لا يجوز للمالك أن يتصرف بداره أو أرضه بما يحدث ضرراً على جاره، وتفصيل ذلك يستدعي بيانه في مسائل:
م ـ 17: قد حثت الروايات الكثيرة على رعاية الجار وحسن المعاشرة مع الجيران وكف الأذى عنهم وحرمة إيذائهم، وقد ورد في الحديث عن الإمام الصادق(ع) أنه قال: (إن حسن الجوار يزيد في الرزق)، وعنه ـ أيضاً ـ أنه قال: (حسن الجوار يعمّر الديار ويزيد في الأعمار)، وعنه ـ أيضاً ـ عليه السلام أنه قال: (ليس منّا من لم يحسن مجاورة من جاوره)، وغيرها مما قد أكد على الوصية بالجار وتشديد الأمر في ذلك.
والمراد بالجار في مقام حسن المعاشرة من يراه العرف كذلك ممن يسكن في جوارك في بلدك أو محلتك؛ وفي بعض الروايات تحديده بأربعين داراً، والظاهر أن المراد بها ما ينتشر حولك من الجهات المتعددة، لا أنها أربعون داراً من كل جهة، وبذلك تكون مناسبة لوضع المباني ذات الطبقات في المدن؛ أما المراد بالجار في مقام عدم الإضرار به فهو الأعم من ذلك، فيشمل كل من يتضرر بتصرفك من المسلمين، ولو كان أبعد من ذلك.
م ـ 18: إذا لزم من تصرّف المالك في ملكه ضرر معتد به على جاره، فإن كان ضرراً متعارفاً فيما بين الجيران، كإطالة البناء الموجبة لنقص الاستفادة من الشمس أو الهواء، فالظاهر أنه لا بأس به، وإلا لم يجز، فإن فعل ما فيه ضرر غير متعارف وجب عليه رفعه؛ ولا فرق في ذلك بين أن يكون تصرفه في ملكه مستلزماً للتصرف (الحقيقي) في ملك الجار أو مستلزماً للتصرف (الحكمي) فيه:
والأول: كما إذا تصرّف في ملكه بما يوجب خللاً في حيطان جاره، أو حبس ماءً في ملكه بحيث تسري الرطوبة إلى بناء جاره، أو أحدث حفرة لخزن مياه الصرف الصحي بقرب بئر الجار فأوجب فساد مائها، أو حفر بئراً بقرب بئر جاره فأوجب نقصان مائها، سواء أكان النقص مستنداً إلى جذب البئر الثانية ماء الأولى أو إلى كونها أعمق منها.
والثاني: كما إذا جعل ملكه معمل دباغة أو حدادةٍ في منطقة سكنية، ما يوجب عدم قابلية الدور المجاورة للسكنى فيها.
م - 19: الظاهر أنه لا فرق في عدم جواز تصرف المالك في ملكه بما يوجب الإضرار بالجار على أحد النحوين المتقدمين بين أن يكون ترك تصرّفه فيه مستلزماً للضرر على نفسه أم لا، فلا يجوز للمالك حفر بئر لتخزين مياه الصرف الصحي ـ مثلاً ـ في داره على نحو تضر ببئر مياه الشرب لجاره وإن كان في ترك حفرها ضررٌ عليه، ولو فعل ضَمِن الضرر الوارد على جاره إذا كان مستنداً إليه عرفاً.
م - 20: إذا أراد أحد المالكين المتجاوريْن بناء سورٍ لأرضه، أو بناء حائطٍ لمنزله، لم يجب عليه أن يجعل حرماً بينه وبين عقار جاره أو حائط سوره أو منزله، نعم ينبغي الالتزام بقوانين التنظيم المدني في المواصفات اللازمة في البناء، وذلك لما لها من أهمية في حياة الإنسان وصحته وجمال مدينته.
م - 21: لا يجوز وضع حافة سقف البناء أو الخيمة أو نحوهما على حائط الجار إلا بإذنه ورضاه، وإذا طلب ذلك من الجار لم يجب عليه إجابته، وإن استحب له استحباباً مؤكداً، من جهة ما ورد من التأكيد والحثّ على قضاء حوائج الإخوان ولا سيما الجيران، ولو بنى أو وضع الجذوع بإذنه ورضاه، فإن كان ذلك بعنوان ملزم، كالشرط في ضمن عقد لازم أو بالإجارة أو بالصلح عليه، لم يجز له الرجوع، وأما إذا كان لمجرد الإذن والرخصة جاز له الرجوع قبل البناء والوضع، وأما بعد ذلك فالأقوى أنه لا يجوز له الرجوع إلى إذا كان من الأبنية القابلة للتفكيك بحسب وضعها العمراني، وله أخذ الأجرة منه إذا لم يكن الإذن مبنياً على المجانية، ومع ذلك فلا يترك الاحتياط الاستحبابي بالتصالح والتراضي بينهما ولو بالإبقاء مع الأجرة أو الهدم مع الأرش.
م - 22: إذا دخل العقار في ملكية إنسان، وعلى حائط فيه سقف منزل الجار أو جذوع خيمته ولم يُعلم على أي وجه وضعت، حكم في الظاهر بكونه عن حق واستحقاق حتى يثبت خلافه، فليس للجار أن يطالبه برفعها عنه، بل ولا منعه من التجديد لو انهدم السقف، وكذا الحال لو وُجد بناءٌ أو مجرى ماء أو ميزابٌ منصوبٌ لأحد في ملك غيره ولم يُعلم سببه، فإنه يحكم في أمثال ذلك بكونه عن حق واستحقاق إلا أن يثبت كونها عن عدوان أو بعنوان العارية التي يجوز فيها الرجوع.
م - 23: إذا خرجت أغصان شجرة إلى فضاء ملك الجار من غير استحقاق فله أن يطالب مالك الشجرة بعطف الأغصان أو قطعها من حدّ ملكه، فإن امتنع صاحبها جاز للجار ـ بإذن الحاكم الشرعي ـ عطفها، فإن لم ينقضِ الأمر بالعطف جاز اللجوء إلى القطع بعد استئذان الحاكم الشرعي.
م - 24: لو تنازعا في جدار ولم يكن لأي منهما بيّنة، فإن كان تحت يد أحدهما فهو له بيمينه، وكذا لو اتصل ببناء أحدهما دون الآخر، أو كان له عليه طرحٌ، كسقف غرفة أخرى أو أخشاب خيمة أو نحو ذلك، فإنه يحكم له به مع اليمين، وأما لو كان تحت يد كليهما أو خارجاً عن يدهما، فإن حلفا أو امتنعا عن الحلف حكم به لهما، وإن حلف أحدهما وامتنع الآخر حكم به للحالف.
م - 25: لو اختلف مالك العلو ومالك السَّفل في ملكية السقف الفاصل بين الطابقين، فإن لم يكن لأيٍّ منهما بيّنة على دعواه كان ذلك من باب التداعي، فيتحالفان، إلا إذا كانت هناك عادة قطعيّة تقضي باختصاص أحدهما به فيُقدّم قوله بيمينه، وحيث يحق لهما التحالف فإنهما إذا حلفا معاً أو لم يحلفا حكم لهما به، وإن حلف أحدهما دون الآخر حُكِمَ به للحالف.
وإن اختلفا في ملكية جدران السفل كانت البينة على مالك العلو واليمين على مالك السفل إذا لم يكن السقف قائماً عليها، كما في بعض الأبنية الحديثة حيث يتم بناء الجدران بعد الفراغ عن بناء الهيكل الأساسي للبناية، وأما مع قيام السقف عليها فحكمها حكم السقف، أي أنه إذا قدّم أحدهما بينة حكم له به، وإلا لزمهما حلف اليمين، فإن حلفا معاً أو لم يحلفا حكم لهما به، وإن حلف أحدهما دون الآخر حكم به للحالف.
وإن اختلفا في ملكية الدَّرَج فعلى صاحب السفل البينة وعلى صاحب العلو اليمين، وإن اختلفا في المخزن الذي تحت الدرج فالحكم بالعكس، وإن اختلفا على ملكية طريق للطابق العلوي في باحة الدار السفلي، فإن لم يأت أحدهما ببينة على مدّعاه لزمهما حلف اليمين، وذلك كما تقدم في حكم التنازع على ملكية السقف، ومهما كانت نتيجة هذا النزاع، فإن للطابق العلوي حق المرور من باحة الدار السفلي. فإن تنازعا على ملكية تمام باحة الدار، فعلى مالك العلو البينة وعلى مالك السفل اليمين.
ولما كانت أمثال هذه الأمور مما يُرفع إلى القاضي فإن فروعها عديدة وتعز على الحصر، ولكل قضية منها خصوصياتها، لا سيما في زماننا هذا الذي تعقدت فيه علاقات الجوار ودخلت فيه عناصر جديدة، مما لا داعي معه لاستيعابها، وفيما ذكرناه منها كفاية لإعطاء فكرة عن الموضوع.