السيد فضل الله لـ"جريدة المدينة":
الإسلام دين واضح النصّ والمقصد لكل من أراد التعرّف إليه
وجهت جريدة المدينة السعودية السؤال التالي لسماحة العلامة المرجع، السيد محمد حسين فضل الله :
س: الإسلام كدين سماوي، واضح النص والهدف، كيف يمكن أن يحاور الآخر الذي لا يعترف به كدين سماوي، وإنما يتعاطى معه من منطلق الأمر الواقع؟
وكانت إجابة سماحته على الشكل الآتي :
الإسلام دين أرسله الله سبحانه وتعالى إلى الناس كافة، وانطلاقاً من هذا المبدأ، يمكن التأكيد على عالمية الإسلام، بمعنى أن الله أراد لهذا الدين أن ينتشر في جميع أرجاء العالم، وأن يكون موضوعاً لمعرفة الناس جميعاً به.
وهذا المبدأ يفترض أن الناس جميعاً بأممهم وشعوبهم، باختلاف ألسنتهم وألوانهم، معنيون بالتعرّف إلى هذا الدين، وهذا أمر يجمع عليه المسلمون على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم،وعلى حسب تنوع مجتهديهم ومفكريهم، وهو يمثّل قناعةً راسخةً عند كل من آمن بهذا الدين وارتضاه سبيلاً ومنهجاً للحياة والنجاة.
الإسلام للبشر كافة
من هنا، فإن الإسلام يقدم نفسه كاملاً لجميع البشر دون استثناء، ودون حجب لشيء مما أتى به رسول الإسلام محمد (ص)، وهو دين واضح النص والمقصد والهدف لكل من أراد التعرف إليه، سواء بنيّة الالتزام به، أو بنيّة الإحاطة بمضمونه وإطاره وحدوده.
الإسلام يقدم نفسه كاملاً لجميع البشر دون استثناء، ودون حجب لشيء مما أتى به رسول الإسلام محمد (ص)
وهذه الشفافية والمرونة التي يتحلى بها الإسلام، تجعله قادراً على التحرك بفاعلية ودون قيود في شتى المساحات الفكرية والثقافية والحضارية، وتجعل من قرآنه كتاباً مفتوحاً لكل طالب معرفة، وقاعدةً صلبة للحوار والتفاعل بين جميع بني البشر.
وبناءً عليه، فالمسلمون معنيون،أولاً، بنشر هذا الدين وإطلاق مكنوناته بكامل أبعادها العقائدية والفكرية والتشريعية وما إلى ذلك، وثانياً: هم معنيون أكثر بتقديم هذا الدين بالصورة اللائقة الخالية من شوائب وتعقيدات المذاهب والاجتهادات الخاصة بكل مذهب وطريقة. وبتعبير آخر: يجب تقديم الإسلام كمنظومة فكرية وعقائدية ومفهوميه متكاملة كما تقدم المنظومات الأخرى نفسها، سواء الدينية منها أو الوضعية.
من هنا، نعتبر أن انفتاح الإسلام على الآخر هو من صلب كينونته، وأن الآخر هو موضوع للقاء والتفاعل؛ بل أكثر من ذلك،فإنّ حيوية الإسلام نفسها تظهر بأجلى صورها في لحظة تفاعلها مع تمظهرات الحياة وفي ميادين التقائها وتشابكها مع الآخر الإنساني بمختلف صوره ووجوداته.وهذه الحيثية الرئيسية للإسلام منصوص عليها في القرآن نفسه، حيث دعا الله الناس بمختلف تشكيلاتهم وأوضاعهم إلى التعارف واللقاء والحوار، قال تعالى: {
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات:13]، وقد أكّد الإمام علي(ع) أيضاً هذا المبدأ من خلال البعد الإنساني للإسلام، وذلك في قوله:"الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق".
البعد الإنساني للإسلام، وذلكفي قول علي (ع) :"الناس صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق"
وعليه، فالإسلام لا يأخذ موقفاً ابتدائياً عدائياً من أحد من العالمين، بل يعتبر أن إنسانيته المشتملة على نفحات الرحمة الإلهية، كافية لكي تكون مساحة التقاء وقبول وتفاعل مع الإنسان الآخر.
من هنا، فإن اللقاء مع الآخر المختلف والتعرف إليه، هو من صلب دعوة الإسلام لاتّباعه، ولا فرق بين أن يكون هذا الآخر من أتباع دين سماوي أو عقيدة وضعية، فالكل سواسية في الإنسانية، إنما يختلفون في اعتقاداتهم وقناعاتهم، ويفترقون في نظرتهم إلى الإنسان والكون والحياة، كل انطلاقاً من خلفيته الفكرية التي التزم بها وارتضاها لنفسه.
أما الآخر المختلففهو أيضاً صنفان، إما صاحب رسالة سماوية، أو صاحب منظومة عقائدية ومفهومية وضعية، وكل واحدٍ منهما صنفان، إما يعترف بالأديان السماوية ومن ضمنها الإسلام، وإما منكر للأديان أو لبعضها ومن ضمنها الإسلام.
مرتكزات الحوار
ومعالم طريق الحوار مع أصحاب الرسالات السماوية أو المبادئ الوضعية للذين يعترفون بالإسلام كدين سماوي واضحة؛ لأن نقاط الارتكاز واللقاء فيما بين هؤلاء يمكن أن يؤسس عليها بناء حواري ممتد دون صدامات جوهرية، حتى لو اعترضت حركة الحوار بعض الصعوبات التي تطاول نظرة كل منهما إلى الحياة ودور الدين بشكل خاص في الحياة.
أما الصنف الآخر، أي أتباع الرسالات السماوية والمبادئ الوضعية الذين يتنكرون للإسلام كدين سماوي، فالحوار معهم ممكن أيضاً، لكن السؤال الذي يطرح هنا:ما هي الأسس والقواعد التي سيتم على أساسها هذا الحوار؟ وما هي المسائل التي يمكن التحاور حولها؟
لا يوجد أشخاص من أتباع الرسالات السماوية أو المبادئ الوضعية، سواء ممن يعترفون بالدين الإسلامي أو ممن ينكرونه، لا يمكن الحوار معهم
من وجهة نظر إسلامية، لا يوجد أشخاص من أتباع الرسالات السماوية أو المبادئ الوضعية، سواء ممن يعترفون بالدين الإسلامي أو ممن ينكرونه، لا يمكن الحوار معهم، وإذا كان الحوار مع الصنف الأول ممكناً في المنطلقات والمسارات على قاعدة الآية الكريمة:{
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} [آل عمران:64]، فإن الصنف الثاني يمكن التحاور معه في إطار الدائرة الإنسانية المشتركة، وعندما نقول الدائرة الإنسانية المشتركة، نعني بشكل محدّد وواضح أمرين: الأول، هو مدى انسجام المنظومة الفكرية من داخلها، سواء اعترف بمصدرها الإلهي أو لا. والثانية، هي في رؤية الإسلام وكلٍّ من المنظومات الفكرية والعقائدية الأخرى، للإنسان والكون والحياة.
فبمعزل عن قناعة أصحاب الرسالات السماوية والمبادىء الوضعية المنكرة للمصدر الإلهي للإسلام كدين، فإن الإسلام قادر على أن يقدم نموذجاً فكرياً وثقافياً وتشريعياً، ورؤيةً للكون والإنسان والحياة تتمتع بكل المواصفات والأبعاد التكاملية المنسجمة القادرة على الدخول مع الآخر في حوار متعدد الاتجاهات والمآلات، خصوصاً في دائرة الإنسان ومجالات حركته وميادين تجسيد نموذج عيشه وتجربة حياته.
عناوين الحوار
وعليه، فالعناوين التي يمكن التحاور حولها وتقديم الأطروحات الفكرية المتعددة إزاءها تتصل بالآتي:
1 - احترام إنسانية الإنسان، بمعزل عن انتمائه ولونه ولغته والحيّز الجغرافي الذي يشغله في العالم، ورفض مبدأ الاستكبار الذي يُفضي إلى أن يتّخذ الإنسان ـ ولو عمليّاً ـ الإنسان ربّاً له.
2 - احترام حرية الإنسان في اختيار عقائده ونموذج عيشه الذي يريده، دون أن يشكل ذلك عامل صدام مع الآخر المختلف.
3 - حق الإنسان في العيش بكرامة وإقامة العلاقات الإنسانية التي تُحصّن له هذا الهدف.
4 - اختيار النظام السياسي الذي ينسجم مع عقيدته ورؤيته وتطلعاته، وإذا كان يعيش على مساحة واحدة مع أصحاب عقائد أخرى، فيرجع إلى قواعد التوافق على القواسم المشتركة في اختيار ما يؤمِّن مصالح الجميع.
5 - السعي إلى تحقيق العدالة السياسية والاجتماعية بين الأفراد في البلاد التي يتعايشون فيها.
6 - السعي إلى إقامة علاقات متوازنة لا يطغى القوي فيها على الضعيف أو يهزأ فيها القوي من الضعيف.
7 - السعي إلى إنشاء المؤسسات العامة التي تحفظ حقوق الجميع، سواء على المستوى الوطني أو علىالمستويات الإقليمية والدولية.
8 - السعي إلى تشكيل المنظمات الحقوقية التي تحفظ مصالح الجميع دون أن يطغى أحد على أحد، ودون أن يصادر أحدٌ حقوق الآخر أو يستأثر بها.
- احترام حرية الآخر في إقامة أنظمة الحكم والتشريع والقوانين التي تنسجم مع عقائده ومبادئه ورؤيته للحياة في المجتمعات والدول التي ينتشر فيها.
10- احترام حقوق المرأة والطفل وعدم اضطهادهما أو النظر إليهما نظرة دونية أو منقوصة.
11- الحق في ممارسة حرية العقيدة، والدعوة إلى العقيدة بطرق سلمية، ودون استخدام أساليب التضليل والعنف والإغواء.
12- احترام حرية اعتقاد الآخر بشرط عدم تجاوز الحدود إلى العنف المعنوي الذي تشكل ممارسته من قبل جهة ما استفزازاً للآخر.
13-تشريع المنافسة الشريفة بين الأفكار والاعتقادات، وعدم قمع أيٍّ منها لمجرد اختلال موازين القوى المادية.
14- العمل على بناء الثقة وتأكيد مبدأ عدم الاعتداء حفظاً لحرية الجميع وحمايةً لمصالحهم، كما إن إرساء مبدأ عدم الاعتداء يشكِّل حصانةً تؤمّن للجميع العيش بحرية وثقة.
15- العمل بمبدأ الشراكة في الدائرة الإنسانية العامة التي تحفظ حقوق المواطنين في الوطن، وإنسانية الإنسان في العالم.
16- السعي إلى بناء الثقة بين أبناء المجتمع الإنساني، والاستفادة من التجارب الإنسانية المتنوعة بمختلف مناحيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية وغيرها، وتبادل هذه الخبرات والتجارب فيما بين الجميع لما فيه خير الإنسانية جمعاء.
ما تقدم هو عناوين عامة للحوار بين الإسلام ومن لا يعترف به من الرسالات السماوية أو المبادىء الوضعية، ويمكن أن يكون هناك عناوين أخرى، إنما المبدأ والأساس هو أن الإسلام يستطيع أن يحاور أيّاً من أتباع الرسالات السماوية أو المبادئ الوضعية، لكن على قاعدة المساواة في الإنسانية والحقوق الإنسانية بمختلف تشعباتها ومندرجاتها وتعرجاتها.
إنّ الإسلام لا يحاور من لا يعترف بإنسانية المسلمين، ومَن يجعل من عقائدهم وبلادهم وشعوبهم وكراماتهم وأراضيهم وقضاياهم موضوع اعتداء وانتهاك، ويكون من بين أهدافه السعي إلى قهرهم واستتباعهم أو استلحاقهم أو غير ذلك من عناوين الاعتداء المتداولة والمعروفة، أو غير المتداولة وغير المحددة، كما قال تعالى: {
وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا}[العنكبوت:46]؛ لأنّ الظالم لا يفهم لغة الحوار، ولا يدخل فيه؛ فالمانع من قبله، فهو يحتاج إلى التعامل معه بطريقة تُرجعه إلى أرض إنسانيّة مشتركة، على الأقل لكي يكون للحوار منطلق وقاعدة.
الإسلام بنزعة الرحمة فيه منفتح على الآخر ولا يسعى إلى إلغائه أو قهره ولكنه لا يحتمل أن يمارس عليه الإكراه
وكما أن الإسلام بنزعة الرحمة فيه منفتح على الآخر ولا يسعى إلى إلغائه أو قهره، فإنه أيضاً لا يحتمل أن يمارس عليه هذا النوع من الإكراهات.
خلاصة القول، أنه بمعزل عن مصدر المنظومات الفكرية والاعتقادية لأي جهة دينية أو وضعيّة، فإن المساحات الإنسانية التي يمكن اللقاء على أرضيتها والتحاور حول موضوعاتها ومسائلها كثيرة وكبيرة، المهم أن يتم ذلك في إطار الاحترام المتبادل،والاعتراف المتبادل بإنسانية كل هؤلاء، ويكون الهدف والغاية النهائية والأخيرة لأي حوار وفي أي اتجاه، هو إيجاد مناخ عيش وتفاعل مشترك يغتني بأفكار الجميع وتجاربهم بما فيه خدمة الإنسانية جمعاء.
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 28 جمادى الأول 1429 هـ الموافق: 03/06/2008 م