المرجع فضل الله في حديثه لدار الزّهراء (ع):
أبعدوا المنبر الحسيني عن التخلّف واجعلوه في خطّ الوعي
سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله دام ظلّه:
نسأل الله العليّ القدير أن يمنّ عليكم بالصحّة والعافية، وأن يحفظكم قدوة حسنة للمؤمنين.
تقوم دار الزّهراء (ع) سنويّاً بإصدار نشرة "الرّسالة" في شهر محرّم الحرام، حيث تطرح الملحمة الحسينيّة لجمهور المؤمنين، وإيصال الفكر الإسلامي من خلال ما طرحه سيّد الشّهداء الإمام الحسين (ع).
ومن هذا المنطلق، نرجو من سماحتكم التفضّل بالإجابة عن الاستفسارات التالية، بغية نشرها لتعمّ الفائدة على جمهور المؤمنين.
دور المنبر الحسينيّ
س: ما هو دور المنبر الحسيني ومدى تأثيره في مجتمعاتنا؟
ج: إنّ دور المنبر الحسيني، هو أن يكون منبر الإسلام الأصيل في نشر ثقافته بالحكمة والموعظة الحسنة، وتأصيل مفاهيمه، وإبعاده عن أفكار التخلّف والغلوّ والخرافة، وإصلاح ما فسد في الواقع الإسلاميّ على الصعيد الأخلاقي والاجتماعي والسياسي، وإثارة الوعي لدى المسلمين أمام التحدّيات الموجّهة إليهم للسيطرة على مقدّراتهم ومواقعهم من قِبَل التحالف الاستكباري ـ الكافر، وإبراز النهضة الحسينيّة كحركة إنقاذ للواقع الإسلامي كلّه، بعيداً من النّزعات القوميّة والعرقيّة والإقليميّة، ومن الطائفية المذهبيّة، ومن العصبيات الحزبية والمرجعية ونحوها، مما يمزّق وحدة الأمّة، ويجعل بأسها بينها وإشغالها بالهوامش الجزئيّة، بدلاً من أن يكون بأسها موجَّهاً إلى أعدائها، وتقديم الصّورة المشرقة لأبطال كربلاء، ولا سيّما الإمام الحسين (ع) والسيّدة زينب (ع)، بالصورة الرساليّة المشرقة البعيدة من الضعف والخذلان وروح الهزيمة، ليعرف النّاس فيها روح القوّة والعزيمة والتحدّي في مجابهة الطغيان بكلّ صلابة.
لقد قال الأئمّة من أهل البيت (ع) في حديثهم عن المنبر الحسيني ورسالته: "أحيوا أمرنا رحم الله من أحيا أمرنا"، وليس لأهل البيت أمر إلا الإسلام الأصيل في المنهج الَّذي خطَّطوه ونهجوه، في الشَّكل الحضاريّ المنفتح على قضايا الإنسان كلّه، في كلّ زمان ومكان، ولم يكن لأهل البيت أيّ اهتمام بالجانب الذاتي لشخصيّاتهم المقدّسة، بل الجانب الإسلامي في حركيتهم الفاعلة في خطّ الإمامة التي تمثل الامتداد الحركيّ للرّسالة الذي انطلق فيه الرسول الأكرم (ص)، وقد جاء عن الإمام الباقر (ع): "من كان لله مطيعاً فهو لنا وليّ، ومن كان لله عاصياً فهو لنا عدوّ، والله لا تُنال ولايتنا إلا بالورع".
مسؤوليّة أصحاب الحسينيّات
س: ما هي رسالتكم لأصحاب الحسينيّات والمتولّين عليها؟
ج: إنّنا نوجّه رسالتنا إلى أخواننا المؤمنين من أصحاب الحسينيّات والمموّلين لها، أنهم يتحمّلون المسؤوليّة الإسلاميّة في تحريكها في خطّ الوعي الإسلامي الرسالي الولائي الذي يجمع المسلمين المؤمنين، ولا سيّما أتباع أهل البيت (ع) ولا يفرّقهم، ويفتح عقولهم على الفكر الإسلامي الواعي ولا يفرّقهم في أوهام التخلف، ويؤصّل لهم العقيدة الإسلامية الإيمانيّة، ولا يدفع بها إلى الغلوّ والخرافة، واختيار الخطباء الرساليّين الواعين الأتقياء الذين لا يثيرون الفتنة، ولا يستغلّون غرائز العوام، ولا يلعبون بعواطف النّاس طلباً للانجذاب إليهم، بدلاً من أن يوجهوا هذه العواطف تركيزاً لمفاهيم.
إنّ الله يحمّلكم مسؤوليّة هذه المواقع، فإذا أحسنتم إدارتها واختيار الأشخاص الصّالحين، أعطاكم الله خيراً وثواباً عظيماً، وإذا لم تحسنوا في ذلك، فإنكم تحملون وزر كلّ السلبيّات الحاصلة من ذلك على الأمّة، وقد قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (ع): "اتّقوا الله في عباده وبلاده، فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم".
رسالة إلى خطباء المنبر
س: ما هي رسالتكم إلى خطباء المنبر الحسيني؟
ج: أمّا رسالتي إلى خطباء المنبر الحسيني، فهي أن يتعاملوا مع الخطابة الحسينيّة كرسالة إسلاميّة، لا كمهنةٍ للعيش فقط. ولذلك، لا بدّ أن يملكوا ثقافة الإسلام بطريقة علميّة واسعة عميقة منفتحة على تطوّرات الذهنيّة المعاصرة في أساليبها وقضاياها وتطلّعاتها، لأنّ لكلّ عصر ذهنيّته التي يخاطب أهله من خلالها، ولكلّ جيل ثقافته، فلا بدّ لكم أن تحدّثوا الناس بقدر عقولهم، مع التدقيق في دراسة الواقع الحاضر، مقارناً بالواقع الذي كان في عهد الثّورة الحسينيّة، لأنّ الإمام الحسين (ع) انطلق لتكون رسالته في إصلاح أمّة جدّه بما عرض لها من الفساد في عصره، فعلينا، إذا كنّا نؤكّد رسالته في امتداد الزمن، أن نقوم بإصلاح الأمّة مما عرض لها من الفساد في الواقع، فإنّ التاريخ ليس مسؤوليّتنا الحركيّة، بل هو للدّرس والعبرة واستيحاء القضايا التي تبقى منه للحياة، بل الحاضر هو مسؤوليّتنا التي قد تأخذ من الماضي بعض العناصر الأصيلة لتخطّط للمستقبل.
ادرسوا الواقع الإسلاميّ في تمزّقاته، ولا تزيدوه تمزّقاً بإثارة الخلافات، وإذا أردتم أن تتحدّثوا عن قضايا الخلافات الإسلاميّة الكليّة، فحاولوا أن تأخذوا بالمنهج القرآني في الوقوف عند الكلمة السّواء والجدال بالتي هي أحسن والحفاظ على وحدة الأمّة.
إنّنا مسؤولون جميعاً عن الأمّة كلّها، ولا سيّما في ظروف المرحلة الخطيرة التي ينطلق فيها الاستكبار العالمي بكلّ قواه من أجل إضعاف الأمّة الإسلاميّة، والإجهاز على كل مواقع القوّة فيها، وعلينا أن نتحمّل مسؤوليّة ذلك كلّه.
حافظوا على التحدث إلى الناس بالصدق في الرواية، وذلك بتوثيقها، فلا يكن الهمّ كلّه إثارة الدمعة واستنزاف العواطف على حساب الحقّ، وقد قال الصّادق (ع) لبعض أصحابه: "تمزج الحقّ بالباطل، وقليل الحقّ يكفي من كثير الباطل". إنّ علينا أن نبقي العاطفة في أسلوب عرض المأساة الكربلائيّة، ولكن الواجب علينا أن نعمل على أن تكون العاطفة صادقةً، لنثقّف النّاس بالحقيقة لا بغير الحقيقة.
كونوا جمهور الحسين (ع)
س: ما هي رسالتكم لجمهور المجالس الحسينيّة؟
ج: أمّا رسالتنا إلى جمهور المجالس الحسينيّة، فهي أنّ عليكم أن تكونوا جمهور الوعي الإسلاميّ الذي يشجّع الخطباء الرساليّين الذين يحركون خطابتهم في توعية الناس بالحقّ لا بالباطل، وبالوحدة لا بالتفرقة، وبالمحبّة لا بالبغضاء، وبالفكر الأصيل لا بالفكر المتخلّف. لقد كان أهل البيت (ع) قمة الوعي الحضاري، فلتكن المجالس الحسينيّة مجالس الحضارة الإسلاميّة الواعية، حتى نسمح لها بالامتداد في الأجيال المعاصرة والقادمة، ولا تسمحوا بكلّ مظاهر التخلف التي تؤدّي إلى هتك المذهب، مما توارثه النّاس من عادات وتقاليد متخلّفة.
إنّ المجالس ليست مجرّد مواقع لتحصيل الثّواب، بل هي مواقع لتحصيل الثقافة الإسلاميّة والروحيّة الولائيّة الأصيلة.
كونوا جمهور الحسين (ع) الّذي هو جمهور الإسلام الأصيل، الذي يحمل رسالة الإسلام لتكون قاعدةً للفكر والعاطفة والحياة. ولذلك، فإنّ عليكم اختيار الخطيب الرّساليّ الواعي الوحدويّ الذي تستمعون إليه، وقد جاء في الحديث المأثور: "من أصغى إلى ناطق فقد عبده، فإن كان الناطق يؤدّي عن الله فقد عبد الله، وإن كان الناطق يؤدّي عن الشّيطان فقد عبد الشّيطان".
في الختام، نشكر لسماحتكم استجابتكم الكريمة، سائلين المولى عزّ وجلّ أن يحفظكم ذخراً للأمّة الإسلاميّة، والله سميع مجيب. والسّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
*مقابلة دار الزّهراء (ع) مع سماحته، بتاريخ: 3 محرّم الحرام 1423هـ/ الموافق: 17- 3 -2002م.