رُوي عن النبيّ(ص) أنّه قال: "إِنَّ لقَتْلِ الحُسَيْنِ حَرارَةً فِيقُلُوبِالمُؤْمِنينَلا تَبْرُدُ أَبَداً"([1])، غير أنّ تمظهر هذه الحرارة في السلوك الخارجيّ للمؤمنين، قد قسَّمهم في يومنا هذا، وبشكلٍ حادّ، إلى فريقين متباينَيْن متباعدَيْن متهاجرَيْن، بل وصل الأمر إلى اتِّهام أحدهم للآخر بالضّلال والانحراف، والمروق من المذهب، والنقص في الولاء لمحمّدٍ وآل محمد.
أصرّ فريقٌ من المؤمنين على ضرورة مقاربة أخبار النهضة الحسينيّة، وأشكال إحيائها، وكلِّ ما يتَّصل بالشّعائر الخاصّة بها، بوعيٍ ومسؤوليّة، اعتماداً على منطق العقل والفكر، فلا نقبل من أخبارها والشّعائر إلا ما وافق كتاب الله، وسنّة رسوله، ولم يُخالف حكماً عقليّاً قطعيّاً، أو شرطاً من شروط الإثبات التاريخيّ للأحداث والوقائع.
ومن هنا، شهدنا رفض بعض العلماء والمفكِّرين والمثقَّفين المؤمنين، لجملةٍ من أخبار ثورة الحسين(ع) في عاشوراء، كـ "أعداد مَنْ قتلهم الحسينُ(ع) أو ولدُه عليّ الأكبر"؛ و"بكاء السّماء دماً عبيطاً بعد مقتله(ع)"؛ و"ولادة ظاهرة احمرار الأفق عند شروق الشّمس وغروبها بعد مقتل الحسين(ع)، وأنّها لم تكُنْ موجودةً قبلها"؛ وأخبار كثيرة من هذا القبيل.
وكذلك، كان لهم موقفٌ رافض ومنكِر لكثيرٍ ممّا شاع على أنّه من الشعائر الحسينيّة، كـ "التّطبير"، و"ضرب الزّنجيل"، و"المشي على النّار"، و"الزّحف على شظايا الزجاج المهشَّم"، وصولاً إلى "المشي إلى كربلاء لزيارة الحسين(ع) كظاهرةٍ اجتماعيّة تتجدَّد عاماً بعد عام"، في مسيرة جماعيّة تستهلك وقتاً كثيراً لمَنْ يخرج من المدن البعيدة، ويمشي مسافاتٍ طويلة، وما يقتضيه ذلك من تعطيلٍ للأعمال والدّراسة وغيرها من مقوِّمات الحياة، وواجبات الفرد كعنصرٍ فاعلٍ في المجتمع البشريّ الّذي يحيا فيه؛ وتعتورها مفاسدُ عديدة، من اختلاطِ النّساء بالرّجال، في أوضاعٍ غير مرْضية شَرْعاً، وإضرارٍ بالبدن، حيث الورم في الرِّجلَيْن، والألم في السَّاقَيْن والقدمَيْن؛ وأفعال كثيرة تظهر بين الحين والآخر، وتُمنَح قدسيّة "الشعائر الحسينيّة".
وفي مقابل هؤلاء، برز فريقٌ آخر، لا يرى بأساً بقبول كلِّ روايةٍ أو حديث ينقل خبراً عن عاشوراء، أو عن أبي عبد الله الحسين(ع)، أو يدعو إلى عملٍ سُرعان ما يتحوَّل إلى شعيرة حسينيّة، ويغدو شعاراً للإيمان والمذهب.
وهكذا، تصكّ أسماعَنا بين الفينة والأخرى أخبارٌ أقلّ ما يُقال عنها إنّها غريبةٌ وبعيدةٌ عن منطق أهل البيت(ع)، إلى كونها مخالفةً للثّابت والضّروريّ من العقائد الإسلاميّة، غير أنّه يشفع لها، ويسهِّل رواجَها، ويرغِّب في تصديقها، ويُعيق مواجهتَها، أنّها تتناول سيرة أبي عبد الله الحسين(ع) بنحوٍ ما. وعليه، فلا يجوز بحالٍ من الأحوال، أن تُناقَش أو تُنتَقَد، ولو وفق الشّروط العلميّة المقرَّرة في الحوزات العلميّة كافّة.
ومن الأمثلة على ذلك:
1ـ ما يتناقله بعضُ المؤمنين من خبر المَلَك فُطْرُس، حيث نُقل عن الصّادق(ع) ما مختصره: إنّ الله بعث جبرئيل في ألفٍ من الملائكة؛ لتهنئة رسول الله(ص) بمولد الحسين(ع)، فمرَّ جبرئيل على فُطْرُس ـ وهو من الحَمَلة[أي حَمَلة العرش]، فبعثه الله في شيءٍ، فأبطأ عليه، فكسر جناحه، وألقاه في جزيرة ـ فسأل جبرئيلَ أن يحمله معه؛ لعلَّ محمّداً يدعو له، ففعل، وأُعلِم النبيُّ(ص) بحال فُطْرُس، فأمره أن يتمسَّح بالحسين(ع)، ويعود إلى مكانه([2]).
فهل يسعنا أن نقبل بصدور المعصية عن المَلَك المقرَّب حامل العرش، فُطْرُس، بعدما جاء في القرآن الكريم من أنّ الملائكةَ ﴿عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ﴾(الأنبياء: 26 ـ 27)؟!
وهل يسعنا أن نقبل أنّ الله أراد عقاب فُطْرُس، فحبسه في جزيرةٍ، ثمّ يأتي جبرئيلُ، فيخرجه منها إلى محمّد(ص) لعلّه يدعو له؟! فهل لجبرئيل أن يتصرَّف بهواه؟! ثمّ هل يُعقَل أنّ النبيّ بعد أن علم بعقاب الله لفُطْرُس، أمره بالتمسُّح بالحسين(ع)، والعودة إلى مكانه في السماوات العُلى؟! أهكذا يتمّ إلغاء الجزاء الإلهيّ بكلِّ بساطةٍ؟! ﴿بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ﴾ (يوسف: 18).
2ـ ما يتناقله بعضُ المؤمنين، من أنّ الله بنفسه قبض روحَ الحسين(ع)، بعد أن امتنع الملك الكريم عزرائيل عن قبضها؛ لتحيُّره من أيِّ عضوٍ يقبض روحَه(ع).
ففضلاً عن أن ليس لهذا الخبر عينٌ أو أثرٌ في كتب الحديث والأخبار، نسأل: هل خَفِي على الله تقطُّع أعضاء الحسين(ع)، بحيث لا مجال لنزع روحه من أحدها، وبالتّالي، يكون قد كلَّف عزرائيل بمهمّةٍ مستحيلة غير مقدورة؟! والتكليف بغير المقدور قبيحٌ، ولا يصدر عنه سبحانه، تعالى اللهُ عن الجهل والقبيح عُلُوّاً كبيراً([3]).
3ـ بعض المُختَرَعات المُضحِكة، الظّاهر خطؤها، كما في محاولة أحد خطباء المنبر الحسينيّ المعروفين، إثبات أنّ مظلوميّة الحسين(ع) قد وصلَتْ إلى أميركا. والدّليلُ أنّ في ولاية كاليفورنيا مدينة اسمها «سان هوزيه»، و«سان» تعني «القِدّيس»، وأمّا «هوزيه» فهي «حسين»، ولكنّه ليس في اللّغة اللاتينيّة سينٌ «س»، فتلفظ زاياً «ز»، وتُحذف النّون كحرفٍ أخير؛ اختصاراً، هكذا تكون «هوزيه» تعادل «حسين»([4]). في حين أنّ في اللغة اللاتينيّة حرف «س»، وهو حرف «s»؛ مضافاً إلى أنّ هناك ترجمةً لهذا الاسم: «سان هوزيه»، وهو «القِدّيس يوسف»([5]).
وبسبب هذا الخلاف المستحكِم، واستعار الجدل الدينيّ حوله، كانت لمجلَّة «نصوص معاصرة» وقفةٌ مع هذا الموضوع، في عددها المزدوج: الثّلاثون، والواحد والثلاثون (30 ـ 31)، بعنوان: «النّهضة الحسينيّة، قراءات ومطالعات 1»، من خلال جملةٍ من المقالات العلميّة القيِّمة، تليها دراساتٌ متنوِّعة، ما بين العرفان، والفلسفة، والتّفسير، والأصول، ليكون الختام مع قراءةٍ في كتاب «الشّعائر الحسينيّة»، للميرزا جواد التبريزي.
كلمة التّحرير
وهي بعنوان "الدّين والإلحاد، محاولتان لخلق إنسانين مختلفين/ الحلقة الأولى"، ويستعرض فيها رئيس التّحرير، الشّيخ حيدر حبّ الله، مقارنةً بسيطة جدّاً بين المتديِّن (بأيِّ دين سماويّ) وغير المتديِّن، اللّذين يريان الأشياء ويتعاملان معها بطريقةٍ مختلفة تماماً، ويشتدّ الاختلاف بينهما تبعاً لشدّة قناعتهما، ثم ترجمتهما عمليّاً لما يؤمنان به. وهنا، إذا واجه المتديِّن الأمر نفسه الّذي واجهه الملحِد، فإنّ نتائج رؤيته للأمور ستكون مختلفة تماماً. ويؤدّي هذا الاختلاف إلى اختلاف آخر بالغ الأهمّيّة في دور الدّين نفسه. وللحديث تتمّةٌ.
وينشر في ملفّ العدد، وهو بعنوان "النّهضة الحسينيّة، قراءاتٌ ومطالعات/1"، العديد من الدّراسات والمقالات :
1ـ «فلسفة النهضة الحسينيّة، قراءةٌ جديدة في النظريّات القائمة»، للشيخ أحمد مبلِّغي.
2ـ «معرفة الله وفق الذّوق العرفانيّ للإمام الحسين(ع)»، للدّكتور الشّيخ محمد باقر حيدري كاشاني.
3ـ «الشّعائر الحسينيّة بين الشّرعيّة والعقلانيّة»، للدّكتور الشّيخ محمد أمين أحمدي.
4ـ «الرّؤية الفقهيّة والحقوقيّة لثورة الإمام الحسين(ع)»، للدّكتور الشّيخ مصطفى مير أحمدي زاده.
5ـ «الثّورة الحسينيّة وتعزيز فقه المواجهة»، للشّيخ جواد فخّار الطوسي.
6ـ «المهديّ والمهدويّة عند الإمام الحسين(ع)»، للشّيخ محمد أمين صادقي الأرزكاني.
7ـ «الثّورة الحسينيّة وإشكاليّة تعارض (أولي الأمر) مع (أولي الأرحام)»، للشّيخ محمد حسن قدردانقراملكي.
8ـ «النظريّات في ثورة عاشوراء»، للأستاذ علي إلهام.
9ـ «قبسٌ من عرفان الإمام الحسين(ع)»، للشّيخ محمد أمين صادقي.
وكذلك، هناك عدّة دراسات عامّة:
1ـ «الولاية في العرفان الإسلاميّ، قراءةٌ وتحليل»، للدّكتور الشّيخ أسد الله شكريان.
2ـ «استعمال اللّفظ في أكثر من معنى، دراسةٌ لأساسيّات منهج الفهم العرفانيّ»، للسيّد جواد سيحي، والدّكتور قاسم فائز.
3ـ «الدّين، والفلسفة، والغائيّة»، ليورغن هابرماس.
4ـ «حجّيّة الحديث في تفسير القرآن، دراسةٌ في نظريّة العلاّمة الطباطبائي»، للدّكتور كاظم قاضي زاده، والأستاذة مريم الجعفري.
5ـ «المدرسة الأصوليّة للسيّد الشّهيد محمد باقر الصّدر، دراسةٌ في المعالم والآفاق/ القسم الثّاني»، للشّيخ رضا إسلامي.
وأخيراً، كانت قراءةٌ في كتاب «الشّعائر الحسينيّة» للميرزا التبريزي، وذلك في مقالة بعنوان «هوامش نقديّة على كتاب «الشعائر الحسينيّة» للميرزا التبريزي»، للشّيخ جواد القائمي (البصري).
يُشار إلى أنّ «مجلّة نصوص معاصرة»، يرأس تحريرها الشيّخ حيدر حبّ الله، ويدير تحريرها الشّيخ محمد عباس دهيني.
* قراءةٌ في العدد المزدوج (30 ـ 31) من مجلّة نصوص معاصرة
([1]) مستدرك الوسائل 10: 318، باب استحباب البكاء لقتل الحسين(ع)، ح13.
([2]) ابن شهرآشوب، مناقب آل أبي طالب 3: 228 ـ 229، باب إمامة أبي عبد الله الحسين.
([3]) لمزيد من الاطّلاع على ردّ هذا الخبر، راجع مقالتنا بعنوان: «هل قبض الله عزَّ وجلَّ بنفسه روح الحسين(ع)؟، قراءةٌ نقديّة»، على الرابط التالي: http://dohaini.com/?p=771.
([4]) راجع الرابط التالي: http://www.youtube.com/watch?v=QKWNkNUQqVQ
([5]) راجع الرابط التالي:
http://ar.wikipedia.org/wiki/%D8%B3%D8%A7%D9%86_%D9%87%D9%88%D8%B2%D9%8A%D9%87
إن الآراء الواردة في هذا المقال لا تعبِّر بالضرورة عن رأي الموقع ، وإنما عن رأي صاحبه .