يلحظ الكثيرون أنَّ مقلّدي سماحة السيد محمَّد حسين فضل الله من الشّيعة، يمتلكون قدراً من الزّهو، وبخاصّة في تناولهم لسيرة السيّد الراحل، وكفاحه في العراق ولبنان، من أجل ترسيخ مبدأ المقاومة.
والواقع أنَّ السيّد فضل الله يعدّ من القلائل الّذين لا يثرثر أتباعهم كثيراً عن مآثرهم الشخصيّة وما يؤدّونه من صلوات وتهجدات، بقدر ما يتحدّثون عما قدّمه للمجتمع ككل، من مؤسسات للرعاية الاجتماعية، وطروحات فقهية وفكرية وتاريخية، سعت إلى ترسيخ عملية التطوير الحضاري لأوضاع هذا المجتمع وتدعيمها.
ربما لم يقبل السيّد فضل الله بأن يكون كنظائره في كل العالم وكلّ الديانات، مجرّد عالم دين يكتفي بإلقاء العظات الممجوجة على أذن أتباعه، إضافةً إلى بعض المساهمات في منح الأعطيات للفقراء، لكنه سعى إلى قدر أكبر من المساهمة الاجتماعيّة، عبر طرح منظومة نظرية وعملية في آن لما يمكن أن يقدّمه عالم الدّين من دور بارز وإيجابي، وهو ما حوّله إلى نموذج ربما لا يمكن تكراره بسهولة.
ولهذا السبب، لا يتحدّث مقلّدوه كثيراً عن فتاواه بقدر ما يتحدثون عن رؤيته السياسية للأوضاع في العالم، ونظرته التاريخية في بعض القضايا، وربما منهجه في تلقّي المرويّات ونقد الرجال، وتفسيره الجديد في أسلوبه للقرآن الكريم، والّذي ربط الكلام الإلهي بحركة الواقع، بعد أن عانى المسلمون كثيراً التفسيرات المتأثّرة بالرؤى القروسطية، والّتي ترفض الخروج من إطارها.
لقد كانت بداية تعرّفي إلى منهج السيد فضل الله في منتصف التسعينات، عبر كتابه الرائع "الإسلام ومنطق القوّة"، والذي ناقش فيه بذهنية تقدمية، ارتباط القوة بحركة المستضعفين في المجتمع، كما أشار إلى المحيط الأخلاقي لاستخدام القوّة.
وقد كان من الغريب بالنسبة إلي في هذا الوقت، أن يمتلك أحد علماء الدين هذا الأفق الرحب في قراءة النصوص، وفي وعيه بأهميّة حركة المجتمع وتطوّراته والصّراع ما بين المستضعفين والمستكبرين، والذي يفرض، بحسب الكتاب، لجوء المستضعفين إلى القوّة من الناحيتين السلوكية والعملية. وربما كان مكمن الغرابة، هو الصّورة التي كان يتمّ بها تصوير علماء الدّين الشيعة في مصر خلال هذه الفترة، حيث سعت التيارات السلفية المدعومة من نظام مبارك، إلى منح الشعب المصري صورة كاريكاتورية مشوّهة لهم، تقوم على التناقض ما بين الآراء الهزيلة المضحكة التي نسبت إليهم، والعنف والتطرّف في مواجهة الآخر، كما قيل آنذاك. وبالنّسبة إلى السيد فضل الله(قده)، لم يكن يعرف عنه سوى أنه الأب الروحي للمتطرّفين الشيعة في لبنان!
لاحقاً، قرأت العديد من المؤلفات التي طبعت لسماحة السيد، وبخاصة رؤيته التاريخية لقضية الاعتداء على الزهراء(ع)، ونقده الرائع لهذه الحادثة، عبر التشديد على منح الاعتبار للأوضاع والأعراف الاجتماعية، والتي كانت متواجدة في هذه الفترة، في محاكمة المرويات المتنوّعة للحادثة، إضافةً إلى رؤيته الخاصّة للمرجعية الدينية، ومطالبته للحركة الإسلاميّة بضرورة اللّبننة، بمعنى الوعي بخصائص الوضع في لبنان.
في كتابه "أسئلة وردود من القلب"، اتخذ سماحة السيّد مبادرة قد يكون هو الوحيد بين علماء الدين الذي تبنّاها، حيث دعا إلى حوار إسلامي ـ ماركسي، يحاول أن يجد مواقع اللّقاء، ويحدّد مواقع الافتراق، ليتفاهم الإسلاميون والماركسيون على ما يمكن أن يتعاونوا من خلاله في كثير من المواقع السياسية، أو بعض المواقع الاقتصاديّة، وذلك انطلاقاً من اعتقاده بالاتفاق بين الإسلام والماركسية على توصيف المشكلة، بحسب مقولة الإمام علي بن أبي طالب(ع): "ما رأيت مالاً وفيراً إلا وبجانبه حقّ مضيع".
وبقدر ما تعبّر هذه المبادرة عن الخلفيّة الاجتماعيّة للحركة الإسلاميّة في الوسط الشيعي، والمنحازة بشكل تلقائيّ إلى الكادحين في أغلب أدبيّاتها، انطلاقاً من كون التشيّع في الأساس يمثّل إيديولوجيّة الكادحين في العصور الوسطى، إضافةً إلى الطبقة التجاريّة الصّغرى، وبالتالي، فوجود عناصر تلاقٍ كثيرة ووثيقة بين الإسلاميين الشيعة والماركسيين يبدو طبيعياً، فإنَّ تجاوز سماحة السيّد عن عناصر الخلاف الّتي كانت قائمة في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي بين الإسلاميين والماركسيين في لبنان، إلى الدّعوة إلى حوار بين الطرفين، وتأكيد عناصر الاتفاق بينهما، مثّل طرحاً جديداً وجريئاً للغاية على الساحة العربية، ناهيك بما حمله العرض من سعة أفق، عبر البحث عن توحيد القوى في مواجهة الاستغلال والإمبريالية الرأسمالية التي مارست دوراً متوحّشاً في لبنان.
على أنَّ ما كان ملفتاً ومثيراً للغرابة بالنّسبة إليَّ، هو ما تميّزت به فتاواه الدينية من انسجام مع واقع المقلّدين وحركتهم في المجتمع، وهو ميزة غير معتادة في العلاقة التقليديّة المعروفة بين المسلمين بشكل عام ورجال الدين، حيث تصطدم الفتوى غالباً بالواقع الذي يعيشه المسلم في حياته العمليَّة، وتفرض عليه المعادلة المؤلمة بالنّسبة إليه، إما الالتزام بالدين، وإما الإلتزام بمسؤوليّاته، وتفضيل أحدهما على الآخر سيمثّل مشكلةً بكلّ تأكيد.
كانت فتاوى السيد فضل الله تجمع ما بين ميزتين قلّما اجتمعتا لدى عالم دين، فهي من ناحية تعكس وعياً واضحاً بالتطوّرات الحياتية اليوميّة للمؤمن العادي، كما تعكس كذلك الوعي بجوهر النصّ والأجواء الاجتماعية والتاريخية التي يتحرّك من خلالها، وما يفرضه من استنتاجات. ومن ناحية أخرى، تتمسّك بالمناهج والأساليب المتبعة في استنباط الأحكام، وتبدي رصانة ظاهرة في التعامل مع النصوص، دون أيّ محاولة للشّطح وتحميل النّص أكثر مما يحتمل أو محاولة تطويعه للحاضر.
لقد مثّل سماحة آية الله العظمى السيّد محمّد حسين فضل الله(قده) حالة استثنائيّة واعية داخل الواقع المشوَّه بالكامل في العالمين العربي والإسلامي، هذا الواقع الّذي تعبّأ بفعل الرجعيّة والتخلّف بكلّ عناصر الكراهية الطائفيّة والإقصاء للآخر، وبقدر ما تمكّن سماحته من تجاوز هذه العقبات، ظلّ في المقابل، وحتى وفاته منذ أربع سنوات، يدفع ثمن هذا الوعي الذي حرص على نشره، إلى درجة اعتباره من قبل البعض معادياً للزّهراء(ع)، وهو شطط في المواجهة يثير الشفقة أكثر مما يثير السّخرية.
يبقى سماحة السيّد وما قدّمه للفكر والمجتمع الإسلاميّين، قيمة لا يجب أن يسمح بنهايتها أو توقّفها عن الإبداع، أو حتى الانقلاب عليها من الدّاخل، عبر منحها صفات تقديسيّة غير واقعيّة، وإنما يجب الحفاظ عليها من قبل تلامذته، عبر نشر الوعي ذاته، وتطوير عناصره ورؤيته لمختلف القضايا المحيطة.