المرجع الإسلامي السيد محمد حسين فضل الله:
المرحلة في العراق ضبابية والاتفاقية الأمنية تشرّع الاحتلال
تتناول الحلقة السابعة من الحوار الشامل الذي تجريه مجلة "الشراع" مع سماحة العلامة المرجع الإسلامي، السيد محمد حسين فضل الله، الوضع في العراق، بعد توقيع الاتفاقية الأمنية مع الاحتلال الأمريكي. وهذا نصّ الحوار:
العراق بعد الاتفاقية الأمنية مع الاحتلال
س: ما هو موقفكم من توقيع العراق الاتفاقية الأمنية مع الاحتلال الأمريكي؟
ج: لقد وضع الأمريكيون العراقيين في مأزق الاختيار بين هذه الاتفاقية والفوضى في بلادهم، وذلك بأسلوب تهديدي، إلى درجة أن قائد القوات الأمريكية تحدّث عن أن أمريكا سوف تسحب حتى الحماية عن المسؤولين العراقيين، ولمّح إلى إمكانية أن تزيد الفوضى الأمنية القائمة، إضافةً إلى التهديد بتجميد الأموال العراقية المودعة في البنوك الأمريكية، كما هددوا بوقف الاتصالات في مسألة الديون على العراق وإمكان تخفيفها أو إلغائها، وقد حاول العراقيون في مفاوضتهم مع الأمريكيين، بحسب تصريحات المسؤولين العراقيين، أن يحتفظوا بالجانب السيادي في بعض التفاصيل الواردة في الاتفاقية.
وقد قرأت أخيراً أن نصّ الاتفاقية هذه باللغة الإنكليزية يختلف عن نصّها باللغة العربية، أمّا موقفنا منها فقد أعلنّاه، وهو أننا نتحفظ عليها، بالرغم من العنوان المعطى لها، وهو أنها اتفاقية لانسحاب الجيش الأمريكي، لأنها، بحسب النتائج، تشرع الوجود الأمريكي لثلاث سنوات قادمة، بمعنى أنّ الوجود الأمريكي في العراق سوف يكون بموجبها وجوداً شرعياً وليس وجوداً احتلالياً، كما يصفه قرار مجلس الأمن.
وأتصوّر أن القضية، كما تحدّث بعض السياسيين العراقيين، هي أن هذه الاتفاقية هي السبيل الوحيد أمامهم لخروج الأمريكيين، وذلك عبر جدولة انسحابهم، وأنا لا أملك أية تفاصيل حول موضوع الجدولة الزمانية، ولكنني أسأل: لماذا يحدَّد خروج الأمريكيين في سنة 2011 وليس قبل ذلك؟ ولذلك أنا أعتبر أنّ هذه الاتفاقية مثيرة للجدل، في الوضع العراقي الذي ما تزال محاوره تتحرك في عملية تصادم لا تخدم الوحدة العراقية، ولاسيما أنّ القائمين على شؤون كردستان يتحدثون في مواقفهم عن حكومة مركزية عندهم، كما لو أنهم دولة مستقلة، فيبرمون اتفاقيات مع بعض الشركات العالمية في مجال النفط، ويحاولون أن يضموا إليهم مناطق عراقية، كالموصل وكركوك وديالى، وهم يعارضون كثيراً خطوات الحكومة العراقية في إيجاد وسائل دعم شعبي مساند كبديل من مسألة "الصحوة"، وأعتقد أن الخطة الكردية تتحرك نحو الانفصال، وتمارس بعض الخطوات في هذا الإطار ولو بشكل غير رسمي.
س: وهل إنّ الخطة الكردية تتحرك بإدارة أمريكية؟
ج: من الطبيعي أن لأمريكا دوراً مهماً في إرباك الوضع العراقي، وربما في هذا الشأن يندرج حديث بعض المسؤولين الأمريكيين حول تقسيم العراق إلى منطقة سنية ومنطقة شيعية ومنطقة كردية، كما نلاحظ أن القائمين على شؤون كردستان يسلمون للوجود الأمريكي دون قيد أو شرط، وقد صرحوا بأنهم مستعدون للموافقة على إقامة قواعد عسكرية أمريكية في كردستان.
موقف المرجعية الشيعية من الاحتلال؟!
س: هل ترون أن المرجعية الشيعية العراقية، وتحديداً في النجف، قد قامت بالدور المطلوب منها في مواجهة الاحتلال الأمريكي؟
ج: المرجعية الشيعية لم تكن يوماً مع الاحتلال ولن تكون، وهذا أمرٌ مقطوع به، لأنّ الوقوف مع الاحتلال هو على خلاف الخط الإسلامي، ومن المعروف أن هذه المرجعية لم تقبل باستقبال أي مسؤول أمريكي، بينما استقبلت مسؤولين في الأمم المتحدة وآخرين، ولعل أسلوب المرجعية التقليدي الموجود في أغلب مواقع العالم الشيعي، هو عدم التدخل الفاعل القوي في تفاصيل القضايا السياسية بالمستوى القيادي الذي يتحرك بشكل صدامي فاعل.
س: لكن سبق لهذه المرجعية أن قادت ثورةً مسلّحةً ضد الاحتلال البريطاني عام 1920؟
ج: لقد كانت المرجعية الشيعية عام 1920 تمثل ثورةً في وجه الاحتلال، ولكنَّ المرجعية الشيعية في العراق ما لبثت أن اتّخذت موقفاً متحفّظاً حول مسألة الدخول المباشر في الواقع السياسي القوي والفاعل، باستثناء ما كانت تمثله مرجعية السيد محمد باقر الصدر، ومرجعيّة السيد محسن الحكيم.
س: أليس هناك شيء من المهادنة الشيعية مع الاحتلال الأمريكي؟
ج: حين دخلت أمريكا بكامل قوتها العسكرية لاحتلال العراق، دخلت من طريق البصرة، أي من الجنوب، ولم تستطع الوصول إلى بغداد إلا بعد أيام، لأنها صادفت معارضةً ومقاومةً من قِبَل العراقيين الجنوبيين الذين يمثلون الأكثرية الشيعية.
ثم إنّنا نظرنا إلى المسألة في بُعدها الواقعي، نرى أن الشيعة قد عانوا معاناةً قاسيةً جداً من النظام السابق حتّى وصلوا إلى حدّ الاختناق، سواء كان اختناقاً سياسياً أو دينياً أو اقتصادياً، لذلك عملوا على معارضة ذلك النظام، وكانوا يبحثون عمّن ينقذهم من ذلك الوضع، لأن صدام حسين وإن كان يتحدث عن القضايا العربية والقضية الفلسطينية بالصوت الخارجي، إلاّ أنّه كان طاغيةً في ما يتعلّق بالشأن الداخلي، وخصوصاً مع الطائفة الشيعية، والأمريكيون كانوا قد قرروا إسقاط نظام صدام حسين الذي كان بمثابة موظف في استخباراتهم بعد أن انتهت مهمته ووظيفته بالنسبة إليهم، فالتقت بذلك مصلحة الشيعة الذين كانوا يبحثون عن منقذ من الوضع الذي كان قائماً، وبالمصلحة الأمريكية، ولم تكن المسألة مسألة تحالف ورضى، بل مسألة التقاء على مصلحة مشتركة.
المصالح الأمريكية في لبنان
س: قلتم إن هناك لقاء مصالح في العراق بين الشيعة والأمريكيين، أليس من الممكن أن يكون هذا حال بعض القوى اللبنانية في لقائها مع أمريكا؟
ج: هناك فارق في طبيعة الظروف بين العراق ولبنان، لأن لبنان يتميز بالحرية السياسية، كما أن المسألة بين لبنان وإسرائيل لم تكن يوماً مسألة تخص الشيعة فقط، والموقف من إسرائيل لم يكن موقفاً شيعياً خاصاً، فكل قوى اليسار كان لها الموقف نفسه، والسنّة كانوا مع هذا الموقف، وكذلك الكثير من القوى المسيحية، كما أنّ إسرائيل كانت تعتدي على لبنان قبل وجود حزب الله، كما فعلت في احتلال عام 1982، حين وصلت باجتياحها إلى العاصمة بيروت، وعندما ندرس الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان منذ نشوء الكيان الإسرائيلي وحتى الآن، نجد أنه كانت هناك دائماً مقاومة ضده، وقد انخرط الجميع فيها، والمقاومة الإسلامية إنما جاءت بعد ذلك.
وقد كانت هذه المقاومة تنطلق من الظروف اللبنانية الملائمة، بينما الوضع في العراق مختلف، هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ أمريكا تمثّل الحاضن العالمي لإسرائيل، وربما كان من بعض خلفيات إسقاط العراق وإسقاط جيشه بالذات، إنقاذ لإسرائيل من دولة قوية يحمل شعبها في ذهنيّته العداوة لإسرائيل، وقد قرأت قبل أيام، أن أولمرت في لقائه الأخير مع بوش، شكره على إنقاذه إسرائيل من قوة عربية كبيرة تتمثل بالعراق. ولذلك فإن الوضع في لبنان يمثل الوضع الذي تتحرك فيه أمريكا لدعم إسرائيل في عدوانها المستمر عليه، ولأن لبنان، بعد أن استطاعت إسرائيل أن تصالح مصر والأردن وبعض الدول العربية الأخرى، بقي الخاصرة الضعيفة التي يمكن لإسرائيل أن تقضي من خلاله على البندقية الفلسطينية كرمز للقضية الفلسطينية، وأن تلغي حقّ العودة، وأن تستعرض عضلاتها أمام العرب، وهذا ما حصل في عدوان تموز عام 2006 الذي وقفت أمريكا فيه جنباً إلى جنب مع إسرائيل، وجعلت لها جسراً جوياً لتزويدها بالأسلحة والقنابل المدمرة، ومنها القنابل الذكية.
فالمسألة اللبنانية إذاً تختلف عن المسألة العراقية، لأنّ الاستراتيجية الأمريكية في لبنان لها هدف واحد فقط هو الأمن الإسرائيلي.
تعدّد الصيغ الإنقاذية للعراق
س: كيف ترى سماحتك مستقبل العراق على ضوء هذه الاتفاقية، وفي ظلّ الكثير من الصيغ المطروحة، ومنها الفدرلة؟ وما هي الصيغة الأمثل التي ترونها لإنقاذه؟
ج: إنّ العراق ما يزال في المرحلة الضبابية التي لا يملك المتابع أن يتطلع إلى آفاقها المستقبلية، أولاً لأنّه ما يزال يعيش في دائرة الإرهاب الذي تغذيه أكثر من دولة في المنطقة وخارجها، وثانياً، بسبب التجاذب الموجود بين السياسيين العراقيين، سواء من خلفية طائفية أو من خلفية حزبية أو شخصانية أو غير ذلك، ولذا ما تزال المسألة العراقية تعيش في دائرة التجاذب. وأنا لا أرى مستقبلاً واقعياً لصيغة الفدرالية، ما عدا بعض التطلع الكردي نحو هذا الطرح. وإذا أردنا للعراق أن يكون دولةً قويةً فاعلةً، فلا بد من عودته إلى وحدته، وإيجاد حالة وطنية تجمع العراقيين من سنة وشيعة وأكراد، إذا وافق الأكراد على ذلك، وما يُثار من قلق بين السنة والشيعة، ما هو إلا أمرٌ طارىء، لأنّه في كل تاريخ العراق، لم تحدث أي فتنة أو مشكلة بين السنّة والشيعة، وحتى الآن أؤكد أنه ليس هناك حرب أهلية في العراق بين السنة والشيعة، بل هناك جهات إرهابية تتغذى من بعض السياسات الموجودة في المنطقة وخارجها، وتتحرك من خلال ذهنية متخلفة ومتطرفة في فهم الإسلام.
ولذلك أتصور أن الذين يتحدثون عن فدرلة المناطق لن ينجحوا في تحقيق طرحهم، سواء في الشمال أو الجنوب أو الوسط، بل إنّ هذا الطرح ربما يثير حرباً جديدة في داخل كل منطقة من تلك المناطق، على الرغم من وجود فرق بين المناطق السنية والشيعية، وبين المنطقة الكردية التي تحلم بوجود دولة كردية واسعة تشمل جزءاً من تركيا والعراق وإيران وسوريا.
س: هل من دورٍ لدول الجوار العراقي في منع الفدرلة أو تقسيم العراق؟ وما هي مصلحتهم في ذلك؟
ج: لدى دول الجوار العراقي أكثر من مشكلة، فالأمريكيون أصبحوا على حدودها، وهذا ما يجعل المشكلة بين هذه الدول وبين الأمريكيين، لذا تحاول هذه الدول إرباك الوجود الأمريكي في العراق، كما أن أمريكا تحاول الضغط على هذه الدول من خلال وجودها في العراق لتحقيق أهدافها في المنطقة. ولذلك نرى أن هذه الدول تقف ضد الفدرالية، ولكن هذه المسألة ليست هي المطروحة الآن، بل المسألة المطروحة هي الصراع الأمريكي مع دول الجوار، وأنا أرى أنه ما دام هناك وجود للاحتلال الأمريكي فلن يستقر العراق.
فوضى ما بعد الانسحاب
س: لكن هناك من يرى أن الانسحاب الأمريكي من العراق قد يغرق العراقيين بالفوضى والانفلات الأمني؟
ج: هذا ما يُثار في الإعلام الأمريكي والإعلام التابع لأمريكا والمؤيد لها، وأنا لا أتصور أن الوضع في العراق سوف يكون أسوأ مما هو عليه الآن إذا انسحبت أمريكا منه، لأن الكثيرين من هؤلاء الإرهابيين والتكفيريين يحتجون بالاحتلال الأمريكي لتبرير حركتهم، فإذا زال الاحتلال الأمريكي فلن تبقى لهم حجة في هذا المجال، المهم أن تهتم الحكومة العراقية، وبمساعدة الدول العربية، بتقوية الجيش العراقي وتدريبه، حتى يكون قوة فاعلة تستطيع حماية العراق من الداخل والخارج، وإذا لم يتم تقوية القوى الأمنية من جيش وشرطة، فلن تقوم للعراق قائمة.
س: وهل أنتم راضون عن توزيع السلطة بالشكل القائم الآن في العراق؟
ج: توزيع السلطة بين المذاهب يمثل حركةً سلبيةً للعراق، لأنه يجعله تماماً كولايات غير متحدة، كما هو الوضع عندنا في لبنان، وإن كان يختلف من حيث الشدة والضعف، وأعتقد أن الوحدة الوطنية هي السبيل الوحيد لإنقاذ العراق، وأدعو إلى أن يأخذ كل عراقي حقوقه من خلال المواطنة لا من خلال الانتماء الطائفي.
س: ما هو المطلوب اليوم لتستعيد المرجعية في النجف بريقها؟
ج: النجف تحتاج إلى وقت طويل لإعادة بناء هيكليّتها الإسلامية بشكل متطور وفاعل وواعٍ ومعاصر، حتى تتمكن من استعادة دورها الريادي في الانفتاح على العالم الإسلامي، ولاسيما الشيعي.
حوار: زين حمود ـ أحمد الموسوي
مكتب سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله (رض)
التاريخ: 10 ذو الحجة 1429 هـ الموافق: 08/12/2008 م