التاريخ الهجري يمثل حركية الإسلام وحضارته وهويته

التاريخ الهجري يمثل حركية الإسلام وحضارته وهويته

في ذكرى الهجرة النبوية وذكرى عاشوراء
التاريخ الهجري يمثل حركية الإسلام وحضارته وهويته


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى
:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين..

الهجرة طريق إلى ممارسة الحرية

هذا اليوم هو أول يوم من السنة الهجرية الإسلامية الجديدة، 1423، وقد أراد المسلمون أن تنطلق سنتهم الإسلامية التي يؤرخون فيها الأحداث، من عهد الهجرة، لأن الهجرة كانت هي الحدث الكبير الذي انتقل فيه الإسلام من عهد الدعوة التي كانت تدعو المسلمين إلى الصبر والثبات والصمود، ولكن البعض لم يستطع أن يصبر لشدة الاضطهاد القرشي الذي أطبق عليهم، فطلب الرسول(ص) من المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة، حيث وجدوا هناك الملجأ الآمن الذي ملكوا فيه حركة ممارسة إسلامهم بكل حرية، وكان النبي(ص) يستهدف في هذه المرحلة الاستفادة من موقع مكة الديني، حيث كان لا يزال فيها بعض بقايا الدين الذي كان منذ عهد إبراهيم، مع بعض الوثنية التي خلطوها بالتوحيد.

وكانت مكة أيضاً عاصمة تجارية، حيث كانت لقريش رحلتان، رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكانت العاصمة الثقافية، باعتبار أن الشعراء والخطباء كانوا يلتقون في مكة في سوق عكاظ، ليعلقوا قصائدهم، وليخطبوا ما شاءت لهم إمكاناتهم الخطابية، وكانت قريش نتيجة هذا الموقع في إدارتها للكعبة، وفي موقعها التجاري والثقافي، تمثل نوعاً من الزعامة السياسية، التي أعطتها قوة في المنطقة.

ثبات على الموقف

ولذلك كان النبي(ص) يستفيد من وجوده في مكة، من أجل أن يبلغ الدعوة إلى أكبر عدد ممكن من الناس، دون أن يكلف نفسه السفر إلى هذه البلد أو تلك، لأن الناس كانوا يأتون إلى مكة. وقد صمد رسول الله(ص) كأروع ما يكون الصمود، وتحمّل الأذى كأقسى ما يكون الأذى، حتى قال(ص): "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، وقد حاولوا أن يغروه فتمرد على الإغراء، وحاولوا أن يرهبوه فتمرّد على الإرهاب، وقال كلمته المشهورة مخاطباً عمه أبا طالب، الذي كان السفير بينه وبين قريش، وكان يحميه ويرعاه، وكان مؤمناً كأروع ما يكون الإيمان، ولكنه كان يكتم إيمانه محافظةً على رسول الله(ص)، وهو القائل: "وقد علمت أن دين محمد من خير أديان البرية ديناً"، قال(ص) لعمه: "يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه".

حملة نفسية وإعلامية على النبي(ص)

وعرفت قريش أن النبي(ص) لن يترك هذه الدعوة، فبدأت بعملية التنكيل الإعلامي، كالكثيرين من الناس الذين إذا عجزوا عن إسقاط المصلحين جسدياً أو من خلال إغرائهم لجأوا إلى تشويه صورته إعلامياً، فقالوا عنه إنه كاهن، وإنه شاعر، وإنه مجنون، وقالوا عن القرآن إنه {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً}، وردّ عليهم القرآن أقوالهم هذه، وكان عمه أبو لهب يلاحقه ويقول في المجتمعات: لا تصدقوا ابن أخي فإنه مجنون، وخاطبهم الرسول(ص) بكل هدوء بما علّمه الله: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى}، أن تفكروا بعقلكم وليس بحماس، لا تفكروا مع الجماهير ولا مع الحمى الموجودة، بل بشكل مستقل، فبعض الناس يتصرفون من دون أن يدركوا معنى لتصرفاتهم، وهذا ما يسمى في علم النفس بالعقل الجمعي {ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}. وهكذا استطاع النبي(ص) بصبره وصموده أن يربح الكثيرين، وأن ينفذ إلى منطقة شبه الجزيرة العربية، وجعل المدينة (يثرب من قبل) العاصمة الحركية للإنسان، حيث كان جماعة من أهلها قد دخلوا في الإسلام، وأرسل إليهم النبي(ص) بعض أصحابه ليعلّمهم الإسلام.

وكان اليثربيون يأتون إلى مكة، وكانوا قد سمعوا من اليهود بأن هناك نبياً سوف يخرج من هذه المنطقة، وكانوا عندما يستمعون إلى رسول الله(ص) يقولون هذا الذي حدثنا به اليهود.

رحلة الهجرة تؤسس للدولة الإسلامية

ثم اشتدت الأمور بالنبي(ص)، وقررت قريش حبسه أو إخراجه وتركه في الصحراء أو قتله، بعد أن تقدّم كل عائلة من عوائل قريش شاباً ويهجمون عليه فيضيع دمه(ص) بين القبائل، ويدفعون الدية وتنتهي المسألة. وهكذا انتصر قرار القتل، ولكنّ الله أعلم نبيه بما يكيدون {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، عند ذلك طلب النبي(ص) من علي(ع)، وكان في الثالثة والعشرين من عمره، أن يغطي انسحابه، وأخبره بالقصة تماماً، وقال له الإمام(ع): "يا رسول الله، أوتسلم في هجرتك هذه؟ قال: بلى، قال(ع): اذهب لا أبالي، أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ"، ونزلت الآية تقديراً لموقف علي(ع) وإخلاصه لله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} فعلي باع نفسه لله ولم يحترس لنفسه من نفسه، وتلك عظمة علي(ع). وسار النبي(ص)، ولم يشعر به أولئك، واكتشف القوم المسألة، ورأوا علياً في الفراش، فلاحقوا الرسول(ص) واقتفوا أثره، حتى وصلوا إلى الغار الذي اختفى فيه النبي(ص) مع رفيقه، ولكن الله كان قد أمر العنكبوت أن تنسج على مدخل الغار نسيجاً غطّى مدخله وحمامةً باضت على مدخله، بحيث تبيّن أن النسج كان من مدةٍ طويلة، وقال الله في ذلك: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.

وانتصر الإسلام، وبدأ النبي تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة ببناء مسجد أولاً يجمع المسلمين، وعزمت قريش على إشغال النبي عن دعوته بالحروب، من بدرٍ إلى أُحد إلى الأحزاب... وتحالفت مع اليهود، حيث كان النبي(ص) ينتقل من حرب إلى حرب، إلى أن فتح الله عليه مكة في نهاية المطاف {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً...}.

واستطاع الإسلام أن يكون القوة في تلك المنطقة، وبدأت العرب تفِد إلى النبي(ص) بعد أن كانت تخاف من قريش، لتُسلم على يديه. فالهجرة تمثل منطلق القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الثقافية التي حصل الإسلام عليها، ولهذا كانت مسألة البداية، أي التاريخ بالهجرة، مع العلم أن البعثة كانت قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، لأنه أُريد للهجرة أن تكون هي التاريخ الذي استطاع الإسلام أن يحصل على القوة فيه، ليكون هذا التاريخ دافعاً وعامل قوة للمسلمين في كل سنواته في المستقبل، ليواجهوا التحديات الكبرى من قِبَل الكافرين والمستكبرين، وأن ينتصروا كما انتصر الإسلام في ذلك الوقت.

لقد مرّ على الهجرة 14 قرناً، ومضى الإسلام والمسلمون في تحديات وصدامات وصراعات داخلية وخارجية، وما زال الإسلام بالرغم من كل الجراحات التي أصابته قوياً، ومنتشراً في كل العالم، بحيث يبلغ عدد المسلمين اليوم حوالي مليار ومئة مليون بحسب الإحصاءات وإن كانت غير دقيقة.

الغرب يحمل عقدة ضد الإسلام

ونحن نعرف أن الغرب المستكبر يحمل عقدة منذ البداية ضد الإسلام، وقد تجلّت في الحروب الصليبية التي انطلق فيها ملوك أوروبا بالدعوات الدينية للسيطرة على القدس والمنطقة، ولكن المسلمين استطاعوا بعد صبرٍ وحروبٍ طويلة أن ينتصروا عليهم ويخرجوهم من ديارهم، ثم عاد هؤلاء المستعمرون من جديد في القرن الماضي ليستعمروا البلاد الإسلامية، ويقال إن بعض القادة الأوروبيين عندما وصل إلى قبر صلاح الدين الذي هزم الصليبيين قال له: "الآن عدنا يا صلاح الدين". وعاش المسلمون تحت تأثير الاستعمار من خلال ما عانوه من ضعف وتخلّف، ثم جاءت مسألة اليهود الذين تعاونوا مع الغرب ومع بريطانيا بالذات لكي يحصلوا على فلسطين كوطن قومي لليهود، وما زال الغرب، ولا سيما أمريكا، يعمل على حماية إسرائيل بكل ما يملك من قوة.

التاريخ الهجري يمثل هوية الأمة

والآن ما نريده في ذكرى السنة الهجرية، أن نشير إلى عدة نقاط: النقطة الأولى أن تحفظوا التاريخ الهجري، لأنه بعد سيطرة الغرب أصبح التاريخ الميلادي هو المسيطر، وبما أن التاريخ الهجري يحمل في داخله حركية الإسلام وتاريخه وحضارته وهويته، ولذلك عليكم أن تحفظوا هذا التاريخ ليكون جزءاً من هويتكم.

النقطة الثانية: علينا أن نشعر بأننا جزء من أمة عالمية، وأننا جزء من أمة إسلامية، وأن الإسلام يمثل جزءاً من عقل كل واحدٍ منا وقلبه وجسده، وأنه وإن اختلفنا مع بعض المسلمين في المذهب أو اختلفوا معنا في ذلك، فإننا جميعاً نؤمن برسول واحد وبكتابٍ واحد، وكل المسلمين في العالم يلتقون على أسس واحدة وقاعدة واحدة.. المسلمون في الحج يمشون بين الصفا والمروة مع بعضهم البعض، يقفون في عرفة وفي مِنى مع بعضهم البعض، وكذلك في كل مواقع الحج.

ولذلك قال الله: {إنما المؤمنون أخوة}، والنبي(ص) أراد لهذه الأمة أن تتفاعل بالإيمان والتآخي، لذا قال(ص): "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين أعينوني فلم يجبه فليس بمسلم".

وعلينا أن نعيش ونربي أولادنا على أننا جزء من أمة إسلامية، فإذا صاح واحد تحرك الكل لمساعدته وإعانته والوقوف إلى جانبه في وجه التحديات، عند ذلك لن يجد المستكبر من يعينه، كما هو عليه الحال الآن، قال النبي(ص): "يوشك أن تتداعى الأمم عليكم كتداعي الأكلة إلى قصعتها، قالوا: ومِن قلةٍ يا رسول الله؟ قال: إنكم لكثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل".

أيها الأحبة، في ذكرى الهجرة النبوية، السنة الهجرية الجديدة، التي تختزن ذكرى الهجرة والتي تنفتح على ذكرى عاشوراء، علينا أن نأخذ بأسباب القوة وأسباب الوحدة وأسباب الانتصار، والله يقول:{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله وانطلقوا في خط التقوى لتكونوا أمة واحدة، كما أراد الله لكم، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، لا يكفر بعضكم بعضاً، ولا يضلل بعضكم بعضاً، ولا تسمحوا لكل من يحاول أن يثير الفتنة فيما بينكم، سواء بعصبيات مذهبية أو بعصبيات حزبية أو عائلية أو عرقية، أو ما إلى ذلك، لأن الله أراد لنا أن نكون كما قال: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، يشد بعضهم بعضاً، ويقوي بعضهم بعضاً، وقد وصف الله رسوله محمد(ص) وأصحابه بقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، علينا أن نعيش هذا المنهج الإسلامي {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} {وتواصوا بالمرحمة} حتى لا يستطيع المستكبرون أن ينفذوا إلى مجتمعاتنا ليمزقوها ويفرقوها ليسيطروا على كل مواقعنا، وعلينا أن نقف الآن مع كل المستجدات التي تمثل تحديات الاستكبار العالمي والصهيوني وغيره حتى نعرف كيف نحدد موقفنا من ذلك:

الانتفاضة: تطور في الأساليب

الانتفاضة تتطور في أساليبها وفي عملياتها النوعية وتتحوّل إلى انتفاضة شعب في سبيل الحرية، والاحتلال الصهيوني يزداد وحشية بازدياد مأزقه الأمني، حتى تحول كثور هائج أعمى في اجتياحه للمدن والقرى والمخيمات واستخدامه كل الأسلحة الأمريكية المدمرة..

أما أمريكا فإنها استفاقت على مأزقها السياسي في موقف شعوب المنطقة منها كدولة ملتزمة بإسرائيل بالمطلق، حتى أنها أعطتها الضوء الأخضر لتدمير الشعب الفلسطيني لدفعه إلى الاستسلام والقبول بالشروط الأمنية والسياسية المفروضة عليه.. وهكذا قامت بالإيعاز إلى مجلس الأمن الخاضع لها في قراراته بإصدار قرار بالقبول بدولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. وقد اعتبر هذا القرار إنجازاً سياسياً للعرب الذين صفقوا له ، وهو القرار الذي لم يطلب من إسرائيل الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة في الـ67 والامتناع عن العمليات الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، وإرسال مراقبين لمراقبة الوضع هناك أو لحماية الفلسطينيين.

إسرائيل في المأزق الأمني

وقد علق الرئيس الأمريكي أنه لو حاول القرار إدانة صديقتنا إسرائيل لكنت استعملت حق النقض "الفيتو" ، ثم عقب: "قبل كل شيء ليس هناك أي شيء أعمق من الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود"، تماماً كما لو كانت المسألة عنده هي مسألة إسرائيل في الاعتراف العربي بها ، لا مسألة الشعب الفلسطيني، وهذه هي مشكلة السياسة الأمريكية في علاقتها بالشعوب العربية والإسلامية التي لا قيمة لها عندها أمام قيمة إسرائيل التي تملك الحق بالقيام بالعدوان على المنطقة كلها باسم الدفاع عن نفسها، فإذا دافعت الشعوب عن حريتها ضدها اتهمتها أمريكا بالإرهاب.

إنها السياسة العوراء التي لا تنظر إلا بعين واحدة..وهكذا أرسلت مبعوثها الجنرال زيني لإخراج إسرائيل من مأزقها الأمني لتعود إلى عملية التمييع للحقوق الفلسطينية في متاهات المفاوضات التي قد تحقق وقف إطلاق النار، ولكن من الصعب أن تحقق للفلسطينيين شيئاً، حتى الدولة الفلسطينية في قرار مجلس الأمن، فإنها دولة لم تتضح حدودها ولا طبيعتها في ميزان القوة، بل هي متروكة للمفاوضات التي تملك فيها إسرائيل كل الأوراق بما فيها التأييد الأمريكي الذي يتحدث دائماً عن ضرورة تقديم تنازلات مؤلمة من قِبَل الفلسطينيين..

محاولات أمريكية لإخضاع المنطقة

وهناك نقطة أخرى، وهي أن المطلوب تبريد الوضع الفلسطيني المتفجر لدفع الدول العربية للقبول بالحرب الأمريكية على العراق من خلال زيارة نائب الرئيس الأمريكي تشيني الذي جاء إلى المنطقة، لا للتشاور كما يقول الرئيس الأمريكي، بل لإبلاغ المسؤولين القرار الأمريكي للقيام بتنفيذه وتهيئة كل الظروف له لإثبات السيطرة الأمريكية في فرض مصالحها على العالم.. وتحت شعار الحرب على الإرهاب، والمنع من صنع أسلحة الدمار الشامل، في الوقت الذي لا تسمح فيه لأي دولة، ـ بما في ذلك الدول العربية ـ أن تناقش الترسانة الإسرائيلية المشتملة على الأسلحة النووية والكيمياوية والبيولوجية وغيرها، بحجة أنها مضطرة للدفاع عن حريتها ومصالحها.

إن المطلوب أمريكياً هو خضوع المنطقة لها في حروبها المتحركة ضد شعوب المنطقة التي لا حرية لها في الاعتراض على المفهوم الأمريكي للإرهاب الذي يجعل المقاومة من أجل الحرية، لا سيما ضد إسرائيل إرهاباً.

الارتفاع إلى مستوى التحرير

إننا نخشى من زيارة المبعوثين الأمريكيين على مستقبل القضية الفلسطينية، وعلى القمة العربية التي يراد لها أن تكون قمة السقوط السياسي العربي تحت تأثير العجز المتمثل في سياسة الدول العربية، لأن أمريكا.. ومعها إسرائيل، لا تريد أن تأخذ بأسباب القوة أو أن تقوم بعملية الضغط لمصلحة الشعب الفلسطيني، أو الشعب العراقي.. ونقدر لسوريا موقفها الرافض للقرار الضبابي للدولة الفلسطينية الذي يثير  الجدل في غموضه كقرار 242، ونريد  لهذه الدولة الرافضة للاستسلام أن تقود عملية الرفض لأي قرار يستهدف إسقاط الحقوق الشرعية للفلسطينيين وللعرب عموماً، ونريد للشعب الفلسطيني الذي أسقط أسطورة الدبابة الإسرائيلية واستطاع تفجير أكثر من واحدة منها، كما أسقط نظرية الأمن الإسرائلي في عمق فلسطين، وأجبر أمريكا على التدخل وانتقاد سياسة شارون التدميرية، أن يكون واعياً للمرحلة الجديدة، فلا يؤخذ بالتهاويل السياسية والأمنية التي يراد فرضها عليه. وكما كان موحداً في انتفاضته، لا سيما في المرحلة الأخيرة، فعليه أن يبقى موحداً واعياً قوياً في المرحلة الجديدة، لأن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً، وربما عربياً، أن تحصل إسرائيل في السلم على ما لم تستطع الحصول عليه في الحرب.. لقد اقتربت ساعة التحرير وعلى الشعب الفلسطيني، ومعه الشعوب العربية والإسلامية الارتفاع إلى مستواها.

نحو قرارات فاعلة في القمة العربية

ويبقى للبنان، الذي كان الدولة العربية الوحيدة التي استطاعت بفضل مقاومتها الباسلة أن تهزم العدو الإسرائيلي بإجباره على الانسحاب الذليل.. وأن تقف مع الشعب الفلسطيني وانتفاضته بكل دعم وإخلاص بوسائلها المتنوعة.. ويبقى للبنان ـ في هذه المرحلة الدقيقة ـ أن يكون موحداً دولة وشعباً ومقاومة في مواجهة التطورات المتلاحقة، وأن يقوم بدوره الريادي في مؤتمر القمة القادم المنعقد في بيروت، في التحرك ـ مع سوريا ـ من أجل أن تكون قراراته قوية فاعلة تحريرية لتأكيد حق الشعب الفلسطيني.

وفي هذا الإطار، لا بد من سدّ الثغرات السياسية والاقتصادية التي يمكن أن تهزّ البلد وتدفع به إلى المزيد من الحساسيات الطائفية والمهاترات السياسية من قِبَل الذين لا يرتفعون إلى مستوى المرحلة الخطيرة، بل يبقون في الدائرة الضيقة من طموحاتهم الذاتية بعيداً عن كل طموحات الوطن في الحرية والاستقرار والنموّ والوحدة.

في ذكرى الهجرة النبوية وذكرى عاشوراء
التاريخ الهجري يمثل حركية الإسلام وحضارته وهويته


ألقى سماحة آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله خطبة الجمعة من على منبر مسجد الإمامين الحسنين (ع) في حارة حريك بحضور حشد من الشخصيات العلمائية والسياسية والاجتماعية وجمع غفير من المؤمنين ، ومما جاء في خطبته الأولى
:

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله الطيبين وأصحابه المنتجبين وعلى جميع أنبياء الله المرسلين..

الهجرة طريق إلى ممارسة الحرية

هذا اليوم هو أول يوم من السنة الهجرية الإسلامية الجديدة، 1423، وقد أراد المسلمون أن تنطلق سنتهم الإسلامية التي يؤرخون فيها الأحداث، من عهد الهجرة، لأن الهجرة كانت هي الحدث الكبير الذي انتقل فيه الإسلام من عهد الدعوة التي كانت تدعو المسلمين إلى الصبر والثبات والصمود، ولكن البعض لم يستطع أن يصبر لشدة الاضطهاد القرشي الذي أطبق عليهم، فطلب الرسول(ص) من المسلمين أن يهاجروا إلى الحبشة، حيث وجدوا هناك الملجأ الآمن الذي ملكوا فيه حركة ممارسة إسلامهم بكل حرية، وكان النبي(ص) يستهدف في هذه المرحلة الاستفادة من موقع مكة الديني، حيث كان لا يزال فيها بعض بقايا الدين الذي كان منذ عهد إبراهيم، مع بعض الوثنية التي خلطوها بالتوحيد.

وكانت مكة أيضاً عاصمة تجارية، حيث كانت لقريش رحلتان، رحلة الشتاء ورحلة الصيف، وكانت العاصمة الثقافية، باعتبار أن الشعراء والخطباء كانوا يلتقون في مكة في سوق عكاظ، ليعلقوا قصائدهم، وليخطبوا ما شاءت لهم إمكاناتهم الخطابية، وكانت قريش نتيجة هذا الموقع في إدارتها للكعبة، وفي موقعها التجاري والثقافي، تمثل نوعاً من الزعامة السياسية، التي أعطتها قوة في المنطقة.

ثبات على الموقف

ولذلك كان النبي(ص) يستفيد من وجوده في مكة، من أجل أن يبلغ الدعوة إلى أكبر عدد ممكن من الناس، دون أن يكلف نفسه السفر إلى هذه البلد أو تلك، لأن الناس كانوا يأتون إلى مكة. وقد صمد رسول الله(ص) كأروع ما يكون الصمود، وتحمّل الأذى كأقسى ما يكون الأذى، حتى قال(ص): "ما أوذي نبي مثلما أوذيت"، وقد حاولوا أن يغروه فتمرد على الإغراء، وحاولوا أن يرهبوه فتمرّد على الإرهاب، وقال كلمته المشهورة مخاطباً عمه أبا طالب، الذي كان السفير بينه وبين قريش، وكان يحميه ويرعاه، وكان مؤمناً كأروع ما يكون الإيمان، ولكنه كان يكتم إيمانه محافظةً على رسول الله(ص)، وهو القائل: "وقد علمت أن دين محمد من خير أديان البرية ديناً"، قال(ص) لعمه: "يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته أو أهلك دونه".

حملة نفسية وإعلامية على النبي(ص)

وعرفت قريش أن النبي(ص) لن يترك هذه الدعوة، فبدأت بعملية التنكيل الإعلامي، كالكثيرين من الناس الذين إذا عجزوا عن إسقاط المصلحين جسدياً أو من خلال إغرائهم لجأوا إلى تشويه صورته إعلامياً، فقالوا عنه إنه كاهن، وإنه شاعر، وإنه مجنون، وقالوا عن القرآن إنه {أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرةً وأصيلاً}، وردّ عليهم القرآن أقوالهم هذه، وكان عمه أبو لهب يلاحقه ويقول في المجتمعات: لا تصدقوا ابن أخي فإنه مجنون، وخاطبهم الرسول(ص) بكل هدوء بما علّمه الله: {قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى}، أن تفكروا بعقلكم وليس بحماس، لا تفكروا مع الجماهير ولا مع الحمى الموجودة، بل بشكل مستقل، فبعض الناس يتصرفون من دون أن يدركوا معنى لتصرفاتهم، وهذا ما يسمى في علم النفس بالعقل الجمعي {ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد}. وهكذا استطاع النبي(ص) بصبره وصموده أن يربح الكثيرين، وأن ينفذ إلى منطقة شبه الجزيرة العربية، وجعل المدينة (يثرب من قبل) العاصمة الحركية للإنسان، حيث كان جماعة من أهلها قد دخلوا في الإسلام، وأرسل إليهم النبي(ص) بعض أصحابه ليعلّمهم الإسلام.

وكان اليثربيون يأتون إلى مكة، وكانوا قد سمعوا من اليهود بأن هناك نبياً سوف يخرج من هذه المنطقة، وكانوا عندما يستمعون إلى رسول الله(ص) يقولون هذا الذي حدثنا به اليهود.

رحلة الهجرة تؤسس للدولة الإسلامية

ثم اشتدت الأمور بالنبي(ص)، وقررت قريش حبسه أو إخراجه وتركه في الصحراء أو قتله، بعد أن تقدّم كل عائلة من عوائل قريش شاباً ويهجمون عليه فيضيع دمه(ص) بين القبائل، ويدفعون الدية وتنتهي المسألة. وهكذا انتصر قرار القتل، ولكنّ الله أعلم نبيه بما يكيدون {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين}، عند ذلك طلب النبي(ص) من علي(ع)، وكان في الثالثة والعشرين من عمره، أن يغطي انسحابه، وأخبره بالقصة تماماً، وقال له الإمام(ع): "يا رسول الله، أوتسلم في هجرتك هذه؟ قال: بلى، قال(ع): اذهب لا أبالي، أوقعت على الموت أو وقع الموت عليّ"، ونزلت الآية تقديراً لموقف علي(ع) وإخلاصه لله: {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} فعلي باع نفسه لله ولم يحترس لنفسه من نفسه، وتلك عظمة علي(ع). وسار النبي(ص)، ولم يشعر به أولئك، واكتشف القوم المسألة، ورأوا علياً في الفراش، فلاحقوا الرسول(ص) واقتفوا أثره، حتى وصلوا إلى الغار الذي اختفى فيه النبي(ص) مع رفيقه، ولكن الله كان قد أمر العنكبوت أن تنسج على مدخل الغار نسيجاً غطّى مدخله وحمامةً باضت على مدخله، بحيث تبيّن أن النسج كان من مدةٍ طويلة، وقال الله في ذلك: {إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا}.

وانتصر الإسلام، وبدأ النبي تأسيس الدولة الإسلامية الجديدة ببناء مسجد أولاً يجمع المسلمين، وعزمت قريش على إشغال النبي عن دعوته بالحروب، من بدرٍ إلى أُحد إلى الأحزاب... وتحالفت مع اليهود، حيث كان النبي(ص) ينتقل من حرب إلى حرب، إلى أن فتح الله عليه مكة في نهاية المطاف {إذا جاء نصر الله والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجاً...}.

واستطاع الإسلام أن يكون القوة في تلك المنطقة، وبدأت العرب تفِد إلى النبي(ص) بعد أن كانت تخاف من قريش، لتُسلم على يديه. فالهجرة تمثل منطلق القوة العسكرية والقوة السياسية والقوة الثقافية التي حصل الإسلام عليها، ولهذا كانت مسألة البداية، أي التاريخ بالهجرة، مع العلم أن البعثة كانت قبل الهجرة بثلاث عشرة سنة، لأنه أُريد للهجرة أن تكون هي التاريخ الذي استطاع الإسلام أن يحصل على القوة فيه، ليكون هذا التاريخ دافعاً وعامل قوة للمسلمين في كل سنواته في المستقبل، ليواجهوا التحديات الكبرى من قِبَل الكافرين والمستكبرين، وأن ينتصروا كما انتصر الإسلام في ذلك الوقت.

لقد مرّ على الهجرة 14 قرناً، ومضى الإسلام والمسلمون في تحديات وصدامات وصراعات داخلية وخارجية، وما زال الإسلام بالرغم من كل الجراحات التي أصابته قوياً، ومنتشراً في كل العالم، بحيث يبلغ عدد المسلمين اليوم حوالي مليار ومئة مليون بحسب الإحصاءات وإن كانت غير دقيقة.

الغرب يحمل عقدة ضد الإسلام

ونحن نعرف أن الغرب المستكبر يحمل عقدة منذ البداية ضد الإسلام، وقد تجلّت في الحروب الصليبية التي انطلق فيها ملوك أوروبا بالدعوات الدينية للسيطرة على القدس والمنطقة، ولكن المسلمين استطاعوا بعد صبرٍ وحروبٍ طويلة أن ينتصروا عليهم ويخرجوهم من ديارهم، ثم عاد هؤلاء المستعمرون من جديد في القرن الماضي ليستعمروا البلاد الإسلامية، ويقال إن بعض القادة الأوروبيين عندما وصل إلى قبر صلاح الدين الذي هزم الصليبيين قال له: "الآن عدنا يا صلاح الدين". وعاش المسلمون تحت تأثير الاستعمار من خلال ما عانوه من ضعف وتخلّف، ثم جاءت مسألة اليهود الذين تعاونوا مع الغرب ومع بريطانيا بالذات لكي يحصلوا على فلسطين كوطن قومي لليهود، وما زال الغرب، ولا سيما أمريكا، يعمل على حماية إسرائيل بكل ما يملك من قوة.

التاريخ الهجري يمثل هوية الأمة

والآن ما نريده في ذكرى السنة الهجرية، أن نشير إلى عدة نقاط: النقطة الأولى أن تحفظوا التاريخ الهجري، لأنه بعد سيطرة الغرب أصبح التاريخ الميلادي هو المسيطر، وبما أن التاريخ الهجري يحمل في داخله حركية الإسلام وتاريخه وحضارته وهويته، ولذلك عليكم أن تحفظوا هذا التاريخ ليكون جزءاً من هويتكم.

النقطة الثانية: علينا أن نشعر بأننا جزء من أمة عالمية، وأننا جزء من أمة إسلامية، وأن الإسلام يمثل جزءاً من عقل كل واحدٍ منا وقلبه وجسده، وأنه وإن اختلفنا مع بعض المسلمين في المذهب أو اختلفوا معنا في ذلك، فإننا جميعاً نؤمن برسول واحد وبكتابٍ واحد، وكل المسلمين في العالم يلتقون على أسس واحدة وقاعدة واحدة.. المسلمون في الحج يمشون بين الصفا والمروة مع بعضهم البعض، يقفون في عرفة وفي مِنى مع بعضهم البعض، وكذلك في كل مواقع الحج.

ولذلك قال الله: {إنما المؤمنون أخوة}، والنبي(ص) أراد لهذه الأمة أن تتفاعل بالإيمان والتآخي، لذا قال(ص): "من لم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، "من أصبح لا يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم"، "من سمع رجلاً ينادي يا للمسلمين أعينوني فلم يجبه فليس بمسلم".

وعلينا أن نعيش ونربي أولادنا على أننا جزء من أمة إسلامية، فإذا صاح واحد تحرك الكل لمساعدته وإعانته والوقوف إلى جانبه في وجه التحديات، عند ذلك لن يجد المستكبر من يعينه، كما هو عليه الحال الآن، قال النبي(ص): "يوشك أن تتداعى الأمم عليكم كتداعي الأكلة إلى قصعتها، قالوا: ومِن قلةٍ يا رسول الله؟ قال: إنكم لكثير، ولكنكم غثاءٌ كغثاء السيل".

أيها الأحبة، في ذكرى الهجرة النبوية، السنة الهجرية الجديدة، التي تختزن ذكرى الهجرة والتي تنفتح على ذكرى عاشوراء، علينا أن نأخذ بأسباب القوة وأسباب الوحدة وأسباب الانتصار، والله يقول:{واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا}.

 

الخطبة الثانية

بسم الله الرحمن الرحيم

عباد الله، اتقوا الله وانطلقوا في خط التقوى لتكونوا أمة واحدة، كما أراد الله لكم، ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم، وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، لا يكفر بعضكم بعضاً، ولا يضلل بعضكم بعضاً، ولا تسمحوا لكل من يحاول أن يثير الفتنة فيما بينكم، سواء بعصبيات مذهبية أو بعصبيات حزبية أو عائلية أو عرقية، أو ما إلى ذلك، لأن الله أراد لنا أن نكون كما قال: {إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، يشد بعضهم بعضاً، ويقوي بعضهم بعضاً، وقد وصف الله رسوله محمد(ص) وأصحابه بقوله: {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم}، علينا أن نعيش هذا المنهج الإسلامي {وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر} {وتواصوا بالمرحمة} حتى لا يستطيع المستكبرون أن ينفذوا إلى مجتمعاتنا ليمزقوها ويفرقوها ليسيطروا على كل مواقعنا، وعلينا أن نقف الآن مع كل المستجدات التي تمثل تحديات الاستكبار العالمي والصهيوني وغيره حتى نعرف كيف نحدد موقفنا من ذلك:

الانتفاضة: تطور في الأساليب

الانتفاضة تتطور في أساليبها وفي عملياتها النوعية وتتحوّل إلى انتفاضة شعب في سبيل الحرية، والاحتلال الصهيوني يزداد وحشية بازدياد مأزقه الأمني، حتى تحول كثور هائج أعمى في اجتياحه للمدن والقرى والمخيمات واستخدامه كل الأسلحة الأمريكية المدمرة..

أما أمريكا فإنها استفاقت على مأزقها السياسي في موقف شعوب المنطقة منها كدولة ملتزمة بإسرائيل بالمطلق، حتى أنها أعطتها الضوء الأخضر لتدمير الشعب الفلسطيني لدفعه إلى الاستسلام والقبول بالشروط الأمنية والسياسية المفروضة عليه.. وهكذا قامت بالإيعاز إلى مجلس الأمن الخاضع لها في قراراته بإصدار قرار بالقبول بدولة فلسطينية إلى جانب دولة إسرائيل. وقد اعتبر هذا القرار إنجازاً سياسياً للعرب الذين صفقوا له ، وهو القرار الذي لم يطلب من إسرائيل الانسحاب من الأراضي الفلسطينية المحتلة في الـ67 والامتناع عن العمليات الوحشية ضد الشعب الفلسطيني، وإرسال مراقبين لمراقبة الوضع هناك أو لحماية الفلسطينيين.

إسرائيل في المأزق الأمني

وقد علق الرئيس الأمريكي أنه لو حاول القرار إدانة صديقتنا إسرائيل لكنت استعملت حق النقض "الفيتو" ، ثم عقب: "قبل كل شيء ليس هناك أي شيء أعمق من الاعتراف بحق إسرائيل في الوجود"، تماماً كما لو كانت المسألة عنده هي مسألة إسرائيل في الاعتراف العربي بها ، لا مسألة الشعب الفلسطيني، وهذه هي مشكلة السياسة الأمريكية في علاقتها بالشعوب العربية والإسلامية التي لا قيمة لها عندها أمام قيمة إسرائيل التي تملك الحق بالقيام بالعدوان على المنطقة كلها باسم الدفاع عن نفسها، فإذا دافعت الشعوب عن حريتها ضدها اتهمتها أمريكا بالإرهاب.

إنها السياسة العوراء التي لا تنظر إلا بعين واحدة..وهكذا أرسلت مبعوثها الجنرال زيني لإخراج إسرائيل من مأزقها الأمني لتعود إلى عملية التمييع للحقوق الفلسطينية في متاهات المفاوضات التي قد تحقق وقف إطلاق النار، ولكن من الصعب أن تحقق للفلسطينيين شيئاً، حتى الدولة الفلسطينية في قرار مجلس الأمن، فإنها دولة لم تتضح حدودها ولا طبيعتها في ميزان القوة، بل هي متروكة للمفاوضات التي تملك فيها إسرائيل كل الأوراق بما فيها التأييد الأمريكي الذي يتحدث دائماً عن ضرورة تقديم تنازلات مؤلمة من قِبَل الفلسطينيين..

محاولات أمريكية لإخضاع المنطقة

وهناك نقطة أخرى، وهي أن المطلوب تبريد الوضع الفلسطيني المتفجر لدفع الدول العربية للقبول بالحرب الأمريكية على العراق من خلال زيارة نائب الرئيس الأمريكي تشيني الذي جاء إلى المنطقة، لا للتشاور كما يقول الرئيس الأمريكي، بل لإبلاغ المسؤولين القرار الأمريكي للقيام بتنفيذه وتهيئة كل الظروف له لإثبات السيطرة الأمريكية في فرض مصالحها على العالم.. وتحت شعار الحرب على الإرهاب، والمنع من صنع أسلحة الدمار الشامل، في الوقت الذي لا تسمح فيه لأي دولة، ـ بما في ذلك الدول العربية ـ أن تناقش الترسانة الإسرائيلية المشتملة على الأسلحة النووية والكيمياوية والبيولوجية وغيرها، بحجة أنها مضطرة للدفاع عن حريتها ومصالحها.

إن المطلوب أمريكياً هو خضوع المنطقة لها في حروبها المتحركة ضد شعوب المنطقة التي لا حرية لها في الاعتراض على المفهوم الأمريكي للإرهاب الذي يجعل المقاومة من أجل الحرية، لا سيما ضد إسرائيل إرهاباً.

الارتفاع إلى مستوى التحرير

إننا نخشى من زيارة المبعوثين الأمريكيين على مستقبل القضية الفلسطينية، وعلى القمة العربية التي يراد لها أن تكون قمة السقوط السياسي العربي تحت تأثير العجز المتمثل في سياسة الدول العربية، لأن أمريكا.. ومعها إسرائيل، لا تريد أن تأخذ بأسباب القوة أو أن تقوم بعملية الضغط لمصلحة الشعب الفلسطيني، أو الشعب العراقي.. ونقدر لسوريا موقفها الرافض للقرار الضبابي للدولة الفلسطينية الذي يثير  الجدل في غموضه كقرار 242، ونريد  لهذه الدولة الرافضة للاستسلام أن تقود عملية الرفض لأي قرار يستهدف إسقاط الحقوق الشرعية للفلسطينيين وللعرب عموماً، ونريد للشعب الفلسطيني الذي أسقط أسطورة الدبابة الإسرائيلية واستطاع تفجير أكثر من واحدة منها، كما أسقط نظرية الأمن الإسرائلي في عمق فلسطين، وأجبر أمريكا على التدخل وانتقاد سياسة شارون التدميرية، أن يكون واعياً للمرحلة الجديدة، فلا يؤخذ بالتهاويل السياسية والأمنية التي يراد فرضها عليه. وكما كان موحداً في انتفاضته، لا سيما في المرحلة الأخيرة، فعليه أن يبقى موحداً واعياً قوياً في المرحلة الجديدة، لأن المطلوب أمريكياً وإسرائيلياً، وربما عربياً، أن تحصل إسرائيل في السلم على ما لم تستطع الحصول عليه في الحرب.. لقد اقتربت ساعة التحرير وعلى الشعب الفلسطيني، ومعه الشعوب العربية والإسلامية الارتفاع إلى مستواها.

نحو قرارات فاعلة في القمة العربية

ويبقى للبنان، الذي كان الدولة العربية الوحيدة التي استطاعت بفضل مقاومتها الباسلة أن تهزم العدو الإسرائيلي بإجباره على الانسحاب الذليل.. وأن تقف مع الشعب الفلسطيني وانتفاضته بكل دعم وإخلاص بوسائلها المتنوعة.. ويبقى للبنان ـ في هذه المرحلة الدقيقة ـ أن يكون موحداً دولة وشعباً ومقاومة في مواجهة التطورات المتلاحقة، وأن يقوم بدوره الريادي في مؤتمر القمة القادم المنعقد في بيروت، في التحرك ـ مع سوريا ـ من أجل أن تكون قراراته قوية فاعلة تحريرية لتأكيد حق الشعب الفلسطيني.

وفي هذا الإطار، لا بد من سدّ الثغرات السياسية والاقتصادية التي يمكن أن تهزّ البلد وتدفع به إلى المزيد من الحساسيات الطائفية والمهاترات السياسية من قِبَل الذين لا يرتفعون إلى مستوى المرحلة الخطيرة، بل يبقون في الدائرة الضيقة من طموحاتهم الذاتية بعيداً عن كل طموحات الوطن في الحرية والاستقرار والنموّ والوحدة.

اقرأ المزيد
نسخ الآية نُسِخ!
تفسير الآية