كنا نتحدَّث عن وصيَّة الإمام الحسين (ع) لأخيه محمَّد، المعروف بابن الحنفيَّة، وقد أراد الحسين (ع) أن يقدِّم نفسه من خلال هذه الوصيَّة إلى الأجيال من خلال الجيل الَّذي عاصره، وأراد أن يعطيهم أسلوبه الحركيّ، ومنهجه الإصلاحيّ، لنتعرَّف من خلال هذه الوصيَّة كلَّ مفردات حركة الحسين (ع)، ولنستوحي منها الأسلوبَ الحركيَّ له؛ هل إنَّ أسلوبَهُ كان أسلوبَ العنف أو أسلوبَ اللَّا عنف؟ لأنَّ الفكرةَ الَّتي سادَتْ في الحديثِ عن حركة الإمام الحسين (ع)، أنَّها حركة انطلقت من أجل مواجهة الموقف بالعنف، أو من أجل أن تتَّجه نحو الاستشهاد بعيداً من المضمون.
بينَ التَّاريخِ والحاضرِ
ثمَّ نحاول، أيُّها الأحبَّة، كما ألمحنا في حديث سابق، أن نؤكِّد حقيقة إنسانيَّة في مسألة إثارتنا للتَّأريخ، فنحن لا نريد أن نستغرق في التَّأريخ، وأن نقحم أنفسنا في داخله، لنكون جزءاً منه بطريقة الارتباط العضويّ.. نحن ككلِّ الشّعوب، للتَّاريخ دور في الكثير من تكوين شخصيَّتنا الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، ولكنَّنا نعيش عصرنا.
أحداث التَّأريخ في كلِّ مشاكله وتحدّياته وصراعاته مضت مع الزَّمن، وقد حلَّ المصلحون بعضاً منها، وتركوا بعضاً آخر، ولا شغل لنا بكلِّ ذلك، حتَّى أشخاص التاريخ مضوا مع الزَّمن.. المسألة هي أن نأخذ من التَّأريخ المضيء النَّموذجَ، لأنَّ النَّماذجَ المضيئةَ في التَّأريخ؛ الأنبياء، والأئمَّة، والأولياء، والمصلحين... إنَّ هذه النَّماذج قد لا تكون محصورة في موقعها الزّمنيّ، لأنَّها تحمل فكراً يمتدّ مع الحياة. ولذلك، فنحن في كلِّ إثارتنا لهذه الرّموز، نريد أن ندعوهم إلينا، لا لنزورهم في مداهم الزَّمني، نحن نريد لهم أن يزورونا؛ أن يزوروا مشاكلنا، ليعطونا بعضاً من الإضاءة في حلولها، وأن يزوروا قضايانا، ليخرجوها من الدَّائرة الصَّغيرة إلى الدَّوائر الكبيرة، لأنَّهم كانوا كباراً في حركة القضايا الَّتي كانت تعيش في زمنهم.
هذه هي المسألة، ولعلَّ الكثير من مشاكل الشَّرق، هو أنَّ الشَّرق لم ينفصل عن التَّأريخ، بل استغرق فيه حتَّى نسي الحاضر وأضاع المستقبل، فنحن نتقاتل باسم التَّاريخ كما لو كنَّا نعيش في داخله، ونحمل أحقاد التَّأريخ لنتعب المحبَّة في حاضرنا، لنعيش الأحقاد الَّتي قد تكون خاضعة لبعض الظّروف المعقَّدة الَّتي كانوا يعيشونها.
لذلك، لا بدَّ أن نغيِّر ذهنيَّتنا، لنشعر بأنَّنا جيل الحاضر؛ نحن مسؤولون عن هذا الحاضر، عن كلِّ هزائمه وانتصاراته، عن كلِّ نقاط ضعفه وقوَّته، عن كلِّ سلبيَّاته وإيجابيَّاته، لأنّها نتاجنا. إنَّ حركيَّة الواقع هي نحن، وأمَّا حركيَّة الماضي فهي الآخرون. تلك هي المسألة.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا ونحن نريد أن نربّي أجيالنا في قراءتهم للتَّاريخ، أن نختار لهم من التَّاريخ ما يبقى، ولا نختار لهم منه ما مات، لأنَّنا سوف نعطيهم الموت في ثقافتهم، ودورنا أن نعطيهم الحياة في هذه الثَّقافة.
منطلقاتُ خروجِه (ع)
لقد قدَّم الإمام الحسين (ع) نفسه من حيث أراد أن يقدِّم حركته، فقال (ع): "إنِّي لم أخرجْ أشراً ولا بطراً". والأشر والبطر كلمتان مترادفتان تعنيان شدَّة الاستعراض الذّاتيّ الَّذي ينتفخ بالخيلاء، والَّذي يتمرَّد على الخير.
إنَّه (ع) يقول إنَّني لم أنطلق من أيِّ حالة انتفاخ في الشخصيَّة، لتكبر بالمركز الَّذي تطمح إليه، لأنَّني أعيش الغنى الرّوحيَّ والنَّفسيّ، الغنى المسؤول.. لست إنساناً ينطلق من أجل أن يكبر بالموقع، لأنَّ الناس الكبار هم الَّذين يكبر الموقع بهم، لأنَّ المواقع، سواء كانت سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو دينيَّة، هي الَّتي تأخذ من الَّذين يعيشون في داخلها ولا تعطيهم، هي مجرَّد أرض، مجرَّد وظيفة، مجرَّد عنوان... المسألة، كما كان القدماء يقولون: "المكانُ بالمكينِ"، وليس المكين بالمكان. إنَّ الإنسان هو الَّذي يعطي لموقعه عظمةً، بما يملك من عناصر العظمة. ونحن عندما ندرس تأريخ الأنبياء والرّسل والمصلحين في التَّأريخ، نجد أنَّهم هم الَّذين أعطوا مواقعهم ما يملكونه من عناصر العظمة والرَّحابة والامتداد، ولم تعطهم مواقعهم الماديَّة الذاتيَّة شيئاً.
لذلك، كان الحسين (ع) يملك الغنى الرّوحيَّ في علاقته بالله، كأعمق ما يملكه إنسان في معنى الفرح بالله. نحن ربَّما نتمادَى في بعض أساليبنا الوعظيَّة لنصنع الخوف من الله، حتَّى كأنَّ الإنسان يشعر بأنَّ الله ينتظره ليعصي، ليطبق عليه بعذابه، ولكنَّنا نعرف أنَّ الفكر الرّوحيَّ في كلِّ دين، هو أن ننفتح على الله لنحبَّه ليحبَّنا: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى – سيروا على المنهج الَّذي يحبّه الله - يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ}[آل عمران: 31].
وحتَّى الخوف، أيُّها الأحبَّة، ليس هو الخوف الَّذي يخلق في نفسك عقدة، ولكنَّه تماماً كما يخاف الإنسان ممن يحبُّه أن يغضب منه أو أن لا يرضى منه، بحيث إنَّك تخاف من الله أن لا يحبَّك إذا عصيت، فالإنسان يعيش في نفسه الألم عندما يشعر بأنَّ محبوبه لا يحبّه. هذه هي المسألة، ليس خوف العقدة، ولكنَّه خوف المحبَّة، على ما يقوله ذلك الشَّاعر:
تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهِرُ حبَّهُ هَذا لَعمرُكَ في الفعالِ بديعُ
لوْ كانَ حبُّكَ صادقاً لأطعْتَهُ إنَّ المحبَّ لمنْ يحبُّ مطيعُ
الفرحُ الرّوحيُّ رغمَ المأساة
لذلك، كان الحسين (ع) وهو في أقسى ساعات الألم، في أشدِّ حالات الفرح الرّوحيّ، وهذا ما نقرأه في سيرة عاشوراء، عندما جاء بولده الرَّضيع عبدالله ليطلب له شربةً من الماء، فما كان من بعض هؤلاء المجرمين إلَّا أن وضع سهماً في كبد القوس، ورأى رقبة الطّفل تلمع على كتف أبيه، فذبحه من الوريد إلى الوريد، حتَّى لا يختلف القوم حوله. كيف كان ردُّ فعل الإمام الحسين (ع)؟ قال: "هوَّنَ عليَّ ما نزلَ بي أنَّهُ بعينِ الله"، فقد كان يعيش أعمق حالات الفرح الرّوحيّ في أعمق حالات الألم، لأنَّ الألم المادّيَّ في ما هو شعور الجسد، لا يلغي الفرح الرّوحيَّ، فصاحب الرّسالة يفرح كلَّما اشتدَّ به الألم من أجل رسالته، لأنَّه يشعر في تلك السَّاعة بأنَّه أعطى رسالته من كلِّ إنسانيَّته، ومن كلِّ نفسه، ما يجعلها غنيّةً به.
ولذلك، لم يكن الإمام الحسين (ع) إنساناً يتطلَّب موقعاً يكبر به، كان يكبر بالله. وقد علَّمنا رسول الله (ص) والأنبياء من قبله، كما علَّمنا تلميذ رسول الله الإمام عليّ (ع) وأولاده في كلمة التَّكبير "الله أكبر"، أنَّنا نكبر بالله ولا نكبر بغيره.
ونقرأ في تراث الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، في دعائه في انقطاعه إلى الله هذا المعنى: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إِلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ، وضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ. فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَا إِلَهِي مِنْ أُنَاسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الِارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا - كانوا يريدون أن يكبروا بالصّغار، ولكنَّهم في الوعي الرّوحيّ، رأوا أنَّ عليهم أن يكبروا بالأكبر - فَصَحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ اخْتِيَارُهُ. فَأَنْتَ يَا مَوْلايَ دُونَ كُلِّ مَسْؤولٍ مَوْضِعُ مَسْأَلَتِي، وَدُونَ كُلِّ مَطْلُوبٍ إِلَيْهِ وَلِيُّ حَاجَتِي، أَنْتَ الْمَخْصُوصُ قَبْلَ كُلِّ مَدْعُوٍّ بِدَعْوَتِي".
هذا هو الفرح الرّوحيّ الَّذي عبَّر عنه عليّ بن أبي طالب (ع) في دعاء كميل.. إنَّ علينا أن نتعلَّم كيف نحبَّ الله، لأنَّنا كلَّما أحببنا الله أكثر، أحببنا النَّاس أكثر، وأحببنا المسؤوليَّة والجدّيَّة أكثر: "فَهَبْني يا إِلـَهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ، أمْ كَيْفَ أسْكُنُ فِي النَّارِ وَرَجائي عَفْوُكَ".
هكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الحسين (ع) يعيش هذا الغنى الرّوحيّ، وقد عبَّر بعض الشّعراء عن هذه الحالة النَّفسيَّة، والحسين (ع) في حالة الاحتضار، كان يعبِّر عن هذه الحالة الرّوحيَّة المنفتحة على الله، والعاشقة له، والذَّائبة فيه تعالى:
تركْتُ الخلقَ طُرّاً في هواكَ وأيتمْتُ العيال لكي أراكَ
فلوْ قطَّعْتني بالحُبِّ إرباً لما مالَ الفؤادُ إلى سواكَ
طلبُ العدلِ
وكان الحسين لا يحتاج إلى موقع، بعد أنْ أعطاه جدُّه رسول الله الَّذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}[النَّجم: 3 -4]، أعطاه أعلى المواقع، عندما قال (ص): "الحسنُ والحسينُ سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّة"، لا بنسبهما، وإن كان نسبهما عظيماً، ولكنَّهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة بمحبَّتهما لله، وجهادهما في سبيله، وذوبانهما فيه. ومن كان سيِّدَ شبابِ أهلِ الجنَّة، فهل يطمعُ في زاوية فيها كرسيّ يصنعه النَّاس في الأرض؟!
"لم أخرجْ أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً - فأنا أؤمن بالعدل كلِّه، لأنَّ معنى أن تحبَّ الله الَّذي هو القائم بالقسط، والَّذي أراد من خلال كلِّ الرِّسالات أن يقوم النَّاس بالقسط، معنى أن تحبَّه، أن لا تفكِّر في ظلم أحد، حتَّى أعدائك، لأنَّ العداوة لا تبرِّر لك أن تظلم عدوَّك، بأن تغمطه حقَّه. ربَّما كان للعداوة بعض الخطوط الَّتي قد تحركك في سلوك هنا أو هناك، لكن عندما يكون لعدوِّك حقٌّ عندك، فإنَّ عليك أن تعطي عدوَّك حقَّه كاملاً غير منقوص، لأنَّ العدلَ لا دينَ له، ولأنَّ الظّلمَ لا دينَ له، لأنَّ العدلَ ينطلقُ من الله، ولأنَّ العدلَ هو الَّذي يعطي إنسانيَّةَ الإنسانِ جوهرَها وعمقَها وامتدادَها وحيويَّتَها في أيِّ موقع من المواقع.
لذلك، يقول الحسين (ع)، لم أخرج لأظلم أحداً، حتَّى الَّذين يعارضونني، ومن الطبيعيّ لي أن لا أظلم الأمَّة، فأنا لم أخرج لأظلم الأمَّة بإثارة الفتنة فيها، وبإثارة الانقسام المتحرِّك في دائرة العصبيَّات في واقعها؛ إنَّني خرجْتُ من أجل أن لا يكون هناك ظلم. هذا ما أحمله في عقلي الَّذي لا يفكِّر إلَّا في الحقّ، وفي قلبي الَّذي لا ينبض إلَّا بالعدل، وفي حركتي الَّتي لا تنطلق إلَّا من جهة أن تتأصَّل إنسانيَّة الإنسان بكلِّ معانيها، ليعيش في الحياة في الخطِّ المستقيم.
- ولا مُفْسِداً - فأنا لا أريد إفساد السياسة، ولا إفساد الاجتماع، ولا إفساد الاقتصاد، ولا إفساد العلاقات الإنسانيَّة... لست مفسداً، لأنَّ ما أفكِّر فيه، هو ما كان الأنبياء يفكِّرون فيه، كما قال بعض الأنبياء: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}[هود: 88].
مسؤوليَّةُ الإصلاحِ والأمرِ بالمعروف
- وإنَّما خَرجْتُ لطَلَبِ الإصْلاحِ في أمَّةِ جدِّي (ص) - هناك فسادٌ في الأمَّة، وهناك ارتباكٌ في الأمَّة، وهناكَ فسادٌ في وعي الأمَّةِ للقيمة في ما هي القيادة، وهناكَ فساد في حركة الأمَّة في العلاقات الاجتماعيَّة، وهناك فساد في الانحراف عن القانون... ولذلك، فإنَّني من خلال أنّي أحبّ هذه الأمَّة، ومن خلال أنّي أريد الخير لها، فقد خرجْتُ من أجل أن أثير في عقول النّاس كيف تتحرَّك في إنتاج الحقِّ لا إنتاج الباطل، وفي إنتاج الخيرِ لا إنتاج الشّرّ، وإثارة قلوبهم في كلِّ نبضاتها وخفقاتها، بإنتاج المحبَّة لا الحقد، وإنتاج الأخوَّة والصَّداقة لا البغضاء، لأنَّ الإنسان إنَّما يعيش بالحبّ؛ الحبّ هو الحياة، والبغض هو الموت.. العداوة هي التَّأخّر، والصَّداقة والأخوَّة هما التقدّم... وهكذا، أريد أن أثير الواقع ليتوازن الواقع، حتَّى يكون كلّ إنسان في موقعه، ولا يتجاوز إنسان دوره، ولا يقفز الإنسان إلى مواقع لا يملك أن يملأها بما يملك من خبرة وتجربة، إنّي أريد أن أصلح ما فسد.
- أريدُ أن آمرَ بالمعروفِ - والمعروف هو كلّ ما يرفع مستوى الإنسان إلى الأعلى مما يرضاه الله - وأنهى عنِ المنكَرِ"، والمنكر هو كلّ ما يحطُّ بالإنسان إلى الأسفل مما لا يرضاه الله.
الثَّورةُ على الحاكمِ الفاسدِ
وقد تحدَّث الإمام الحسين (ع) عن بعض التَّفاصيل؛ تحدَّث عن موقع القيادة، بأنَّ القيادة لأيِّ أمَّة، لا بدَّ أن تنطلق من القاعدة الَّتي تؤمن بها الأمَّة، ولا بدَّ أن تكون أمينةً على القانون الَّذي تلتزم به الأمَّة، ولا بدَّ من أن تكون أمينةً على أموال الأمَّة وعلى أمنها.
وقد كان الواقع على خلاف ذلك، وهذا ما تحدَّث عنه الإمام الحسين (ع)، في تصوير الواقع على مستوى طبيعة القيادة آنذاك، فابتدأ بإعطاء الخطِّ الشَّرعيّ للمسألة:
"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) قَالَ: مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلًّا لِحُرَمِ اللَّهِ - يهتك كلَّ الحرمات - نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ - يعطي الميثاق من نفسِهِ للأمَّة، ولكن عندما ترفعه الأمَّة إلى مواقع القيادة، ينكث بكلِّ عهوده، ولا يفي بهذه العهود.
- مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ – لأنَّ الحسين (ع) يتحدَّث عن المجتمع الإسلاميِّ، والمجتمع الإسلاميّ هو الَّذي يرتبط برسول الله في مواقع رسالته {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7].
- يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ – خطّته وبرنامجه هو أن يتحرَّك في كلِّ سياسته بالإثم الَّذي هو مخالفة القانون، من خلال الظّلم والعدوان على العباد، بمصادرة حريَّاتهم، والعبث بأموالهم، وما إلى ذلك.
فمن رأى منكم هذا السّلطان - فَلَمْ يُغِرْ عَلَيْهِ - يعني يثر عليه - بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلُهُ".
هناك حقيقة، أيُّها الأحبَّة، يجب أن نفهمها، وهي أنَّ الإسلام يؤكِّد مسؤوليَّتك عمَّا تضمره في نفسك، تماماً كما هي مسؤوليَّتك فيما تعمل وتمارس، لأنَّ مبدأ الجريمة هو فكرة في نفس المجرم، والفكرة هي بذرة، كما البذور الموجودة في الأرض {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[الحجّ: 5]. بذور الشّرّ عندما تعيش في أعماق الإنسان، فإنَّها تنتظر الظّروف الملائمة لكي تحوِّل هذه البذور إلى شجرة للشّرّ، تجعل الحياة في ظلال هذا الشّرّ الَّذي يخيِّم على ما حول الشَّجرة ومَن حول الشّجرة.
لذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يعيش الرَّفض النَّفسيّ للشّرّ، والإقبال النَّفسيّ للخير، أن تزرع في قلبك بذرة الخير وتطرد بذرة الشّرّ. وقد ورد في كلام عليّ بن أبي طالب (ع): "الرَّاضي بفعلِ قومٍ كالدَّاخل فيهِ معَهم - لأنَّ الرَّاضي بالفعل يمثِّل شخصاً احتياطيّاً لدعم الشَّرّ، لأنَّ الشَّرَّ عندما يتحرَّك في الواقع، وترضى أنت عنه، حتَّى لو لم تعبِّر عن رضاك بطريقة عمليَّة، فأنت تعطي الأشرار هذا المناخ النَّفسيّ الملائم، وهذا الَّذي يعطي الأشرارَ قوَّة، ويعطي الشَّرَّ قوَّة - وعلى داخلٍ في باطلٍ - الَّذي يمارس الفعل – إثمان؛ إثمُ العملِ به، وإثمُ الرِّضا به"، لأنَّ الله سيحاسبه كيف رضيت عن هذا الفعل، وكيف حوَّلته إلى واقع.
وقد وردَ أيضاً في حديثٍ لعليٍّ (ع): "إنَّما يجمعُ النَّاسَ الرّضا والسّخط - أي أنَّ الَّذي يجعلُ المجتمعَ مجتمعَ الخيرِ، هو رضا النَّاسِ بالخيرِ وممارستهم له، أو بالنِّسبة إلى الشّرّ، رفض النَّاس للشَّرِّ ومواجهتهم له. يقول (ع) - وإنَّما عَقَرَ ناقةَ ثمود رجلٌ واحدٌ - فلماذا عاقبهم الله جميعاً؟ - فعمَّهم الله بالعذابِ لمَّا عمّوه بالرِّضا"، لأنَّ هذا المجرم الواحد، عندما رأى النَّاس تواجه جريمته بالرِّضا والاستحسان، وإن لم يعاونوه عمليّاً، استطاعَ أن يأخذ قوّةً من كلِّ هذا المناخ الاجتماعيّ، لأنَّ الجريمةَ تحتاج إلى مناخ، كما أنَّ الخيرَ يحتاجُ إلى مناخ - فقالَ سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}"[الشّعراء: 157]، نسب سبحانه العقر وقتل النَّاقة إلى الجميع، مع أنَّ المجرم واحد.
مسؤوليَّة التَّغيير
لذلك، أيُّها الأحبَّة، المسألة هي مسألة كيف هو قلبك لنعرف كيف هو عملك، بمعنى كيف توازن نبضات قلبك؛ هل تنبض رضا بالشّرّ، أو تنبض رضا بالخير؟! لأنَّه، كما قلنا، يبدأ المشروع في الدَّاخل، ويتحرَّك من خلال الدَّاخل إلى الخارج.
ولهذا، ربط الله سبحانه وتعالى عمليَّة التَّغيير للواقع، وعمليَّة التَّغيير للتَّاريخ، بالدَّاخل الإنساني؛ غيِّر نفسك تغيِّر التَّاريخ، لأنَّ التَّاريخ هو صنعُ الفكرة الَّتي يعيشها الإنسانُ في داخله، ويعيشُها المجتمعُ، وتعيشُها الأمَّةُ في الدَّاخل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، في الجانبين السلبي والإيجابي. وفي الجانب السَّلبي: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الأنفال: 53].
لذلك، كلّ الَّذين يتفاعلون إيجابيّاً مع الظَّالم هم شركاء الظَّالم، لأنَّهم هم القوَّة النفسيَّة الاحتياطيَّة في الواقع السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ أو ما إلى ذلك، ولذلك جاء: "السَّاكتُ عنِ الحقِّ شيطانٌ أخرسُ".. إنَّ شيطنته لا تأتي من فعلِهِ الإيجابيّ بوقوفه العمليّ ضدَّ الحقّ، ولكنَّها تأتي من سلبيَّته في سكوته على الباطل. وهذه نقطة يجب أن نعمِّقها في نفوسنا.
ولذلك، كنَّا نقول، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الَّذين يتحمَّلون مسؤوليّة انتشار الجريمة والباطل في الأمَّة هم الأكثريَّة الصَّامتة، لأنَّ الأكثريَّة الصَّامتة هم الجنود الاحتياطيّون للعاملين في سبيل الشّرّ، لأنَّ مسألة القضايا الكبرى للأمَّة، لا بدَّ من أن تنطلق من كلِّ المجتمع الَّذي يؤمن بالحقّ والعدل وبالقضايا الكبرى.
لهذا، أنت عندما تحجب عن الحقِّ قوَّتك، فقد أعطيت الباطل قوّةً سلبيَّة، ومنعت عن الحقِّ قوّةً إيجابيّة، وبذلك ينتصر الباطل، أيّاً كان الباطل، سواء كان في السياسة أو الاجتماع أو غير ذلك...
أسبابُ الثَّورة
ثمَّ يتابع الحسين (ع) تصويره للواقع: "ألا وإنَّ هؤلاءِ قد لزموا طاعةَ الشَّيطانِ، وتركوا طاعةَ الرَّحمن، وأظهرُوا الفَسَادَ، وعطَّلُوا الحُدودَ - عطَّلوا حدود الله في مواجهة المجرمين، فعاقبوا الضَّعيف، وتركوا الشَّريف، كما قال رسول الله (ص): "إنَّما أَهْلَكَ الّذينَ مِنْ قبلِكم، أنَّهُم كانُوا إذا سَرَقَ فيهم الشَّريفُ تركُوهُ – هؤلاء الَّذين يكونون في المقامات الكبيرة، الَّذين لا يجرؤ أحد على محاكمتهم، كما في لبنان؛ هذا رمز الطَّائفة، وذاك أبو الطَّائفة، وهذا الإنسان يمثِّل كذا وكذا - وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليْهِ الحَدَّ - أي أنَّ القانون لا يطبَّق إلَّا على الضّعفاء، فهناك من يسرق الملايين، وليس هناك من يحاسبهم بكلمة، والَّذي يسرق مائة ليرة حتَّى يطعم أولاده خبزاً، تطبَّق كلّ القوانين بحقِّه، وتنعقد كلّ المحاكمات لأجله، يقولون لا بدَّ من تطبيق القانون عليه، والقانون فوق الجميع!
ثمَّ يبيِّن النَّبيّ (ص) البرنامج الإسلاميَّ في هذا المجال: وأيمَ اللهِ، لوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمَّدٍ سرقَتْ – و"لو" هي حرف امتناع لامتناع، يعني أنَّه لا يحصل، ولكن لنفترض أنَّه حصل، من باب أنَّ فرضَ المحالِ ليس محالاً.. ففاطمة (ع) هي بضعة رسول الله (ص)، وهي سيِّدة نساء العالمين، فهي لا تسرق، ولكنَّ النَّبيَّ (ص) يريد أن يوصل الفكرة بأكثر المواقع قرباً منه – لقطعْتُ يدَها".
- واستأثرُوا بالفَيْءِ – وهو مال الأمَّة والميزانية العامَّة لها - وأحلُّوا حرامَ اللهِ - غيَّروا القانون - وحرَّمُوا حلالَهُ".
وفي صورةٍ أخرى، يعبِّر الإمام الحسين (ع) عن الواقع الموجود، يقول (ع): "اتَّخذوا مالَ اللهِ دُوَلاً – ومال الله هو مال النَّاس والأموال العامَّة، فقد جعلوه دولاً، يتداولونه فيما بينهم، ويعطيه كلّ واحد للآخر - وعبادَهُ خولاً"، أي عبيداً، وهذا الَّذي تمثَّل في السنة الثَّانية لحكم يزيد، فقد حكم يزيد ثلاث سنوات؛ في السنة الأولى منها، قتل الإمام الحسين (ع) والصّفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، وفي السنة الثَّانية، عندما تمرَّدت عليه المدينة، استباحها ثلاثة أيَّام، ليُقتَل من يُقتَل، ولتُنتَهك الأعراض، حتَّى قيل إنَّ أكثر من ألف امرأة ولدن من دون آباء، وفي السنة الثَّالثة، ضرب الكعبة بالمنجنيق. فهل يمكن أن يكون هذا قائداً للأمَّة الإسلاميَّة؟ هذا تاريخ، ونحن لا نريد أن نستغرق اليوم بيزيد، فيزيد لقي جزاءه عند الله، ولكن كم يزيد عندنا، ليس فقط هنا، بل في العالم كلّه؟! وهناك كثير من النَّاس، كما كانوا مع يزيد في السَّابق، هم اليوم مع يزيد؛ يزيد الأمريكي، يزيد الأوروبي، يزيد العربي، إلى آخر هذه العناوين.
حتَّى إنَّه قيل إنَّ يزيد في السنة الثَّانية، أراد البيعة من أهل المدينة على أن يكونوا عبيداً له. والحسين (ع) عاش هذا الجوّ والواقع، وأراد أن يغيِّره، بأن يدخل الفكر الإصلاحيَّ الإنسانيَّ الَّذي يتحرَّك من خلال المنهج الإسلاميّ في حلال الله وحرامه، وفي الأمانة على أموال النَّاس وأعراضهم ودمائهم، أراد أن يعطي النَّاس الوعيَ كمقدِّمة لأن يتحوَّل هذا الوعيُ إلى واقعٍ حتّى يحصل الإصلاح.
ثمَّ تأتي الفقرة الأخيرة لتتحدَّث عن أسلوب الإمام الحسين (ع) الحركي، وهذا ما نتحدَّث عنه بعد ذلك.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 19/03/2002م.
كنا نتحدَّث عن وصيَّة الإمام الحسين (ع) لأخيه محمَّد، المعروف بابن الحنفيَّة، وقد أراد الحسين (ع) أن يقدِّم نفسه من خلال هذه الوصيَّة إلى الأجيال من خلال الجيل الَّذي عاصره، وأراد أن يعطيهم أسلوبه الحركيّ، ومنهجه الإصلاحيّ، لنتعرَّف من خلال هذه الوصيَّة كلَّ مفردات حركة الحسين (ع)، ولنستوحي منها الأسلوبَ الحركيَّ له؛ هل إنَّ أسلوبَهُ كان أسلوبَ العنف أو أسلوبَ اللَّا عنف؟ لأنَّ الفكرةَ الَّتي سادَتْ في الحديثِ عن حركة الإمام الحسين (ع)، أنَّها حركة انطلقت من أجل مواجهة الموقف بالعنف، أو من أجل أن تتَّجه نحو الاستشهاد بعيداً من المضمون.
بينَ التَّاريخِ والحاضرِ
ثمَّ نحاول، أيُّها الأحبَّة، كما ألمحنا في حديث سابق، أن نؤكِّد حقيقة إنسانيَّة في مسألة إثارتنا للتَّأريخ، فنحن لا نريد أن نستغرق في التَّأريخ، وأن نقحم أنفسنا في داخله، لنكون جزءاً منه بطريقة الارتباط العضويّ.. نحن ككلِّ الشّعوب، للتَّاريخ دور في الكثير من تكوين شخصيَّتنا الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة، ولكنَّنا نعيش عصرنا.
أحداث التَّأريخ في كلِّ مشاكله وتحدّياته وصراعاته مضت مع الزَّمن، وقد حلَّ المصلحون بعضاً منها، وتركوا بعضاً آخر، ولا شغل لنا بكلِّ ذلك، حتَّى أشخاص التاريخ مضوا مع الزَّمن.. المسألة هي أن نأخذ من التَّأريخ المضيء النَّموذجَ، لأنَّ النَّماذجَ المضيئةَ في التَّأريخ؛ الأنبياء، والأئمَّة، والأولياء، والمصلحين... إنَّ هذه النَّماذج قد لا تكون محصورة في موقعها الزّمنيّ، لأنَّها تحمل فكراً يمتدّ مع الحياة. ولذلك، فنحن في كلِّ إثارتنا لهذه الرّموز، نريد أن ندعوهم إلينا، لا لنزورهم في مداهم الزَّمني، نحن نريد لهم أن يزورونا؛ أن يزوروا مشاكلنا، ليعطونا بعضاً من الإضاءة في حلولها، وأن يزوروا قضايانا، ليخرجوها من الدَّائرة الصَّغيرة إلى الدَّوائر الكبيرة، لأنَّهم كانوا كباراً في حركة القضايا الَّتي كانت تعيش في زمنهم.
هذه هي المسألة، ولعلَّ الكثير من مشاكل الشَّرق، هو أنَّ الشَّرق لم ينفصل عن التَّأريخ، بل استغرق فيه حتَّى نسي الحاضر وأضاع المستقبل، فنحن نتقاتل باسم التَّاريخ كما لو كنَّا نعيش في داخله، ونحمل أحقاد التَّأريخ لنتعب المحبَّة في حاضرنا، لنعيش الأحقاد الَّتي قد تكون خاضعة لبعض الظّروف المعقَّدة الَّتي كانوا يعيشونها.
لذلك، لا بدَّ أن نغيِّر ذهنيَّتنا، لنشعر بأنَّنا جيل الحاضر؛ نحن مسؤولون عن هذا الحاضر، عن كلِّ هزائمه وانتصاراته، عن كلِّ نقاط ضعفه وقوَّته، عن كلِّ سلبيَّاته وإيجابيَّاته، لأنّها نتاجنا. إنَّ حركيَّة الواقع هي نحن، وأمَّا حركيَّة الماضي فهي الآخرون. تلك هي المسألة.
وفي ضوء هذا، لا بدَّ لنا ونحن نريد أن نربّي أجيالنا في قراءتهم للتَّاريخ، أن نختار لهم من التَّاريخ ما يبقى، ولا نختار لهم منه ما مات، لأنَّنا سوف نعطيهم الموت في ثقافتهم، ودورنا أن نعطيهم الحياة في هذه الثَّقافة.
منطلقاتُ خروجِه (ع)
لقد قدَّم الإمام الحسين (ع) نفسه من حيث أراد أن يقدِّم حركته، فقال (ع): "إنِّي لم أخرجْ أشراً ولا بطراً". والأشر والبطر كلمتان مترادفتان تعنيان شدَّة الاستعراض الذّاتيّ الَّذي ينتفخ بالخيلاء، والَّذي يتمرَّد على الخير.
إنَّه (ع) يقول إنَّني لم أنطلق من أيِّ حالة انتفاخ في الشخصيَّة، لتكبر بالمركز الَّذي تطمح إليه، لأنَّني أعيش الغنى الرّوحيَّ والنَّفسيّ، الغنى المسؤول.. لست إنساناً ينطلق من أجل أن يكبر بالموقع، لأنَّ الناس الكبار هم الَّذين يكبر الموقع بهم، لأنَّ المواقع، سواء كانت سياسيَّة أو اجتماعيَّة أو دينيَّة، هي الَّتي تأخذ من الَّذين يعيشون في داخلها ولا تعطيهم، هي مجرَّد أرض، مجرَّد وظيفة، مجرَّد عنوان... المسألة، كما كان القدماء يقولون: "المكانُ بالمكينِ"، وليس المكين بالمكان. إنَّ الإنسان هو الَّذي يعطي لموقعه عظمةً، بما يملك من عناصر العظمة. ونحن عندما ندرس تأريخ الأنبياء والرّسل والمصلحين في التَّأريخ، نجد أنَّهم هم الَّذين أعطوا مواقعهم ما يملكونه من عناصر العظمة والرَّحابة والامتداد، ولم تعطهم مواقعهم الماديَّة الذاتيَّة شيئاً.
لذلك، كان الحسين (ع) يملك الغنى الرّوحيَّ في علاقته بالله، كأعمق ما يملكه إنسان في معنى الفرح بالله. نحن ربَّما نتمادَى في بعض أساليبنا الوعظيَّة لنصنع الخوف من الله، حتَّى كأنَّ الإنسان يشعر بأنَّ الله ينتظره ليعصي، ليطبق عليه بعذابه، ولكنَّنا نعرف أنَّ الفكر الرّوحيَّ في كلِّ دين، هو أن ننفتح على الله لنحبَّه ليحبَّنا: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ ٱللَّهَ فَٱتَّبِعُونِى – سيروا على المنهج الَّذي يحبّه الله - يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ}[آل عمران: 31].
وحتَّى الخوف، أيُّها الأحبَّة، ليس هو الخوف الَّذي يخلق في نفسك عقدة، ولكنَّه تماماً كما يخاف الإنسان ممن يحبُّه أن يغضب منه أو أن لا يرضى منه، بحيث إنَّك تخاف من الله أن لا يحبَّك إذا عصيت، فالإنسان يعيش في نفسه الألم عندما يشعر بأنَّ محبوبه لا يحبّه. هذه هي المسألة، ليس خوف العقدة، ولكنَّه خوف المحبَّة، على ما يقوله ذلك الشَّاعر:
تعصي الإلهَ وأنتَ تُظهِرُ حبَّهُ هَذا لَعمرُكَ في الفعالِ بديعُ
لوْ كانَ حبُّكَ صادقاً لأطعْتَهُ إنَّ المحبَّ لمنْ يحبُّ مطيعُ
الفرحُ الرّوحيُّ رغمَ المأساة
لذلك، كان الحسين (ع) وهو في أقسى ساعات الألم، في أشدِّ حالات الفرح الرّوحيّ، وهذا ما نقرأه في سيرة عاشوراء، عندما جاء بولده الرَّضيع عبدالله ليطلب له شربةً من الماء، فما كان من بعض هؤلاء المجرمين إلَّا أن وضع سهماً في كبد القوس، ورأى رقبة الطّفل تلمع على كتف أبيه، فذبحه من الوريد إلى الوريد، حتَّى لا يختلف القوم حوله. كيف كان ردُّ فعل الإمام الحسين (ع)؟ قال: "هوَّنَ عليَّ ما نزلَ بي أنَّهُ بعينِ الله"، فقد كان يعيش أعمق حالات الفرح الرّوحيّ في أعمق حالات الألم، لأنَّ الألم المادّيَّ في ما هو شعور الجسد، لا يلغي الفرح الرّوحيَّ، فصاحب الرّسالة يفرح كلَّما اشتدَّ به الألم من أجل رسالته، لأنَّه يشعر في تلك السَّاعة بأنَّه أعطى رسالته من كلِّ إنسانيَّته، ومن كلِّ نفسه، ما يجعلها غنيّةً به.
ولذلك، لم يكن الإمام الحسين (ع) إنساناً يتطلَّب موقعاً يكبر به، كان يكبر بالله. وقد علَّمنا رسول الله (ص) والأنبياء من قبله، كما علَّمنا تلميذ رسول الله الإمام عليّ (ع) وأولاده في كلمة التَّكبير "الله أكبر"، أنَّنا نكبر بالله ولا نكبر بغيره.
ونقرأ في تراث الإمام عليّ بن الحسين زين العابدين (ع)، في دعائه في انقطاعه إلى الله هذا المعنى: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَخْلَصْتُ بِانْقِطَاعِي إِلَيْكَ، وَأَقْبَلْتُ بِكُلِّي عَلَيْكَ، وَصَرَفْتُ وَجْهِي عَمَّنْ يَحْتَاجُ إِلَى رِفْدِكَ، وَقَلَبْتُ مَسْأَلَتِي عَمَّنْ لَمْ يَسْتَغْنِ عَنْ فَضْلِكَ، وَرَأَيْتُ أَنَّ طَلَبَ الْمُحْتَاجِ إِلَى الْمُحْتَاجِ سَفَهٌ مِنْ رَأْيِهِ، وضَلَّةٌ مِنْ عَقْلِهِ. فَكَمْ قَدْ رَأَيْتُ يَا إِلَهِي مِنْ أُنَاسٍ طَلَبُوا الْعِزَّ بِغَيْرِكَ فَذَلُّوا، وَرَامُوا الثَّرْوَةَ مِنْ سِوَاكَ فَافْتَقَرُوا، وَحَاوَلُوا الِارْتِفَاعَ فَاتَّضَعُوا - كانوا يريدون أن يكبروا بالصّغار، ولكنَّهم في الوعي الرّوحيّ، رأوا أنَّ عليهم أن يكبروا بالأكبر - فَصَحَّ بِمُعَايَنَةِ أَمْثَالِهِمْ حَازِمٌ وَفَّقَهُ اعْتِبَارُهُ، وَأَرْشَدَهُ إِلَى طَرِيقِ صَوَابِهِ اخْتِيَارُهُ. فَأَنْتَ يَا مَوْلايَ دُونَ كُلِّ مَسْؤولٍ مَوْضِعُ مَسْأَلَتِي، وَدُونَ كُلِّ مَطْلُوبٍ إِلَيْهِ وَلِيُّ حَاجَتِي، أَنْتَ الْمَخْصُوصُ قَبْلَ كُلِّ مَدْعُوٍّ بِدَعْوَتِي".
هذا هو الفرح الرّوحيّ الَّذي عبَّر عنه عليّ بن أبي طالب (ع) في دعاء كميل.. إنَّ علينا أن نتعلَّم كيف نحبَّ الله، لأنَّنا كلَّما أحببنا الله أكثر، أحببنا النَّاس أكثر، وأحببنا المسؤوليَّة والجدّيَّة أكثر: "فَهَبْني يا إِلـَهي وَسَيِّدِي وَمَوْلايَ وَرَبِّي، صَبَرْتُ عَلى عَذابِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَلى فِراقِكَ، وَهَبْني صَبَرْتُ عَلى حَرِّ نارِكَ، فَكَيْفَ أصْبِرُ عَنِ النَّظَرِ إلى كَرامَتِكَ، أمْ كَيْفَ أسْكُنُ فِي النَّارِ وَرَجائي عَفْوُكَ".
هكذا، أيُّها الأحبَّة، كان الحسين (ع) يعيش هذا الغنى الرّوحيّ، وقد عبَّر بعض الشّعراء عن هذه الحالة النَّفسيَّة، والحسين (ع) في حالة الاحتضار، كان يعبِّر عن هذه الحالة الرّوحيَّة المنفتحة على الله، والعاشقة له، والذَّائبة فيه تعالى:
تركْتُ الخلقَ طُرّاً في هواكَ وأيتمْتُ العيال لكي أراكَ
فلوْ قطَّعْتني بالحُبِّ إرباً لما مالَ الفؤادُ إلى سواكَ
طلبُ العدلِ
وكان الحسين لا يحتاج إلى موقع، بعد أنْ أعطاه جدُّه رسول الله الَّذي {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ}[النَّجم: 3 -4]، أعطاه أعلى المواقع، عندما قال (ص): "الحسنُ والحسينُ سيِّدا شبابِ أهلِ الجنَّة"، لا بنسبهما، وإن كان نسبهما عظيماً، ولكنَّهما سيِّدا شباب أهل الجنَّة بمحبَّتهما لله، وجهادهما في سبيله، وذوبانهما فيه. ومن كان سيِّدَ شبابِ أهلِ الجنَّة، فهل يطمعُ في زاوية فيها كرسيّ يصنعه النَّاس في الأرض؟!
"لم أخرجْ أشراً ولا بطراً، ولا ظالماً - فأنا أؤمن بالعدل كلِّه، لأنَّ معنى أن تحبَّ الله الَّذي هو القائم بالقسط، والَّذي أراد من خلال كلِّ الرِّسالات أن يقوم النَّاس بالقسط، معنى أن تحبَّه، أن لا تفكِّر في ظلم أحد، حتَّى أعدائك، لأنَّ العداوة لا تبرِّر لك أن تظلم عدوَّك، بأن تغمطه حقَّه. ربَّما كان للعداوة بعض الخطوط الَّتي قد تحركك في سلوك هنا أو هناك، لكن عندما يكون لعدوِّك حقٌّ عندك، فإنَّ عليك أن تعطي عدوَّك حقَّه كاملاً غير منقوص، لأنَّ العدلَ لا دينَ له، ولأنَّ الظّلمَ لا دينَ له، لأنَّ العدلَ ينطلقُ من الله، ولأنَّ العدلَ هو الَّذي يعطي إنسانيَّةَ الإنسانِ جوهرَها وعمقَها وامتدادَها وحيويَّتَها في أيِّ موقع من المواقع.
لذلك، يقول الحسين (ع)، لم أخرج لأظلم أحداً، حتَّى الَّذين يعارضونني، ومن الطبيعيّ لي أن لا أظلم الأمَّة، فأنا لم أخرج لأظلم الأمَّة بإثارة الفتنة فيها، وبإثارة الانقسام المتحرِّك في دائرة العصبيَّات في واقعها؛ إنَّني خرجْتُ من أجل أن لا يكون هناك ظلم. هذا ما أحمله في عقلي الَّذي لا يفكِّر إلَّا في الحقّ، وفي قلبي الَّذي لا ينبض إلَّا بالعدل، وفي حركتي الَّتي لا تنطلق إلَّا من جهة أن تتأصَّل إنسانيَّة الإنسان بكلِّ معانيها، ليعيش في الحياة في الخطِّ المستقيم.
- ولا مُفْسِداً - فأنا لا أريد إفساد السياسة، ولا إفساد الاجتماع، ولا إفساد الاقتصاد، ولا إفساد العلاقات الإنسانيَّة... لست مفسداً، لأنَّ ما أفكِّر فيه، هو ما كان الأنبياء يفكِّرون فيه، كما قال بعض الأنبياء: {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ}[هود: 88].
مسؤوليَّةُ الإصلاحِ والأمرِ بالمعروف
- وإنَّما خَرجْتُ لطَلَبِ الإصْلاحِ في أمَّةِ جدِّي (ص) - هناك فسادٌ في الأمَّة، وهناك ارتباكٌ في الأمَّة، وهناكَ فسادٌ في وعي الأمَّةِ للقيمة في ما هي القيادة، وهناكَ فساد في حركة الأمَّة في العلاقات الاجتماعيَّة، وهناك فساد في الانحراف عن القانون... ولذلك، فإنَّني من خلال أنّي أحبّ هذه الأمَّة، ومن خلال أنّي أريد الخير لها، فقد خرجْتُ من أجل أن أثير في عقول النّاس كيف تتحرَّك في إنتاج الحقِّ لا إنتاج الباطل، وفي إنتاج الخيرِ لا إنتاج الشّرّ، وإثارة قلوبهم في كلِّ نبضاتها وخفقاتها، بإنتاج المحبَّة لا الحقد، وإنتاج الأخوَّة والصَّداقة لا البغضاء، لأنَّ الإنسان إنَّما يعيش بالحبّ؛ الحبّ هو الحياة، والبغض هو الموت.. العداوة هي التَّأخّر، والصَّداقة والأخوَّة هما التقدّم... وهكذا، أريد أن أثير الواقع ليتوازن الواقع، حتَّى يكون كلّ إنسان في موقعه، ولا يتجاوز إنسان دوره، ولا يقفز الإنسان إلى مواقع لا يملك أن يملأها بما يملك من خبرة وتجربة، إنّي أريد أن أصلح ما فسد.
- أريدُ أن آمرَ بالمعروفِ - والمعروف هو كلّ ما يرفع مستوى الإنسان إلى الأعلى مما يرضاه الله - وأنهى عنِ المنكَرِ"، والمنكر هو كلّ ما يحطُّ بالإنسان إلى الأسفل مما لا يرضاه الله.
الثَّورةُ على الحاكمِ الفاسدِ
وقد تحدَّث الإمام الحسين (ع) عن بعض التَّفاصيل؛ تحدَّث عن موقع القيادة، بأنَّ القيادة لأيِّ أمَّة، لا بدَّ أن تنطلق من القاعدة الَّتي تؤمن بها الأمَّة، ولا بدَّ أن تكون أمينةً على القانون الَّذي تلتزم به الأمَّة، ولا بدَّ من أن تكون أمينةً على أموال الأمَّة وعلى أمنها.
وقد كان الواقع على خلاف ذلك، وهذا ما تحدَّث عنه الإمام الحسين (ع)، في تصوير الواقع على مستوى طبيعة القيادة آنذاك، فابتدأ بإعطاء الخطِّ الشَّرعيّ للمسألة:
"أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ (ص) قَالَ: مَنْ رَأَى سُلْطَانًا جَائِرًا مُسْتَحِلًّا لِحُرَمِ اللَّهِ - يهتك كلَّ الحرمات - نَاكِثًا لِعَهْدِ اللَّهِ - يعطي الميثاق من نفسِهِ للأمَّة، ولكن عندما ترفعه الأمَّة إلى مواقع القيادة، ينكث بكلِّ عهوده، ولا يفي بهذه العهود.
- مُخَالِفًا لِسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ – لأنَّ الحسين (ع) يتحدَّث عن المجتمع الإسلاميِّ، والمجتمع الإسلاميّ هو الَّذي يرتبط برسول الله في مواقع رسالته {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}[الحشر: 7].
- يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللَّهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ – خطّته وبرنامجه هو أن يتحرَّك في كلِّ سياسته بالإثم الَّذي هو مخالفة القانون، من خلال الظّلم والعدوان على العباد، بمصادرة حريَّاتهم، والعبث بأموالهم، وما إلى ذلك.
فمن رأى منكم هذا السّلطان - فَلَمْ يُغِرْ عَلَيْهِ - يعني يثر عليه - بِفِعْلٍ وَلَا قَوْلٍ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مُدْخَلُهُ".
هناك حقيقة، أيُّها الأحبَّة، يجب أن نفهمها، وهي أنَّ الإسلام يؤكِّد مسؤوليَّتك عمَّا تضمره في نفسك، تماماً كما هي مسؤوليَّتك فيما تعمل وتمارس، لأنَّ مبدأ الجريمة هو فكرة في نفس المجرم، والفكرة هي بذرة، كما البذور الموجودة في الأرض {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}[الحجّ: 5]. بذور الشّرّ عندما تعيش في أعماق الإنسان، فإنَّها تنتظر الظّروف الملائمة لكي تحوِّل هذه البذور إلى شجرة للشّرّ، تجعل الحياة في ظلال هذا الشّرّ الَّذي يخيِّم على ما حول الشَّجرة ومَن حول الشّجرة.
لذلك، لا بدَّ للإنسان من أن يعيش الرَّفض النَّفسيّ للشّرّ، والإقبال النَّفسيّ للخير، أن تزرع في قلبك بذرة الخير وتطرد بذرة الشّرّ. وقد ورد في كلام عليّ بن أبي طالب (ع): "الرَّاضي بفعلِ قومٍ كالدَّاخل فيهِ معَهم - لأنَّ الرَّاضي بالفعل يمثِّل شخصاً احتياطيّاً لدعم الشَّرّ، لأنَّ الشَّرَّ عندما يتحرَّك في الواقع، وترضى أنت عنه، حتَّى لو لم تعبِّر عن رضاك بطريقة عمليَّة، فأنت تعطي الأشرار هذا المناخ النَّفسيّ الملائم، وهذا الَّذي يعطي الأشرارَ قوَّة، ويعطي الشَّرَّ قوَّة - وعلى داخلٍ في باطلٍ - الَّذي يمارس الفعل – إثمان؛ إثمُ العملِ به، وإثمُ الرِّضا به"، لأنَّ الله سيحاسبه كيف رضيت عن هذا الفعل، وكيف حوَّلته إلى واقع.
وقد وردَ أيضاً في حديثٍ لعليٍّ (ع): "إنَّما يجمعُ النَّاسَ الرّضا والسّخط - أي أنَّ الَّذي يجعلُ المجتمعَ مجتمعَ الخيرِ، هو رضا النَّاسِ بالخيرِ وممارستهم له، أو بالنِّسبة إلى الشّرّ، رفض النَّاس للشَّرِّ ومواجهتهم له. يقول (ع) - وإنَّما عَقَرَ ناقةَ ثمود رجلٌ واحدٌ - فلماذا عاقبهم الله جميعاً؟ - فعمَّهم الله بالعذابِ لمَّا عمّوه بالرِّضا"، لأنَّ هذا المجرم الواحد، عندما رأى النَّاس تواجه جريمته بالرِّضا والاستحسان، وإن لم يعاونوه عمليّاً، استطاعَ أن يأخذ قوّةً من كلِّ هذا المناخ الاجتماعيّ، لأنَّ الجريمةَ تحتاج إلى مناخ، كما أنَّ الخيرَ يحتاجُ إلى مناخ - فقالَ سبحانه: {فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ}"[الشّعراء: 157]، نسب سبحانه العقر وقتل النَّاقة إلى الجميع، مع أنَّ المجرم واحد.
مسؤوليَّة التَّغيير
لذلك، أيُّها الأحبَّة، المسألة هي مسألة كيف هو قلبك لنعرف كيف هو عملك، بمعنى كيف توازن نبضات قلبك؛ هل تنبض رضا بالشّرّ، أو تنبض رضا بالخير؟! لأنَّه، كما قلنا، يبدأ المشروع في الدَّاخل، ويتحرَّك من خلال الدَّاخل إلى الخارج.
ولهذا، ربط الله سبحانه وتعالى عمليَّة التَّغيير للواقع، وعمليَّة التَّغيير للتَّاريخ، بالدَّاخل الإنساني؛ غيِّر نفسك تغيِّر التَّاريخ، لأنَّ التَّاريخ هو صنعُ الفكرة الَّتي يعيشها الإنسانُ في داخله، ويعيشُها المجتمعُ، وتعيشُها الأمَّةُ في الدَّاخل: {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الرّعد: 11]، في الجانبين السلبي والإيجابي. وفي الجانب السَّلبي: {ذَٰلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَىٰ قَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ}[الأنفال: 53].
لذلك، كلّ الَّذين يتفاعلون إيجابيّاً مع الظَّالم هم شركاء الظَّالم، لأنَّهم هم القوَّة النفسيَّة الاحتياطيَّة في الواقع السياسيّ أو الاجتماعيّ أو الاقتصاديّ أو ما إلى ذلك، ولذلك جاء: "السَّاكتُ عنِ الحقِّ شيطانٌ أخرسُ".. إنَّ شيطنته لا تأتي من فعلِهِ الإيجابيّ بوقوفه العمليّ ضدَّ الحقّ، ولكنَّها تأتي من سلبيَّته في سكوته على الباطل. وهذه نقطة يجب أن نعمِّقها في نفوسنا.
ولذلك، كنَّا نقول، أيُّها الأحبَّة، إنَّ الَّذين يتحمَّلون مسؤوليّة انتشار الجريمة والباطل في الأمَّة هم الأكثريَّة الصَّامتة، لأنَّ الأكثريَّة الصَّامتة هم الجنود الاحتياطيّون للعاملين في سبيل الشّرّ، لأنَّ مسألة القضايا الكبرى للأمَّة، لا بدَّ من أن تنطلق من كلِّ المجتمع الَّذي يؤمن بالحقّ والعدل وبالقضايا الكبرى.
لهذا، أنت عندما تحجب عن الحقِّ قوَّتك، فقد أعطيت الباطل قوّةً سلبيَّة، ومنعت عن الحقِّ قوّةً إيجابيّة، وبذلك ينتصر الباطل، أيّاً كان الباطل، سواء كان في السياسة أو الاجتماع أو غير ذلك...
أسبابُ الثَّورة
ثمَّ يتابع الحسين (ع) تصويره للواقع: "ألا وإنَّ هؤلاءِ قد لزموا طاعةَ الشَّيطانِ، وتركوا طاعةَ الرَّحمن، وأظهرُوا الفَسَادَ، وعطَّلُوا الحُدودَ - عطَّلوا حدود الله في مواجهة المجرمين، فعاقبوا الضَّعيف، وتركوا الشَّريف، كما قال رسول الله (ص): "إنَّما أَهْلَكَ الّذينَ مِنْ قبلِكم، أنَّهُم كانُوا إذا سَرَقَ فيهم الشَّريفُ تركُوهُ – هؤلاء الَّذين يكونون في المقامات الكبيرة، الَّذين لا يجرؤ أحد على محاكمتهم، كما في لبنان؛ هذا رمز الطَّائفة، وذاك أبو الطَّائفة، وهذا الإنسان يمثِّل كذا وكذا - وإذا سَرَقَ فيهم الضَّعيفُ أقاموا عليْهِ الحَدَّ - أي أنَّ القانون لا يطبَّق إلَّا على الضّعفاء، فهناك من يسرق الملايين، وليس هناك من يحاسبهم بكلمة، والَّذي يسرق مائة ليرة حتَّى يطعم أولاده خبزاً، تطبَّق كلّ القوانين بحقِّه، وتنعقد كلّ المحاكمات لأجله، يقولون لا بدَّ من تطبيق القانون عليه، والقانون فوق الجميع!
ثمَّ يبيِّن النَّبيّ (ص) البرنامج الإسلاميَّ في هذا المجال: وأيمَ اللهِ، لوْ أنَّ فاطمةَ بنْتَ محمَّدٍ سرقَتْ – و"لو" هي حرف امتناع لامتناع، يعني أنَّه لا يحصل، ولكن لنفترض أنَّه حصل، من باب أنَّ فرضَ المحالِ ليس محالاً.. ففاطمة (ع) هي بضعة رسول الله (ص)، وهي سيِّدة نساء العالمين، فهي لا تسرق، ولكنَّ النَّبيَّ (ص) يريد أن يوصل الفكرة بأكثر المواقع قرباً منه – لقطعْتُ يدَها".
- واستأثرُوا بالفَيْءِ – وهو مال الأمَّة والميزانية العامَّة لها - وأحلُّوا حرامَ اللهِ - غيَّروا القانون - وحرَّمُوا حلالَهُ".
وفي صورةٍ أخرى، يعبِّر الإمام الحسين (ع) عن الواقع الموجود، يقول (ع): "اتَّخذوا مالَ اللهِ دُوَلاً – ومال الله هو مال النَّاس والأموال العامَّة، فقد جعلوه دولاً، يتداولونه فيما بينهم، ويعطيه كلّ واحد للآخر - وعبادَهُ خولاً"، أي عبيداً، وهذا الَّذي تمثَّل في السنة الثَّانية لحكم يزيد، فقد حكم يزيد ثلاث سنوات؛ في السنة الأولى منها، قتل الإمام الحسين (ع) والصّفوة الطيّبة من أهل بيته وأصحابه، وفي السنة الثَّانية، عندما تمرَّدت عليه المدينة، استباحها ثلاثة أيَّام، ليُقتَل من يُقتَل، ولتُنتَهك الأعراض، حتَّى قيل إنَّ أكثر من ألف امرأة ولدن من دون آباء، وفي السنة الثَّالثة، ضرب الكعبة بالمنجنيق. فهل يمكن أن يكون هذا قائداً للأمَّة الإسلاميَّة؟ هذا تاريخ، ونحن لا نريد أن نستغرق اليوم بيزيد، فيزيد لقي جزاءه عند الله، ولكن كم يزيد عندنا، ليس فقط هنا، بل في العالم كلّه؟! وهناك كثير من النَّاس، كما كانوا مع يزيد في السَّابق، هم اليوم مع يزيد؛ يزيد الأمريكي، يزيد الأوروبي، يزيد العربي، إلى آخر هذه العناوين.
حتَّى إنَّه قيل إنَّ يزيد في السنة الثَّانية، أراد البيعة من أهل المدينة على أن يكونوا عبيداً له. والحسين (ع) عاش هذا الجوّ والواقع، وأراد أن يغيِّره، بأن يدخل الفكر الإصلاحيَّ الإنسانيَّ الَّذي يتحرَّك من خلال المنهج الإسلاميّ في حلال الله وحرامه، وفي الأمانة على أموال النَّاس وأعراضهم ودمائهم، أراد أن يعطي النَّاس الوعيَ كمقدِّمة لأن يتحوَّل هذا الوعيُ إلى واقعٍ حتّى يحصل الإصلاح.
ثمَّ تأتي الفقرة الأخيرة لتتحدَّث عن أسلوب الإمام الحسين (ع) الحركي، وهذا ما نتحدَّث عنه بعد ذلك.
والسَّلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
* محاضرة عاشورائيَّة لسماحته، بتاريخ: 19/03/2002م.