ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبتي صلاة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى :
الزهراء (ع): اندماج روحي مع الرسول (ص)
يقول الله تعالى في كتابه المجيد: {إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا}. من أهل هذا البيت سيدتنا الصدّيقة الطاهرة المطهّرة فاطمة الزهراء (ع)، "سيدة نساء العالمين"، و"سيدة نساء المؤمنين"، و"سيدة نساء أهل الجنة"، و"سيدة نساء هذه الأمة"، كما ورد في عدة روايات عن رسول الله (ص)، التي تصادف ذكرى وفاتها في هذا اليوم في الغد، لأنها ـ كما ورد عن الإمام جعفر الصادق (ع) ـ بقيت بعد وفاة أبيها النبي (ص) خمسة وسبعين يوماً، ويُنقل أنها جاءت إلى النبي (ص) في حالة احتضاره، فضمّها إلى صدره وهمس في أذنها همسة بكت بعدها، ثم همس في أذنها في الضمة الثانية همسةً ضحكت بعدها، فقيل لها: ما أسرع الضحك إلى البكاء، لماذا بكيت أولاً ثم ضحكت ثانياً؟ قالت (ع): «ما كنت لأفشي سرّ رسول الله في حياته»، وبعد وفاته (ص) سئلت فقالت (ع): «إنه في المرة الأولى همس في أذني بأن نفسه نُعيت إليه فبكيت، ثم همس في أذني أنني أوَّل أهل بيته لحوقاً به فضحكت»، وكأنها (ع) تقول إنّ الفراق لن يطول لأنها ستلتقي به في وقت قريب.
وهذا يوحي بالعلاقة الروحية بين الزهراء (ع) وبين رسول الله (ص)، تصوّروا شابة في سنّ الثامنة عشرة، وهي زوجة تحبّ زوجها ويحبها زوجها، وهي أمّ تحبّ أولادها ويحبها أولادها، وهم في سن يحتاجون فيها إلى رعايتها لهم، تضحك عندما يخبرها أبوها أنها ستفارق الحياة في وقت قريب لتلتقي به. إنها الحالة الروحية التي عاشتها الزهراء (ع) مع رسول الله (ص)، لأننا عندما ندرس حياتها مع النبي (ص)، نجد أنها كانت حياة اندماج واحتضان، كانت تحتضن أباها بكل عاطفتها وحنانها بعد وفاة أمها، حيث كانت منذ سني طفولتها الأولى ترعاه وترافقه إلى المسجد عندما يذهب ليصلي، وتنظر إلى ما كان يفعله المشركون معه، فتسانده بدموعها حزناً على ذلك، وكان (ص) يقول عنها إنها "أم أبيها"، لأنه فقد أمه وهو في أول طفولته، فعوّضته فاطمة حنان الأم، فكانت أمه التي ملأت روحه بالعاطفة والحنان وإن كانت ابنته في الولادة.
وعاشت (ع) في هجرته، فكان بيتها بيته، يأتي ليستريح فيه، فإذا سافر كانت آخر الناس به عهداً، وإذا عاد من سفره كانت هي أول الناس عهداً به. كان (ص) يشعر بالراحة والسكينة والطمأنينة والهدوء النفسي والحنان في بيت عليّ وفاطمة، لأن هذا البيت كان يجسّد الإسلام بكل قيمه ومعانيه وروحانيته وجهاده.
قمة الإيثار والتضحية
ولذلك، كان رسول الله (ص) يجد في بيت فاطمة ما لم يجده في بيوت زوجاته أو أصحابه، كان (ص) يعرف أن ابنته تعيش مع الله في ليلها حتى يبزغ عليها الفجر، «كانت تصلي في محرابها ـ كما يقول ولدها الإمام الحسن وهو في سنّه الطفولي يتطلع إلى أمه ساهراً ـ حتى تتورم قدماها». وكان الحسن (ع) في طفولته الذكية اللمّاحة الواعية يستمع إليها في صلاتها الليلية وهي تدعو للمؤمنين والمؤمنات ولا تدعو لنفسها، فكان (ع) يقول لها: «يا أماه، لم لا تدعين لنفسك»؟ وكأنه كان يعرف أن أمه ناحلة الجسم، منهدة الركن نتيجة ما عانته من جهد في بيتها، وما عانته من جهد نفسي في مواجهتها لخطوط الانحراف بعد رسول الله، ولفراقها له، فقالت: «يا بني، الجار ثم الدار»، نحن أناس نفكر بجيراننا وبالناس من حولنا قبل أن نفكر في أنفسنا، لأن رسالتنا هي أن نفتح عقول الناس على الحق، وحياتهم على العدل، وأن نفكر في آلامهم لنخفف عنهم تلك الآلام، وأن نتابع مشاكلهم لنحلّها لهم.
تلك هي سمة أهل البيت (ع)، وتلك هي خطوط الطهارة في عقولهم وقلوبهم وفي كل حياتهم، لأنهم كانوا الطهارة كلها، والصفاء كله، والمحبة كلها، لأن رضاهم ما يرضي الله وغضبهم ما يُغضب الله، والله تعالى يرضى لعباده الصالحين أن يُدخلوا السرور على الناس ويرفقوا بهم، وأن لا يكونوا أنانيين لا يفكرون إلا بأنفسهم. إن الزهراء (ع) بكلمتها هذه تسمو وترتفع إلى أعلى القيم، لأن الإنسان الذي يعيش القيمة الروحية، يفكّر في الآخرين كما يفكر في نفسه، والزهراء (ع) تفكّر في الآخرين قبل أن تفكر في نفسها، وهذا هو الإيثار، وهذه هي التضحية، أن تهتم بآلام الآخرين وأحلامهم قبل أن تهتم بآلامك وأحلامك. تلك هي الزهراء (ع)، وهذا ما جاء عن النبي (ص): «فاطمة بضعة مني، فمن أغضبها فقد أغضبني»، لأن الزهراء لا تغضب إلا عندما يبتعد الإنسان عن الحق ويرتبط بالباطل، وهكذا كان رسول الله (ص)، وفي رواية أخرى: «إن ابنتي فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها»، وهذه الأحاديث رواها البخاري ومسلم في صحيحيهما؛ عقلها بضعة من عقله، وروحها بضعة من روحه، وحركتها في رضى الله بضعة من حركته.
الزهراء القدوة:
كان يقال إن النبي إذا كان جالساً وجاءت فاطمة قام إليها وقبّل يدها وأجلسها في مكانه، حناناً وعاطفة، وكانت فاطمة إذا كانت جالسة وجاء رسول الله قامت إليه وقبّلت يده وأجلسته في مجلسها. هذا الاندماج الروحي الذي لا بدّ أن نرتفع إليه في تجسيد معنى الإنسانية في اندماج الإنسان بالإنسان، وهذا ما يجعلها القدوة؛ أن نرتفع إلى آفاق الزهراء (ع) في عنفوان الروح وعظمة القيمة. كانت (ع) تخاطب المسلمين في مسجد رسول الله بهذا العنفوان الروحي الذي لا يختزن أية أنانية أو غرور: «اعلموا أني فاطمة وأبي محمد»، كانت تريد ـ في احتجاجها عليهم ـ أن تقول لهم: إني أكلمكم من خلال الرسالة لا من خلال الذات، إنني جزء من محمد، لست مجرد جزء الجسد من الجسد، ولكني جزء الروح من الروح.
قالت عنها زوجة أبيها أم المؤمنين عائشة: «ما رأيت أحداً أشبه كلاماً وسمتاً وهدياً ودلاً برسول الله من فاطمة»، تشبهه في كل هديه وصفته وفي كلامه، إذا سمع الناس فاطمة تتكلم فكأنهم يسمعون رسول الله وهو يتكلم، وكانت تقول: «ما رأيت أحداً قط أصدق منها غير أبيها»، ولذلك عندما وقفت في المسجد وهي تتحدث، كان الصدق يتحدث من خلال كلامها، لأنها كانت الأصدق، لا تقول كذباً ولا هجراً ولا لغواً.
وسئلت عائشة: «أي الناس كان الأحبّ إلى رسول الله؟ قالت: فاطمة، وسئلت: ومن الرجال؟ قالت: زوجها، إن كان ما علمته صوّاماً قوّاماً». هذه الإنسانة التي ارتفعت بروحها إلى الله، وارتفعت بمسؤوليتها في بيتها وفي مجتمعها، كانت المعلّمة التي يجتمع النساء حولها لتعلّمهنّ ما سمعت من رسول الله (ص)، وكانت تحفظ أحاديث رسول الله، وكان (ص) يحدثها، حتى إنه أعطاها في بعض الأيام كربة مكتوباً فيها: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذي جاره. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه. من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليسكت»، وكانت تحدث الناس بذلك كله، وهذا ما جعل فاطمة في هذا العمر القصير تملأ الواقع من حولها.
جرأة الموقف
وكانت (ع) وهي تحمل كل هذه المسؤوليات الثقيلة، كانت القوية؛ قوة الموقف وقوة الحجة وقوة المواجهة، لقد عانت الكثير بعد رسول الله (ص)؛ مُنعت من إرثها وهُدد بيتها بالإحراق عندما جاء القوم ليعتقلوا عليّاً (ع) ومن معه من المسلمين وبني هاشم، وقيل لمن جاء: كيف تفكر بإحراق البيت إن فيه فاطمة؟! قال: وإن.. كأنه يقول: ليس في البيت محرّمات ومقدّسات!! عانت ذلك كله، ولكن لم يثقلها إلا إبعاد عليّ عن موقعه الذي وضعه الله فيه: «من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه، اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وأدر الحق معه حيثما دار»، كانت قضيتها هي كيف تدافع عن حق عليّ، لا باعتبار أنه زوجها، بل باعتبار أنه إمامها وإمام المسلمين، وقضية حقه لا ترتبط به شخصياً، بل ترتبط بالحق كله والعدل كله وبمستقبل المسلمين العلمي والحركي، فقد كانت تسمع أباها وهو يقول: «عليّ مع الحق والحق مع عليّ يدور معه حيثما دار»، «أنا مدينة العلم وعليّ بابها»، «أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي»، وكانت (ع) تلتقي نساء المسلمين ورجالهن وتحدثهن عن حق عليّ، ووقفت في المسجد تدافع عن حقها في الإرث وترد الحجة بالحجة: «أترث أباك ولا أرث أبي»؟ أنت مسلم وأنا مسلمة، والحق في الإسلام في الإرث أن الابن يرث أباه، والله يقول: «وورث سليمان داوود».
وكانت (ع) الجريئة في طرح موقفها، وقالت لبعض هؤلاء: «لأدعونّ عليك في كل صلاة»، وعندما دنت منها الوفاة جلست مع عليّ (ع) لتعبّر له عن كل أوضاعها معه وكل أوضاعه معها، فقالت: «ما عهدتني كاذبة ولا خائنة وما خالفتك منذ عرفتك»، فقال لها: «أنت أبرّ وأعظم وأتقى وأعرف من أن أوبخك في شيء من ذلك»، وكان (ع) يقول: «ما أغضبتها مدة حياتي معها، ولم تغضبني ولم تعصِ أمري مدة حياتها معي». كان هناك وحدة في العقل والقلب والمسؤولية، ووحدة في رعاية العائلة، ووحدة في خط الإسلام.
الحزن الرسالي:
إننا نسمع الكثير من الناس الذين حاصروا الزهراء (ع) في دائرة الحزن إلى حدّ الجزع، يقولون إنها كانت تبكي في الليل والنهار، وكان أهل المدينة يضجون من بكائها حتى قالوا لعليّ: إما أن تبكي أباها ليلاً أو نهاراً!! أيّ كلام هو هذا الكلام؟! إن الزهراء (ع) أعظم وأعظم وأعظم من ذلك، ولا سيّما أننا نقرأ في حديث عن الإمامين الباقر والصادق (ع) في تفسير الآية الكريمة: {ولا يعصينّك في معروف}، قال: «إن رسول الله (ص) قال لفاطمة: إذا أنا مت فلا تخمشي عليّ وجهاً، ولا ترخي عليّ شعراً، ولا تنادي بالويل، ولا تقيمي عليّ نائحة»، ثم قال الإمام (ع): «هذا هو المعروف». كان حزنها حزناً رسالياً، كانت تذهب إلى قبر رسول الله وقبور الشهداء ولا تزيد عن القول: «ها هنا كان رسول الله»، لتذكّر الناس كي لا ينسوا رسول الله في مسجده وفي مواقعه التي كان يتجوّل فيها، وكانت تأخذ الحسن والحسين إلى قبر جدهما وتحدثهما عن حركة أبيها هنا وهناك.
كان حزنها حزناً رسالياً هادئاً منفتحاً على الرسالة في تذكّرها لرسول الله (ص)، لأن التذكر لرسول الله (ص) كان يحمل الانفتاح على الإسلام كله. وفي كتاب الكافي يقول بعض الرواة عن أمير المؤمنين (ع) وهو يعظ الناس: «مروا أهاليكم بالقول الحسن عند موتاكم»، ويستشهد الإمام عليّ (ع) في هذا الخط بالزهراء (ع) فقال: «فإن فاطمة عندما قُبض أبوها أسعدتها بنات بني هاشم ـ على طريقة النساء عند الموت ـ فقالت: اتركن التعداد ـ أي لا تعددن الآلام والأحزان ـ وعليكن بالدعاء». هكذا كانت الزهراء (ع) تفهم قضية الاحتفال بمناسبة الموت، حتى لو كان الميت رسول الله (ص).
لذلك، فإن هؤلاء الذين يتحدثون بهذه الطريقة عن الزهراء (ع) في جزعها يسيئون إليها، باعتبار وصية رسول الله (ص) ووعي الزهراء وعصمتها، فالزهراء لم تكن في موقع الإمامة، ولكنها كانت في موقع العصمة، لأنها أولاً كانت من أهل هذا البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وهذا دليل عصمة عليّ والحسن والحسين وفاطمة، وثانياً لأنها كانت سيدة نساء أهل الجنة ولا يمكن إلا أن تكون معصومة، وثالثاً لأننا لو درسنا كل حياة الزهراء، لرأيناها تمثل العصمة كلها، ولهذا لم تخطئ في حياتها لا في قول ولا في فعل، كانت لا تقول إلا حقاً ولا تتصرف إلا بالحق، سواء مع الذين يلتقون معها أو مع الذين لا يلتقون معها.
وكانت قمة احتجاجها على الواقع المنحرف أنها قالت لعليّ (ع): «ادفني ليلاً»، لا تدع هؤلاء يحضرون جنازتي، ودُفنت ليلاً، واختلف الناس في موضع قبرها، وهناك أحاديث عن أئمة أهل البيت (ع) أنها دُفنت في بيتها، وعندما وُسّع المسجد دخل بيتها وقبرها في المسجد، ولعل الحديث: «ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة» يشير إلى الزهراء (ع)، وهناك رواية تقول إنها دُفنت في البقيع.
الزهراء (ع) الطاهرة، الصدّيقة، المعصومة، التي كانت تمثل التجسيد الحيّ لكل القيم الروحية والإنسانية، كانت قوية في مواقع القوة للدفاع عن الحق، وكانت عابدة ترتفع صلواتها إلى الله، ومعلّمة تعطي العلم للنساء، وكانت تعيش مسؤوليتها في البيت والمجتمع مع أبيها وزوجها. فسلام الله عليها حين وُلدت، وحين انتقلت إلى رحاب ربها، وعندما تُبعث حيّة. علينا أن نجعل منها القدوة ـ رجالاً ونساءً ـ لأنها من خير من يُقتدى به، كانت حبيبة رسول الله وتلميذته ورفيقته، وقد قال أمير الشعراء أحمد شوقي وهو يتحدث عن الزهراء (ع):
ما تمنى غيرها نسلاً ومن يلد الزهراء يزهد في سواها
الخطبة الثانية
بسم الله الرحمن الرحيم
عباد الله.. اتقوا الله وواجهوا مسؤولياتكم في هذه المرحلة الصعبة من مراحل التاريخ الإسلامي التي انطلق فيها المستكبرون والكافرون من أجل أن يسقطوا الإسلام كله، ومن أجل أن يصادروا المسلمين في كل قضاياهم، كونوا كالجسد الواحد في وحدة إسلامية، لأن التحديات كبيرة كبيرة، ولأن الأعداء كثيرون كثيرون، فتعالوا لنعرف ماذا يواجه الواقع الإسلامي وواقع المستضعفين:
الرئيس الأمريكي: مصادرة الحرية:
إسرائيل تلاحق المدنيين الفلسطينيين في كل صباح ومساء، بالقتل المتحرّك الذي يستهدف الأطفال والنساء والشيوخ، ويعطّل حركة الحياة المدنية في قرارات منع التجوّل ومنع العمل ومحاصرة العمّال، وتقطيع أوصال الأرض، وإغلاق الطرق، وبناء الجدار العنصري الفاصل الذي يخلق أكثر من مشكلة للمزارعين وللتواصل بين أهل القرية الواحدة، وبالاجتياحات الدائمة، والاعتقالات المتعسّفة، وتجريف المزارع، ما يشلّ البلد كله بحجة المحافظة على الأمن..
أما الرئيس الأمريكي "بوش"، فإنه يعلن بكل عدوانية سياسية وأمنية، أن ما تمارسه إسرائيل من كل المجازر التي تحاصر إنسانية الإنسان الفلسطيني هو "دفاع عن النفس"، وأن ما يسمّيه "الإرهاب الفلسطيني" هو المشكلة، ما يوحي بأن الوجود الفلسطيني في أرضه ـ التي صادرها وعد "بوش" ـ أو رغبته في العودة إليها هو الإرهاب!!
هذا ما يوحي به كلام الرئيس الأمريكي في إحدى الجامعات التركية، لأن الهاجس عنده هو كيف تأخذ إسرائيل حريتها في إبادة الشعب الفلسطيني على حساب حريته في استقلال أرضه.. إنه يتحدث عن الحرية في هذا العصر، ولكنه يصادر ـ في أكثر من موقع في العالم ـ كل الحرية لهذا الشعب أو ذاك.. إنه يفكّر في كل حديثه عن المشكلة الفلسطينية بأصوات اليهود والمحافظين الجدد في الانتخابات الرئاسية القادمة، ويمتنّ على المنطقة كلها بأنه أول رئيس اعترف بدولة فلسطينية إلى جانب "الدولة" الإسرائيلية، ولكنه لم يتقدّم خطوة واحدة إلى الأمام في الضغط على الحكومة الصهيونية التي تضع كل العوائق أمام ذلك، بل إنه يطبق على الفلسطينيين بكل ضغوطه لتقديم التنازلات للعدوّ، وهذا ما يوحي به كل موفديه للمنطقة، وكل مصادرته لمواقف شركائه في اللجنة الرباعية الدولية..
فرنسا: موقف رائد:
وفي هذا الجو، فإننا نقدّر لفرنسا موقف وزير خارجيتها في زيارته للأرض الفلسطينية، في إشارته للمصاعب اليومية التي يعيشها الفلسطينيون بسبب إجراءات الإغلاق والحواجز والهدم، بالإضافة إلى الجدار الذي تبنيه قوات الاحتلال في الضفة.. ونريد لفرنسا أن تبذل كل جهودها في القيام بعملية ضغط على الاتحاد الأوروبي، والانضمام إلى روسيا والأمم المتحدة، من أجل مواجهة الموقف الأمريكي المنحاز كلياً إلى إسرائيل ضد الفلسطينيين..
كما نقدّر للرئيس الفرنسي "شيراك" حديثه عن أن الفرنسيين ليسوا "خدّاماً لأمريكا"، وكنا نريد لرؤساء الدول العربية والإسلامية الذين يرتبطون بعلاقة مع أمريكا أن يعبّروا عن أن العلاقة مع أية دولة لا تعني العبودية لها، ولا سيّما إذا كانت المسألة تتصل بقضايا المصير.. ولكن المشكلة هي أن الذين لا يؤمنون بحرية شعوبهم في قضاياهم الحيوية لا يملكون حريتهم أمام المستكبرين..
فلسطين: نبارك للمجاهدين العملية النوعية:
وفي هذا المناخ الفلسطيني، فإننا نبارك للمجاهدين الفلسطينيين العملية النوعية في غزة، التي تمثّل إبداعاً في الاستراتيجية الجهادية بالإضافة إلى صواريخ "القسّام"، ما يجعل العدو في مأزق جديد في أمن جنوده من خلال تطوّر وسائل المقاومة، فلا يبقى أمامه إلا الرضوخ للإرادة الفلسطينية مهما كانت أساليبه الوحشية.. إننا نؤمن بهذا الشعب الذي ينتج في كل مرحلة أجيالاً من المجاهدين، من أطفال الحجارة، إلى شباب الصواريخ، {ولينصرنّ الله من ينصره إن الله لقوي عزيز}.
العراق: سيادة موهومة
أما في العراق، فقد تبدّلت اللافتة من الاحتلال إلى السيادة، مع بقاء القوات الأمريكية والمتعددة الجنسيات جاثمة على صدر العراق باسم معاهدة التعاون الأمني المفروضة على الحكومة العراقية المؤقتة.. بالإضافة إلى العلاقة الدبلوماسية مع أمريكا التي أسست أكبر سفارة لها في العالم في بغداد، ما يوحي بأنها السفارة التي تأخذ دور الحاكم الدبلوماسي السياسي الأمني الاقتصادي للتدخّل في كل مفاصل العراق والمنطقة، في جهاز يضم ـ بحسب وسائل الإعلام ـ ثلاثة آلاف موظف؟!
إننا نريد للشعب العراقي الاستقرار الأمني والاقتصادي والسياسي، والحرية السيادية في قراراته الحيوية المصيرية، ونتمنى لهذه الحكومة التي لا يزال الجدل يدور حولها، أن تعمل للحصول على ثقة الشعب العراقي والمنطقة في تأكيد السيادة الوطنية على أساس الانطلاق من إرادته في الحرية، وفي إعادة العراق إلى دوره الريادي الحضاري في التواصل مع شعوب المنطقة والعالم..
إن العراقيين الذين عاشوا المعاناة في تاريخهم القريب الذي صادر فيه الطغيان كل قضاياهم، يريدون حكماً يرفع كل هذه المعاناة وينقله إلى المستقبل الجديد الذي يصنع الحضارة، وينفتح على العصر الإسلامي امتداداً لكل تاريخه.. وليكن النداء للمستكبرين: إرفعوا أيديكم عن شعب العراق الذي يملك إدارة أموره بكل كفاءة، ولا حاجة به إلى وليّ سياسي أو أمني أو اقتصادي من خلال قدرات كل بنيه.
لبنان: عناوين استهلاكية للمحاسبة
أما في لبنان، فهناك عناوين استهلاكية للمحاسبة في قطاع معيّن أو على مستوى معيّن، ما قد يوحي بأن هناك تحركاً لوضع الأمور في نصابها القانوني، وفي ملاحقة بعض رموز الهدر والسرقة والفساد.. وهذا أمر إيجابي، ولكننا نخشى أن تنفذ الوساطات، وتنفتح التسويات لإبعاد الأمر عن دائرة الحسم لحسابات طائفية أو مذهبية أو شخصية، كما تعوّد اللبنانيون في فتح الملفات وإغلاقها لإثارة بعض الأوضاع في مرحلة، وتجميدها في مرحلة أخرى.
ثم، إننا نتابع التصريحات التي يطلقها كبار القوم في أسلوب حادّ يتحدى فيه بعضهم بعضاً بالكلمات الجارحة التي قد تبلغ درجة المساس بمصداقية هذا المسؤول أو ذاك بشكل مهين، الأمر الذي ينفتح فيه الناس على ثقافة السباب السياسي والشتائم الحكومية والإسقاط الرسمي، وهو ما يجعل الناس الذين يسمعون كل ذلك أو يقرأونه يتساءلون: كيف يمكن لهؤلاء أن يصنعوا للبلد أخلاقه، وللمسؤولية توازنها، وللمستقبل صياغته، وللجيل الجديد ثقته بالجيل القديم الذي لا يزال يعمل ـ في كثير من رموزه وتجلياته ـ على صناعة المأساة الأخلاقية والسياسية؟؟ |