله الّذي لا يعزب عن علمه مثقال ذرّةٍ؛ وذلك من أجل أن يشعر بالحاجة إلى الإخلاص في عمله عندما يحسُّ بأنّه موضع رقابة الله، ومن أجل أن يعينه ذلك على الاستمرار والزِّيادة؛ لأنّه بعين الله الّذي يقدِّر لكلِّ إنسانٍ جهده وعمله؛ لأنّ الله لا يُضيع عمل عاملٍ من النّاس، من ذكرٍ أو أنثى، فيدفعه ذلك إلى تحمُّل الصُّعوبات والمشاقِّ الكثيرة في سبيل الله طمعًا في ثواب الله ورضاه.
{وتزوّدُوا فإِنّ خيْر الزّادِ التّقْوى}؛ فهو الّذي يبقى للإنسان بعد موته فيجده عند الله محضرًا، وقد جاء في قوله تعالى: {الْمالُ والْبنُون زِينةُ الْحياةِ الدُّنْيا والْباقِياتُ الصّالِحاتُ خيْرٌ عِنْد ربِّك ثواباً وخيْرٌ أملاً}[الكهف: 46]، وهو الّذي تلتقي فيه الدُّنيا والآخرة في التقاء العمل الصّالح بعواقبه الطّيِّبة، والمسؤوليّة بنتائجها الخيِّرة.
ثمّ أكّد الموضوع بكلمةٍ تحمل الكثير من المعاني الحميمة الّتي تربط الخالق بالمخلوقين؛ لأنّها تمثِّل دعوته الرّحيمة في أن يعيشوا الجوّ الحميم بالحاجة إلى الإحساس بوجود الله وحضوره في وعيهم، الّذي يؤدِّي إلى الالتزام بخطِّ التّقوى عندهم: {واِتّقُونِ يا أُولِي الْألْبابِ}. وكان هذا النِّداء انطلاقةً رائعةً توحي للإنسان بأنّ كلّ هذه القضايا هي من وحي العقل الّذي لا يدعو إلاّ إلى ما فيه الخير، كلُّ الخير، في الدُّنيا والآخرة، ليستنفر الإنسان عقله في كلِّ وقتٍ، فلا يغيب عنه في أيِّ مجال، حتّى لا تنهار حياته في لحظات الجنون.
لا جناح في الاتِّجار بعد إتمام الحجِّ
{ليْس عليْكُمْ جُناحٌ أنْ تبْتغُوا فضْلاً مِنْ ربِّكُمْ}. ورد في بعض الأحاديث المأثورة عن أئمّة أهل البيت عليهم السلام أنّ هذه الفقرة واردةٌ لبيان الرُّخصة للمؤمنين في ممارسة الأعمال التِّجارية بعد فراغهم من الحجِّ؛ لأنّهم كانوا يشعرون بالحرج في ذلك، وربّما كانوا يعانون من الشُّعور بعقدة الذّنب في حال ممارستهم لها. من ذلك ما رواه العيّاشيُّ، عن عمر بن يزيد، عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام ، قال: «يعني الرِّزق. إذا أحلّ الرّجل من إحرامه وقضى نسكه فليشترِ وليبع في الموسم»(24).
وهذا المعنى الّذي ذكرناه ظاهرٌ من الآية من خلال التّعبير بعبارة: {ليْس عليْكُمْ جُناحٌ}، المشعرة بأنّ هناك إحساسًا لديهم بوجود شيءٍ من هذا القبيل، ولأنّ التّعبير عن السّعي في طلب الرِّزق بالابتغاء من فضل الله، هو من التّعابير القرآنيّة المألوفة، كما ورد في قوله تعالى في سورة الجمعة: {فإِذا قُضِيتِ الصّلاةُ فانْتشِرُوا فِي الْأرْضِ واِبْتغُوا مِنْ فضْلِ اللّهِ واُذْكُرُوا اللّه كثِيراً لعلّكُمْ تُفْلِحُون}[الجمعة: 10].
وربّما يكون في هذا التّعبير إشارةٌ إلى أنّ طلب الرِّزق لا يتنافى مع الأجواء النّفسيّة الرُّوحيّة الّتي يحصل عليها من العبادة؛ لأنّه طلبٌ من فضل الله، كما أنّ العبادة انطلاقٌ في آفاق الله. وقد ورد في بعض الأحاديث اعتبار طلب الحلال عبادةً تُقرِّب الإنسان إلى الله، فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّ «العبادة سبعون جزءًا أفضلها طلب الحلال»(25).
وفي ضوء ذلك، يمكننا فهم الواقعيّة الإسلاميّة في خطِّ التّشريع العباديِّ في امتثال الحجِّ، الّذي يختلف عن الصّلاة والصّوم بأنّه عبادةٌ متحرِّكةٌ في انطلاق النّاس من كلِّ مكانٍ في العالم إلى البيت الحرام الّذي يؤدّون فيه، أو قريبًا منه، مناسك حجِّهم في أعمالٍ معيّنةٍ وأوقات محدودةٍ، لا تتنافى مع القيام بنشاطٍ آخر يتّصل بالجانب الاقتصاديِّ الّذي قد تُتاح فيه للنّاس هناك أكثر من فرصةٍ لإقامة علاقاتٍ تجاريّةٍ مع بعضهم البعض، بحيث توفِّر عليهم قطع المسافات البعيدة الّتي قد يضطرُّون إلى الذّهاب إليها في مجالٍ آخر، كما يمكنهم فيه ممارسة التِّجارة الفعليّة، مستفيدين من هذا الموسم العالميِّ الّذي يلتقي فيه النّاس من سائر أنحاء العالم ليشتروا ما يحتاجون إليه من الأغذية والألبسة والهدايا الّتي يأخذونها معهم إلى أهلهم. وهكذا نجد أنّ موسم الحجِّ يساهم في إيجاد «سوق إسلاميّة» منفتحة على النّشاط التِّجاريِّ الفعليِّ، والعلاقات الاقتصاديّة بين رجال الأعمال من مختلف الشُّعوب الإسلاميّة، الّتي قد تتحوّل إلى علاقاتٍ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ وثقافيّةٍ في تطوُّرها العمليِّ في نهاية المطاف.
وقد جاء في رواية هشام بن الحكم عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام ما يشير إلى ذلك، فقد سأله عن العلّة الّتي من أجلها كلّف الله العباد الحجّ والطّواف بالبيت، فقال عليه السلام: «إنّ الله خلق الخلق... وأمرهُم ونهاهُم بما يكون من أمر الطّاعة في الدِّين، ومصلحتهم من أمر دنياهم، فجعل فيه الاجتماع من المشرق والمغرب ليتعارفوا، وليتربّح كلُّ قومٍ من التِّجارات من بلدٍ إلى بلد، ولينتفع بذلك المكاريُّ والجمّال، ولتُعرف آثار رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وتُعرف أخباره، ويُذكر ولا يُنسى، ولو كان كلُّ قومٍ إنّما يتّكلون على بلادهم وما فيها هلكوا، وخربت البلاد وسقط الجلبُ والأرباح، وعميت الأخبار ولم يقفوا على ذلك؛ فذلك علّة الحجِّ»(26).
وهذا ما يؤكِّد خطّ التّوازن الإسلاميِّ في وعي مسألة الدُّنيا في حاجاتها، والآخرة في غاياتها؛ فليس هناك تناقضٌ بينهما. بل إنّ السّير في خطِّ التّشريع الإسلاميِّ يضمن للإنسان الدُّنيا والآخرة، فتكون الدُّنيا مزرعةً للآخرة، وتكون الآخرة غايةً تحقِّق للدُّنيا طهارتها وصفاءها وحركيّتها في طريق الله.
في عرفات والمشعر الحرام
{فإِذا أفضْتُمْ مِنْ عرفاتٍ}. من أعمال الحجِّ أن يقف النّاس في عرفات، من زوال اليوم التّاسع من ذي الحجّة إلى الغروب منه، وقفةً خاشعةً، فيها الكثير من العبادة والتّأمُّل والنّفاذ إلى أعماق الرُّوح في لحظة صفاءٍ ونقاءٍ... إنّها وقفة الحياة أمام الله، تستلهمه وتستهديه وتفتح قلبها أمامه، في آلامها وآمالها، من أجل أن يلهمها الصّواب في ما تفكِّر، ويهديها الصِّراط المستقيم، ويجعل لها من أمرها يسرًا، فيكشف عنها آلامها ويحقِّق لها أحلامها.
وقد نستوحي كلّ ذلك من ملاحظة أنّ النُّسك - هنا - هو الوقوف في عرفات، تمامًا كما لو أنّ الإنسان يعيش في رحلةٍ طويلةٍ تُجهده، وتُتعبه، وتُكلِّفه الكثير من الخسائر، وتُواجهه بالكثير ممّا يقوم به من أعمال ومشاريع... فيشعر بالحاجة إلى وقفةٍ يتخفّف فيها من متاعبه، ويراجع فيها حساباته، ويعرف فيها ماذا بقي له من الرِّحلة وما مضى منها، ليبدأ من موقع التّجدُّد الرُّوحيِّ الّذي يملأ كيانه في رحلةٍ جديدةٍ واعيةٍ لكلِّ أوضاع الحاضر والمستقبل.
ويفيض الحاجُّ من عرفات بعد أن يستكمل هذا الموقف الرُّوحيّ في التّأمُّل الخاشع، والدُّعاء المنفتح على الله، والصّلاة السّابحة في آفاقه، لينتقل إلى فريضةٍ أخرى مماثلة، ولكن في مكانٍ آخر: {فاذْكُرُوا اللّه عِنْد الْمشْعرِ الْحرامِ}، الّذي يجب فيه الوقوف من جديدٍ من طلوع الفجر يوم العيد إلى طلوع الشّمس -على مذهب الإماميّة- وفي ما بين الطُّلوعين -على رأي الآخرين-. وهي وقفةٌ جديدةٌ في وقتٍ جديد، يعيش الإنسان فيها ذكر الله الّذي هدانا إلى طريق الحقِّ بعد أن كُنّا من قبله من الضّالِّين.
{واُذْكُرُوهُ كما هداكُمْ وإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قبْلِهِ لمِن الضّالِّين}، فنعرف بذلك نعمة الهدى ونتلمّس فيه معنى النِّعمة، في ما يوحيه للإنسان من معاني الرِّضا والرُّوح والطُّمأنينة، ويُبعده عن نوازع الشّكِّ والقلق والضّياع، ويوجِّهه إلى الحياة الرّحبة الطّاهرة الخالية من كلِّ دنسٍ أو رجسٍ أو التواء، والقريبة إلى الحبِّ والخير والسّلام، أو يؤدِّي به -في نهاية المطاف - إلى عفو الله ورضوانه في جنّةٍ عرضها السّماوات والأرض، قد أُعدّت للمتّقين، ما يضمن له خير الدُّنيا والآخرة. وينطلق ليتعرّف -في مقابل ذلك- النّتائج السّلبيّة للضّلال في داخل النّفس وخارجها، في الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، في الدُّنيا وفي الآخرة. وبذلك يحسُّ بالشُّكر العميق لنعمة الهدى، ويعيش الشُّعور بالامتنان لله الّذي وهبه هذه النِّعمة بأكثر ممّا يحسُّ به إزاء النِّعم المادِّيّة الّتي وهبها له في هذه الحياة.
ولعلّ في التّذكير بحالة الضّلال دعوةً إلى أن يدخل الإنسان في عمليّة مقارنةٍ بين حياته في داخل أجواء الضّلال وبين حياته في أجواء الهدى، ليعرف نعمة الهدى من مواقع حياته الطّبيعيّة، لا من مواقع الفكر والنّظريّة فحسب.
إلغاء النّوازع الطّبقيّة
{ثُمّ أفِيضُوا مِنْ حيْثُ أفاض النّاسُ}. يُقال إنّ قريشًا كانت لا تُفيض من حيث يفيض النّاس؛ لأنّها تشعر بموقعها المميّز الّذي يختلف عن مواقع النّاس من حيث العلوُّ والرِّفعة والكبرياء، فكانت لا تقف بعرفات. وقد جاء في ما رواه ابن جرير الطّبريُّ عن ابن عبّاس: «كانت العرب تقف بعرفة، وكانت قريش تقف دون ذلك بالمزدلفة، فأنزل الله: {ثُمّ أفِيضُوا مِنْ حيْثُ أفاض النّاسُ}»(27).
لقد جاءت هذه الآية لتُلغي من نفوسهم كلّ هذه النّوازع الطّبقيّة الّتي تدفعهم إلى الاستعلاء على الآخرين، ولا سيّما في مثل هذا الموقف الّذي أراده الله من أجل إلغاء كلِّ الفوارق الّتي تميِّزهم عن بعضهم البعض، ليشعروا بالصِّفة الواحدة الّتي تجمعهم أمام الله، وهي أنّهم عباد الله الواحد الأحد، فلا فضل لأحدٍ على أحدٍ إلاّ بالتّقوى، فلا معنى -بعد ذلك- لأن يميِّز أحدٌ نفسه عن أخيه في موقعٍ أو في ظرفٍ، انطلاقًا من الشُّعور بالتّفوُّق والكبرياء.
وهناك تفسيرٌ آخر للآية: وهو «أنّ المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النّحر قبل طلوع الشّمس للرّمي والنّحر. عن الجبائيِّ، قال: والآية تدلُّ عليه؛ لأنّه قال: {فإِذا أفضْتُمْ مِنْ عرفاتٍ}، ثمّ قال: {ثُمّ أفِيضُوا}؛ فوجب أن يكون إفاضةً ثانيةً، فدلّ ذلك على أنّ الإفاضتين واجبتان؛ والنّاس، المراد به إبراهيم،كما أنّه في قوله: {الّذِين قال لهُمُ النّاسُ}[آل عِمران: 173] نعيمبن مسعود الأشجعيُّ»(28).
ولعلّ الوجه الأوّل أقرب وأظهر؛ لأنّ إرادة شخصٍ واحدٍ من النّاس خلاف الظّاهر، فلا يُصار إليه إلاّ بدليل، ولا دليل هنا على ذلك. كما لا دليل فيها على أنّ هناك إفاضتين؛ لأنّ كلمة «الإفاضة من عرفات» ذُكرت لبيان التّشريع، أمّا الآية الثّانية فربّما وردت لبيان الطّريق الّذي يسلكه الحُجّاج في الإفاضة وهو الطّريق العامُّ.
{واِسْتغْفِرُوا اللّه}. ودعاهم بعد ذلك إلى أن يستغفروه من كلِّ ما يمكن أن يحدث في أنفسهم من المشاعر السّلبيّة البعيدة عن خطِّ الإيمان وروحيّته، ووعدهم بالمغفرة والرّحمة: {إِنّ اللّه غفُورٌ رحِيمٌ}؛ لأنّ الرّحمة والمغفرة من صفاته الذّاتيّة الّتي امتنّ بها على عباده ليُدخلهم في رحمته ورضوانه.
الدُّعاء بين نموذجين من النّاس
{فإِذا قضيْتُمْ مناسِككُمْ فاذْكُرُوا اللّه كذِكْرِكُمْ آباءكُمْ أوْ أشدّ ذِكْراً}. يُقال: إنّ النّاس كانوا إذا قضوا مناسك حجِّهم، جلسوا يسمرون، ويمتدُّ بهم الأمر إلى أن يثيروا أحاديث آبائهم، فيتذكّروا مواقفهم وأوضاعهم وأمجادهم، وبذلك ينفصلون عن الجوِّ الرُّوحيِّ الّذي كانوا يعيشونه من خلال الحجِّ، ولكنّ الله يريد منهم أن لا يجعلوا الحجّ مجرّد موسمٍ أو مناسبةٍ يذكرون فيها اسم الله، ثمّ تقف القضيّة عند هذا الحدِّ، فلا يبقى لله أيُّ حضورٍ في نفوسهم أو ألسنتهم، بل يكون دوره أن يفتح قلوبهم على الله في امتدادٍ روحيٍّ مستمرٍّ، لا ينتهي إلاّ ليبدأ من جديدٍ، حتّى يصبح ذكر الله -بعد الحجِّ- ملحًّا بالمستوى الّذي لا يدانيه ذكر أيِّ إنسانٍ آخر حتّى في مستوى الآباء.
ونقف - في هذا المجال - على نموذجين من النّاس:
الأوّل: الّذي يصدق عليه قوله تعالى: {فمِن النّاسِ منْ يقُولُ ربّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وما لهُ فِي الْآخِرةِ مِنْ خلاقٍ}، النّموذج الّذي إذا ذكر الله وأراد أن يدعوه في موقفه هذا، لم يذكر إلاّ حياته الدُّنيا، وشهواته فيها، ومطامعه، ومطامحه، من دون أن يفكِّر في الآخرة من قريبٍ أو من بعيدٍ. فهو يطلب من الله أن يؤتيه الدُّنيا ويقف عندها جامد الإحساس، جائع الأحلام، ظامئ المشاعر. ولا نصيب لهذا في الآخرة؛ لأنّها ليست واردةً في حسابه على كلِّ حال، ولذلك فإنّ الله لا يحسب حسابه في ثوابه ورضوانه.
الثّاني: هو مصداق قوله تعالى: {ومِنْهُمْ منْ يقُولُ ربّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حسنةً وفِي الْآخِرةِ حسنةً وقِنا عذاب النّارِ}، النّموذج الّذي يتمسّك بالخطِّ الإسلاميِّ المتوازن الّذي يجمع بين الدُّنيا والآخرة، فهو يعتبر الدُّنيا حقلاً من حقول العمل الّتي أراد الله للإنسان أن يعيش فيها حياةً طيِّبةً، يمارس فيها الطّيِّبات، ويُقبل فيها على ما أحلّه الله له من شهواتٍ وملذّاتٍ، ولهذا فهو يطلب من الله أن يؤتيه في الدُّنيا حسنةً، ثمّ يرى أنّ الآخرة هي نهاية المطاف، فهي دار المصير الّذي يجد فيه كلُّ إنسانٍ دار خلوده في الجنّة أو في النّار، ولذلك فهو يطلب من الله أن يؤتيه فيها حسنة. ومثل هذا النّموذج قريبٌ إلى الله.
{أُولئِك لهُمْ نصِيبٌ مِمّا كسبُوا}من أعمالهم الصّالحة في الدُّنيا، فيجدون أمامهم الجزاء الكبير في دنياهم وآخرتهم. {واللّهُ سرِيعُ الْحِسابِ}، يعلم ما يستحقُّه عباده نتيجة أعمالهم، فيعطي كلاًّ منهم الجزاء العادل في جانب الخير أو في جانب الشّرِّ.
الجانب التّربويُّ في الدُّعاء
وفي هذا الجوِّ الّذي تثيره الآيتان، نستوحي الجانب التّربويّ في الدُّعاء، حيث ينبغي أن يعيش الإنسان فيه كلّ قضاياه الملحّة الّتي يعيشها في فكره ووجدانه وحياته، بحيث يكون الدُّعاء صورةً حيّةً لكلِّ منطلقاته في الحياة، فيلتفت إلى شؤون الآخرة كما يلتفت إلى شؤون الدُّنيا، ليطّلع الله على قلبه فيجد فيه صدق التّوجُّه إلى الإسلام في أمور حياته، من خلال وعيه لكلِّ الجوانب الّتي تحكم شؤون الحياة، فيطلبها منه كما يطلب الإنسان الأشياء الضّروريّة الّتي لا غنى له عنها، وفي ضوء ذلك يزداد إحساسه بالآخرة كما لو كانت حاجةً مهمّةً من حاجاته الذّاتيّة، بحيث يتفجّر الشُّعور بها في دعاءٍ خاشعٍ متضرِّعٍ بين يدي الله.
وهذا ما نجده في الأدعية القرآنيّة، وأدعية النّبيِّ محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم والأئمّة من أهل بيته عليهم السلام ، ولا سيّما أدعية الإمام زين العابدين عليه السلام في (الصّحيفة السّجّاديّة) وفي غيرها؛ فإنّها جامعةٌ لمطالب الدُّنيا والآخرة في جوٍّ واحدٍ، كدلالةٍ على وحدة الانطلاقة فيهما معًا.
واذكروا اللّه في أيّامٍ معدوداتٍ
{واُذْكُرُوا اللّه فِي أيّامٍ معْدُوداتٍ}. الظّاهر أنّ الأيّام المعدودات هي أيّام التّشريق من ذي الحجّة، وهي الحادي عشر والثّاني عشر والثّالث عشر منه، وهي الّتي فُرض فيها المبيت في منى. {فمنْ تعجّل فِي يوْميْنِ فلا إِثْم عليْهِ}، بأن ينفر في اليوم الثّاني عشر، {ومنْ تأخّر فلا إِثْم عليْهِ}، في أن يبقى إلى اليوم الثّالث عشر. وليس في الآية ما يدلُّ على شرط البقاء أو شرط التّخيير.
أمّا كلمة {لِمنِ اِتّقى}، فقد وردت في تفسيرها عدّة روايات؛ فعن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام أنّه قال: «من أتى النِّساء في إحرامه لم يكن له أن ينفر في النّفر الأوّل»(29). وفي روايةٍ أخرى عنه عليه السلام فسّرها باتِّقاء «الصّيد، يعني في إحرامه؛ فإن أصابه لم يكن له أن ينفر في النّفر الأوّل»(30). وفي روايةٍ ثالثةٍ: «إذا أصاب المحرم الصّيد فليس له أن ينفر في النّفر الأوّل. ومن نفر في النّفر الأوّل فليس له أن يصيب الصّيد حتّى ينفر النّاس، وهو قول الله تعالى: {فمنْ تعجّل فِي يوْميْنِ فلا إِثْم عليْهِ ومنْ تأخّر فلا إِثْم عليْهِ لِمنِ اِتّقى}، قال: اتّقى الصّيد»(31).
ولكن ورد عن الإمام محمّد الباقر عليه السلام: «{لِمنِ اِتّقى} الرّفث والفسوق والجدال، وما حرّم الله عليه في إحرامه»(32). وفي روايةٍ أخرى عنه عليه السلام قال: «{لِمنِ اِتّقى} الله عزّ وجلّ»(33). وعن محمّد بن مسلم، قال: «سألت أبا جعفر عليه السلام عن قول الله: {فمنْ فرض فِيهِنّ الْحجّ فلا رفث ولا فُسُوق ولا جِدال فِي الْحجِّ}، قال: يا محمّد، إنّ الله اشترط على النّاس شرطًا وشرط لهم شرطًا، فمن وفى لله وفى الله له، قلت: فما الّذي اشترط عليهم، وما الّذي شرط لهم؟ قال: أمّا الّذي اشترط عليهم، فإنّه قال: {الْحجُّ أشْهُرٌ معْلُوماتٌ فمنْ فرض فِيهِنّ الْحجّ فلا رفث ولا فُسُوق ولا جِدال فِي الْحجِّ}، وأمّا ما شرط لهم، فإنّه قال: {فمنْ تعجّل فِي يوْميْنِ فلا إِثْم عليْهِ ومنْ تأخّر فلا إِثْم عليْهِ لِمنِ اِتّقى}؛ قال: يرجع لا ذنب له»(34).
واللاّفت أنّه يلوح من بعض الرِّوايات اعتبار أنّ كون المقصود اتِّقاء الصّيد هو ممّا لا يلتزم به أهل البيت عليهم السلام ، وذلك في ما رواه سفيان بن عيينة عن الإمام جعفر الصّادق عليه السلام أنّه قال: «ومؤمنٌ غفر الله ما تقدّم من ذنبه وقيل له: أحسن فيما بقي، فذلك قوله: {فمنْ تعجّل فِي يوْميْنِ فلا إِثْم عليْهِ ومنْ تأخّر فلا إِثْم عليْهِ لِمنِ اِتّقى}الكبائر. وأمّا العامّة فإنّهم يقولون: {فمنْ تعجّل فِي يوْميْنِ فلا إِثْم عليْهِ ومنْ تأخّر فلا إِثْم عليْهِ لِمنِ اِتّقى}الصّيد، أفترى أنّ الله تبارك وتعالى حرّم الصّيد بعدما أحلّه؛ لقوله: {وإِذا حللْتُمْ فاصْطادُوا}، وفي تفسير العامّة معناه: فإذا حللتم فاتّقوا الصّيد»(35).
قال الشّيخ الطُّوسيُّ رحمه الله: «وقوله تعالى: {لِمنِ اِتّقى}؛ قيل: فيه قولان: أحدهما:
لمّا قال: {فلا إِثْم عليْهِ} دلّ على وعده بالثّواب، فقيّد ذلك بالتّقوى لله تعالى؛ لئلاّ يُتوهّم أنّه بالطّاعة في النّفر فقط. والثّاني: إنّه لا إثم عليه في تعجُّله إذا لم يعمل لضربٍ من ضروب الفساد، ولكن لاتِّباع إذن الله فيه. وقالوا: معنى تجديد الأمر بالتّقوى - ها هنا - التّحذير من الاتِّكال على ما سلف من أعمال البرِّ في الحجِّ، فبيّن أنّ عليهم مع ذلك ملازمة التّقوى ومجانبة المعاصي.
وروى أصحابنا أنّ قوله: {لِمنِ اِتّقى} متعلِّقٌ بالتّعجُّل في اليومين، وتقديره: {فمنْ تعجّل فِي يوْميْنِ فلا إِثْم عليْهِ} لمن اتّقى الصّيد إلى انقضاء النّفر الأخير وما بقي من إحرامه، ومن لم يتّقها، فلا يجوز له النّفر في الأوّل. وهو اختيار الفرّاء، والمرويُّ عن ابن عبّاس. ورُوي عن أبي عبدالله عليه السلام في قوله تعالى: {فمنْ تعجّل فِي يوْميْنِ}، أي: مات في هذين اليومين فقد كُفِّر عنه كلُّ ذنبٍ، {ومنْ تأخّر}، أي: أُنسئ أجله، {فلا إِثْم عليْهِ} بعدها إذا اتّقى الكبائر»(36).
وقال الزّمخشريُّ في (الكشّاف): « {لِمنِ اِتّقى}، أي: ذلك التّخيير. ونفي الإثم عن المتعجِّل والمتأخِّر لأجل الحاجِّ المتّقي؛ لئلاّ يتخالج في قلبه شيءٌ منهما، فيحسب أنّ أحدهما يرهق صاحبه آثام في الإقدام عليه؛ لأنّ ذا التّقوى حذرٌ متحذِّرٌ من كلِّ ما يريبه، ولأنّه هو الحاجُّ على الحقيقة عند الله»(37).
وقال في (مجمع البيان): «وقوله: {لِمنِ اِتّقى} فيه قولان: أحدهما: إنّ الحجّ يقع مبرورًا مكفِّرًا للسّيِّئات إذا اتّقى ما نهى الله عنه. والآخر: ما رواه أصحابنا أنّ قوله: {لِمنِ اِتّقى} متعلِّقٌ بالتّعجيل في اليومين، وتقديره: {فمنْ تعجّل فِي يوْميْنِ فلا إِثْم عليْهِ} لمن اتّقى الصّيد إلى انقضاء النّفر الأخير، وما بقي من إحرامه، ومن لم يتّقها فلا يجوز النّفر في الأوّل. وهو المرويُّ عن ابن عبّاس، واختاره الفرّاء. وقد روي أيضًا عن أبي عبدالله عليه السلام»، وذكر الحديث الّذي ذكره (التِّبيان)(38).
والأقرب أنّ قوله تعالى: {لِمنِ اِتّقى}، لبيان أنّ عدم الإثم في صورتي التّعجيل والتّأخير ليس مطلقًا، وإنّما هو مشروطٌ بالتّقوى الّتي يقف فيها الحاجُّ عند الحدود الّتي وضعها له، في حجِّه وفي غير حجِّه. وبعبارةٍ أخرى: الآية تبيِّن أنّ من أهم نتائج الحجِّ هو أنّ الحاجّ يرجع مغفورًا له ذنبه، ويقال له: استأنف العمل من جديد. ولكنّ هذا إنّما يكون للحاجِّ المتّقي الّذي لم يتعدّ حدود الله، فاحتيج إلى هذا القيد لئلاّ يتوهّم أنّ مجرّد الحجِّ كافٍ في حصول المغفرة.
وأمّا ما ورد في أنّ المقصود الصّيد أو النِّساء أو غيرهما، فباعتبار أنّ اتِّقاء ذلك من مصاديق التّقوى؛ لأنّها الحدود الّتي وضعها الله تعالى للمُحرم، ولا سيّما أنّ بعض الرِّوايات السّابقة عمّمت المسألة إلى كلِّ ما حرّم الله على المحرم في إحرامه. والله العالم.
{واِتّقُوا اللّه}. وعادت الآية من جديدٍ للدّعوة إلى التّقوى بقولٍ مطلقٍ في جميع أعمال الإنسان في حال الحجِّ وغيره، والتّأكيد على ذلك بالإعلام بالحقيقة الإيمانيّة، {واِعْلمُوا أنّكُمْ إِليْهِ تُحْشرُون}؛ فإنّ الخلق كلّهم يُحشرون إلى الله، ليواجهوا جزاء أعمالهم من خيرٍ أو شرٍّ؛ فإنّ استثارة هذه الحقيقة في وعي الإنسان يُعتبر عاملاً كبيرًا في تنمية روح التّقوى في نفسه وحياته.
ولعلّ البقاء في منى هذه الأيّام أو اللّيالي بعد انتهاء أعمال الحجِّ يُعتبر انطلاقةً روحيّةً تأمُّليّةً، يعيش فيها الإنسان حضور الله في نفسه؛ بما يثيره من ذكر، وبما يهجس فيه من فكر، وبما يعيشه من تأمُّلاتٍ، وذلك في عمليّة مراجعةٍ لحسابات أعماله في الماضي والحاضر في طريق تنمية أعمال المستقبل، وليحصل له، من خلال ذلك، النّتائج الرُّوحيّة والعمليّة من خلال أفعال الحجِّ عندما يستحضرها في نفسه في عمليّة تقويمٍ تفصيليّةٍ يدرك فيها طبيعة هذه الأفعال في ما أخلص فيه، وما أتمّه منها وما قصّر فيه، ليرجع من حجِّه واثقًا بالنّتائج الكبيرة على مستوى الإيمان في الدُّنيا والآخرة، ونِعم أجرُ العاملين.
الهوامش:
(1) الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 36.
(2) م. ن، ص 43.
(3) انظر: م. ن، ص 44 - 45.
(4) وهو ما يساوي: 5.13 كلم تقريبًا. طبعًا هذا في القديم، أمّا في زماننا فإنّ بعض أحياء مكّة قد اتّصلت ببعض أطراف مزدلفة.
(5) مثل ما روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم وعن أهل بيته عليهم السلام ، في: الصّفّار، أبو جعفر محمد بن الحسن بن فرُّوخ (ت290هـ-)، بصائر الدّرجات الكبرى، مؤسسة الأعلمي، طهران - إيران، 1404 هـ-، ص 22 - 23، ح1إلى ح 5: «طلب العلم فريضة». وما ورد في: الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 5، ص 88، ح 1، عن الصّادق عليه السلام: «الكادُّ على عياله كالمجاهد في سبيل الله». وفيه: م. ن، ج 2، ص 79، ح 3، عن عليٍّ عليه السلام: «أفضل العبادة العفاف». ومثل ما ورد من أفضليّة ثواب قضاء حوائج المؤمنين على الكثير من العبادات، انظر مثلاً: م. ن، ص 193 - 196، ح 3 إلى ح 12.
(6) انظر: الطّبري، تاريخ الأمم والملوك، ط 4، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات،بيروت - لبنان، 1403 هـ- 1983 م، ج 2، ص 270 - 283، والشّاهد في الصّفحة الأخيرة.
(7) الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 5، ص 333، ح 1147.
(8) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 487، ح 1.
(9) الشّيخ الصّدوق، عيون أخبار الرِّضا، ط 1، منشورات الشّريف الرّضي، قم- إيران، 1378 هـ- ش، ج2، ص 126.
(10) لمزيد من التفصيل راجع: تقرير البحث الفقهيِّ في الحجِّ للمؤلِّف اعلى الله مقامه: فرحات، الشّيخ جهاد عبد الهادي، فقه الحجِّ، ط 1، دار الملاك، بيروت - لبنان، 1430 هـ- - 2009 م، ج 2، ص 62 - 72.
(11) السّيِّد الطّباطبائي، الميزان، م. س، ج 2، ص 87.
(12) م. ن.
(13) البيهقي، السُّنن الكبرى، دار الفكر، بيروت - لبنان، (دت)، ج 7، ص 206. انظر أيضًا: مسلم النيسابوري، أبو الحسين بن الحجّاج (ت 261 هـ-)، الجامع الصّحيح، دار الفكر، بيروت - لبنان، (دت)، ج 4، ص 38.
(14) ابن أبي الحديد (ت 656 هـ-)، شرح نهج البلاغة، ط 1، تحقيق محمّد أبو الفضل إبراهيم، نشر مكتبة آية الله العظمى المرعشي النّجفي، قم - إيران، 1404 هـ-، ج 12، ص 253. انظر أيضًا: مسلم النيسابوري، م. ن، ص 46.
(15) البيهقي، السُّنن الكبرى، م. س، ج 5، ص 21.
(16) النّسائي، أبو عبد الرّحمن أحمد بن شعيب (ت 303 هـ-)، السُّنن الكبرى، ط 1، دار الكتب العلميّة، بيروت - لبنان، 1411 هـ- - 1991 م، ج 2، ص 345، ح 3703.
(17) البيهقي، م. ن.
(18) مسلم النيسابوري، الجامع الصّحيح، م. س، ج 4، ص 46.
(19) راجع: ابن قدامة، أبو محمّد عبدالله بن أحمد بن محمّد (ت 620 هـ-)، المغني، دار الكتاب العربي، بيروت- لبنان، ج 3، ص 237 - 238.
(20) ابن قدامة، المغني، م. س، ج 3، ص 238.
(21) النّووي، أبو زكريا محيي الدِّين بن شرف (ت 676 هـ-)، المجموع، دار الفكر، بيروت- لبنان، (د ت)، ج7، ص 158.
(22) انظر: الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 289 - 290، ح 1 و2 و3.
(23) الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 5، ص 296، ح 1003، وص 297، ح 1005.
(24) العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 96، ح 262.
(25) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 5، ص 78، ح 6.
(26) الشّيخ الصّدوق، علل الشّرائع، منشورات المكتبة الحيدريّة ومطبعتها، النّجف الأشرف - العراق، 1386هـ- - 1966 م، ج 2، ص 405، ح 6.
(27) الطّبري، جامع البيان، م. س، ج 2، ص 399، ح 3046.
(28) الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 48.
(29) الشّيخ الكليني، الكافي، م. س، ج 4، ص 523، ح 11.
(30) الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 5، ص 273، ح 933.
(31) الشّيخ الطُّوسي، التّهذيب، م. س، ج 5، ص 490، ح 1758.
(32) الشّيخ الصّدوق، من لا يحضره الفقيه، م. س، ج 2، ص 480، ح 3017.
(33) م. ن، ح 3018.
(34) العيّاشي، تفسير العيّاشي، م. س، ج 1، ص 95، ح 257.P}
(35) القمِّي، تفسير القمِّي، م. س، ج 1، ص 70.
(36) الشّيخ الطُّوسي، التِّبيان، م. س، ج 2، ص 176 - 177.
(37) الزّمخشري، الكشّاف، م. س، ج 1، ص 352.
(38) الشّيخ الطّبرسي، مجمع البيان، م. س، ج 2، ص 53.