بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمَّد وعلى آله الطيّبين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
يقول الله تعالى: {إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[البقرة: 271].
من الطّبيعيّ أنَّ الصَّدقة خيرٌ كلَّها، عندما يدفعها الإنسان متقرِّباً إلى الله في مساعدته لمن يحتاج اليها من النّاس نتيجة ضيق حاله، وصعوبة أوضاعه.
عنوانان للصَّدقة
وللصَّدقة موقعان؛ موقع صدقة السرّ، وهي أن تقوم بدفع هذه الصَّدقة للفقير من دون أن يطَّلع على ذلك أحد، وهذه هي الصَّدقة الّتي يتضاعف أجرها، لأنَّك تجمع فيها عدَّة أمور؛ أوَّلها الإخلاص، لأنك عندما تدفعها من دون أن يراك أحد، فإنَّ ذلك يجعلك أقرب إلى الإخلاص مما لو كنت تتصدَّق بها أمام النَّاس، لأنَّ الشَّيطان قد يأتي ليسوِّل إليك بأن تعطيها أمام النَّاس ليمدحك النَّاس عليها، أو ليراك النّاس وأنت تتصدّق ليقال عنك بأنَّك رجلٌ محسنٌ.
وثانياً، إنَّ الصَّدقة هذه تمثّل العطاء الذي يحلّ مشكلة هذا الإنسان.
وثالثاً، أنّك تحفظ كرامته، لأنَّ بعض الناس قد لا يحبّون أن يعرف أحد حاجتهم، أو أن يطَّلع الناس على أخذهم للصَّدقة، كما تحدَّث الله عن بعض هؤلاء النّاس: {لِلْفُقَرَاءِ ٱلَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَٰهُمْ لَا يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافً}[البقرة: 273].
أمّا صدقة العلانية، فإضافةً إلى معنى العطاء في طبيعتها، فإنّها تشجِّع بعض النَّاس على الصَّدقة، عندما يشاهدونك تعطي الصَّدقة، وتجعلهم يقتدون بك في ذلك، بحيث تقصد أنت بصدقة العلانية أن تشجّع الآخرين على أن يتصدَّقوا، ليتعرَّفوا من خلال صدقتك على حاجته.
ولذلك، قال الله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}، إذا اعلنتموها، فهي شيء جيِّد، {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، يعني صدقة السّرّ تتميَّز عن صدقة العلانية.
فضلُ صدقةِ السّرِّ
هذا ما في القرآن. أمَّا في الأحاديث، فنقرأ عن رسول الله (ص): "صدقةُ السّرِّ تطفئُ غضبَ الرّبِّ"1، بمعنى أنَّك إذا كنت قد تعرَّضت إلى غضب الله نتيجة معصية عصيتها، وكانت توجب غضب الله عليك، ثم تصدَّقت صدقة السرّ، فإنَّ هذه الصَّدقة تطفئ غضب الرّبّ، وتستحقّ من خلالها رضا الله سبحانه وتعالى.
وعن الإمام جعفر الصَّادق (ع): "لا تتصدَّق على أعين الناس ليزكّوك"، يعني لا تكن صدقتك رياءً حتى يراك الناس وأنت تتصدَّق، ليمدحوك وليزكّوك في حديثهم عنك، "فإنَّك إن فعلت ذلك، فقد استوفيت أجرك"، بمعنى إذا تصدَّق شخص ليقول النّاس عنه إنّه رجل خير، وإنَّه رجل إحسان، وكان يحبّ أن يذكره النَّاس بذلك، فيكون قد استوفى أجره في الدّنيا، ويوم القيامة، يقول يا ربّ، لقد تصدَّقت على كثير من الفقراء، فيقول له الله إنَّك تصدَّقت ليقال عنك إنَّك محسن، وإنَّك على خير، وقد قال النَّاس عنك ذلك، وقد استوفيت أجرك، فلماذا تطلب الأجر منّي؟! فأنت لم تتصدَّق تقرّباً إليَّ وإخلاصاً لي، وإنَّما تصدَّقت ليمدحك النَّاس، وقد مدحك النَّاس على صدقتك، فلا شيء لك عندي، لأنَّك لم تعمل شيئاً لي.
"ولكن إذا أعطيْتَ بيمينِكَ، فلا تُطْلِعْ عليها شمالك"، وهذا من باب المبالغة، كناية عن أن لا يراك مَنْ هم حولَك، "فإنَّ الَّذي تتصدَّق له سرّاً، يجزيك علانيةً على رؤوسِ الأشهاد، في اليوم الَّذي لا يضرُّك أن لا يطَّلع النَّاس على صدقتك"2، يعني عندما تتصدَّق لحساب الله وللتقرّب إليه في السرّ، فإنَّه سوف يعطيك جزاءك أمام النَّاس، عندما يعطيك جزاءك مما يحسن إليك في الدنيا أو في الآخرة.
الإمام عليّ (ع) يقول: "الصَّدقة في السّرّ من أفضل البرّ"3، يعني من أفضل عناصر الخير.
رسول الله (ص) يقول: "سبعة في ظلِّ عرش الله يوم لا ظلَّ إلَّا ظلّه؛ رجل تصدَّق بيمينه فأخفاه عن شماله..."4، كناية عن صدقة السّرّ.
وعن الإمام عليّ (ع): "أفضل ما توسِّل به المتوسِّلون، الإيمانُ بالله، وصدقةُ السّرِّ، فإنَّها تُذهِبُ الخطيئةَ، وتُطفِئُ غضبَ الرَّبّ"5.
تصدُّق الأئمَّة (ع)
وهكذا، نلاحظ كيف كانت سيرة الأئمة من أهل البيت (ع) في طريقتهم في الصَّدقة.
الإمام الباقر (ع) يتحدَّث عن أبيه الإمام زين العابدين (ع)، بأنّه: "كانَ يخرجُ في اللَّيلةِ الظَّلماءِ، فيحملُ الجرابَ على ظهرِهِ حتَّى يأتيَ باباً باباً، فيقرعَهُ، ثم يناولُ من كانَ يخرجُ إليه، وكانَ يغطِّي وجهَهُ إذا ناولَ فقيراً، لئلَّا يعرفَه"6.
وقد ورد في "بحار الأنوار" عن محمد بن إسحق، أنَّه كان أناس من أهل المدينة لا يدرون من أين معاشهم، فكلّ ليله يأتيهم مصرف أو غذاء اليوم القادم، ولا يعرفون من يقدِّم إليهم ذلك، فلمّا مات عليّ بن الحسين (ع)، فقدوا ما كانوا يؤتون به في اللّيل، وبعضهم من أرحام الإمام زين العابدين (ع)... وغالباً الأرحام يكون عندعم عقد بعضهم تجاه بعض.
هذا الشّخص كان الإمام (ع) يأتيه في اللّيل ويعطيه ويخفي وجهه عنه حتّى لا يعرفه، وكان هذا الشّخص يقول للإمام وهو لا يعرفه: أنت أفضل من ابن عمّنا عليّ بن الحسين الّذي لا يذكرنا بشيء، حتّى إذا مات الإمام (ع)، عرف هذا الشَّخص أنَّ من كان يأتيه ويتصدَّق عليه هو الإمام (ع).
وفي "الكافي" عن هشام بن سالم: "كان أبو عبد الله – جعفر الصّادق (ع) - إذا أعتمَ - أي دخل وقت العتمة – وذهبَ من اللَّيلِ شطرُهُ، أخذَ جراباً فيه خبزٌ ولحمٌ والدَّراهمُ، فحملَهُ على عنقِهِ، ثم ذهبَ به إلى أهلِ الحاجةِ من أهلِ المدينةِ، فقسَمَهُ فيهم، ولا يعرفونه، فلمَّا مضى أبو عبدالله (ع)، فقدوا ذلك، فعلموا أنَّه كان أبا عبدالله (ع)"7.
هذه هي سيرة الأئمّة (سلام الله عليهم) في ذلك، ولعلَّه ما من إمام، إلَّا ونقرأ في سيرته بعض ذلك، طلبا لرضى الله ولثوابه.
فضلُ صدقةِ العلانية
نأتي إلى صدقة العلانية وفضلها، ذكرنا أنّها تشجِّع الناس على ذلك، وأن يطَّلع النَّاس على فقر الفقير، في الوقت الَّذي لا يعرفون فقره، فيصلونه {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}[فاطر: 29]، أي لن تهلك، فهي تجارة تتحرّك وتنمو، ومن الطبيعي أنها تجارة مع الله.
عن الإمام الصَّادق (ع): "صدقة العلانية تدفع سبعين من البلاء"8. وعن الإمام عليّ (ع): "إنَّ افضل ما توسَّل به المتوسِّلون، الإيمانُ بهِ وبرسولِهِ... وصدقةُ السّرِّ، فإنَّها تكفّر الخطيئة - يعني تُذهب بالخطيئة - وصدقة العلانية، فإنَّها تدفع ميتة السّوء"9. فالإنسان لا يموت ميتة سوءٍ بسبب هذه الصَّدقة.
وعن الإمام الباقر (ع)، في قوله تعالى: "{إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}، يعني الزكاة المفروضة. قال: قلت: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ}، يعني النّافلة، كانوا يستحبّون إظهار الفرائض وكتمان النَّوافل"10، يعني الأشياء المستحبَّة في هذا المجال.
صدقةُ اللَّيلِ والنَّهارِ
عندنا عنوان صدقة اللَّيل، وصدقة النّهار: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 274].
الإمام الصَّادق (ع) يقول: "إنَّ صدقةَ اللَّيلِ تطفئُ غضبَ الرّبِّ، وتمحو الذَّنبَ العظيمَ، وتهوِّنُ الحسابَ، وصدقةُ النَّهارِ تثمرُ المالَ، وتزيدُ في العمرِ"11. وعن الصَّادق (ع): "إنَّ صدقةَ النَّهارِ تميثُ الخطيئةَ كما يميثُ الماءُ الملحَ"12.
وعن رسول الله (ص): "إذا أصبحْتً فتصدَّقْ بصدقةٍ تُذهبُ بها نحسَ ذلك اليومِ"، يعني ما يحدث في ذلك اليوم من مشاكل تؤدّي إلى نحوسة وضعك وحلول البلاء بك، "وإذا أمسيْتَ، فتصدَّقْ بصدقةٍ تذهبُ عنكَ نحسَ تلك اللَّيلةِ"13.
وعن ابن عباس في قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، يقول: "نزلت في عليِّ بن أبي طالب (ع)، كان يملكُ أربعةَ دراهمَ، فتصدَّقَ بدرهمٍ ليلاً، وبدرهمٍ نهاراً، وبدرهمٍ سرّاً، وبدرهمٍ علانيةً"14.
في السّعةِ والضِّيقِ
هناك صدقة في حالة السّعة وهناك صدقة في حال الضّيق، فهناك من يتصدَّق والله موسع عليه، وهناك من يتصدَّق وهو في حالة ضيق: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ...}[آل عمران: 133 - 134]، في العسر واليسر.
وورد عن ابن عباس في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ...} ، يعني اليسر والعسر، وفي مجمع البيان قولان: أي في حال كثرة المال وقلَّته، والثَّاني في حال السّرور والاغتمام. يعني في حال كان الشَّخص مرتاحاً نفسيّاً، أو كان لديه همّ أو غمّ، فإنّ الحالات النفسيَّة لا تمنعه من الصَّدقة، بحيث لو كان في حالة نفسيَّة منفتحة، يتصدَّق، ولو كان في حالة نفسيَّة معقَّدة أيضاً يتصدَّق.
وتبقى هناك بعض المواضيع الأخرى عن الصَّدقة، نتحدَّث عنها إن شاء الله ربُّ العالمين.
*محاضرة لسماحته، بتاريخ: 3-1-2002م.
[1]بحار الأنوار، العلَّامة المجلسي،ج96، ص 130.
[2] بحار الأنوار، ج75، ص 284.
[3]ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج2، ص1600.
[4]ميزان الحكمة، ج2، ص 1600.
[5]ميزان الحكمة، ج2، ص 1600.
[6]بحار الأنوار، ج46، ص 89.
[7]الكافي، الشّيخ الكليني، ج4، ص 8.
[8]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[9]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[10]الكافي: ج4، ص 60.
[11]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[12]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[13]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[14]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
بسم الله الرَّحمن الرَّحيم، والصَّلاة والسَّلام على سيِّدنا محمَّد وعلى آله الطيّبين وأصحابه المنتجبين، وعلى جميع أنبياء الله المرسلين.
يقول الله تعالى: {إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ}[البقرة: 271].
من الطّبيعيّ أنَّ الصَّدقة خيرٌ كلَّها، عندما يدفعها الإنسان متقرِّباً إلى الله في مساعدته لمن يحتاج اليها من النّاس نتيجة ضيق حاله، وصعوبة أوضاعه.
عنوانان للصَّدقة
وللصَّدقة موقعان؛ موقع صدقة السرّ، وهي أن تقوم بدفع هذه الصَّدقة للفقير من دون أن يطَّلع على ذلك أحد، وهذه هي الصَّدقة الّتي يتضاعف أجرها، لأنَّك تجمع فيها عدَّة أمور؛ أوَّلها الإخلاص، لأنك عندما تدفعها من دون أن يراك أحد، فإنَّ ذلك يجعلك أقرب إلى الإخلاص مما لو كنت تتصدَّق بها أمام النَّاس، لأنَّ الشَّيطان قد يأتي ليسوِّل إليك بأن تعطيها أمام النَّاس ليمدحك النَّاس عليها، أو ليراك النّاس وأنت تتصدّق ليقال عنك بأنَّك رجلٌ محسنٌ.
وثانياً، إنَّ الصَّدقة هذه تمثّل العطاء الذي يحلّ مشكلة هذا الإنسان.
وثالثاً، أنّك تحفظ كرامته، لأنَّ بعض الناس قد لا يحبّون أن يعرف أحد حاجتهم، أو أن يطَّلع الناس على أخذهم للصَّدقة، كما تحدَّث الله عن بعض هؤلاء النّاس: {لِلْفُقَرَاءِ ٱلَّذِينَ أُحْصِرُواْ فِى سَبِيلِ ٱللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِى ٱلْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ ٱلْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ ٱلتَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَٰهُمْ لَا يَسْأَلُونَ ٱلنَّاسَ إِلْحَافً}[البقرة: 273].
أمّا صدقة العلانية، فإضافةً إلى معنى العطاء في طبيعتها، فإنّها تشجِّع بعض النَّاس على الصَّدقة، عندما يشاهدونك تعطي الصَّدقة، وتجعلهم يقتدون بك في ذلك، بحيث تقصد أنت بصدقة العلانية أن تشجّع الآخرين على أن يتصدَّقوا، ليتعرَّفوا من خلال صدقتك على حاجته.
ولذلك، قال الله: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}، إذا اعلنتموها، فهي شيء جيِّد، {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}، يعني صدقة السّرّ تتميَّز عن صدقة العلانية.
فضلُ صدقةِ السّرِّ
هذا ما في القرآن. أمَّا في الأحاديث، فنقرأ عن رسول الله (ص): "صدقةُ السّرِّ تطفئُ غضبَ الرّبِّ"1، بمعنى أنَّك إذا كنت قد تعرَّضت إلى غضب الله نتيجة معصية عصيتها، وكانت توجب غضب الله عليك، ثم تصدَّقت صدقة السرّ، فإنَّ هذه الصَّدقة تطفئ غضب الرّبّ، وتستحقّ من خلالها رضا الله سبحانه وتعالى.
وعن الإمام جعفر الصَّادق (ع): "لا تتصدَّق على أعين الناس ليزكّوك"، يعني لا تكن صدقتك رياءً حتى يراك الناس وأنت تتصدَّق، ليمدحوك وليزكّوك في حديثهم عنك، "فإنَّك إن فعلت ذلك، فقد استوفيت أجرك"، بمعنى إذا تصدَّق شخص ليقول النّاس عنه إنّه رجل خير، وإنَّه رجل إحسان، وكان يحبّ أن يذكره النَّاس بذلك، فيكون قد استوفى أجره في الدّنيا، ويوم القيامة، يقول يا ربّ، لقد تصدَّقت على كثير من الفقراء، فيقول له الله إنَّك تصدَّقت ليقال عنك إنَّك محسن، وإنَّك على خير، وقد قال النَّاس عنك ذلك، وقد استوفيت أجرك، فلماذا تطلب الأجر منّي؟! فأنت لم تتصدَّق تقرّباً إليَّ وإخلاصاً لي، وإنَّما تصدَّقت ليمدحك النَّاس، وقد مدحك النَّاس على صدقتك، فلا شيء لك عندي، لأنَّك لم تعمل شيئاً لي.
"ولكن إذا أعطيْتَ بيمينِكَ، فلا تُطْلِعْ عليها شمالك"، وهذا من باب المبالغة، كناية عن أن لا يراك مَنْ هم حولَك، "فإنَّ الَّذي تتصدَّق له سرّاً، يجزيك علانيةً على رؤوسِ الأشهاد، في اليوم الَّذي لا يضرُّك أن لا يطَّلع النَّاس على صدقتك"2، يعني عندما تتصدَّق لحساب الله وللتقرّب إليه في السرّ، فإنَّه سوف يعطيك جزاءك أمام النَّاس، عندما يعطيك جزاءك مما يحسن إليك في الدنيا أو في الآخرة.
الإمام عليّ (ع) يقول: "الصَّدقة في السّرّ من أفضل البرّ"3، يعني من أفضل عناصر الخير.
رسول الله (ص) يقول: "سبعة في ظلِّ عرش الله يوم لا ظلَّ إلَّا ظلّه؛ رجل تصدَّق بيمينه فأخفاه عن شماله..."4، كناية عن صدقة السّرّ.
وعن الإمام عليّ (ع): "أفضل ما توسِّل به المتوسِّلون، الإيمانُ بالله، وصدقةُ السّرِّ، فإنَّها تُذهِبُ الخطيئةَ، وتُطفِئُ غضبَ الرَّبّ"5.
تصدُّق الأئمَّة (ع)
وهكذا، نلاحظ كيف كانت سيرة الأئمة من أهل البيت (ع) في طريقتهم في الصَّدقة.
الإمام الباقر (ع) يتحدَّث عن أبيه الإمام زين العابدين (ع)، بأنّه: "كانَ يخرجُ في اللَّيلةِ الظَّلماءِ، فيحملُ الجرابَ على ظهرِهِ حتَّى يأتيَ باباً باباً، فيقرعَهُ، ثم يناولُ من كانَ يخرجُ إليه، وكانَ يغطِّي وجهَهُ إذا ناولَ فقيراً، لئلَّا يعرفَه"6.
وقد ورد في "بحار الأنوار" عن محمد بن إسحق، أنَّه كان أناس من أهل المدينة لا يدرون من أين معاشهم، فكلّ ليله يأتيهم مصرف أو غذاء اليوم القادم، ولا يعرفون من يقدِّم إليهم ذلك، فلمّا مات عليّ بن الحسين (ع)، فقدوا ما كانوا يؤتون به في اللّيل، وبعضهم من أرحام الإمام زين العابدين (ع)... وغالباً الأرحام يكون عندعم عقد بعضهم تجاه بعض.
هذا الشّخص كان الإمام (ع) يأتيه في اللّيل ويعطيه ويخفي وجهه عنه حتّى لا يعرفه، وكان هذا الشّخص يقول للإمام وهو لا يعرفه: أنت أفضل من ابن عمّنا عليّ بن الحسين الّذي لا يذكرنا بشيء، حتّى إذا مات الإمام (ع)، عرف هذا الشَّخص أنَّ من كان يأتيه ويتصدَّق عليه هو الإمام (ع).
وفي "الكافي" عن هشام بن سالم: "كان أبو عبد الله – جعفر الصّادق (ع) - إذا أعتمَ - أي دخل وقت العتمة – وذهبَ من اللَّيلِ شطرُهُ، أخذَ جراباً فيه خبزٌ ولحمٌ والدَّراهمُ، فحملَهُ على عنقِهِ، ثم ذهبَ به إلى أهلِ الحاجةِ من أهلِ المدينةِ، فقسَمَهُ فيهم، ولا يعرفونه، فلمَّا مضى أبو عبدالله (ع)، فقدوا ذلك، فعلموا أنَّه كان أبا عبدالله (ع)"7.
هذه هي سيرة الأئمّة (سلام الله عليهم) في ذلك، ولعلَّه ما من إمام، إلَّا ونقرأ في سيرته بعض ذلك، طلبا لرضى الله ولثوابه.
فضلُ صدقةِ العلانية
نأتي إلى صدقة العلانية وفضلها، ذكرنا أنّها تشجِّع الناس على ذلك، وأن يطَّلع النَّاس على فقر الفقير، في الوقت الَّذي لا يعرفون فقره، فيصلونه {إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ}[فاطر: 29]، أي لن تهلك، فهي تجارة تتحرّك وتنمو، ومن الطبيعي أنها تجارة مع الله.
عن الإمام الصَّادق (ع): "صدقة العلانية تدفع سبعين من البلاء"8. وعن الإمام عليّ (ع): "إنَّ افضل ما توسَّل به المتوسِّلون، الإيمانُ بهِ وبرسولِهِ... وصدقةُ السّرِّ، فإنَّها تكفّر الخطيئة - يعني تُذهب بالخطيئة - وصدقة العلانية، فإنَّها تدفع ميتة السّوء"9. فالإنسان لا يموت ميتة سوءٍ بسبب هذه الصَّدقة.
وعن الإمام الباقر (ع)، في قوله تعالى: "{إن تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ}، يعني الزكاة المفروضة. قال: قلت: {وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ}، يعني النّافلة، كانوا يستحبّون إظهار الفرائض وكتمان النَّوافل"10، يعني الأشياء المستحبَّة في هذا المجال.
صدقةُ اللَّيلِ والنَّهارِ
عندنا عنوان صدقة اللَّيل، وصدقة النّهار: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ}[البقرة: 274].
الإمام الصَّادق (ع) يقول: "إنَّ صدقةَ اللَّيلِ تطفئُ غضبَ الرّبِّ، وتمحو الذَّنبَ العظيمَ، وتهوِّنُ الحسابَ، وصدقةُ النَّهارِ تثمرُ المالَ، وتزيدُ في العمرِ"11. وعن الصَّادق (ع): "إنَّ صدقةَ النَّهارِ تميثُ الخطيئةَ كما يميثُ الماءُ الملحَ"12.
وعن رسول الله (ص): "إذا أصبحْتً فتصدَّقْ بصدقةٍ تُذهبُ بها نحسَ ذلك اليومِ"، يعني ما يحدث في ذلك اليوم من مشاكل تؤدّي إلى نحوسة وضعك وحلول البلاء بك، "وإذا أمسيْتَ، فتصدَّقْ بصدقةٍ تذهبُ عنكَ نحسَ تلك اللَّيلةِ"13.
وعن ابن عباس في قوله: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ}، يقول: "نزلت في عليِّ بن أبي طالب (ع)، كان يملكُ أربعةَ دراهمَ، فتصدَّقَ بدرهمٍ ليلاً، وبدرهمٍ نهاراً، وبدرهمٍ سرّاً، وبدرهمٍ علانيةً"14.
في السّعةِ والضِّيقِ
هناك صدقة في حالة السّعة وهناك صدقة في حال الضّيق، فهناك من يتصدَّق والله موسع عليه، وهناك من يتصدَّق وهو في حالة ضيق: {وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ...}[آل عمران: 133 - 134]، في العسر واليسر.
وورد عن ابن عباس في قوله تعالى: {الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ...} ، يعني اليسر والعسر، وفي مجمع البيان قولان: أي في حال كثرة المال وقلَّته، والثَّاني في حال السّرور والاغتمام. يعني في حال كان الشَّخص مرتاحاً نفسيّاً، أو كان لديه همّ أو غمّ، فإنّ الحالات النفسيَّة لا تمنعه من الصَّدقة، بحيث لو كان في حالة نفسيَّة منفتحة، يتصدَّق، ولو كان في حالة نفسيَّة معقَّدة أيضاً يتصدَّق.
وتبقى هناك بعض المواضيع الأخرى عن الصَّدقة، نتحدَّث عنها إن شاء الله ربُّ العالمين.
*محاضرة لسماحته، بتاريخ: 3-1-2002م.
[1]بحار الأنوار، العلَّامة المجلسي،ج96، ص 130.
[2] بحار الأنوار، ج75، ص 284.
[3]ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج2، ص1600.
[4]ميزان الحكمة، ج2، ص 1600.
[5]ميزان الحكمة، ج2، ص 1600.
[6]بحار الأنوار، ج46، ص 89.
[7]الكافي، الشّيخ الكليني، ج4، ص 8.
[8]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[9]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[10]الكافي: ج4، ص 60.
[11]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[12]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[13]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.
[14]ميزان الحكمة، ج2، ص 1601.