استشارة..
أمّي امرأة كبيرة في السنّ، وبدأت تنسى، وهي غير قادرة على القيام بشيء، أسكن وإخوتي وأخواتي إلى جانبها، ومنذ صغري إلى الآن أهتمّ بها. أمّا البقيّة، فيأتون مرةً لزيارتها في الأسبوع، ولمدّة قصيرة جداً...
المشكلة أنّني كبرت، وبدأت صحتي تتراجع، لديّ بنات وزوجي متوفَّى، وأنا بمثابة أب وأمّ لهنّ.
واحدة من أخواتي تدرِّس القرآن، وتقدّم الأعذار باستمرار بأنّها غير قادرة على الاهتمام بها، والبقيّة أيضاً يتحجّجون بالعمل والسّفر واكتساب المعيشة.
ما هو، في رأيكم، الأكثر ثواباً وأجراً؛ تعليم القرآن والسّفر وقضاء الوقت هنا وهناك، أم مساعدة والدتهم، ما هو حكمهم عند الله؟
وجواب..
اهتمّ الإسلام ببرّ الوالدين والإحسان إليهما في كلّ شيء، بالقلب والفعل والقول، والعناية بهما، وتمضية الوقت معهما، واحترامهما في المجلس، ومقابلتهما ببشاشة وترحاب، والاستئذان عليهما حال الدّخول... واعتبره واجباً من أوجب الواجبات وأفضل القربات، فضلاً عن أنَّه خُلق الأنبياء، وهو سببٌ في زيادة العمر، قال تعالى: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمً}.
{وَاعْبُدُوا اللهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَان}.
وقد سُئل الإمام الصادق(ع) عن قول الله عزّ وجلّ: {وبالوالدين إحسان}، ما هذا الإحسان؟ فقال: الإحسان أن تحسن صحبتهما، وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه وإن كانا مستغنيين، إنّ الله عزَّ وجلَّ يقول: {لن تنالوا البرّ حتَّى تنفقوا مما تحبّون}.
في مقابل ذلك، نهى سبحانه عن عقوقهما، وعدّه من أكبر الكبائر، ويتحقّق العقوق بقطع العلاقة بهما، أو إدخال الحزن إلى قلبيهما بالقول أو الفعل، أو بنهرهما، أو بزجرهما، أو رفع الصّوت عليهما أو أذيّتهما. قال سبحانه وتعالى: {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمً}.
وعن الصادق(ع): "أدنى العقوق (أفّ)، ولو علم الله شيئاً أهون منه لنهى عنه".
وعنه(ع): "من نظر إلى أبويه نظر ماقتٍ لهما وهما ظالمان له، لم يقبل الله له صلاة".
هذا، ولا يقتصر وجوب الإنفاق على الوالدين على ولدٍ دون آخر، وإنَّما هو واجب – مع حاجة الأبوين إلى النفقة – على جميع الأولاد القادرين عليه، بلا فرق بين الولد الأكبر وغيره، ذكراً كان الولد أو أنثى.
إذاً، حقّ الوالدين باقٍ، ومصاحبتهما بالمعروف واجبة حتّى وان كانا كافرين: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}[لقمان: 15]، وتقديم حقّ الأمّ وتقديرها أولى "جاء رجل إلى النّبيّ(ص)، فقال: يا رسول الله، من أولى النّاس بحسن صحابتي؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أمّك، قال: ثمّ من؟ قال: أبوك".
فالجميع ملزمون بمقدار التمكن والاستطاعة. نعم، يحتاج الأبناء إلى كثير من الصبر على الوالدين في مثل هذه السنّ، وليتذكّروا أنّ الأهل أعطوهم الحقّ في ضعفهم وصغرهم؛ فلا ينسوا حقّهما عند الكبر، فإنَّه دَين يوفَّى، وكما تدين تدان، وهم في تلك الحالة يعدّون من الآثمين بعدم برّهم بأمّهم كما يجب.
ولذا، أكّدت نصوص الكتاب والسنَّة البرّ بهما في هذه الحال خاصّة.. ولا ننسَ أنّ البرّ زاد ونجاة وسبيل للفوز في الدنيا والآخرة.
أختي الكريمة، جزاك الله خيراً على حرصك على البرّ بأمّك ومساعدتها، ونسأله سبحانه أن يتقبّل منك ذلك، وأن تكوني ممّن شملتك الآية الكريمة : {وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ}[النّمل: 19].
***
مرسلة الاستشارة: ...............
نوعها: دينيّة.
تاريخها: 1 جمادى الأولى 1440هـ/ الموافق: 7 كانون الثاني 2019م.
المجيب عنها: المكتب الشّرعي في مؤسّسة العلّامة المرجع السيّد محمّد حسين فضل الله(رض).