نشرت مجلة الأهرام العربي في ملحق خاص في عددها الصادر بتاريخ 06 جمادي الثاني 1422 الموافق 25-8-2001م مقابلة مع سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله تناولت سردا" لسيرته الذاتية منذ الطفولة . وتتضمن الملحق مقابلة مع الرئيس سليم الحص والحاجة زينب الشامي و السيد جعفر فضل الله (نجل سماحة السيد)
أجرى الحوار : أحمد أسعد ـ جودت صبرا ـ إبراهيم جزيني ـ كمال طنوس
السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه بحر علوم لا ينضب
هو أحد مراجع الشيعة في العالـم، وواحد من كبار فقهائهم، الذين أثروا الفكر والفقه الإسلامي بكتب ودروس ومحاضرات تمتد آثارها في العالـم الإسلامي والعالـم أجمع، لبناني الأسرة, نجفي المولد والمجتمع, نشأ في محيط النجف تربية وتعليماً, فتلقي العلوم الإسلامية في حوزاتها, والدراسات العلمية والآداب العربية في مجالسها, ومنتدياتها الأدبية، صاحب طاقة حيوية ونشاط دؤوب وتفان، مخلص في الدعوة إلى اللّه تعالى. ولد سماحة آية اللّه العظمى السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه في النجف الأشرف في 19 شعبان 1354 هجرية الموافق لسنة 1935 ميلادية، من عائلة آل فضل اللّه التي تنتسب إلى الإمام الحسن بن عليّ (ع) وترتبط بأشراف مكة، والده المغفور له آية اللّه السيِّد عبد الرؤوف فضل اللّه رحمه اللّه.
نشأ سماحته في النجف الأشرف، ودرس فيها المقدّمات والسطوح في الفقه والأصول، على يد والده ودرس في الخارج على يد كبار العلماء في النجف الأشرف منهم: السيِّد أبو القاسم الخوئي، السيِّد محسن الحكيم، السيِّد محمود الشهرودي، والشيخ حسين الحلّي، وحضر درس الفلسفة في الأسفار لدى الشيخ ملا صدر البادكوبي.
انفتح على واقع الأمّة الإسلامية باكراً، واطّلع على الأجواء الأدبية والفكريّة والسياسيّة السائدة عن طريق الصحافة العربية، وشارك في النشاطات الأدبية والشعرية في الأوساط الثقافية في النجف الأشرف، وقد بدأ ينظّم الشعر وعمره عشر سنوات، فاستحق اللقب الذي أطلق عليه: شاعر الفقهاء وفقيه الشعراء، شارك في تأسيس الحركة الإسلامية في العراق، كما شارك مع مجموعة من العلماء في الأشرف في «مجلة الأضواء» التي كانت تصدرها جماعة العلماء في النجف الأشرف ابتداءً من عام 1380هـ. وكان يكتب افتتاحيتها الثانية تحت عنوان رسالتنا.
هاجر من النجف الأشرف إلى لبنان في سنة 1387هـ، وسكن في محلة النبعة من ضواحي بيروت، وقام بتأسيس مشاريع خيرية واجتماعية وثقافية، ومن بين تلك المؤسسات المعهد الشرعي الإسلامي، وهي الحوزة الدينية التي تخرّج منها العديد من علماء لبنان من المسلمين الشيعة.
بعد اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام 1975م، اضطر إلى الانتقال إلى الضاحية الجنوبية لبيروت، وواصل نشاطه الديني والثقافي والسياسي، وانطلق إلى لبنان في حركته الجهادية والسياسية لمواجهة القوى المستكبرة في المنطقة والعالـم، وقف مع الثورة الإسلامية في إيران بكلّ قوّة، وانفتح على الحركات الإسلامية في العالـم العربي في أكثر من موقع، وكان قد تعرّض لعدّة محاولات اغتيال من قبل أجهزة المخابرات المحلية والإقليمية والعالمية، وكان آخرها وأكثرها دموية تلك التي قامت بها المخابرات المركزية الأميركية بالتعاون مع أجهزة عربية وصهيونية، في تفجير سيارة مفخخة قرب منـزله في بئر العبد، في الضاحية الجنوبية، في 8 مارس عام 1985م، وسقط فيها ما يُقارب الثمانين شهيداً ومائتي جريح معظمهم من النساء إثر خروجهنّ من مسجد الإمام الرضا في بئر العبد بعد أداء صلاة الجمعة، لكنَّ العناية الإلهية تدخلت ونجا سماحته بأعجوبة.
زار سماحته العديد من البلدان الإسلامية والأجنبية محاضراً وداعياً إلى اللّه كالولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وفرنسا والهند والجزائر وإيران، وغيرها للمشاركة في المؤتمرات الإسلامية الفكرية.
لسماحته عشرات المؤلفات الإسلامية الفكرية والفقهية والسياسية والشعرية، تربو على الـ 60 من أبرزها:
ـ تفسير من وحي القرآن الكريـم 24 مجلداً، قضايانا على ضوء الإسلام، الحوار في القرآن، الإسلام ومنطق القوّة، خطوات على طريق الإسلام، حديث عاشوراء، دنيا المرأة، الحركة الإسلامية، هموم وقضايا، في آفاق الحوار الإسلامي المسيحي، فقه الحياة، خطاب الإسلاميين والمستقبل، بالإضافة إلى ثلاثة دواوين شعر: يا ظلال الإسلام، قصائد للإسلام والحياة، على شاطئ الوجدان، وقد قام بعض أفاضل طلابه بكتابة تقريرات أبحاث سماحته الفقهية كـ «رسالة في الرضاع، القرعة والاستخارة، كتاب النكاح، كتاب الجهاد، كتاب اليمين والعهد والنذر، إضافة إلى آراء سماحته الفقهية الواردة في كتابه المسائل الفقهية بجزأيه الأول والثاني، ومناسك الحج».
قام بتأسيس عدّة مشاريع خيرية اجتماعية وثقافية، منها جمعية المبرات الخيرية بمؤسساتها المتفرعة ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مبرة الإمام الخوئي (رحمه اللّه)، مبرة الإمام زين العابدين في الهرمل، مبرة السيِّدة خديجة على طريق المطار، مبرة الإمام علي في معروب جنوب لبنان، كما أسس الحوزات العلمية في بيروت وصور وبعلبك ودمشق، والمسجد الكبير في حارة حريك الذي يضمّ مركزاً للدراسات ومكتبة عامة ومشاريع أخرى قيد الإنجاز.
يُتابع سماحته شؤون المرجعية عبر الإجابة عن الاستفتاءات ومتابعة أوضاع المسلمين في مختلف بلدان العالـم، كما علّق سماحته على الفتاوى الواضحة للشهيد محمَّد باقر الصدر (رحمه اللّه) كمرحلة أولى، إضافة إلى أنَّه قد صدر لسماحته الجزء الأول من رسالة فقهية خاصة به بعنوان: «فقه الشريعة»، كما يُتابع إعطاء دروس يومية في الفقه والأصول على مستوى بحث الخارج لطلاب العلوم الدينية في بيروت ودمشق، هذه الدروس التي لـم تنقطع منذ مجيئه إلى لبنان، كما لا يزال مواظباً على نشاطه الثقافي في المحاضرات المختلفة، وكتابة المقالات الإسلامية، وإجراء الأحاديث الفكريّة والسياسيّة مع مختلف وسائل الإعلام العربية والعالمية، بالإضافة إلى صلاة الجمعة في مسجد الإمامين الحسنين في بيروت.
السيِّد فضل اللّه شاعر الفقهاء وفقيه الشعراء:
تعرّضت لأربع محاولات اغتيال
في زمن كثر فيه التآمر على المسلمين، وقلّ فيه وجود رجالات قدوة في العلم والفقه والتوجيه، وبات الإنسان المسلم يتشوق لتلمس طريقه إلى الهداية والتّقوى والمعرفة، وفي ظلّ أنظمة لا ترتقي إلى مستوى الحدث، وتتخذ من مواطنيها مطية لبلوغ أهدافها، حتّى ولو كانت على حساب كرامة أوطانهم ورقيها وتقدّمها، وفيما تستقبل عواصم عربية كثيرة أعداء الأمّة والإسلام، وتتظلل بمظلة السَّلام يُطالعك سماحة آية اللّه العظمى العلاّمة السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه، بلمسة فيها الحجّة والواقع على حكايات وأسرار ربَّما يبوح بها لأول مرة لمن رأى فيه وسيلة لإيصال رسالته إلى محبيه وإلى العالـم أجمع.
في عينيه تقرأ لغة غريبة، وفي كلماته العميقة الفلسفية تكتشف عظمة الوجود، وإذا ما نظرت إلى وجهه ترى نوراً روحانياً يشع ليملأ القلوب إيماناً والمكان رهبة، في حضرته تختصر كلّ الأشياء، في أسلوب منطقي يدل على فهم عميق لكلّ الأمور، ولا يسعك إلاّ أن تكون منصتاً صامتاً مستمعاً إلى كلّ كلمة دون أن تسأم أو تمل، وتتمنى أن يدوم اللقاء إلى ما لا نهاية، لكي تغرف من نبعه جرعة، بل زاداً من المعرفة.
ما كنّا نعلم أنَّ الجلوس على مسافة سنتيمترات قليلة منه يعني الكثير من الاهتمام، فما جالسناه يوماً إلاَّ وكان كالأب الرؤوف والراشد المرشد، والموجه بروحانية الإيمان، إلى طريق الصراط المستقيم، تراه ثائراً يُضمر الحقد والضغينة على الاستكبار العالمي والصهيونية، فهما عدوان لدودان له، كما للإسلام والمسلمين وتسمعه قائداً موجهاً مقاوماً، ومسيرة حياته مزروعة بالألغام، اختار مهنته منذ فطرته، وسلك نهج آبائه وأجداده، وسار على دروبهم المليئة بالأشواك، فهو لا يخاف الموت إنَّما يحبّ الحياة، لا لهدف إنَّما لإيصال رسالته إلى أكبر عددٍ ممكن من المؤمنين المسلمين في العالـم.
إنَّه نجفي الولادة والنهج والفقه، شاعر بالفطرة، أديب ومفكّر، كاتب مخضرم، ومتفوه فقيه، يتعاطى أمور الدين كما أمور الدنيا والسياسة، في نهجه تحظى بكلّ اهتمامه، له آراؤه السديدة، وفتاواه الكثيرة، لبناني الهوية والانتماء، وإذا ما سألته عن حسبه ونسبه يقول:
ولدت في النجف الأشرف في العراق، لأنَّ والدي كان مهاجراً من لبنان للدراسة في الحوزة العلمية هناك، ومكثت أكثر من 30 سنة، تلميذاً، ثُمَّ مدرساً، وولدت في تلك الفترة سنة 1354 هجرية الموافق 1935 ميلادية، ونشأت في بيت يغلب عليه الفقر، لأنَّ الإمكانات المادية كانت محدودة جداً بالنسبة إلى المرحوم الوالد، ولذلك عشت ما يشبه البؤس في حياتي، وبدأت طفولتي في النجف بشكل محدود جداً، لأنَّ النجف بيئة محافظة، وربَّما كانت التعليمات التي تصدر للطفل أن يتأدب بآداب الكبار، أن يجلس كالملائكة كما كان يُقال لنا، يعني ألا يعبث، ألا يلعب كثيراً، ولذلك لـم يتح لي أن أعيش طفولتي كما هو عبث الطفولة وألاعيبها، وربَّما ترك ذلك شيئاً في نفسي، مما كنت أختزنه من الألـم الطفولي الذي تمثّل في بدايات حياتي الشعرية فيما يشبه الرثاء، ومن الطبيعي أنَّ النجف تمثِّل بلداً يضمّ مرقد الإمام عليّ (ع)، وتتحرّك فيه التقاليد والعادات الشيعية في عاشوراء، ومن بينها ما درج عليه النّاس في عاشوراء، من لطم ومواكب تنطلق إلى الأحياء الشعبية، التي تتحدّث عن مشاعر النّاس تجاه أهل البيت بالحزن ومآسيه وعاداته، لا سيّما بالنسبة إلى قضية الإمام الحسين (ع)، كما كنت في طفولتي أنظر إلى الذين يضربون رؤوسهم بالسيف، كتقليدٍ من تقاليد التعبير عن الحزن، أو يضربون ظهورهم بالسلاسل، أو يلطمون صدورهم العارية، ومن الطبيعي في مثل هذه الحالات أن تترك تأثيراتها في نفسي، وهي أيضاً تضمّ أكبر مقبرة في العراق للشيعة، لأنَّ الشيعة كانوا في العراق غالباً ما لا يدفنون موتاهم في بلادهم، بل ينقلونهم إلى النجف، ولذلك كانت مقبرة وادي السَّلام مقبرة مترامية في الصحراء، وكنّا نجد الجنائز في كلّ يوم تأتي يحملها أصحابها أو الموكلون بها، يزورون بها مرقد الإمام عليّ، ويجدّدون له عهداً ثُمَّ يدفنونها.
ومن الطبيعي أنَّ الإنسان الذي يعيش مظاهر الموت الدائم لا بُدَّ أن يحفر ذلك شيئاً في نفسه، وقد كانت لي بعض القصائد في مستهل عمري، عبّرت فيها عن النجف بأنَّها شاطئ الموت وكنت في ذلك الوقت من خلال الجوّ الديني وأنا في العاشرة من عمري، وكان لي صوت جيِّد وعذب أذهب فأقرأ الأدعية التي يقرأها المسلمون في شهر رمضان، ليسمعها كبار السن حتّى في أوقات الظهيرة اللاهبة بالحر.
بدأت مبكراً ومما ساعد على النمو الطبيعي لطفولتي، أنَّ المرحوم الوالد كان يعاملني برفق وبمحبة، ولا أذكر أنَّه ضربني مرة واحدة، بل كان إذا أخطأت يحدّق فـيّ بنظرة كنت أشعر بالتأديب فيها أكثر مما كنت أشعر بالقسوة، ولذلك كان رفيقي حتّى أنَّه كان يستمع إليّ، وإلى كلمات طفولتي، مما ساعدني على النمو، ذهنياً في وقت مبكر، ونحن نعرف أنَّ النجف قدّمت الكثيرين من الشعراء الكبار أمثال: السيِّد محمَّد سعيد الحبوبي والجواهري والشرقي حتّى أنَّ شعراء في العراق كـ «بدر شاكر السياب» وغيره نشأوا على شعر النجف، وكانت النجف تتنفس شعراً، لأنَّ المناسبات الدينية كانت تعبّر عن مضامينها بالشعر، كما إنَّه عندما تموت شخصية كبيرة، كانت مجالس الفاتحة التي تُقام تنشد فيها القصائد، والقصائد كانت تتنوّع في مضامينها، حتّى في حفلات التأبين في القضايا السياسية وغير السياسية، ينتقل فيها الشاعر من المناسبة إلى ما هو أوسع منها، ولذلك كنّا قد التقينا بفلسطين من خلال ذلك الجوّ في النجف، في الوقت الذي لـم تكن النجف منفتحة على الواقع السياسي بشكل كبير، إلاَّ من خلال بعض المواقع الحزبية الصغيرة، سواء من الأحزاب المحلية، كالحزب الوطني الديمقراطي، أو الأحزاب القومية العربية في بداياتها يومذاك قبل أن يأتي البعث، وهذه الأحزاب لـم تكن ذات تأثير كبير في أواخر الأربعينيات، فأنا بدأت الشعر في تلك السنين، وأذكر أنَّني كنت في الثانية عشرة، وكانت لي قصيدة في فلسطين أذكر منها:
دافعوا عن حقّنا المغتصب فـي فلسطيـن بحـدِّ القضب
واذكروا عهد صلاح حينما هبّ فيها طارداً للأجنبـي
وبدأت الشعر وأنا في العاشرة وببديهة فطرية لأنَّني من عائلة شاعرة ولا أدري كم للوراثة من دور في أن يكون الإنسان شاعراً بشكل مبكر لأنَّ عائلتي لـم تكن في النجف وأذكر أنَّ أول تجربة شعرية لي كانت أبياتاً أقول فيها:
فإن أك في نظم القريض مفاخراً ففخري طرا بالعلا والفضائل
ولست بآبائي الأباة مفاخراً ولست بمن يبكي لأجل المنازل
فان أك في نيل المعالي مقصراً فلا رجعت باسمي حداة القوافل
سأنهج نهج الصالحين وأرتدي رداء العلا السامي بشتى الوسائل
وأجهد نفسي أن أعيش معززا وليس طلاب العزّ سهل التناول
ودرست في النجف وكنت مهتماً بقراءة الصحف المصرية، كنت أقرأ مجلة المصور، وأقرأ مجلة آخر ساعة، وفي مرحلة متقدّمة في سن الثانية عشرة كنت أقرأ الرسالة، لأحمد حسن الزيات، و كنت أقرأ له ترجماته لـ «لامارتين» ومترجمات القصصي الفرنسي «أناتول فرانس» وقصص «المنفلوطي» العبرات والنظرات، وكنّا نبكي الجانب المأساوي في طفولتنا، ثُمَّ التقيت وأنا في سن الرابعة عشرة بمجلة الكاتب للكاتب المصري «طه حسين» ولا أدري ما المناسبة التي جعلتني أقرأ مثل هذه المجلة، كما كنت أهوى القراءات الشعرية لبشارة الخوري، وإلياس أبو شبكة، والشعر اللبناني والمصري، بالإضافة للشعر العراقي كشعر الجواهري والمتنبي وغيرهما وكنت وأنا في الرابعة عشرة أشارك في حفلات الشعر.
ونظراً إلى أنَّني من عائلة علمية دينية لـم يكن هناك نظام للشعر، أمّا دراستي فقد درست في الكتاتيب التي تعلّم الإنسان القراءة والكتابة، لأنَّ المدارس لـم تكن قد انتشرت، أو كانت هناك بعض التحفظات الدينية لدى الوسط الديني من المجالس على الطريقة الحديثة، ولكن فتحت مدرسة تابعة لجمعية دينية ثقافية، وهي منتدى النشر تعلّم الدين إلى جانب الدروس العادية، فدخلت إليها وقبلت في الصف الثالث، ونجحت إلى الرابع، ولكن لا أدري لماذا أخرجت منها ودخلت في سن الـ 12 سلك الدين، ولـم يكن مطلوباً مستوىً معيناً للدراسة، وألبست العمامة، وبدأت الدراسة الدينية، في مقدّمتها علوم قانونية ونحو وصرف في البداية كـ قطر الندى، ثُمَّ ألفية ابن مالك وشرحها معقّد جداً، بالإضافة إلى الدروس الفقهية، وانطلقت بدروس البلاغة على الطريقة القديمة، ولـم أذهب إلى لبنان طوال هذه المدّة حتّى العام 1985، جئت إلى لبنان في زيارة مع والدتي، وكانت في ذلك الوقت مناسبة وفاة أحد العلماء الكبار الذي كان يسكن في الشام، وهو السيِّد محسن الأمين وكان محل تقدير، وكان من العلماء المصلحين، أصدر فتواه التي كلفته الكثير من انتقاد التقليديين، وهي تحريـم ضرب الرؤوس بالسيوف والظهور بالسلاسل، وقد وصلت إلى دمشق يوم دفنه، وبعد ذلك جئت إلى بيروت ونزلت في بيت خالي المرحوم علي بزي السياسي المعروف، وفي تلك المرحلة التقيت بالدكتور حسين مروة ولنا صلة قرابة معه ومع بعض المثقفين في ديوانيته، وأذكر أنَّ الحديث جرى في ذلك الوقت حول الشعر والأدب، ومن الطبيعي أنَّني كنت في لباسي التقليدي، كشاب في مقتبل العمر، أي في بداية سن السابعة عشرة، فعلّق بعض الحاضرين المثقفين بقوله: السيِّد سوف ينطق بقصيدة رثاء للسيِّد محسن الأمين وعلّق شخص آخر: لا بُدَّ أن تكون على طريقة قفا نبكي، باعتبار أنَّني بزيي التقليدي، لا بُدَّ أن أكون تقليدياً في الشعر وناقشتهم في ذلك الوقت وقلت لهم: النجف ليست كما تعلمونها، النجف تقرأ الفكر الحديث والشعر الحديث، وربَّما كان هذا حافزاً لأنظم قصيدتي في محسن الأمين ونظمتها وذهبت في ذلك الوقت إلى ولده السيِّد حسن الأمين المعروف، وفوجيء أو أحرج لأنَّها قصيدة أثارت اهتمامه كثيراً وأذكر أنَّني شاركت في الحفل التأبيني في الذكرى الأربعين بزيي التقليدي، إلى جانب كبار الشعراء والأدباء، وكان من بينهم الدكتور مصطفى السباعي وكامل مروة صاحب جريدة الحياة في لبنان وكانت القصيدة مثيرة للانتباه لأنَّها تتحدّث عن الاستعمار الفرنسي، وعن الوحدة الإسلامية، وعن مشاكل كلّ الشباب، وهي كانت تتألف من 60 بيتاً وألقيتها عن ظهر قلب بدون ورقة، وكتبت في ذلك الوقت بعض الصحف اللبنانية، وأذكر منها جريدة النضال عن القصيدة بإسهاب، ومكثت في لبنان بضعة أشهر، وانطلقت في جلسات حوار في شؤون الدين والسياسة، وكنت قد التقيت في بداياتي بالقوميين العرب، وبعض المثقفين، وكنت إسلامياً منذ البداية، وبحسب ثقافتي المتواضعة، كنت أعيش الحوار ونظمتُ كثيراً من الشعر، الذي نُشر في مجلة العرفان في ذلك الوقت، ثُمَّ عُدت إلى النجف بعد ذلك لأتابع دراستي الدينية.
وتحدّث العلامة فضل اللّه عن أصوله النسبية وقال:
إذا تحدّثت عن أصولي النسبية فإنَّ عائلتي تنتمي إلى الأشراف الحسنيين من أشراف مكة ونسبنا يتصل بنسب أشراف مكة الذين منهم الشريف حسين، والعائلة المالكة، وكان جدّنا من الأشراف الحسنيين توفي سنة 970 هـ، التقى به أحد علماء بلدتنا عيناثا التي كانت مركزاً من مراكز الدراسة العلمية الدينية، وكان جدّنا مريضاً، أقنعه بأن يأتي إلى لبنان، وتوفي في هذا البلد، وكنّا نحن من ذريته حتّى أنَّ بعض أجدادنا عندما ذهب أحد إلى مكة، والتقى ببعض أشراف المسؤولين ضمن قصيدته في مدحه أبيات الشريف الرضي وبدل التعبير:
عفواً أمير المسلمين فإنَّنا في دوحة العلياء لا نتفرق
إلاَّ الإمارة ميزتك فإنَّني أنعاكم... وأنت مطوق
وهذه العائلة تميّزت بأنَّها عائلة نشأ فيها علماء وشعراء وأدباء، وهي عائلة آل فضل اللّه فأنا من عائلة علمية وشاعرة أيضاً، وربَّما كان تأثيرها وراثياً، فعيناثا أنجبت علماء كثيرين، اشتهروا فيها وكان بعضهم يتحدّث على عين الماء وأذكر أنَّه أنشد قصيدة مما جاء فيها:
على عين عيناثا عبرنا عشية عليها عيون العاشقين عواقب
وطبعاً نحن من أشراف مكة، ولدينا وثيقة نسب فيها شهادات تعود إلى أربعمائة سنة من قضاء فلسطين وأشراف فلسطين ولبنان، وينتمي نسبنا إلى الإمام الحسن بن عليّ بن أبي طالب.
س: مع من تبني علاقاتك الشخصية محلياً وإقليمياً ودولياً؟
ج: كانت لي علاقة مميّزة في لبنان وفي النجف مع الإمام السيِّد موسى الصدر وكان صديقي، ومع الشيخ محمِّد مهدي شمس الدين وكنّا رفيقين، وهناك علاقة ذاتية بخالي علي بزي، وهناك علاقات واسعة مع سياسيين وأدباء ومثقفين، ولكن لـم تكن عميقة، وأخص الرئيس الدكتور سليم الحص فهناك احترام متبادل بيننا.
س: ما أهم قرار سياسي اتخذته في حياتك؟
ج: إنَّ أهم قرار هو الوقوف مع القضية الفلسطينية منذ بداياتها، وفي وجه الاحتلال الإسرائيلي انطلقت المقاومة منذ البداية، بمعنى أنَّني رعيت المقاومة من الناحية الفكرية والعلمية، منذ بدايتها، وأنا أرافقها على الدوام.
س: هل اتخذت قراراً صعباً وتراجعت عنه في آخر لحظة؟
ج: لا أذكر أنَّني تراجعت يوماً عن أي قرار اتخذته، وأعتبر أنَّ أحد المواقف السياسية الصعبة التي اتخذتها كانت يوم احتلت إسرائيل لبنان وبيروت، وكنتُ من أوائل الذين دفعوا بالشباب إلى مقاتلة إسرائيل، وكانت المعركة عند حدود خلدة، على مدخل بيروت الجنوبي، وقد وقفنا مع تجمع العلماء المسلمين في مسجد بئر العبد، ورفضنا اتفاق 17 مايو، وتدخل الجيش اللبناني في حينه ليقمع هذا التجمع الشعبي وقتل أحد الشباب في ذلك الوقت، وكان صوتنا هو الصوت الأول، الذي انطلق ضدّ اتفاق 17 مايو.
س: كم مرة تعرّضت لمحاولات اغتيال؟
ج: تعرّضت لأربع محاولات اغتيال في حياتي، لغاية الآن:
الأولى: كانت من خلال عملاء البعث العراقي، وكنت خارجاً من بيتي في السيارة في الثمانينيات، وكان هناك كمين في محلة حرج الغبيري في وسط بيروت، وأطلق المسلحون الرصاص بغزارة على سيارتي، ولكن من لطف اللّه أنَّ السيارة التي كانت أمامي أصيبت، والتي كانت خلفي أصيبت، ولكن سيارتي لـم تصب، وذهبت إلى المحاضرة التي كنت متوجهاً إليها في حسينية الشياح، دون أن أقول للنّاس شيئاً، وأكملت محاضرتي.
الثانية: كان منـزلي على مشارف المخيم الفلسطيني صبرا وشاتيلا، وفي ذاك الوقت كنت نائماً وبيتي في الطابق الخامس، وانطلقت قذيفة صاروخية موجهة إلى نفس المكان الذي أنام فيه، وأصاب الصاروخ الطابق الرابع، دون أن يُصاب أحد ولـم تُعرف الجهة التي أطلقت الصاروخ في ذلك الوقت، وأذكر أنَّه في الوقت ذاته زارني أبو الهول، وكأنَّه جاء ليقول بأنَّ الفلسطينيين لا دخل لهم في الحادث، فكان كلامي له: كنّا نعتقد أنَّه عندما نكون إلى جانبكم نحصل على الأمن، ولكن يبدو أنَّ القضية معاكسة.
الثالثة: كانت مجزرة بئر العبد، وقد نقلت واشنطن بوست آنذاك عن رئيس المخابرات الأمريكية وليم كيسي قوله: إنَّ فضل اللّه أصبح مزعجاً للسياسة الأمريكية وأنَّ عليه أن يرحل، وسلّم أحد السفراء العرب إلى كيسي 3 ملايين دولار على أساس أنَّه سينفذ الخطّة، فجاءت أجهزة كلّ المخابرات البريطانية والأمريكية إلى لبنان، وتعاونوا مع المخابرات اللبنانية، ووظفوا بعض النّاس للمراقبة، وراقبوني لمدّة سنة متى أخرج من البيت وأذهب إلى الصلاة ومتى أعود، ومن أي طريق حتى استكملوا ذلك، وحدث في ذلك الوقت أنَّني خرجت ككلّ يوم جمعة للصلاة ورأيت على غير العادة حشداً كبيراً من مراسلي التليفزيونات والصحف، وكان كلّ واحد منهم يبحث ولو عن تصريح بكلمة أو كلمتين، ورافقوني إلى المسجد، ولـم أكن قد انفتحت على ذلك الجوّ السياسي بشكل فوق العادة، بهذا المعنى الإعلاني، وعندما دخلت إلى المسجد دخل الإعلاميون معي وانتهيت من الصلاة، وكنت أصلي بعد صلاة الجمعة للرجال، أصلي كذلك للنساء ثانية، وأتحدّث معهم حتّى كانت الساعة الخامسة والنصف، وأردت أن أذهب إلى البيت في نفس الوقت الذي اعتدت أن أذهب فيه، وفجأة جاءت امرأة وهي من معارفنا، وقالت إنَّها استخارت اللّه أن تسألني في حديث، وبدأت تتحدّث عن مشكلتها، فقلت لها إنّي متعب، ولا أستطيع أن أتحدّث معك، وعليك أن تأتي مرة أخرى، غير أنَّها أصرّت على الحديث وبين رفضي وإصرارها وإلحاحها، وفي أثناء الحديث دوي الانفجار، وكانت مصادفة أخرى وهي أنَّه جاءت سيارة مثل سيارتي، يواكبها رانج روفري مثل الذي عندي إلى المكان فظنوا بأنَّني جئت، وكانت الخطّة أنَّه كان هناك طريقان للبيت، فلو جئت من هذا الطريق أو ذاك فسأصاب حتّى أنَّ إذاعة الكتائب «صوت لبنان» في ذلك الوقت قالت إنَّ فضل اللّه أصبح تحت الأنقاض، فالقضية كانت مدبرة، ولكن الحمد للّه أنَّ اللّه سبحانه وتعالى نجاني، وقتل في ذلك الوقت أكثر من 80 شخصاً حتّى أنَّ الأجنّة خرجت من بطون أمهاتها، في ذلك الوقت طبعاً صرًحنا وقلنا إنَّنا لن نتراجع، وأيضاً وضع أمام البناية التي تهدمت إلى جانب بيتي، «هكذا صنعت أمريكا» وأصدر الرئيس الأمريكي رونالد ريجان آنذاك تصريحاً بأنَّ أمريكا ليست هي التي قامت بذلك، لكن فضحت القضية من واشنطن بوست وذكر صاحب كتاب مذكرات كيسي أنَّه عندما سمع وليم كيسي والسفير العربي بنجاتي أصيب الأخير بألـم في معدته، ثُمَّ كذب كذبة كبرى وهي أنَّنا أرسلنا إليه ـ إلى الشيخ فضل اللّه حسب تعبيرهم ـ مليوني دولار، وزعها على جماعته، وهذه كانت كذبة والنّاس يعرفون الحقائق.
وحدث بعد ذلك، وكنتُ في ذلك الوقت في مكة حاجاً مع أصدقاء وجاءني الرئيس رفيق الحريري ومعه أحد الصحافيين اللبنانيين وعرض عليّ الرئيس الحريري آنذاك مبلغاً من المال وقال: إنَّ الملك فهد يعرف أنَّ لديك مبرات أيتام وهو يحبّ أن يتبرع من ماله الخاص بمبلغ لهذه المبرات مقداره 17 أو 27 مليون ريال أو دولار على ذمة الصحافي مصطفى ناصر، من دون أن توقع، ومن دون أن تغيّر سياستك ولا دخل للدولة في ذلك، فقلت له أنا لا أفعل شيئاً وأستحي منه ولا أملك أن أقول للنّاس إنَّني حصلت على مالٍ من مجهول، فأشكره على ذلك، ومرة ثانية حدثت مجزرة ضدّ الإيرانيين في مكة وزارني الرئيس الحريري، وقال لي إنَّ الملك فهد يسلّم عليك ويقول لك إنَّ ما صدر من الحكومة السعودية في هذه القضية، لا علاقة له بالسياسة بل له علاقة بالأمن، والسعودية لا تستطيع أن تتساهل في أمنها.
الرابعة: التي حدثت كنت في المسجد، وجاء أحد المصلين وكان عنده حزام مفخخ وضع ورائي، وكان بالإمكان أن ينفجر، ثُمَّ ذهب كي يجدّد وضوءه، ولكن اكتشف ذلك في اللحظة الأخيرة، وهذا من صنع وتخطيط إسرائيل، ولا أزال أعيش الهاجس الذي منعني عن الكثير من الزيارات.
س: هل تخاف الموت؟
ج: أنا أحبّ الحياة، لا من خلال إيجابية الحياة، أنا أحبّ عملي، وأحبّ أن تكون حياتي متحرّكة فيما أكتب وفيما أقول وفيما أعطي من دروس، لذلك أنا أحبّ الحياة من أجل عملي، ولهذا فإنّني لا أحبّ الموت المبكر، ولكنّي لا أشعر بمأساة، ولدي قصيدة في الستينيات سميتها نشيد الموتى وطبعاً تفكيرنا بوجدان مادي هو أنَّه تنتهي هذه المرحلة من حياتك لتبدأ مرحلة حياة أخرى، وهو جسدٌ بين حياتين، ومن الطبيعي أنَّ الإنسان المؤمن يفكّر بالآخرة وبالوقوف أمام اللّه، قد يعيش القلق من مسؤولياته التي قد لا تكون في مواقع رضا اللّه.
س: متى تقرأ ومتى تكتب؟
ج: هناك حالة تعودتها في حياتي، وهي إنَّني عندما أنتهي من عملي، وأبدأ عملا آخر فإنَّني أنفصل عن العمل السابق نهائياً، كما لو أنَّه لـم يحدث، ولذلك فإنَّ أي عمل لا يجبرني على عمل آخر، إنَّ كتاب «من وحي القرآن» وهو تفسير القرآن من 24 جزءاً إنَّني كنت أكتبه في الطائرة، وكنت أكتبه في غرفة الفندق عندما أذهب إلي طهران أو إلى الشام ويأتيني إخوان ويدرسون معي ويخرجون، فأعود إلى الكتابة وأذكر في الشعر مثلاً، إنَّني كنت مع الوالد في الحج وخلال المسافة بين عرفات وبين منى، ركبنا على سطح السيارة، وكان الضوء خافتاً فنظمت عدّة رباعيات كأنَّني كنت أحفظها وكنت أستأنف كتابتها في ذلك الوقت وأعتقد أنَّني أيام الحرب عندما كنت أنزل إلى الملجأ كنت أكتب.
س: بمن تأثرت من الشعراء؟
ج: لـم أتأثر بشاعر واحد، لكن لا إشكال، فإنَّ الشعراء الأخطل الصغير بشارة الخوري وأبو تمام والبحتري وغيرهم أثروا نوعاً ما في، ولكن ليس هناك شاعر معين.
ويمكن القول إنَّني أقرأ وأكتب في كلّ وقت في الليل والنهار، وأقرأ كلّ شيء خصوصاً الصحف اليومية والتعليقات، وأقرأ الكتب الحديثة، وأقرأ الشعر، وأقرأ الفقه والأصول.
س: كم فتوى أصدرتـم حتّى الآن؟
ج: لقد أصدرت كتباً عديدة في الفتاوى، ومنها العبادات والمعاملات، وهناك كتاب الفتاوى الواضحة، وهو عبارة عن مجلد ضخم وفقه الشريعة الخ.. كما أنَّ هناك كتباً فقهية كالبحث العلمي الاستدلالي وهناك عشرة كتب تقريرات لأبحاثي إلى طلابي.
س: كم يبلغ عدد المؤسسات التي أنشأتها.
ج: يبلغ عددها 22 و 24 مؤسسة على ما أعتقد.
س: كيف تنظرون إلى المستقبل؟
ج: إذا كان المقصود بالنظرة إلى المستقبل الكشف عن جانب عملي، فأنا أشعر بأنَّ طاقتي هي أمانة اللّه عندي ولذلك فأنا أعمل على أساس أن أقوم بتحرّكاتي حسب طاقتي في سبيل مشاريع أكثر وكتب ونشاطات ثقافية وفكرية أكثر، ومن الطبيعي أن أبقى في خطّ المواجهة للاستكبار العالمي، وهي رسالتي الحيوية وسأبقي مع القضية الفلسطينية التي تختصر كلّ تاريخ المنطقة في الخمسين سنة الأخيرة، من القرن الماضي.
س: متى تتوقعون أن تتحرر القدس؟
ج: إنَّني أتصوّر أنَّ مرحلتنا تشبه مرحلة الحروب الصليبية، ومن الصعب أن تتحرر في هذا القرن، لأنَّ مسألة إسرائيل هي مسألة مختصرة في كلّ القدس، وهي الإخطبوط الاستكباري في العالـم، ولذلك نقول إنَّه في المستقبل علينا أن نأخذ بكلمة الإمام عليّ أن تعمل لدنياك كأنَّك تعيش أبداً وأن تعمل لآخرتك كأنَّك تموت غدا وأنا أتصوّر أنَّه إذا ضاق الحاضر والوصول إلى الأهداف فإنَّ المستقبل يتسع لذلك وعلينا أن نخطّط وأن ننقل القضية الفلسطينية إلى الأجيال القادمة.
س: ماذا تحبّ؟
ج: لا أحبّ اللذات الحسية، فالحاجة النفسية تشعرني بالسعادة، وهي مجرّد حاجات، أحبّ عملي، أحبّ أن أقرأ أكثر، وأن أكتب أكثر، وأن أقوم برسالتي على المستوى الثقافي والاجتماعي والسياسي على أكمل وجه، وأحبّ اللّه ليرى عملي.
س: ماذا تكره؟
ج: أكره الظلم، وأكره الجهل، وأكره التخلّف.
س: من يعجبك من زعماء العالـم؟
ج: لا أجد أحداً يُلبي كلّ طموحي بمعنى الزعيم.
س: بمن تتأثر؟
ج: أنا لا أتأثر بأحد، ولكن أتأثر بحركة الواقع من حولي من خلال وعيي بالواقع، ووعيي بمسئوليتي عن هذا الواقع.
س: هل أنت راضٍ عن الحكم في لبنان؟
ج: وهل هناك حكم في لبنان؟!
الرئيس الحص:
فضل اللّه رجل علم وانفتاح
تجمعنا أواصر الاحترام والمحبة المتبادلة، هذا ما قاله دولة الرئيس سليم الحص عن علاقته بسماحة السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه، هذا الرّجل المتميّز بانفتاحه اللامحدود الواقف عند عتبة الموضوعية رافضاً الطائفية والمذهبية بكلّ أبعادها، إنَّه رجل التّقوى والاجتهاد أعطى المرأة حقوقها وساواها بالرّجل، فكان نصيراً لها، إنَّه من العلماء القلة الذين أخذوا بالعلم وأفتوا من خلاله، يقول الحص يذكّرني سماحته بالمرحوم العلامة عبد اللّه العلايلي لما في فكرهما من تجدّد وحداثة إنَّها شهادة من أهم السياسيين في لبنان يُدلي بها الرئيس الحص حول سماحته قائلاً:
أنا أكن لسماحة السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه الكثير من المحبة والاحترام، تعرّفت إليه من خلال متابعتي لخطبه في أيام الجمعة وتصريحاته، وما ينقل عنه في التحليلات الصحفية، وجدت فيه العمق في التفكير والاتزان والرصانة والموضوعية، وتعرّفت إليه حين كنت أزور الشخصيات الروحية في السبعينيات حيث كنت رئيساً للوزراء، وبقيتُ منذ ذلك الحين على اتصال دائم معه، أعتبر أنَّ السيِّد رجلاً مميزاً على أكثر من مستوى، فهو العالـم العلامة وأهم ما في فكره هو الانفتاح على كلّ جديد والحداثة، والانفتاح على التطوّرات العلمية والتكنولوجية، هو من القلة بين فقهاء المسلمين، الذي يأخذ بالعلم مقياساً ومعياراً فإذا سألناه عن الاستنساخ يفتي به وعن زرع أعضاء الجسم فيفتي بذلك أيضاً ويعتبر ذلك حلالاً في حياة الإنسان ونظرته إلى بزوغ القمر، لتحديد بداية شهر رمضان المبارك، أو نهاية أو بداية أي شهر هجري يعتبر العلم بذلك معياراً، هو أوّل من يُعلن بين علماء المسلمين في لبنان يوم العيد، لأنَّه يعتبر علم الفلك علماً قائماً بذاته، وأنا أجده مطابقاً للعلامة المرحوم عبد اللّه العلايلي، فهذا الأخير لديه كتاب تحت عنوان «أين الخطأ» وهو مجموعة مقالات حول مواضيع حديثة معاصرة فيفتي بها في ضوء العلم والفقه الإسلامي، فكما هو عبد اللّه العلايلي، كذلك السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه في هذا المضمار.
نجد سماحة السيِّد متبنياً لحقوق الإسلام في معانيها العصرية، فيتحدّث عن المرأة ويبرهن على وجوب المساواة بين المرأة والرّجل، وعلى صون الإسلام لحقوق المرأة كاملة، إلى كلّ ذلك فهو صاحب رؤية سياسية لا بل وطنية قومية، هو من أهم من حلل في القضايا السياسية، وهو وطني وقومي تحدّث كثيراً عن فلسطين وعن الطائفية ونبذ الطائفية وحاربها ودعا إلى الالتزام بالوطن كجامع للشعب، وهو كثير الإنتاج فهو يتبوأ موقعاً خاصاً جداً في العالمين العربي والإسلامي لكلِّ هذه الأسباب.
أكثر ما يلفتني في شخصه انفتاحه وموضوعيته وتجرّده لا ينطق عن هوى، بل عن قناعة، وهو رجل مميّز بين رجال الدين في لبنان، وهو علاّمة متميّز، كما لفت انتباهي في شخصه حبّه وتقديره الشخصي لي، وهذا شعور متبادل أيضاً، ودائماً كنت أندهش لكونه عالم دين ورجل مؤسسات من الطراز الأول، وهذا النوع من الرجال يندر وجوده بين العلماء، فهو الذي يُشرف على جمعية المبرات الخيرية الإسلامية بكاملها، وهي جمعية ناشطة على الصعيد الخيري وتلعب دوراً بارزاً، وهو راعي مشروع مستشفى جديد «بهمن».
بكلمة مختصرة هو رجل دين وعلم متجاوب ومنفتح إلى أقصى الحدود مع تطوّرات العصر.
السيِّدة التي خلّصت السيِّد من الانفجار.. الحاجة الشامي
وحيّ إلهي دفعني لإعاقة مغادرته
حلم فحقيقة، وبين الخيال والواقع كانت معجزة، وربَّما هي وحي إلهي أو إلهام روحاني حال دون اغتيال العلامة السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه في أبشع مجزرة أمريكية في محلة بئر العبد بضاحية بيروت الجنوبية في 8 مارس عام 1985، بهذه العبارات المؤثّرة وصفت الحاجة زينب الشامي ـ 60 عاماً ـ واقعة انفجار السيارة الملغومة التي أسفرت عن استشهاد وجرح ما يقارب الـ 240 شخصاً.
يومها قال العلامة فضل اللّه: امرأة مؤمنة أنقذت حياتي واليوم تقول نفس المرأة الحاجة الشامي: لا شك أنَّ ما كان يربطنا ويشدّنا إلى سماحته، هو المسجد حيث كان يؤم المؤمنات المسلمات كلّ يوم جمعة، وكان في ذلك اليوم الوضع الأمني متأزماً جداً، وكنتُ أعيش القلق والخوف على السيِّد، وهذا القلق مرده إلى حلمٍ مزعج ومُرعب أثار مشاعري، حيث تراءى لي في ذلك المنام أنَّ انفجاراً رهيباً وقع قرب سينما ساندريلا أي في نفس مكان الانفجار وأدّى إلى استشهاد السيِّد، وبعدما فرغ من الصلاة وهمّ بمغادرة المسجد وسط حشدٍ ضخم جداً، أعتقد أنَّه الأكبر من نوعه في تلك الفترة أوحي لي وكأنَّ ملاكاً هبط عليَّ من السَّماء بأن أعترض طريقه، فتقدّمت منه بسرعة ولا شعورياً واعترضت طريقه وطلبت منه التمهل لأنَّ لدي سؤالاً لا أستطيع الصبر عليه، فرفض طلبي قائلاً: أنا منهك متعب أرجو أن تسامحيني، ولنؤجل الموضوع إلى وقتٍ آخر، وتدخل مرافقه في الحوار إلاَّ أنَّ وحياً ما شدَّ عزيمتي في الإصرار على موقفي فطلبتُ من المرافق الخروج وإقفال الباب، وكنت لا أدري في قرارة نفسي ما هو السؤال الملح؟.
س:هل استجاب العلامة فضل اللّه لطلبك وإلى ماذا تردّين هذا الأمر؟
ج:إنَّه مجرّد إلهام وربَّما قوّة خفية ربانية روحانية، شجعتني على هذه الجرأة التي لـم أعهدها في حياتي من قبل، فأنا لا أذكر أنَّني وقفتُ يوماً من الأيام مثل هذا الموقف مع السيِّد، ولست أدري كيف تجرأت وفرضت عليه رغبتي، صحيح أنَّه يمثِّل لنا الأب الروحي ونحادثه بكلّ أدبٍ واحترام وإجلال، إلاّ أنَّني في ذلك اليوم، وكأنَّني أرسلت لأفرض عليه بالقوّة أن يبقى في المسجد ووسط إلحاحي وإصراري عاد السيِّد وجلس ليستمع إلى سؤالي، ولا أدري يومها ماذا قلت له، وكلّ ما أذكره أنَّني طلبت منه توخي الحذر، وتعزيز الحراسة حوله لأنَّه يعيش في دائرة الخطر.
وعندما رويت له ما رأيت في الحلم اكتفى بالقول: اتكالنا على اللّه وآجركم اللّه، والمكتوب ليس منه فرار. كلّنا تحت رحمة اللّه.
وقالت بعد أن سكتت قليلاً عن الكلام وكأنَّها أرادت استعادة الصورة في ذاكرتها لذلك اليوم المشؤوم: وفجأةً دوى صوت انفجار رهيب وكأنَّه زلزال مدمّر وساد جوٌّ من الرعب والخوف كامل المنطقة، صراخ وأصوات أبواق سيارات، وسيارات إسعاف تشق طريقها بصعوبة، للوصول إلى المكان وبدأت عمليات الإنقاذ ورفع الأنقاض.
س:كيف كان شعورك في تلك اللحظة خصوصاً أنَّ السيِّد يدين لك سرّاً وعلناً بالفضل، لأنَّك سبب نجاته من الموت؟
ج:أقول صادقة: لـم أشعر بأنَّني أنا من منعت السيِّد من الخروج من المسجد، وكأنَّ قدرةً إلهية أوقفته وعندما خرجت إلى الشارع رأيت عشرات الأشخاص يتهامسون، وبعضهم يصرخ بقوّة: قتل السيِّد، اغتيل السيِّد، مات السيِّد فصحت في وجوههم: لا.. ليس صحيحا على الإطلاق.. السيِّد لـم يمت.. إنَّه لا يزال في المسجد.. استغربوا من سماع كلامي، وبعضهم قال: ربَّما الصدمة جعلتها تقول ذلك.
يمكن القول إنَّ ما رأيته في الحلم في تلك الليلة تجسّد لي واقعاً في اليوم التالي مع فارق بل معادلة غير محسوبة لدى الأعداء الذين دبروا محاولة الاغتيال، وهي أنَّ السيِّد لـم يكن من بين الشهداء في ذلك اليوم المشؤوم، إنَّها القدرة الإلهية، ولا أستطيع أن أمنن نفسي أو أنسب إلى ذاتي فضل نجاته، لأنَّ نجاته كانت بفضل من اللّه ولا فضل لي في ذلك، صحيح أنَّني كنت ربَّما السبب ولكن بغير إرادتي بل أراد اللّه سبحانه وتعالى أن تحدث هذه المعجزة.
وفي طريق عودتي إلى منـزلي قيل لي: هل سمعت ما ذُكر في وسائل الإعلام من أنَّ السيِّد قتل؟ فبادرتهم بالقول لا.. مستحيل لأنَّني كنتُ معه في المسجد لحظة وقوع الانفجار، وهو سليم معافى، ولـم يمسّ بأي أذى.
س:وهل زرت السيِّد بعد الحادث وكيف كانت المواجهة؟
ج:طبعاً زرته في اليوم التالي للمجزرة وهنأته بالسلامة، فبارك إيماني وشكر اللّه سبحانه وتعالى على أنَّه جعلني حماية له، وأعتقد أنَّ اللّه سبحانه وتعالى استجاب لدعائي، وحما السيِّد من كلّ مكروه، ليبقى لنا سنداً دائماً يرفع عنّا الظلم، ويوجهنا ويقودنا إلى الصراط المستقيم.
س:لماذا ذهبت إلى المسجد في ذلك اليوم مادمت تشعرين بالخطر؟
ج:إنَّه السرّ الذي لا أفهمه، فقد استخرت اللّه للذهاب، وكانت الاستخارة جيِّدة بل ملحة، وكنت في حينه أشعر بضيق كبير ولا أدري لماذا قلت في قرارة نفسي ربَّما وجودي في المسجد يبدد عني بعض القلق على المصير، وكان لا بُدَّ لي أن أطلع السيِّد على ذلك الحلم المزعج، صحيح أنَّ الأمر برمته كان لا يخصني شخصياً إنَّما هو ينسحب على الوضع العام الذي كنّا نعيشه، وهو القلق والخوف، فما كان يمرّ يوم إلاّ ويقع فيه انفجار أو نتعرّض للقصف المدفعي وكان الأمن هم كلّ النّاس.
ولا بُدَّ من إشارة هنا إلى أنَّني استخرت اللّه أن أقابله وأسأله، ولا أدري حقيقة ماذا كان السؤال، وكانت الاستخارة جيِّدة بل ملحة، وذهبت إلى المسجد وكأنَّ إرادةً ما كانت تشدّني إلى هناك، وربَّما كنت من النسوة الأوائل اللواتي وصلن إلى المسجد للصلاة، إنَّها إرادة اللّه، أزالت تردّدي عن رغبة الذهاب وحملتني إلى هناك وشكل حضوري سبباً غير مباشر وغير إرادي لنجاة السيِّد.
السيِّد هو السيِّد
جعفر فضل اللّه على خطى والده
السيِّد هو السيِّد.. إنَّه صديقي ومرشدي وقدوتي في هذه الحياة، بهذه الكلمات المعبّرة اختصر جعفر فضل اللّه 27 عاماً النجل الأوسط من بين 7 ذكور و 4 إناث للعلامة السيِّد محمَّد حسين فضل اللّه، التعريف بوالده، ولأنَّ الولد سرّ أبيه، فهو يعرّف والده بلغة فلسفية تنمّ عن العلاقة الوطيدة بين الرجلين، وتعبّر عن عمق الفهم والتفاهم على كلّ أمور الدنيا، وتكشف أهمية المدرسة الحسينية التي أسسها العلامة لعائلته قبل عامّة الشعب.
قال: إنَّ العلاقة مع الوالد هي علاقة أي ابن بأبيه، والميزة التي أشهدُ بها دائماً أنَّه كان يحرص على أن نكون صديقين، وأيُّ مشكلةٍ يمكن أن تطرأ في دراستي أو عملي، كان يقول لي دائماً: فلنكن صديقين وافتح لي قلبك لنحاول أن نحلّ المشكلة معاً، نفكّر معاً في الحل، أمّا في الأمور الاعتيادية الطبيعية كالطعام والجلسات العائلية كلّها كأيّ عائلة، وهو ما يعني أنَّه ليس هناك من فوارق في الجوّ المنـزلي، وضمن هذا الإطار فإنَّ علاقتي مع والدي تتميّز من حيث المقام الذي يمثِّله، فأجد نفسي لا شعوريا أفتح نقاشاً معه سواء في الفقه أم في الفكر أم في أيّ أمرٍ من أمور الدين العامّة أم حتّى الدنيوية والسياسية، ودائماً أحاول أن أستفيد من وجوده إلى جانبي وطبعاً أحاول ألا أثقل عليه، ولكن أعتقد أنه يحبُّ أن نفتح معه نقاشاً، أو حواراً وأن نسأله عن أي شيء يخطر في بالنا، وإذا ما خيّم السكون عل إحدى جلساتنا العائلية، تراه يفتح هو النقاش بشيءٍ من الكلام وبشكلٍ عام، فإنَّ العلاقة مع الوالد في المنـزل هي كأي علاقة، لكنَّها تكتسب بعض الخصوصيات من خلال موقعه.
س: ماذا اكتسبت من الوالد من عادات وخصال؟
ج: لا بُدَّ أن أتحدّث عن طريقة الوالد في إعطائنا بعض الدروس التربوية، وهي دروس تجري كالمصل في الدم بحيث لا تشعر بها إلاَّ وهي تسري في الوجدان، لقد حاول دائماً أن يشعرنا بأنَّ الموقع الذي يحتله والذي وصل إليه، لا يشكل لنا ميزة علي الصعيد الاجتماعي، فشعرنا دائماً بأنَّنا جزءٌ من المجتمع وأنا أشعر بأنَّني كأي إنسانٍ موجود في المجتمع، فأيّ إنسان يعمل عند الوالد سواء في المؤسسات المتعلّقة به أم حتّى في مكتبه الخاص أشعر بأنَّني واحدٌ منهم لهم رأيهم ولي رأي ولا أحاول أن أفرض نفسي عليهم من خلال أنَّني ابن السيِّد وهذا ما جذّره فينا تجذيراً بشكل عميق وكبير جداً. وأذكر أنَّني عندما كنت أرافقه وأنا صغير وربَّما كان عمري حوالي عشر سنوات كان المراقبون يمازحونني وكنت بمقتضى صغر سني أتضايق من بعض الأمور وأحاول أن أبكي فألجأ إليه فيقول لي: هؤلاء إخوتك يحبّونك ويمازحونك، فأمزح معهم.
كان يحاول دائماً أن يوجد علاقة ليس فيها تفاوت بين ابن المسؤول وبين الذين يعملون عنده وحاول دائماً أن لا يفرض نفسه علينا جميعاً بحيث أنَّه يتجنب أن يقول: أريد منك كذا، ويجب أن تفعل كذا، يترك لكلّ إنسانٍ حرية اختيار ما يحبّه ويتصرّف بالشكل الذي يهواه ضمن إطار الحلال والحرام، وإذا كان هناك من تجاوز للحرام تراه يتدخل بشكل حاسم وكان يُراقب عن بُعد وربَّما لتقويـم أي خلل في سلوكنا بأسلوب غير مباشر، فلا يفرض نفسه علينا حتّى في الكلمة وهذا ما أثّر علينا في الكبر في طريقة تعاملنا مع أزواجنا وأولادنا، ولذلك أجد نفسي لا أستطيع أن أفرض على أي ولد من أولادي ما لا يرغب أو لا يحبّ، وأشعر بأنَّ للآخر رأيه الخاص الذي قد يختلف مع رأيي وقد يتفق معه مثلاً..
س: كيف تشعر بوجوده.. وماذا تشعر بغيابه؟
ج: لا أستطيع أن أتصوّر غيابه إلاَّ بظلام دامس حتى لو أغمضت عيني وتصوّرت أنَّه غير موجود لشعرت بالظلام ولأصابني الهلع وأحسّ بقلبي يكاد ينفطر، لذلك تجدني دائماً أطرد هذه الفكرة وهذه التخيلات ربَّما لأنَّه لـم يدع فراغاً على المستوى الشخصي أو ربَّما لأنَّه تجذّر في كياني بشكل كبير جداً على صعيد الإحساس وعلى صعيد العقل والفكر أشعر دائماً بأنَّ هناك كثيراً من الأمور التي أتكلّم بها الآن سواء على الصعيد الفكري أم الروحي أم الأخلاقي أم على صعيد التعامل، لا أستطيع إلاَّ أن أقول هو الذي فتح الباب ووضع البذرة في الأرض وسقاها حتّى أنبتها، ولذلك أشعر بأنَّني لا أتصوّر غيابه ويمكنك أن تقول أشعر بوجوده كما أشعر بوجود الهواء والماء.
س: هل هناك محظورات معينة يفرضها عليكم؟
ج: لا أبداً، هناك أمور طبيعية في المنـزل، فليست هناك ازدواجية بين الخارج والداخل وما يتكلّم به الوالد في الخارج يطبقه في الداخل وإن لـم أقل بأنَّه يبدأ من الداخل ليتكلّم في الخارج، وإذا تحدّثنا عن المحظورات بالمعنى الدقيق، فهي محظورات الحرام أي ألا نتجاوز الحلال وألا نترك الواجب.
س: هل كانت هناك من مناسبة شعرت بأنَّك في حاجة ماسة إليه؟
ج: حتّى الآن لـم أشعر بذلك، لأنَّني دائماً إلى جانبه حتّى عندما انتقلت إلى بيت الزوجية، فأنا أتردّد باستمرار على الوالد خصوصاً إذا ما اعترضتني أيّة مشكلة فأنا ألجأ إليه وأشعر دائماً بأنَّه موجود معنا، ولا شك في أنَّ وجودنا باستمرار إلى جانبه يفرض علينا طرح مشاكلنا عليه وأحياناً تحدّثه بلا شيء إنَّما فقط للحديث معه عن صغائر الأمور العائلية أو الدينية والدنيوية.
س: ماذا تذكر من طفولتك معه؟
ج: لا شك أنَّ طفولتي تفتحت على والدي، وهو يعمل وكنت أرافقه في رحلاته عندما كان يذهب إلى البقاع وإلى الشام، ويمكن القول إنَّ العلاقة بيني وبين والدي اكتسبت ميزة خاصة لا سيّما أنَّني اخترت نفس الطريق الذي اختاره، وهو طلب العلم الديني.
س: من هو حافظ أسرار العلامة فضل اللّه؟
ج: لا أعتقد أنَّ للسيِّد أسراره الخاصة، ولكن هناك أسرار العمل، وهي تكون خاصة به، وفي الطرف الآخر المعني مباشرة، وهو بالتالي لا يبوح بأسراره إلى أي إنسان حتّى إلى أقرب المقربين له.
س: ماذا اكتسبت من عادات وتقاليد وفضائل السيِّد؟
ج: ما أعيشه الآن وما أجد نفسي فيه وما أستطيع أن أتحرّك به في حياتي الاجتماعية والعائلية الفكرية والدينية هو نتاجه بشكل مباشر أو غير مباشر، من خلال الجوّ الذي هيأه لي، لذلك أشعر بأنَّه كالتربة بالنسبة إلى النبتة تمدّها بالغذاء، فهو بالنسبة لي المثل الأعلى والقدوة، فالسيِّد لا يرسم لي مستقبلاً بقدر ما يصوب اختياري للمستقبل فمثلاً عندما أختار العلوم الدينية وعندما يختار أخي إدارة الأعمال، فإنَّه يوجه بما يتعلّق بهذا الحقل الذي اختاره أحدنا، وبالتالي لا أستطيع أن أقول إنَّه يرسم رسماً ليفرضه علينا إنَّما هو يساعدنا في رسم المستقبل الذي اخترته أنا أو أخي ضمن توجيهاته طبعاً.
س: هل تطمح في أن تكون الخليفة لوالدك؟
ج: إنَّ موضوع الخلافة وغير الخلافة ليس موضوعاً مرتبطاً بالشخص، نعم أطمح أن أكون، فهو علّمنا أن نطمح إلى أن نكون أفضل منه حتّى أنَّه علّمنا أن نطمح إلى المثل الكامل الذي نصبو إليه.
س: هل من كلمات تصف لنا فيها السيِّد الوالد بعيداً عن الأبوة والعاطفة؟
ج: لقد عرفته في المسجد وكلّ شخص يعيش همَّ الأمّة على هذا المستوى هناك ضرائب لا بُدَّ أن يدفعها في إطار المنـزل، كما عرفته الإنسان المربي الروحاني، وقد أخذت روحانيتي منه ومعارفي التربوية، فهو يستمع حتّى للطفل، وبجملة واحدة أستطيع أن أصفه فيها هي: أنَّ السيِّد في الداخل هو السيِّد في الخارج، يُحاول دائماً أن يكون هو ذاته هذا ما شعرته وأنا أراقب شخصيته الذاتية، فليس فيه جهات غموض، صادق مع نفسه، وما يعتقده يتصرّف به، وما لا يعتقده لا يتصرّف به، فهو يتصرّف بطبعه وطبيعته.