المرجع فضل الله لصحيفة "الكلمة الحرّة":
الإسلام لا يتنكّر للعولمة بمعناها الإنسانيّ
نصّ الحوار الذي أجرته صحيفة "الكلمة الحرة" الصادرة في قمّ المقدّسة مع سماحة آية الله العظمى السيّد محمد حسين فضل الله عبر المراسلة، وقد تناول بعض القضايا المثارة، من قبيل العولمة، ومقولة نهاية التّاريخ، ونهاية الأيديولوجيا، وحقوق الإنسان، فضلاً عن موضوع كتابة التّاريخ، وما يتعلّق بالقضيّة العراقيّة، وغير ذلك. وقد جاء في الحوار:
خلفيّات العولمة
س: ما معنى العولمة اصطلاحاً ومفهوماً؟ وما هي البداية الأولى لظهورها؟ وما هي العوامل التي ساهمت في بروز هذه الظاهرة في الوقت الحاضر؟ وكيف ترون واقع الإسلام مستقبلاً؟
ج: الظاهر أنّ العولمة ـ في مفهومها المتداول ـ تعبّر عن المشروع الذي يوحّد القضايا الحيويّة للناس في العالم كلّه، وتسقط الحواجز الوطنيّة أو القوميّة أو الدينيّة التي تحول بين الناس وبين التّداخل في قضاياهم الاقتصادية والأمنية والسياسية والثقافية، ما يلغي الخصوصيات في تأثيراتها السلبيّة في ذلك، فلا يجوز للمصالح الوطنيّة أو القوميّة أن تمنع مشروعاً دوليّاً من الامتداد في هذا الموقع أو ذلك، بل لا بدّ من النظر إليه في صورته العالميّة من حيث المصلحة والمفسدة، لا في صورته الخاصّة في حدود هذا البلد أو المنطقة.
وقد بدأت العولمة مشروعاً اقتصاديّاً أمريكيّاً يستهدف الدول الأخرى، ولا سيّما دول العالم الثّالث، لإفساح المجال للشركات الأمريكية الكبرى للامتداد في سائر أنحاء العالم، حتى لو أضرّت بالمصالح الخاصّة للبلدان، لأنّ المفروض أن تنظر البلدان الأخرى إلى اقتصادها الخاصّ من حيث علاقته بالاقتصاد العالمي، ولا سيّما أنّ طبيعة النظام الاقتصادي في العالم، لا يسمح بأيّ استقلال اقتصاديّ لأيّ دولة، لارتباط اقتصادها عضوياً بذلك النظام، وعلى ضوء ذلك، لا بدّ من التخطيط لإعطاء كلّ موقع دوراً محدَّداً في عملية التكامل بين الأدوار في الواقع العالمي.
ولعلّ العامل الذي ساهم في بروزها، هو حاجة الشّركات الاحتكاريّة الكبرى في أمريكا أو في الدول الغنيّة في أوروبا واليابان، إلى توسيع نشاطاتها الاقتصادية في العالم، لتأخذ حريتها في الاستفادة من ثروات البلدان الصّغيرة ومن أسواقها الاستهلاكيّة ومواقعها الاستراتيجيّة، من دون أيّ مشاكل اقتصادية أو حواجز وطنيّة أو قوميّة.
وإذا كانت العولمة الاقتصاديّة هي المنطلق في مشروع العولمة، فقد تحوّلت، بفعل الحاجة إلى غطاء للأهداف الكامنة في داخلها، إلى عولمة سياسيّة وأمنيّة وثقافيّة، تحت عنوان الحاجة إلى تفاعل الحضارات في معطياتها الثقافيّة، من أجل الاستفادة من العناصر المتنوّعة في هذه الحضارة أو تلك أو هذه الثّقافة أو تلك، لأنّ ذلك سوف يكسبها غنًى على الصّعيد الفكريّ أو الواقعيّ أو العمليّ، ولا سيّما أنّ العالم لم يعد مفصولاً عن بعضه البعض في الجانب العلمي أو الحضاري. وبذلك، لم يعد الاستغراق في ثقافة وطنيّة أو قوميّة أو دينيّة أمراً منسجماً مع الواقع، ولا سيّما في استفادة الشعوب من بعضها البعض في تأمين حاجاتها الكثيرة، أو في ارتباط بعضها ببعض حتى في المسائل السياسيّة والأمنيّة.
مستقبل الإسلام
أمّا واقع الإسلام المستقبلي، فإنّه ينفتح على مدى تحديث الفكر الإسلاميّ وتأصيل أساليبه ومناهجه، بحيث يستجيب لحاجات الإنسان المعاصر، ويلبّي تطلّعاته، ويواجه تحدّيات الواقع المتحرّك المتنوّع بفعل المؤثّرات الداخليّة أو الخارجيّة في حركة الحضارات الأخرى، ولا سيّما الحضارة الغربيّة المهيمنة على العالم بفعل إمكاناتها الاقتصاديّة والعسكرية والعلمية والسياسية، وهذا هو الذي يؤدّي إلى امتداد الإسلام الحركي، لا سيّما في المسألة الثقافيّة، من خلال انفتاح العالم على الإسلام في عقائده ومفاهيمه وتشريعاته وأساليبه وأهدافه، ومن خلال إدراك الشّعوب كلّها أنّ الإسلام يستجيب لحاجات الحضارة ولتطلّعات الإنسان إلى التطوّر في حاجاته.
ولا نعني بذلك أنّ على الإسلام أن يقدّم تنازلاتٍ عن التزاماته الفكرية في أصول الدين وفروعه وقواعده، بل أن يبقى الاجتهاد متحرّكاً في الموارد التي يمكن فيها تحريك الاجتهاد في المواقع القابلة للتّغيير، لا في الثّوابت التي تلحق بالضّروريات والبديهيّات الإسلاميّة التي لا تقبل المناقشة لوضوحها على مستوى البديهة، لا على مستوى تفكير العامّة..
ثم العمل على أساس تحديث الأساليب والمناهج الثقافيّة التي تخاطب العصر بلغته وذهنيّته وأسلوبه، على هدى الكلمة المأثورة: "إنَّا معاشر الأنبياء أمرنا أن نكلّم النّاس على قدر عقولهم"، الأمر الذي يفرض علينا العمل على وعي العقل العام للإنسان في العصر، فذلك هو الذي يلتقي بالحكمة التي تعني وضع الشّيء في موضعه، أو بالبلاغة التي هي مطابقة الكلام لمقتضى الحال، ما يقتضي معرفة مقتضيات الحال في التطوّرات الفكريّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة أو الواقعيّة.
إنّ الإسلام دين عالميّ يريد للناس الالتقاء عليه، والانطلاق منه، والتحرّك في خطوطه ومناهجه وأساليبه، ولكنّه لم يلغ خصوصيات النّاس، بل أراد للنّاس أن يتكاملوا فيها ويتفاعلوا معها ويتعارفوا من خلالها، وهذا هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا}، فلم يتنكّر للخصوصيات القوميّة أو العرقيّة أو القبليّة، لأنها جزء من واقع التنوّع الإنساني، ولكنّه أراد لهذه الخصوصيات أن تكون وسيلةً للتعارف بين الشّعوب والقبائل، بفعل الحاجات المتبادلة لما تشتمل عليه هذه الخصوصيّة أو تلك، ورفض الاستغراق فيها على أساس العصبيّات القوميّة أو الإقليميّة أو القبليّة، بما يبعد الإنسان عن الانفتاح على الإنسان الآخر والتّكامل معه، لأنّ الله يريد للدوائر الإنسانية في خصوصياتها، أن تكون دوائر مفتوحة على بعضها البعض، لتلتقي بالوحدة الإنسانيّة في خطّ توحيد الله على أساس الإيمان والتقوى.
الإسلام والعولمة!
وفي ضوء ذلك، فإنّ الإسلام لا يتنكّر للعولمة بمعناها الإنساني على خطّ التكامل والتعارف، بل يشجّع عليها، ويرفض العولمة بمعناها الاستغلالي الاحتكاري الذي يلغي فيه الإنسان الإنسان الآخر في اقتصاده وثقافته وأمنه وسياسته، لأنّ المطلوب هو رفع مستوى الإنسان بالتّربية والحوار والاحترام لحقوقه الإنسانيّة، لا مصادرته تحت تأثير حالةٍ استكباريّة خانقة.
وبهذا، يمكن للمسلمين أن يتفادوا السلبيّات الكامنة في نظام العولمة المطروح في الساحة العالميّة، وذلك من خلال مساهمتهم في صنع الواقع، وتحريك العناصر الإسلاميّة المنفتحة على العصر والإنسان في عمليّة إنتاج الحضارة من جديد..
ومن الطبيعي أن تكون الوحدة الإسلاميّة التي يلتقي فيها المسلمون على الإسلام الواحد في تنوّعاته الفكريّة الاجتهاديّة، من الأسس التي ينطلقون منها في صنع هذه الحضارة، فلا يستغرقون في خصوصيّاتهم المذهبيّة بالأسلوب التعصبي الذي يثير العداوة والبغضاء بينهم، بل أن ينطلقوا في أسلوب الحوار، وردّ ما يحصل بينهم من خلافات إلى الله ورسوله ـ كما جاء في القرآن ـ والاهتمام بأمور المسلمين في قضاياهم الحيويّة المصيريّة، فهو الذي يؤكّد إسلامية المسلم، على هدى قول النبيّ محمّد (ص): "من أصبح لا يهتمّ بأمور المسلمين فليس بمسلم"، والدفاع عن ظلامتهم، على خطّ الحديث النبويّ الشّريف: "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم".
إنّ على المسلمين الارتفاع إلى مستوى الإسلام بالمعنى العامّ بعيداً من التفاصيل، كما كان النبيّ محمّد (ص) في تخطيطه لإدخال الناس في الإسلام، من أجل إخراجهم من الكفر، حتى لو لم يدخل الإيمان في قلوبهم، وذلك هو قوله تعالى: {قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ}، وبذلك نبتعد عن اتهامات التّكفير والتّضليل التي تخرج المسلمين عن إسلامهم من دون تدقيق أو مسؤوليّة، بل بفعل التخلّف الفكريّ الذي يعيش في زوايا الذاتيّة والعصبيّة.
إنّ مشكلة الإسلام ليست في فكره وعقيدته وشريعته ومنهجه، بل في المسلمين الذين استسلموا للزّنازين الخانقة الفكريّة والعمليّة، فاختنقوا فيها وخنقوا الإسلام في داخلها، وبقيت المسألة عند الكثيرين منهم في منطق الجاهليّين {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى? آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ}[الزّخرف: 23]. وعلى ضوء هذا، تنكّروا لكلّ جديد في الفكر أو في الفقه، حتى لو كان مرتكزاً على أساس الكتاب والسنّة، لأنّ التخلّف سيطر على الواقع كلّه من خلال سيطرته على الذهنيّة كلّها، وهذه هي مشكلة الفئات الطليعيّة التي يرجمها المتخلّفون بالحجارة، لأنهم يريدون إخراج الأمّة من التخلّف، وتوجيهها نحو الأصالة الإسلاميّة في آفاق الصّفاء والنّقاء.
نهاية الأيديولوجيا
س: بين الحين والآخر، تروّج أفكار من قبيل: نهاية الأيديولوجيا، نهاية التّاريخ، القرية العالميّة، حقوق الإنسان، المبادئ الإنسانيّة... هذه الأفكار من شأنها تحطيم ولاء الأمّة للدّين والعقيدة والوطن، وتدعو إلى تبنّي ولاءات جديدة. فهل تشكّل هذه الدعوات خطراً حقيقيّاً على مستقبلنا كإسلاميّين؟
ج: إنّ هذه الأفكار انطلقت وينطلق أمثالها من القاعدة الفكريّة الماديّة التي تعتبر الإنسان ـ وحده ـ هو الأصل والأساس، بعيداً من مسألة وجود الله وتوحيده وعبوديّة الإنسان له، كما تتحرّك على أساس الاستغراق السطحي في النّظرة إلى الواقع، بحيث يسقط أصحابها تحت تأثير الظّروف الموضوعيّة السّاحقة في مرحلةٍ ما.. فلا بدّ لنا من مناقشتها والدّخول في حوار حولها، من خلال تأكيد القاعدة الفكريّة التي تتفرّع منها النّظرة إلى الواقع وإلى حركته، لأنّ الحوار حول القاعدة، هو الذي يحلّ مشكلة الخلاف حول الفروع المرتكزة عليها. وبذلك، لا تمثّل هذه الأفكار أيّ خطورة على الدّين والعقيدة والوطن، لأنّ ذلك ـ أي الخطر منها ـ يخضع للسّقوط تحت تأثيرها والخوف منها والانكفاء عن مواجهتها، بل يمكننا الانفتاح على بعضها بالدّخول إلى مضمونها، لنجد فيه مجالاً للحركيّة الإسلاميّة الثقافيّة أو الواقعيّة.. فإذا وقفنا أمام عنوان نهاية الأيديولوجيا، أو نهاية التّاريخ، فإنّنا نجده عنواناً خاضعاً لسيطرة الاقتصاد والسياسة في حركة القوّة لدى الاستكبار، باعتبار أنّ الصّراع انتقل من الأيديولوجيا والتاريخ إلى الواقع.. ولكنّه لا يرتكز على حقيقة إنسانيّة، لأن مسألة الأيديولوجيا لا تنتهي عند مرحلة معيّنة خاضعة لتأثيرات كبرى، بل تواكب حركة الفكر الإنساني الذي قد تتنوّع أيديولوجيّته أو عمليّة صنع التاريخ، حسب تنوّع الإطار الذي ينفتح عليه.
ويبقى لحركة التطوّر أن تتجاوز واقع المستكبرين إلى واقع المستضعفين، حسب حركة المستقبل في موازين القوى المتطوّرة، وهذا ما نستوحيه في قوله تعالى: {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}[آل عمران: 140]، وقوله تعالى: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ}[القصص: 5]، ولا سيّما مع العقيدة الإسلاميّة الإماميّة في المستقبل الكبير الذي يتجلّى بظهور الإمام المهدي (عج)، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً، حيث تتحرّك الأيديولوجيا الإسلاميّة في كلّ العالم، ويرتفع التاريخ إلى أعلى مستوى في حركة الإنسان في نطاق الإسلام.
قرية عالميّة!
أما القرية العالميّة، فلا سلبيّة فيها، باعتبار أنها تمثّل حركة التواصل والترابط العضوي بين بلدان العالم في الاقتصاد والسياسة والأمن والثّقافة، وهذا أمر يقترب من الواقع، ولكنّه لا يشكّل خطراً علينا، بل يمكن أن يمنحنا القدرة على الاستفادة منه، إذا انطلقنا في عمليّة الانفتاح على الإنسان المعاصر، بما نملكه من ثقافة وجهد وحركيّة ومسؤوليّة وقوّة.. إنّ الذين يخافون من القرية العالميّة، هم الّذين يقبعون في داخل حدود قريتهم المحدودة التي عاشوا فيها، ولا يريدون الخروج منها إلى العالم، وليسوا الذين يريدون إخراج النّاس ـ كلّ الناس ـ من الظلمات إلى النّور برسالة الإسلام.
أمّا حقوق الإنسان، فإنّنا لا نتنكّر لها، لأنّ الإسلام جاء من أجل الارتفاع بحقوق الإنسان، ليعيش إنسانيّته في المفاهيم الإسلاميّة والتّشريعات الدينيّة، ولكنّنا نختلف مع الدّعاة إلى حقوق الإنسان في شرعة الأمم المتحدة، في بعض هذه الحقوق الّتي لا تلتقي ببعض القواعد الإسلاميّة للحقّ الإنساني.
أمّا المبادئ الإنسانيّة، فإنها لا تبتعد عن المبادئ الإسلاميّة التي انطلقت من الوحي الذي يريد للإنسان الحياة في تأصيل إنسانيّته التي هي كناية عن الفطرة، وذلك هو قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ}[الأانفال: 24]، والحديث المأثور: "الإسلام دين الفطرة".. فأيّ خطر في ذلك كلّه علينا كإسلاميّين؟!
إعادة كتابة التّاريخ
س: كتابة التّاريخ تعرّضت إلى تشويهات كثيرة، ما أدّى إلى تغييب العديد من الحقائق. فهل تعتقدون بضرورة إعادة كتابة التّاريخ على وفق المتغيّرات والأوضاع الجديدة؟ وما المنهج الصَّحيح الذي ينبغي وفقه إعادة كتابة التّاريخ؟
ج: إنّ مشكلة كتابة التاريخ، هي أنها كانت خاضعة ـ في أغلب تجاربها ـ للسياسات القائمة، بفعل خضوع المؤرّخين لضغوطها واعتباراتها، أو للأهواء الشخصيّة، وللانتماءات المذهبيّة أو القوميّة، ما جعل أحداثه المكتوبة ممثِّلةً لذلك كلّه، في إغفال بعض الأمور التي تمثّل جانباً سلبيّاً في المواقع التي كانت في دائرة الإيجاب، أو جانباً إيجابيّاً في الدّوائر التي كانت مفرداتها في جهة السّلب، وبذلك تبدّلت الصورة.. وربما كان من المشاكل، اعتماد المؤرّخين على بعض الرّواة غير الموثوقين، ممن كان يصنع القصّة التاريخيّة من خياله، بفعل العوامل الذاتيّة في شخصيّته أو في موقعه، وهكذا تبدّلت صور الواقع التاريخيّ عن صورة الحقيقة.
لذلك، لا بدَّ من دراسة التَّاريخ بطريقة تحليليَّة نقديَّة، من خلال الدراسات الحديثة التي ابتدعت القواعد النقديّة التاريخيّة الّتي تدرس النصّ التاريخيّ في علاقته بطبيعة الأشياء في نطاق المعقول وغير المعقول من ذلك، أو في نطاق المقارنة بين مرحلةٍ ومرحلةٍ، أو في التمييز بين الخاضع منه للعاطفة أو المرتكز على الواقع، إضافةً إلى التّوثيق السندي، ولكن ضمن وسائل جديدة تختلف عن الوسائل المعروفة.
ومن الطبيعي أن لا نخضع في كتابة التّاريخ الجديدة لما خضع له الأوّلون، لندخل عنصر الحبّ والبغض في دراسة المفردات، أو لنؤكّد المذهبيّة الفكريّة أو الطائفيّة في عمليّة التّحليل والتّوثيق، بل تكون الحادثة التاريخيّة هي موضوع البحث، بقطع النّظر عن انسجامها مع مشاعرنا وانتماءاتنا، فربما يتغيّر شيء من نظرتنا إلى الأحداث والأشخاص، وبذلك تتغيّر أحكامنا على بعض القضايا مما قد يكون فيه التّاريخ ظالماً أو منحرفاً أو مجاملاً أو ما إلى ذلك.
إنّ المشكلة ليست فقط في كتابة التّاريخ، بل في الذهنيّة العاطفيّة التي نتمثلها أمام أحداثه التي قد نرفضها لأنّنا لا نرتاح إليها في عصبيّتنا الخاصّة، أو قد نقبلها لأنها تتوافق مع ما نرتاح إليه، بعيداً من التوفيق السندي إيجاباً أو سلباً، أو من الدراسة المضمونيّة في انسجامها مع الأحداث، أو في محاولاتنا لتأكيد الحادثة حتى تتحوّل إلى شيء مقدَّس في الذّهن والعقيدة أو المذهب من دون تحقيق علميّ، لأننا نريد ذلك لاستجابته لما نحبّه، ولذلك، فلا نسمح لعلامات الاستفهام أن ترتسم أمام حادثةٍ هنا أو قضيّة هناك!
إنّ علينا أن نعرف أنّ التّاريخ يمثّل صورة للواقع الموضوعي الخارجي في كلّ مرحلة زمنيّة من خلال الأحداث والأشخاص والظروف، فلا بدّ أن ندرسه بالأدوات العلميّة الموثوقة، من خلال التّنظير لأصول الدراسة مما أخذ به الأقدمون، أو مما حقّقه المحدثون، لنقبل النّتائج بعيداً من المشاعر، لأنّ منطق الشّعور قد لا يلتقي بمنطق الواقع.
مستقبل القضيّة العراقيّة
س: ما هي انطباعاتكم عن مستقبل القضيّة العراقيّة؟ وكيف تقيّمون الأداء السياسيّ للمعارضة؟ وما هي تصوّراتكم المستقبليّة للإسلاميّين العراقيّين، بلحاظ تباشير الصحوة الجماهيريّة في داخل العراق وخارجه؟
ج: إنّ القراءة السياسيّة للقضيّة العراقيّة توحي إلينا بأنها لا تزال في دائرة التجاذب الدولي والإقليمي، ولا سيّما في نطاق العقدة الأمريكيّة التي تخطّط للإمساك بالعراق سياسةً واقتصاداً وحركةً، من خلال الخطة السياسيّة لاحتواء المنطقة. ولذلك، فإنها في الوقت الذي تتحدَّث عن إسقاط النظام الطّاغي، تمنع أيّ جهة داخليّة أو خارجيّة من العمل على التّخطيط لإسقاطه، لأنّه لا يزال حاجة سياسيّة أمنيّة للابتزاز وللتّخويف وللإرباك لأكثر من دولة في المنطقة، ولا سيّما منطقة الخليج التي تخضع ـ في أمنها ـ للقواعد العسكريّة الأمريكيّة التي أقيمت باسم حماية الخليجيّين من النظام العراقي أوّلاً، ومن النظام الإيراني الإسلاميّ ثانياً، مع إدراكها بأنّ إيران لا تفكّر في أيّ طموح أمنيّ ضدّ الخليج، ولذلك فإنّ بقاء النظام يبرّر بقاء هذه القواعد من خلال حاجة الخليج إلى الحماية.. ونحن نعلم أنّ المخابرات الأمريكيّة قد تدخّلت لحماية الطّاغية من ضربات المجاهدين في أكثر من حادثة.
أمّا الأداء السياسي للمعارضة، فإنه لا يمثّل مستوى القضيّة العراقيّة وخطورة المشاكل المحيطة بها، والمتحرّكة في داخلها، لأنها لم تجد السّبيل إلى وحدتها حول الأولويّة الكبرى في حلّ مشكلة الشّعب العراقيّ، ولم تؤكّد الموقع الكبير الذي تمثّله الحركات الشعبيّة التاريخيّة، ولم تخطّط للاستراتيجيّة السياسيّة الأمنيّة التي تتوزّع الأدوار، بل بقيت مشغولةً بالخلافات الهامشيّة التي ربما غرقت في المناقشات والاتهامات السلبيّة بما يزيد على ما تمارسه ضدّ النظم الطاغي.
أمّا الإسلاميّون العراقيّون، فهم بحاجة إلى التّحديث الفكري والسياسي في نظرتهم إلى المتغيّرات الثقافيّة التي طرأت على الحركة الإسلاميّة العالميّة، وعلى الثقافة الإسلامية في تنوّعاتها الفكريّة، وإلى التطورات السياسية في العالم على أكثر من صعيد، الأمر الذي يفرض عليهم أن لا يستريحوا إلى المنهج التاريخي الذي ألفوه، أو إلى الأساليب التقليدية التي أخذوا بها، مما قد يراه البعض مقدَّساً من دون أن يملك القداسة في الشّكل والمضمون، هذا إضافةً إلى الحاجة إلى الوحدة أو التنسيق بين مواقع الحركة التي ربما أطبقت عليها الذهنيّة أو العقد الشخصانيّة الّتي تسيء إلى الحوار الموضوعي القائم على التّكامل وتوزيع الأدوار، ولذلك تحرّك الجهد لإشغال هذا الفريق أو ذاك بإلغاء الآخر أو تهديمه أو إرباكه، والاقتصار في بذل الجهد في الدّعوة على الجانب السياسي والأمني، في الوقت الّذي كان ينبغي أن يعملوا على تأصيل الشخصيّة الإسلاميّة ثقافيّاً وسياسيّاً واجتماعيّاً وأخلاقيّاً، ولكنّهم اقتصروا على الجانب السياسي والأمني، وابتعدوا عن الجوانب الأخرى.
إنّ على الإسلاميّين ـ في منطق الصحوة الإسلامية ـ أن لا يستغرقوا في الموقع الإقليمي أو القطري ـ مع تقديرنا لأهميته ـ بل أن يتحركوا من أجل الدعوة إلى الإسلام في المجتمع الإسلامي وفي العالم الخارجي، لتكون اهتماماتهم إسلامية في مستوى العالم، لأنّ ذلك هو رسالة الإسلام في امتداده في الزمان والإنسان.
نهضة السيّد الصّدر!
س: كيف كانت قراءتكم للنّهضة الإصلاحيّة التي قادها المرجع الميداني السيّد محمد محمد صادق الصدر (قده) في حياته؟ وما هو تقييمكم للقراءات الخاطئة المشكّكة في علميّته وعدالته؟
ج: لقد استطاع الشّهيد السيّد محمد محمد صادق الصّدر أن يملأ الفراغ الإسلامي الكبير في حركته، بحيث كان المرجع الذي أعطى للمرجعيّة حيويّتها وحركيّتها وامتداداتها في الوجدان الإسلامي العام، ولا سيّما في صلاة الجمعة التي كانت الانطلاقة العباديّة ـ الاجتماعيّة المطلّة، ولو من بعيد ـ على المسألة السياسيّة، وهذا مما كانت الحوزة العلميّة والواقع الشيعيّ محرومين منه.. وقد ترك استشهاده صدمة كبيرة لأكثر من جهة، ولا سيّما للذين كانوا يرونه عميلاً للنّظام، في الوقت الذي كان يمارس فقهه في الأساليب والوسائل العمليّة التي كان يعتمدها في اجتهاده، من خلال دراسته للواقع على مستوى ما كان يستفيده من سلوك الأئمّة المتأخّرين في مسألة التقيّة. وإذا كان بعض الناس يرون الخطأ في ذلك، فإنّ القضيّة لا تصل إلى حدّ التّخوين، بل هو اجتهاد في مقابل اجتهاد، كما هي حالة العلماء في اجتهاداتهم الفقهيّة أو العمليّة.
لقد عرفت السيّد الشّهيد في شبابه كأطهر النّاس في صفاء روحه وطيبة نفسه وإخلاصه وإسلامه، ودأبه على الدّرس والتّدريس، ولذلك فإني لا أتصوّره إلا طاهراً عادلاً عالماً في المستوى الكبير من العلم، وقد قرأت بعض كتبه، فرأيت فيها الذهنية العلمية الاجتهادية في أكثر من موقع، لقد كان مظلوماً في حياته وبعد وفاته، وقد كانت قمّة مظلوميّته جريمة اغتياله، كما كانت قمّة موقعه، الحركة الإسلاميّة المنفتحة على الشّعب التي أدّت إلى استشهاده.
المعارضة العراقيّة والإصلاح
* كيف ينظر السيّد فضل الله إلى حالة الإصلاح في صفوف المعارضة العراقيّة، وما هو رأيه في النّقد وتقبّل الرأي الآخر؟
ج: إنّني أرى أنَّ على المعارضة العراقيّة أن تقوم بعمليّة الإصلاح في داخلها، على مستوى ثقافتها وسياستها وحركيّتها، لتواكب كلّ المتغيّرات والتطوّرات، لتدرسها دراسةً دقيقة، فتطرد منها ما تجاوزه الزّمن، وتبقي منها ما بقي للحياة، ولتخطّط لحركة جديدة، ولتجد سبيل وحدتها.. وعليها أن ترتفع إلى مستوى التّرحيب بالنّقد الموضوعيّ، والبعد عن النّقد التّشهيري الإسقاطي، وترى في النّقد تأكيداً للصّداقة وللأخوّة، على هدى الكلمة المأثورة: "المؤمن مرآة أخيه"، و"رحم الله امرءاً أهدى إليّ عيوبي"، وأن تتحرّك على أساس قبول الآخر كما هو، من أجل التّكامل معه والحوار حول فكره، لأنّ الإنسان إذا كان يرى لنفسه الحقّ في الاختلاف مع الآخر، فعليه أن يرى الحقّ للآخر في الاختلاف معه، وعلينا أن نتابع الأسلوب القرآني في دعوة أهل الكتاب إلى كلمة سواء حول مواقع اللّقاء، بالرّغم من الاختلاف الكثير في مواقع الخلاف، وذلك هو قوله تعالى: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ}[آل عمران: 64].
فإذا كان الله يريدنا أن ندعو أهل الكتاب إلى كلمة سواء، مع الاختلاف الكبير في التوحيد وفي ذات الله، فلماذا نمتنع أن ندعو أهل القرآن إلى كلمة سواء فيما اتّفقنا فيه لنلتقي عليه، وإلى الجدال بالتي هي أحسن فيما اختلفنا فيه، {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ}[النّساء: 59]، {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}[النّحل: 125]، {وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}[فصّلت: 34]، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا}[الإسراء: 53].
هذا هو الأسلوب القرآني.. ولكنّنا لا نزال نتراشق بالتي هي أسوأ، وندفع بالتي هي أقسى، ونحوّل أصدقاءنا إلى أعداء، بالاتهامات الباطلة، والشّتائم المبتذلة، وبأساليب التّكفير والتّضليل من دون حقّ.. وهذا هو بعض أسباب الفشل والإرباك والسقوط.
والحمد لله ربّ العالمين.
*مقابلة صحيفة الكلمة الحرّة مع سماحة المرجع فضل الله (رض) عبر المراسلة، الصّادرة في مدينة قمّ المقدَّسة، بتاريخ 19 شوّال1421هـ.