السيد فضل الله لوفد بيروني التابع لأبرشية تورينو:
عندما نكون إنسانيين في القضايا السياسية والفكرية، حينها نستطيع أن نتفق
تسمية الحركات الإسلامية بالأصولية وربطها بالعنف، نظرية ولاية الفقيه، امتداد المرجعية الشيعية، علاقة المسلمين بالمسيحيين في الشرق، منطلقات الحوار الإسلامي المسيحي، دعوة الأديان إلى اللقاء على كلمةٍ سواء، أسئلة، يوضح سماحة العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، لوفد أبرشية تورينو، ما التبس فهمه، مبيناً معناه.
ولاية الفقيه
س: سماحة السيد، توصف الكثير من الحركات الإسلامية من قبل الغرب بأنها حركات أصولية، فهل وصف هذه الحركات بالأصولية وصف دقيق، وخصوصاً أن هناك ربطاً بين الأصولية والتطرف؟
ج: الأصولية في المصطلح الإسلامي، تعني الرجوع إلى الثوابت الإسلامية في العقيدة، في القضايا الأساسية التي تمثل الخطوط الرئيسية الأصولية في الإسلام، وذلك بالرجوع إلى القرآن الكريم، والسنّة النبوية. ولكن مصطلح الأصولية في الغرب يحمل معنى آخر، فهي تمثل التيار الذي يتخذ العنف وسيلةً في مواجهة الخلافات. ولذلك فإن الأصولية بهذا المعنى لا تختص بالإسلام. فهناك أصولية يهودية، وأصولية مسيحية وهناك أيضاً أصولية علمانية، باعتبار أن العنف هو من المسائل اللاإنسانية، والتي قد يلتزم بها الكثير من أتباع الديانات، والكثير من المذاهب والتيارات، ومنها التيارات العلمانية.
س: الإسلام والمسيحية يدينان العنف ويبشران بالسلام، ولكن لماذا لا نرى رجال دين مسلمين ينددون بالعنف كما تفعلون أنتم؟
ج: هناك الكثير من رجال الدين، سواء في مصر أو في إيران وفي والعراق، أو من غيرها من البلدان، لا يعتبرون العنف أساساً لعلاقة المسلمين مع غيرهم، إلا بالطريقة التي يؤمن بها الغرب، وهي أن يكون العنف في مواجهة الذين يفرضون العنف على الناس، فالإنسان الذي يوجه إليَّ صاروخاً لا يمكن أن أقدم له وردةً.
س: هناك فكرة شائعة بأن العالم الشيعي يمثل كتلة متراصّة، ولكننا نعرف أنكم لا تقولون بمبدأ ولاية الفقيه، فهل يمكننا أن نتكلّم عن مرجعية شيعية؟
ج: أولاً، إن ولاية الفقيه هي نظرية فقهية اجتهادية يمكن أن يلتزم بها بعض علماء الشيعة، ويمكن أن لا يلتزموا بها، فهناك الكثيرون من علماء الشيعة في الماضي والحاضر لا يلتزمون بها، ولذلك فهي ليست نظريةً شيعيةً مطلقةً، بل هي وجهة نظر شيعية فقهية لدى بعض العلماء.
س: هل أنت مرجع شيعي لبناني؟
ج: المرجعية الشيعية لا تتحدد بمنطقة إقليمية معينة، بل هي مرجعية تنفتح على كل المناطق التي يسكنها الشيعة... وأنا لا أمثل مرجعية لبنانية، بل أمثل مرجعية ممتدة في أكثر مناطق العالم، ولذلك فإن اللبنانية لا تمثل صفة أساسية في المرجعية.
علاقة المسلمين بالمسيحيين في الشرق
س: هناك الكثير من المسيحيين يتركون الشرق، وعند وصولهم إلى الغرب ينقلون فكرةً سلبيةً عن علاقتهم بالمسلمين؟
ج: إن مشكلة المسيحيين في لبنان ليس لها علاقة بالمسيحية من الناحية الفكرية الدينية، لأن المشكلة الأساسية في لبنان هي في الصراع السياسي الذي يفرضه النظام الطائفي، بحيث تنطلق كل طائفة لتطالب بحقوقها. ولذلك نجد في هذه المرحلة أن المسيحيين يتحدثون عن حقوق المسيحيين وعن موقعهم في البلد، كما أن السنة يتحدثون عن موقعهم في البلد، وأخيراً لاحظنا أن الأرثوذكس أيضاً يتحدثون عن موقعهم في البلد في مقابل المسلمين والموارنة إلى جانب الدروز.
فلبنان بلدٌ لا يتحرك على أساس المواطنة، وإنما يتحرك على أساس الطوائف، ولذلك فإن الصراع الموجود فيه ليس صراعاً دينياً، ولكنه صراع سياسي يأخذ عناوين دينية، من أجل إثارة هذا الفريق الطائفي ضد ذاك الفريق الطائفي، ليتحرك بالطريقة السياسية التي يُراد له أن يمارسها. ولذلك، فإن الذين يعيشون في لبنان عندما يذهبون إلى الغرب، يحملون معهم المشاكل السياسية والأفكار التي يؤمنون بها في لبنان. فمثلاً، هناك لبنانيون لا يوافقون على الحرب مع إسرائيل، وهناك لبنانيون ضد إيران وضد سوريا، أو ضد المسلمين بشكل عام. ولذلك فإنهم يحملون معهم إلى الغرب هذه الأفكار ليستفيدوا من موقف الغرب المعادي للمسلمين في الجانب السياسي، كما نلاحظ هذا الأمر في بعض المناطق الغربية وليس كل المناطق الغربية.
س: كيف يمكن التصدي لمثل هذه المواقف؟
ج: أعتقد أن معالجة هذه المواقف تكون بالحوار الفكري الموضوعي، الذي يضع القضايا التي يفكر فيها هؤلاء الشرقيون، أو التي يفكر فيها الغربيون، لدراستها على أساس الخطوط السياسية، وخصوصاً قضايا الاحتلال الغربي، كاحتلال أمريكا للعراق ولأفغانستان، وسياسة الإدارة الأمريكية الحالية في إرباك الواقع السياسي والأمني في أكثر من بلد عربي. فعندما ندرس المسألة بين رأي ورأي آخر، فإنّ علينا أن نكون حواريين موضوعيين، تماماً كما يحدث في الغرب عندما يختلفون في بعض الآراء والأفكار، فإنهم يتحاورون مع بعضهم البعض من أجل التفاهم أو للوصول إلى نتيجة موحدة.
وأعتقد أننا إذا تخلينا عن العصبية التي تغلق فكر الإنسان عن التفكير الموضوعي، وتجعله يلتزم ما عنده من فكرٍ من دون مناقشة، وعندما نكون إنسانيين في القضايا السياسية والقضايا الفكرية، فإننا نستطيع حينها أن نتفق. وأنا لا أعتقد أن مسيحيي الشرق يعيشون مشكلةً بشكلٍ عام، هناك المسيحيون في العراق الذين يواجهون مشكلةً يعيشها العراق كله، لأن ما يحدث للمسيحيين فيه هو ما يحدث للمسلمين. أما المسيحيون في لبنان، فإنهم لا يواجهون مشكلةً إنسانيةً أو وطنيةً بسبب مسيحيتهم، بل هم يواجهون المشاكل التي تواجهها مختلف الطوائف، كما هي المشاكل بين السنة والشيعة، وبين الأرثوذكس والموارنة والكاثوليك، والمشاكل الدرزية الدرزية.
ولذلك فالقضية ليست أن المسيحيين يواجهون مشاكل بشكل خاص، لكن حال التعصب التي يعيشونها تنتقل معهم أينما ذهبوا، إلى الغرب أو إلى أي مكان آخر. ونحن عندما ننظر إلى المسيحيين الذين يعيشون في سوريا أو في إيران، فإننا لا نرى هناك أي مشكلة تتعلق بهم كمسيحيين، فالمسيحيون الأرمن في إيران مثلاً، كانوا يحاربون مع الجيش الإيراني أثناء الحرب العراقية الإيرانية، وللمسيحيين ممثلون في مجلس الشورى الإسلامي، حتى إن لليهود ممثلون في مجلس الشورى الإسلامي أيضاً، فليست هناك أي مشكلة للمسيحيين في الشرق.
أما في مصر، فالمشكلة ليست مسيحية إسلامية، قد تحدث بعض المشاكل الفردية بين شخص مسيحي وشخص مسلم، ولكن الإعلام الغربي يتعمّد تصوير المسألة بأنها مشكلة بين المسيحيين والمسلمين. لذلك أنا أعتقد أن الإعلام يحاول أن يصور أن هناك اضطهاداً للمسيحيين في الشرق، ولكن الواقع ينفي ذلك، بل هناك مشاكل تحدث في دائرة المسيحيين كما تحدث في دائرة المسلمين.
الحوار الإسلامي ـ المسيحي
س: ألّفتم كتاباً حول آفاق الحوار الإسلامي المسيحي. فما هو رأيكم فيما يتعلق بالرسالة التي وقّعها 138 عالماً، والتي وجّهت في السنة الماضية إلى قداسة البابا وإلى رؤساء كل الطوائف المسيحية، تحت عنوان: "تعالوا إلى كلمةٍ سواء"؟
ج: مسألة الحوار الإسلامي ـ المسيحي، أو علاقة المسلمين بالمسيحيين، تنطلق من دائرتين؛ الدائرة الفكرية الدينية، والدائرة التعايشية بين المسلمين والمسيحيين. أما الدائرة الدينية التي تناقش اللاهوت المسيحي واللاهوت الإسلامي، فإنها ليست مطروحة في قضايا الحوار الإسلامي ـ المسيحي، وإن كان هناك بعض القضايا التي تبحثها المؤتمرات المسيحية ـ الإسلامية، كقضية رأي المسيحيين أو المسلمين في المرأة، أو رأي كلٍّ منهما في عملية الإجهاض، أو في قضايا الحريات أو العلمنة، ولكني أعتقد أن كثيراً من هذه القضايا، ما عدا قضية الإجهاض، ليست من المسائل التي تدخل في جذور التفكير المسيحي، بل هي مسائل تتبنّاها بعض القيادات المسيحية على أساس تفكيرهم الشخصي...
لذلك، فإن الحوار الذي يحدث في المؤتمرات المسيحية الإسلامية، هو حوار في بعض المفردات الحياتية؛ في نظرة الإسلام أو المسيحية إلى قضية الحريات وغيرها، ونحن نقول إن هناك أموراً لا تختلف بين الإسلام والمسيحية، فكما ينظر الإسلام بسلبية إلى الشخص الذي يرتد عن الإسلام، كذلك في المسيحية هناك قضية الحرب ضد الشخص الذي يخرج من مسيحيته، وكما أن الإسلام لا يعطي شرعية لبعض الخطوط الإسلامية التي تنفتح على الالتزام بالمسيحية، كذلك المسيحية لا تعطي شرعيةً لبعض الخطوط التي تنفتح على الإسلام، وأقصد الكاثوليك، باعتبار أنها مسألة لا يُسمح للمسيحي أن يمارسها على أساس الشرعية، ولكنهم يقرّون بالزواج المدني ويتقبلونه كأمر واقع، وإن كانوا لا يقولون بشرعيته.
لذلك، فإنّ هذه الأمور التي قد تثير جدلاً من خلال الاختلاف حولها بين الإسلام والمسيحية، تعتبر من الأمور الفرعية وليست أموراً تدخل في القاعدة الفكرية اللاهوتية الدينية للمسيحية وللإسلام.
أما الدائرة الثانية في علاقة المسلمين بالمسيحيين، فهي دائرة التعايش، كما هو الحال في لبنان، فالعلاقة بينهما قائمة على التعايش، وخصوصاً لجهة حقوق كل طائفة، فرئيس الجمهورية وقائد الجيش مسيحيان، أما المناصب الكبرى، فإنها تقّسم بين المسيحيين والمسلمين، وهكذا...
كذلك الأمر في البلاد المختلطة الطبيعية التي ليس فيها مشاكل أمنية أو طائفية، وهناك أيضاً تعايش إسلامي مسيحي في مصر وفي سوريا وفي العراق وفي إيران، وقد رأينا كيف وقفت إيران مع الأرمن ضد الأذربيجانيين المسلمين في الحرب على (ناغورني قرى باخ).
لذلك، فالدائرة الثانية التي قد يدور فيها الحوار عن حقوق كل طائفة في المجتمعات المختلطة، هي دائرة التعايش وليست دائرة اللاهوت.
أما في ما يتعلق الغرب، فإنّه ليس مسيحياً بالمعنى القانوني أو بالمعنى النظامي للمسيحية، وإن كان البابا الراحل طالب بأن يُسجل في قانون الاتحاد الأوروبي بأن جذوره مسيحية، ولكن الاتحاد الأوروبي لم يوافق على ذلك.
لهذا، فإننا لا نعتبر الغرب في إداراته الرسمية يمثل المسيحية، وإنما يمثل سياسة علمانية تنطلق من مصالح الدول الغربية الاقتصادية والأمنية والسياسية والاستراتيجية.
لذلك، فإنني أتصور أن الحوار الإسلامي المسيحي لا ينطلق من الجذور، باعتبار أن قضية الحوار بين فكرٍ وفكر، لا بد من أن تنطلق من قواعد التفكير الأساسي في قضايا اللاهوت، ولكن المسيحيين والمسلمين لا يتحدثون عن ذلك في مؤتمراتهم، بل كل ما هنالك، أن شخصاً من هنا يكتب كتاباً يردّ فيه على ذاك، أو العكس، وتبقى المسألة في الإطار التنظيري ولا تنزل إلى مستوى الواقع.
س: عفواً سماحة السيد، ولكن بالرسالة المفتوحة إلى رؤساء الطوائف المسيحية، فإنّ كلمة سواء تعني...
ج: كلمة سواء تعني ما يتفق عليه المسلمون والمسيحيون، كما يقول تعالى: {
قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمةٍ سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً} [آل عمران:164]. فالمسيحيون موحدون، وإن كانوا يفهمون التوحيد على أساس التثليث، والمسلمون موحدون على قاعدة {
ولا يتّخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله}. فالمسلمون يرون أنه لا يمكن لأي من البشر أن يكون رباً للناس والمسيحيون يرون ذلك أيضاً، وهناك الآية الكريمة التي تقول: {
ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أنزل إلينا وأنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون}.
فالكلمة السواء تعني ما يتفق عليه المسلمون والمسيحيون، ولكن المسلمين والمسيحيين في حواراتهم لا يتحدثون عما يختلفون فيه من قضايا اللاهوت، التي تمثل الأساس في التفكير عند المسيحيين وعند المسلمين...
شكراً جزيلاً سماحة السيد...
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 22 رمضان 1429 هـ الموافق: 22/09/2008 م